ذباب الإنترنت/ سلام الكواكبي
عموماً، تتجمّع أسراب الذباب وبعض من الحشرات الأخرى، على القذر من المواد العضوية، حيث تجد فيه جنّتها الغذائية. وكما يمكن أن يوجد الذباب الأزرق على مخارج فضلات الحيوانات الكبيرة، كالحصان أو البقرة، لذا نجدهم يحركون أذنابهم ذات اليمين وذات اليسار ليتخلّصوا من الإزعاج ومن التطفّل. وكما نعلم جميعاً، فالذباب ناقل للأمراض ولا فائدة تُذكر له، وحتماً سيجد أصحاب البيئة وحمايتها، بعض الإيجابيات “الذبابية” نحن في غنى عنها خصوصاً عندما نرى الحشرة أو نجتمع معها في غرفة واحدة ولا نتمكن من الإمساك بها. إذ إن من الذباب أنواع، ودون الخوض في التفاصيل، يمكن تمييز نوعين أساسيين على الأقل وهما مهيمنان على الساحة البشرية. الأول، سريع الخوف والطيران وبالتالي، فالإمساك به شديد الصعوبة. أما الثاني، فهو كبير الحجم قليلاً، وثقيل الحركة عن قصد، إذ إنه يتعمّد استفزاز البشر بحيث يلتصق أحياناً بجلدتهم ولا يهرب إلا عندما يُصبح الخطر محدقاً.
في عالم الإنترنت الواسع، وخصوصاً في فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي، يتكاثر وبشدة ذبابٌ يُدعى بالإلكتروني، ولكنه أيضا يحمل صفات الذباب الحي. الفارق الوحيد أو الأساسي هو أن الذباب الحي يتجمع على الفضلات ويقتات بها. كما يمكن له أن ينقل أمراضاً، ومن دون الغوص في نفسيته وتركيبته الاجتماعية، فيبدو من المؤكد بأنه لا يسعى كيدياً إلى القيام بدور ناقل الأمراض وناشر الأوبئة، ولكنها سنن الطبيعة وهو جزءٌ منها. أما الذباب الإلكتروني، فهو موجود في فضاءاتنا للقيام بالقذر من الأعمال. ربما اقتات يوماً من قذرٍ ليس من إنتاجه، لتعزيز الإنتاج أو لتحسين نوعيته القذرة، ولكن وظيفته الأساسية هي نقل الأوساخ من منابعها ـ التي تكون كثيرا من الأحيان أفواهاً ـ ونثرها على كل من يحلو لصاحبه المُعْتَمَد أن يستهدف من مجموعات وأفراد.
وللذباب الإلكتروني القذر وظيفةً وموقفاً وعقيدةً، قدرةٌ على اجتذاب العامة من الناس للغوص في وحوله ويكاد في كثير من الأحيان أن يجعلهم يقتاتون من وجباته الرئيسية أو من فضلاته. فهو أساساً يعتمد الكذب، ولهذا الكذب شعبية لا بأس بها في بيئات تتمتع بإعلامٍ حُرٍّ ومتنوع، فما بالنا إن كان حقل العمل والتأثير هو بيئات لم تعرف إلى حرية التعبير سبيلاً أبداً أو أنها عرفته كرؤوس أقلام منذ فترة وجيزة؟ هذا يزيد حتماً من نهمها على الأكاذيب الجذّابة أو المُثيرة للانتباه كما للحواس. والذباب الإلكتروني قادرٌ على السرعة في الإنتاج كما هو متمكن من أدوات النشر السريع والفعّال. وعلى ضحاياه أن يكتووا بناره وبفضلاته ريثما يعودون إلى صوابهم من صدمة الاستهداف الرخيص، ليقوموا بتنظيف الدار منه وممن صاحبه غيلةً أو إرادياً. كما يمكن لضحاياه أن يتعرضوا لإحباطات ربما أودت بهم إلى الانسحاب من معركة الأوساخ الإلكترونية، وبالتالي، فهم سيظهرون كالمنهزمين أمام أترابهم.
وتوجد هناك أيضا انتماءات مختلفة للذباب الإلكتروني، فهناك “جيوش” منه مُدَرّبة جيداً تعتمد عليها دول، كالجيش الذبابي الروسي الذي حاول أن يؤثر، ونجح جزئياً، في العديد من الأحداث الجارية في العالم، كما في المشهد الداخلي الفرنسي منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة في صيف 2017 وصولاً إلى حركة السترات الصفراء الجارية على قدمٍ وساقٍ حالياً. كما يعرف المشهد العربي أسراباً ذبابية تُسخّر من خلالها الأنظمة جهودها لتشويه معارضيها أو نثر الدسائس أو تشويه الحقائق أو اختلاق الأكاذيب. وقد عرفت دولٌ بعينها، كسوريا مثلاً، ازدهاراً لا نظير له لعمل هذه الأسراب.
كما أن هناك مجموعات تنتمي إلى ما تدّعي أنها تيارات معارضة للأنظمة الاستبدادية، ولكنها تحمل أغلب أمراضها التسلطية كما الفكرية، يقوم أفرادها بتسخير الوقت الثمين لرمي أوساخهم على أفراد أو مجموعات لا يتفقون معها في بعض التفاصيل أو في الكلّ. وفي عمل هذه الأفواج الذبابية إيذاء أشد أثراً من أسراب الذباب الحكومي أو السلطوي. فذباب السلطة معروف وله وسائل تصدي أو حماية أحياناً. أما ذباب “ذوي القربى” فهو أشد تأثيراً لأنه صعب التحديد أو التوصيف. فهو من لَدُنِ المعارضة والمعارضين. إن مواجهة هذا الذباب الشرس تُفقد العاملين في الشأن العام وقتاً ثميناً كان يمكن لهم أن ينفقوه في ساحات أكثر إنتاجاً. كما أن هذه المواجهة ممكن أن تضعضع من ثقة الضحايا بانتمائهم أساساً إلى القضية، مهما كانت مُحِقّة وعادلة، ما دام بعض “القيمين” عليها يلعبون أدواراً ذبابية مُعلنة أو مضمرة.
ين ذباب الاستبداد وذباب من يدّعي وصلاً بمعارضي الاستبداد، صارت الأوساخ متاحة وبكثرة على الشبكة الإلكترونية، وصار من السهل أن يغرف منها من هبّ ودبّ ممن لا عمل لهم إلا تصيّد النفايات والتلذّذ بتذوّقها. فصارت الشبكة مرتعاً رحباً ومغذيّاً للكثير من الأفراد الباحثين عن إشغال أوقاتهم غير الثمينة والمتميزين بأنهم خالو الوفاض الفكري كما الأخلاقي.
إن مقدرة الضحية، مجموعات أم أفرادا، على مواجهة الجحافل الذبابية في هذه البيئة الملوّثة، هي معيار انتصار الخير على الشر. وهذا لا يحصل إلا في الأفلام للأسف الشديد.
تلفزيون سوريا