مستقبل الاستثمار في “داعش”/ إياد الجعفري
فيما تلفظ “دويلة داعش” أنفاسها الأخيرة، شرق دير الزور، يصبح من المُلح التساؤل عن الأشكال الجديدة للاستثمار الذي ستمارسه قوى محلية وإقليمية ودولية، في هذه النسخة المتطرفة من الجهاد العالمي.
ولا يبدو أن البحث في كتابات المتخصصين بالجماعات الجهادية، تسعفنا بإجابات شافية. فهؤلاء المتخصصون يقدمون تصورات للتطور الموضوعي المرتقب لهذه الظاهرة، من قبيل تحولها إلى سيناريو “الذئاب المنفردة”، أو “الخلايا النائمة”، أو انتعاش الظاهرة في أماكن أخرى من العالم، كالصين أو الفلبين أو حتى أفغانستان، أو العودة إلى منهجية “أبو مصعب الزرقاوي”، القائمة على التفجيرات الانتحارية، المكثفة، والتي تستهدف الأماكن العامة.
ورغم أن كل هذه التصورات الموضوعية، مرجحة، بل بعضها بدأ يتحقق بالفعل، وهو ما نلحظه مع تزايد وتيرة التفجيرات، وبعضها انتحاري، في مناطق الشمال السوري، إلا أنها لا تعالج البعد غير الموضوعي لتطور الظاهرة. ونقصد تحديداً، دور أجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية، وحتى المحلية، في استثمار هذه الظاهرة. وهو استثمار أثّر بشكل واضح في تطورها، خلال السنوات الأربع الفائتة، بحيث تمددت “داعش” بشكل مفاجئ وسريع، أثار الصدمة للمتخصصين، قبل أن تنحسر، بشكل مفاجئ وسريع، شكل صدمة أخرى للمتخصصين، أيضاً.
ونحن هنا لسنا في وارد إنكار البعد الموضوعي لظاهرة التطرف، والذي تنكره بعض الأقلام، مرجعةً الظاهرة برمتها، إلى أروقة الأجهزة المخابراتية. لكننا في الوقت نفسه، نعتقد أن استثمار الأجهزة المخابراتية في هذه الظاهرة، أثّر في تطورها الموضوعي، ووجّهها وجهات تخدم أجندات لحكومات،أكثر مما تخدم غايات الجهاديين أنفسهم.
لذلك، طُرح مراراً، تساؤل لطالما أثار فضول المراقبين، خلال السنتين الأخيرتين، حينما شهدنا انحسار “داعش” التدريجي، قبل أن يتسارع هذا الانحسار. ففي كل مرة، كان السؤال، أين يختفي مقاتلو “داعش” في كل معقل تقتحمه قوى مهاجمة؟ وكانت الإجابات سرعان ما تتكشف عن عمليات نقل لهؤلاء المقاتلين، من مكان لآخر. عمليات النقل هذه تمت بتدبير الأطراف التي كانت تهاجم معاقل “الداعشيين”.
في الأشهر الأخيرة، تزايد التساؤل عن مصير مقاتلي “داعش” المحشورين في جيب صغير. وقبل أقل من شهر، قال مسؤولون ينتمون لميليشيا “قسد”، إنهم يحتجزون ما يقرب من 1000 مقاتل من التنظيم. فيما كانت التقديرات المتداولة سابقاً، تقول إن أعداد مقاتلي “داعش” تتراوح بين 30 إلى 45 ألف. فهل جميعاً قُتلوا؟ بالطبع لا. هناك الآلاف منهم، تخفوا بين المدنيين، في المعاقل التي كانت تسقط تباعاً. والكثيرون من هؤلاء كانوا يصلون بشكل مفاجئ، إلى بلدانهم، إن كانوا من جنسيات غير سورية، أو يعودون إلى معاقلهم، إن كانوا سوريين. والكثيرون منهم وصلوا إلى مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” وإدلب، في الشمال السوري. وهناك حصلت عشرات التفجيرات، التي استهدفت فصائل معارضة وأخرى جهادية، قاتلت “داعش” في وقت من الأوقات. كيف وصل هؤلاء إلى هناك؟ إنه شكل من أشكال الاستثمار، مارسته هذه المرة “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”. وتم تسجيل العديد من الحالات التي تؤكد إطلاق سراح قياديين وعناصر من “داعش” لقاء أموال، وتمريرهم إلى مناطق مناوئة لهذا الفصيل الكردي، في الشمال الغربي من سوريا.
قبل سنوات، يُعتقد أن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، أطلق بشكل مقصود سراح عشرات القياديين من القاعدة، الذين غذوا ظاهرة “داعش” بصورة دعمت تمدده. ذلك التحول أكدته مصادر غربية عديدة. لكن الغرب نفسه، إنجر إلى الاستثمار في “داعش”، الذي كان قد بدأه نظام الأسد والإيرانيون الداعمون للمالكي في العراق. واليوم، تلوّح “قسد” بالاستثمار ذاته حينما تتحدث عن احتمال إطلاق سراح ألف عنصر وقيادي في التنظيم، محتجزين لديها، في حال تعرضها لهجوم عسكري تركي. في الوقت نفسه، يتحدث الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن “بقايا داعش التي تُركت في المنطقة عن عمد”، وعن داعش “الذي سيق عن عَمدٍ تجاه تركيا”.
وخلال السنة الفائتة، تواترت الأنباء أكثر من مرة، عن إنزالات جوية أمريكية، في شرق الفرات، لاعتقال قياديين بارزين في “داعش”. إختفى هؤلاء. ولا نعرف مصائرهم. لكن ما نعرفه أن اختفاءهم من دون محاكمات علنية، أو إحصاءات دقيقة عن أرقام المعتقلين، يعني أنهم بصدد الاستثمار، أمريكياً، هذه المرة.
وإذا كان علي مملوك، قد تفاخر أمام الأمريكيين يوماً، في العام 2010، ببراعة المخابرات السورية في التلاعب بالظاهرة الجهادية، “لأننا عمليون ولسنا نظريين”، حسب وصف مملوك في تسريب شهير لـ “ويكليكس”، فإن الأمريكيين، بعد عشر سنوات على ذلك التاريخ، يعملون وفق النهج نفسه، كما يبدو. فبعد سنوات من قتال “داعش” في شرق الفرات، واعتقال المئات من قيادييه وعناصره، باتت المخابرات الأمريكية تمتلك ثروة من المعلومات والأفراد، التي يمكن أن تخدمها في استثمار هذه الظاهرة.
وفي هذه الأيام، قد يقول لنا المتخصصون، إن “داعش” عاد إلى نهج “الزرقاوي” عبر التفجيرات الانتحارية. لكنهم لن يقولوا لنا، من هي الجهات التي توجه الانتحاريين إلى أهدافهم. وقد تبدو هذه الأهداف، في بعض الأحيان، تعبيراً عن الثقافة العدمية لهذا التنظيم، لكنها في أحيان أخرى، إن دققنا النظر جيداً، سنجدها ممنهجة. فقط إن علمنا، من هو الطرف الذي يملك المعلومات والقياديين، ضمن هذا التنظيم.
باختصار، انتهت مرحلة الاستثمار في تمدد “داعش”. ونحن الآن أمام مرحلة جديدة، وشكل جديد من الاستثمار. لكن “داعش” لن ينتهي، بوصفه نسخة متطرفة من الظاهرة الجهادية. فالأسباب الموضوعية لاستمرار هذه الظاهرة، ما تزال قائمة. ما يحدث الآن فقط، تحوله من شكل إلى آخر. وتحول استثماره أيضاً، من شكل إلى آخر، وربما من طرف إلى آخر.
المدن