الولايات المتحدة وحلفاؤها: آن أوان الفطام/ بكر صدقي
الفوضى التي تظهر عليها السياسة الخارجية الأمريكية، من قرارات مرتجلة وتضارب في تصريحات أركان الإدارة ومحاولات الجمع بين المتناقضات، تشير إلى مرحلة انتقالية بشأن دور أمريكا في العالم، من النزعة التدخلية المفرطة كما تجلت في سياسة المحافظين الجدد، بداية القرن، إلى الانكفاء الذي لاحظنا بداياته في عهدي باراك أوباما، وصولاً إلى شعار «أمريكا أولاً» الذي يرفعه دونالد ترامب.
ولعل موضوع الانسحاب العسكري الأمريكي من سوريا كان بمثابة الكاشف النموذجي للفوضى والتخبط اللذين يسمان المرحلة الانتقالية هذه. فتداعيات قرار الانسحاب وخلط الأوراق الناجم عنه، بصورة غير مسبوقة، سيستمر في إشغال اللاعبين الاقليميين لفترة طويلة، لحين إتمام هذا الانسحاب على الأقل. ومن المحتمل أن عمليات «ترميم» القرار التي حاولت الخارجية والأمن القومي القيام بها، في جولتيهما على دول إقليمنا، لن تؤدي إلى التراجع التام عنه، بل قد تطيل عملية الانسحاب لبعض الوقت فقط (4 أشهر قابلة للزيادة ربما)، في الوقت الذي تحاول فيه واشنطن فرض أجندتها الخاصة بمواجهة النفوذ الإيراني من خلال إرساء أسس تحالف إقليمي لهذه الغاية.
في غضون ذلك يحاول المبعوثون الأمريكيون إفهام الحلفاء الإقليميين التقليديين أنه عليهم «القيام بالمهمة» بأنفسهم، بدلاً من انتظار تحرك عملي من واشنطن التي ستستمر في تزويدهم بالسلاح ما داموا يدفعون ثمنه، وكذلك بالمعلومات الاستخبارية التي سيحتاجونها، إضافة إلى الشكل الوحيد لمساهمتها العملية، أي العقوبات الاقتصادية على إيران. من المحتمل أن مؤتمر وارسو حول أمن الشرق الأوسط المزمع انعقاده في منتصف شهر شباط/فبراير القادم سيشهد تكريس هذه السياسة الأمريكية بشأن علاقتها بحلفائها القائمة على وجوب أن يقتلع هؤلاء شوكهم بأيديهم، أو أن يتم فطامهم عن المرضع الأمريكي.
ينطبق ذلك على تركيا التي أربكها قرار ترامب بالانسحاب من سوريا، وإن تظاهرت بالسرور، فعلقت تدخلها العسكري في شرق نهر الفرات إلى أجل غير معلوم بانتظار انكشاف فحوى المنطقة الآمنة التي أطلق ترامب عنوانها، كما ينطبق على دول الخليج التي عليها مواجهة النزعة التوسعية الإيرانية بنفسها، بما في ذلك في سوريا حيث كان أحد سيناريوهات ملء الفراغ يتمثل في قوات سعودية ـ إماراتية ـ مصرية تشكل حاجزاً أمام التمدد الإيراني عبر الحدود العراقية ـ السورية وصولاً إلى لبنان. حتى إسرائيل التي تتمتع بمكانة مميزة بين حلفاء واشنطن، بات عليها مواجهة إيران في سوريا (وربما العراق) بإمكاناتها الخاصة. وهو ما دلل رئيس الوزراء نتنياهو على أن إسرائيل مؤهلة لهذا الدور من خلال استئناف ضرباتها الجوية والصاروخية، منذ بداية الشهر الحالي، على المواقع الإيرانية حول دمشق.
الواقع أن النزعة الانكفائية لدى الولايات المتحدة ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى عهد أوباما الذي يمكن تلخيص سياسته السورية، بشكل خاص، في ترك حرية العمل للقوى الإقليمية لتفعل ما تشاء في سوريا، وخفض مستوى التدخل الأمريكي إلى الحد الأدنى، مع حصر هدفه بمحاربة «تنظيم الدولة» (داعش). أما اليوم فإدارة ترامب مستمرة في السياسة نفسها، مع إدخال بعض لقطات «الأكشن» كالهجوم الاستعراضي على بعض مواقع النظام، مرتين (2017 ـ 2018)، بدعوى معاقبته على استخدام السلاح الكيماوي. وذلك بدلاً من طرح موضوع خرق النظام لتعهداته بشأن تسليم مخزونه من هذا السلاح، الأمر الذي كان من شأنه أن يدخل موسكو أيضاً في دائرة الاتهام باعتبارها الضامن لصفقة الكيماوي المشؤومة.
بل إن ترامب يحاول أن يتفوق في النزعة الانكفائية على سلفه الديمقراطي بانسحاب شامل من الإقليم ومحاولة خلق بدائل محلية لدورها الأمني التقليدي، كفكرة «الناتو العربي» الذي لا نعرف، إلى الآن، مدى ما وصل إليه العمل على تشكيله، وهل ثمة مقاومة من بعض الأنظمة العربية لهذه الفكرة التي من شأن تحققها إنهاء حالة الاتكاء الدائم على الأخ الأكبر في واشنطن. وقبل كل شيء علينا أن نتوقع نوعاً من الخوف من تحمل المسؤولية الذي يعيق عملية الفطام. ثم سيتطلب الأمر تعاوناً وثيقاً بين أنظمة اعتادت على غير ذلك، والمشاركة الجماعية في وضع خطة عمل وسلم أولويات وتقاسم الأعباء وتقسيماً وظيفياً للعمل، إلى آخر ما هنالك من متطلبات العمل كشركاء. وهو حالة جديدة وغريبة بدلالة الشلل الأزلي لمؤسسة الجامعة العربية ومتفرعاتها.
لا نقول هذا الكلام من باب استحسان فكرة «الناتو العربي» الذي قد لا يهدف مطلقوها الأمريكيون إلا إلى تطبيع الاحتلال الإسرائيلي مع محيطه العربي. لكن الفكرة، بحالتها المجردة، أي بعيداً عن إطلاق أحكام قيمة عليها، قد وضعت الدول العربية المعنية بها (ما يسمى بمعسكر الاعتدال المؤلف من حلفاء واشنطن) أمام تحد غير مسبوق هو تحدي التعاون العربي، بل التحالف، لمواجهة مخاطر أمن قومي من المفترض أنها تعنيها جميعاً. إن انتقال موضوع الخطر من إسرائيل إلى إيران، كما يتم تصوير الأمور، لا يغير من مبدأ وجوب التعاون أو التحالف، سواء تعلق الأمر بالجانب الأمني فقط أو تناول أيضاً المستويات السياسية والاقتصادية ـ الاجتماعية والثقافية وغيرها. فلا يمكن توقع النجاح ضد الهدف الجديد (إيران) فيما كان الفشل عنوان حقبة تاريخية مديدة ضد الهدف القديم (إسرائيل) مع بقاء كل عوامل الفشل الأول على حالها. بل إن عوامل الفشل هي أقوى اليوم مما كانت في الأمس، في بيئة الخراب السائد في عدد من الدول العربية، واستمرار الأنظمة المسؤولة عن هذه الأوضاع في دفن رأسها في الرمل. الخلاصة أنه أوان الفطام عن أمريكا في شروط هي الأسوأ وبفاعلين يرفضون بلوغ سن الرشد.
كاتب سوري
القدس العربي