الدستور في أيدٍ أمّية/ عمر قدور
عاد حديث اللجنة الدستورية إلى التداول بين السوريين مع ترقب إطلاقها، وعلى نحو خاص عاد الحديث عن مرشحي المعارضة للجنة، وبدرجة أقل ما يُسمى ممثلي المجتمع المدني، وهم الثلث الذي يُفترض أن يكون المبعوث الدولي إلى سوريا قد اختاره بالتوافق مع الدول المعنية بالملف. وربما يكون إطلاق اللجنة حدثاً موازياً للانسحاب الأمريكي خلال الأسابيع القليلة القادمة، بغية خلق انطباع دولي بأن كل شيء على ما يرام، فداعش قد دُحر تماماً، والعملية السياسية قد أقلعت، من دون إهمال ما يعنيه الربط الضمني بين الاثنين من الإشارة إلى الإرهاب “لا إلى بشار الأسد” كعنوان رئيسي للمقتلة السورية.
وكما نعلم كان ابتداع اللجنة الدستورية، مع الخلافات حول تشكيلها، نوعاً من التغطية على غياب العملية التفاوضية التي ينبغي أن تديرها الأمم المتحدة بناء على القرارات الدولية الخاصة بسوريا. إلا أن العملية التفاوضية تُركت فعلياً لضامني مسار آستانة، فضلاً عن قيامهم بطي الملف العسكري، وفي ما بعد أوكلت لهم نسبة أساسية من مهمة تشكيل اللجنة أيضاً. وإذا برزت اعتراضات دولية خجولة، تخص الرغبة الروسية في الاستيلاء على الملف كاملاً، فإن المبدأ لم يتغير وظل في حدود التواطؤ الدولي على منع تغيير ديموقراطي حقيقي.
المعارضة المتمثلة باللجنة الدستورية لم تبتلع الطعم في غفلة، بل هي على دراية تامة بما يعنيه تحويل العملية التفاوضية من الجانب السياسي إلى الجانب التقني، وكأن أساس الصراع السوري هو الدستور! لا يكفي أن نقول أن المعارضة، في وضع الهزيمة الذي باتت عليه، مضطرة إلى القبول بهذا الخيار، ولا تمنحها أي شرف الضغوط الدولية القاسية التي مورست عليها. نحن هنا إزاء معارضة أخذت على عاتقها تحويل البعد التراجيدي، الذي ربما يليق بهزيمة ثورة شعبية، إلى مهزلة حقيقية، وهذا الدور قد يكون الأخطر على صعيد نسف سردية الثورة من أساسها.
حتى إذا مشينا مع بؤس المعارضة إلى عتبة المشاركة في اللجنة الدستورية فستواجهنا مهزلة تمثيلها، التمثيل الذي لا يختلف عما سيكون لو أن الأمر يتعلق برحلة جماعية ترفيهية مثلاً. بدءاً من أسماء أثبتت فشلها على الصعيد السياسي، وصولاً إلى أسماء لم يسمع بها أحد إلا لمناسبة عضويتها في اللجنة، مروراً بأسماء يُعرف عدم امتلاكها كفاءة سياسية أو قانونية؛ هذه هي حصيلة الأسماء المعلنة والتي لم يتنصل منها أحد حتى الآن.
بدلاً من الكتابة عن هذه اللجنة، لماذا لم يكتب صاحب هذه السطور مقالاً في جراحة القلب؟ فهو يعرف معلومات عامة عن القلب والشرايين والأوردة، ومعلومات شبيهة عن قصور القلب وأمراضه، ويستطيع لملمة بعض المعلومات من مواقع الانترنت إذا امتلك قدراً أكبر من الجدية. الافتراض السابق لا يبتعد إطلاقاً عن قبول هؤلاء الأعضاء الوجود في اللجنة الدستورية، من دون أن يسألوا أنفسهم السؤال الواجب حول كفاءاتهم، بصرف النظر عن رأينا حول دور اللجنة ككل. مرة كنا في محاضرة عن تاريخ الطب، وفي السياق عرض الطبيب المحاضر صورة جمجمة من عصر الفراعنة فيها ثقب يثبت إجراءهم عملية محددة في الدماغ. في فقرة الحوار مع الجمهور، سأل أحد الحاضرين: ولماذا لا نقول أنهم كانوا يثقبون الجماجم لاستخدامها في شرب الخمور؟ تلوّن وجه المحاضر بين الأزرق والأحمر جراء السؤال الذي يحمل تعدياً معرفياً مرسلاً على سجيته بلا رادع؛ ذلك السؤال يشبه أيضاً حال الذاهبين إلى اللجنة الدستورية.
في حادثة أخرى تذهب إلى المغزى، أتيح لي حضور جلسات منتدى حول الوضع السوري، ومن حسن الحظ أو التنظيم وجود أستاذ في القانون الدستوري بين الحاضرين آنذاك. كان ذلك الأستاذ يتدخل قليلاً في الحوارات السياسية، لكنه إذا تكلم ذهب إلى ضبط المصطلحات، فهو مثلاً كان العارف الوحيد بتفرعات مصطلحات صارت دارجة مثل الفيدرالية وهو مطّلع على نماذجها التطبيقية في مختلف الدول. من أهم ما قاله بتواضع: أن من مهمة السياسيين الاتفاق أولاً على الخطوط العريضة، ومن مهمة القانونيين إيجاد “التكييف” القانوني لتلك التفاهمات، استئناساً بكمّ هائل من التجارب الدستورية في العالم أو اجتهاداً عند الضرورة.
لقد كانت إحدى حججنا القديمة ضد نظام الاستبداد والفساد تهميش الكفاءات لصالح المحسوبيات، وثمة قناعة واسعة لدى السوريين بمقدراتهم متى تحققت حرية إبرازها. في هذا المضمار تحديداً قدّمت لنا المعارضة المثال الأسوأ، فشرط الكفاءة لم يكن موجوداً ضمن معاييرها في أي يوم. وفي مثال اللجنة الدستورية نعلم بوجود كفاءات حقوقية مؤيدة للثورة، إلا أنها لم تأخذ فرصتها إطلاقاً لا في مراكمة دراسات حقوقية ضرورية لمؤسسات المعارضة، ولا في الإعداد “النظري” لمستقبل سوريا ترجمةً لتطلعات الثورة، ولا حتى على سبيل الاستشارة الضرورية كي لا يخرج ممثلو المعارضة لإلقاء الكلام حسب أمزجتهم.
يستطيع معظم المرشحين لعضوية اللجنة الدستورية إعطاءنا دروساً في جراحة القلب، وفي دلالة ثقب الجمجمة عند الفراعنة، ولمناسبة اللجنة العتيدة يستطيعون أيضاً إعطاءنا دروساً في الدستور. ذلك كله بات جائزاً، مثلما من الجائز الرد على هذا الكلام بأن زمن التخصص قد ولى ما دمنا في زمن أصبحت فيه المعلومة متاحة للجميع، ولا شك في أن الرد بأي كلام أسهل من تقديم السيرة المهنية الذاتية لأولئك جميعاً.
كنا نستحق تغييراً حقيقياً وخسرنا المعركة، وكنا نستحق خسارة مشرّفة فخسرنا الرهان أيضاً، وكنا نستحق على الأقل الإحساس التراجيدي بالخسارة، وحتى هذا الأخير يجري تحويله إلى مهزلة. هذا ما لا يفهمه ولن يفهمه فقهاء الدستور الجديد، مثلما قد يفوتهم الفرق بين أن يكون الدستور في أيد أمّية أو أيد أمينة.
المدن