حيرتنا مع خالد يوسف وأمثاله/ عمر قدور
ربما هناك اليوم الكثير من الشامتين بالسياسي والمخرج السينمائي المصري خالد يوسف، بالقياس إلى قلة من المتضامنين معه، أو حتى الذين يستطيعون التعبير عن تضامنهم. القبضة المخابراتية لحكم السيسي تشرح لنا لماذا غاب التضامن المصري معه، والقيم الاجتماعية السائدة تضعه في موقع لا يحسد عليه، لكن ذلك وحده لا يفسّر غياب التضامن خارج مصر، بخاصة من شريحة يُفترض أنها تتقاسم معه بعض القيم الفردية أو طرق العيش. على سبيل المثال، لم تظهر فئة لتدافع عن خالد يوسف بحجة حريته وحرية شريكاته بالتصرف بأجسادهم، رغم وجود شريحة من المثقفين العرب تنادي بهذه الحرية ولا تخشى السائد اجتماعياً بما يردعها عن الإعلان عن موقفها.
يجدر التنويه بأن خالد يوسف واحد من ظاهرة أوسع على الصعيد السياسي، وهذا يفوق بالأهمية الجانبَ الفضائحي الذي طغى على قصته، حتى مع إدراك الجميع بأن الفضيحة هنا مُسيّسة جداً. خالد كما نعلم نزل مع المتظاهرين في ثورة يناير، ثم اتخذ موقفاً معارضاً لحكم الرئيس المنتخب محمد مرسي، ليكون لاحقاً مستشاراً لقائد الانقلاب السيسي في حملته الانتخابية، ثم ليستقر نائباً في البرلمان المصري. وهو بذلك جمع التناقضات، من الثورة على نظام مبارك إلى مباركة الانقلاب على رئيس منتخب لأول مرة في تاريخ مصر، لتأتي معارضته تعديل الدستور لصالح بقاء الأخير في الرئاسة وكأنها امتداد لغفلته عما يعنيه حكم العسكر.
لم تُسجّل للنائب “أو الفنان” خالد يوسف مواقف تخص التضييق على الحريات في مصر بعد الانقلاب، ولا مواقف تطالب بالعدالة لعدد ضخم من الموقوفين لأسباب سياسية وكثر منهم مُسلّط فوق رؤوسهم حكم الإعدام. ولو كان قد اعتكف عن العمل السياسي لكان صمته مفهوماً على غرار صمت الملايين المغلوبين على أمرهم، لكن الموقع الذي يشغله بإرادته يرتّب عليه مسؤوليات لا يكفي التعاطي معها بانتقائية شخصية للإفلات منها. أما عداوته للإخوان أو الإسلاميين عموماً، من موقع الدفاع عن الحريات الفردية الشخصية، فقد صار من الصعب أخذها على محمل الجد أو العمق الفكري، لأن الرجل بموجب شهادتي المرأتين في القضية المرفوعة ضده قد تزوجهما، أي أنه مارس حقه كذكر بموجب الشريعة، وعلى نحو مُغالٍ لا نجده حالياً سوى لدى قلة من المسلمين في مشرق الأرض ومغربها.
ليس في مصر وحدها، لدينا في سوريا أيضاً كثرٌ من نموذج خالد يوسف، أي النموذج الذي انحاز إلى وحشية العسكر بذريعة الخوف من الإسلاميين. هؤلاء جميعاً، هنا وهناك، أدوا الدور ذاته لجهة تكريس الديكتاتورية كخيار وحيد، رغم أن منطوق بعضهم الشخصي لا يظهر ذلك الغرام بالقبضة العسكرية. المسألة لا يجوز ابتذالها، وابتذال أصحابها، بالتعالي والظن بأنهم أدوا هذا الدور بلا وعي منهم، أو وقعوا ضحية خدعة ما.
الأنظمة الوحشية ذاتها لا تريد دائماً الإبقاء فقط على النوع الصريح جداً من المؤيدين، بل ربما ترحب ببقاء بعض الأصوات المتمايزة عنهم، تحديداً لتحسين صورتها أمام الخارج ولشيطنة معارضيها. في ما يخص سوريا مثلاً، لن يندر أن تجد بين متابعي هذا الشأن في الغرب من ينوّه ببقاء “معارضين” لبشار الأسد في الداخل، وبقدرتهم على الخروج والعودة بلا مضايقات. وبذلك يبدو بشار عدواً فقط لنموذج معين من المعارضين، لا عدواً لفكرة المعارضة من أساسها. لكننا نعلم، وهؤلاء يعلمون أيضاً، أن مخابرات بشار لن تتوانى عن اعتقالهم متى انتفت الحاجة إلى المتاجرة بهم.
في أحسن الأحوال لا نستطيع اتهام هذا النموذج بأنه يدعو إلى ديموقراطية الصفوة، وإلى طرد من يراهم بمثابة العبيد خارجها، فالدعاوى الفكرية الضحلة التي تسوقهم لا تمنحهم ذلك الثقل المعرفي، ولا نرى بينهم من يناقش ويجادل في قضايا تمس جوهر الحوكمة، إذا استثنينا ذلك العتب العامّي على التسلط. دراية أولئك بجوهر السلطة وتمسكهم بوجودها يجعلهم تلقائياً في موقع الضحية، وغالباً ما نجدهم مستسلمين لمصيرهم فلا يقاومونه على نحو يخالف مسيرتهم السابقة، بينما يُفترض “نظرياً على الأقل” ممن آمنوا بقضية الحرية بلا تمييز التضامن معهم.
لقد حدث في سوريا أن كنا أمام حالات اعتقال لأشخاص منحوا لمخابرات الأسد امتياز تركهم خارج الاعتقال، ومن ثم امتياز الإفراج عنهم! بالطبع، لم يكن مطلوباً في أي وقت من أي سوري مغادرة البلاد إذا لم يتعرض للخطر، أو لم يكن ذلك خياره الشخصي، بشرط ألا يعتبر البعض وجوده في البلاد وما يضفيه من شرعية على سلطة الأسد نوعاً من امتياز له بالمقارنة مع الذين اضطروا للمغادرة. ما اعتدنا عليه هو العكس تماماً؛ أن يعمد أولئك إلى لوم الذين غادروا تحت الخطر، منوّهين ببقائهم المُسيَّس أيضاً. مع ذلك، كنا في العديد من الحالات أما اختبار الحرية؛ فالإخلاص لقضية الحرية يقتضي التضامن مع الذين تعرضوا للاعتقال، بصرف النظر عن الاختلاف السياسي. المشكلة أن هذا التضامن كثيراً ما أعيد تدويره، فالذين استفادوا منه حصلوا عملياً على دعم لأشخاصهم ولمواقفهم، وعاودوا بعد اكتساب مصداقية أكبر إلى تكرار مواقفهم السابقة التي تصب موضوعياً في دعم جلادهم وقاتل مئات آلاف السوريين.
من المحتمل جداً أن نكون على موعد متجدد إزاء هذا الاختبار في سوريا وفي مصر وفي مختلف بلدان المنطقة؛ عودةُ أسوأ ما في الأنظمة القديمة وأشد وجوهها توحشاً ستؤدي إلى قضم الذين راهنوا على إصلاحها، ربما وصولاً إلى قضم بعض مؤيديها. سيكون للشماتة أهلُها، وقسم منهم تضرر مباشرة من مواقف الضحايا الجدد “الجلادين قبل حين”، وقسم آخر ينطلق من موقع العداء الأيديولوجي كما نرى الآن في موقف مشايعي الإخوان من قضية خالد يوسف، حيث لا يندر بينهم من يجمع الأمرين فضلاً عن كونها فرصته للانقضاض على ما يعتبره تمثيلاً للعلمانية. الاختبار المذكور لن يتسبب بالحيرة فقط لأنصار الحرية، بل قضية الحرية ذاتها ستكون في وضع شاذ، إذ يكون عدم الدفاع عن هؤلاء مسيئاً لها بقدر الدفاع عنهم!
المدن