في خطأ أن نسمّيه داعشياً/ عمر قدور
إثر العمل الإرهابي الذي أودى بخمسين مصلّياً في نيوزيلاندا، شاعت لدينا توصيفات تقرنه بداعش، من نوع اعتبار الإرهابي داعشياً غربياً أو داعشياً مسيحياً، أو داعشياً يمينياً. ورغم أن التوصيف الثالث منهم يتحاشى الأوصاف الهوياتية ليذهب إلى السياسة إلا أنه لم ينجُ من المقايسة التي تجعل من داعش المعلومَ الذي يُقاس عليه مجهول، أو الشاهد الذي يُقاس عليه الغائب وفق تعبير من علم الكلام القديم. هذا القياس يحيل جريمة برينتون تارانت إلى الغائب والمجهول، كأنها جريمة لم يسبقها إطلاقاً “في سياقها الجيوسياسي” ما يماثلها، وما يشرحها، أي أنها تفتقر إلى الشاهد والمعلوم في مكانها الأصلي.
الاستدلال على الإرهابي الأسترالي بالداعشية قد لا يخلو من حسن نية، بخاصة من قبل أولئك الذين يتوقفون عند المحسوس القريب فيجدون ضالتهم في التنظيم الذي شغل العالم خلال السنوات الأخيرة. لكنه من جانب آخر قد يكشف عن نرجسية غير واعية، إذ تجعل من تنظيم محلي أداةَ مقايسة، فتمنحه الأسبقية، وتضعه مجازاً في مقام الشر المطلق، وتصنع منه ذلك الاستثناء الذي لا يُتوقع صدوره إلا عن مجتمعات تفتقر إلى العقلانية، وأي استثناء خارجها ينبغي إلحاقه بالاستثناء الأصلي.
لقد رأينا في سوريا شيئاً مشابهاً، ففي بداية الثورة، ولم يكن داعش قد ظهر إلى الوجود بعد، عمد شبيحة الأسد إلى قتل ناشطين ذبحاً وإلقاء جثثهم من الشرفات، ثم عمدوا إلى ارتكاب مذابح جماعية مثل مذبحة “كرم الزيتون” قبل سبع سنوات ومذبحة بانياس في بداية أيار 2013. عدد ضحايا شبيحة الأسد بالسكاكين والسواطير فقط قد لا يقل عن ضحايا داعش بالأدوات نفسها، مع حفظ الأسبقية لتنظيم الأسد، إلا أن هذا الواقع لم بمنع شيوع إلصاق عمليات الذبح بداعش حصراً، وكأنه أتى بفظاعة لم يأت بها غيره. ذلك رغم علمنا جميعاً بأن القتل بالسكين يُقصد به إظهار وحشية أشد إزاء الضحايا والضحايا المنتظرين، وتدريب القتلة على مزيد منها، وقد رأينا من قبل مذابح مشابهة في العديد من بقاع العالم بما فيها منطقة البلقان الأوروبية.
بعض الذين استدلوا على الإرهابي الأسترالي بالداعشية تدفعهم الأيديولوجية المضادة للإسلاميين، وبينهم متشددون لا يخفى تركيزهم على العامل الثقافي بصفته المنبع الحصري للإرهاب. وفق هذا التصور، الإرهاب هو إسلامي بالضرورة، حتى إذا كان معظم ضحاياه من المسلمين أنفسهم، وحتى إذا كان الجاني غير مسلم كحال الأسترالي الذي قتل خمسين مصلّياً. القاتل بموجب هؤلاء يصبح بمثابة ضحية للتطرف الإسلامي أيضاً، لأن جريمته تأتي كرد فعل على الجريمة الأولى، وإذا كان لا بد من إدانة جريمته فلتكن ضمن سياقها وظروفها على الضد من إرهاب داعش وأمثاله الذي ينبع من هوية راسخة لا تتأثر بما هو ظرفي.
كما نعلم برز تنظيم داعش بقوة منذ حوالي ست سنوات، قدّم خلالها نفسه الأكثر راديكالية وإرهاباً ضمن التيارات الجهادية، إلا أن فورة التنظيم “التي تنتهي الآن” ينبغي ألا تحجب سوى عن أصحاب الذاكرة القصيرة ضآلة تلك المدة التي لا تجعل منه مرجعية حصرية للإرهاب. حتى إذا أخذنا في الحسبان مجمل التيارات الجهادية فينبغي ألا تحجب عن أذهاننا عدم ملكيتها الحصرية للإرهاب بقدر ما هي منضوية ضمن سياق عالمي أعمّ، وهذا القول لا يسير وراء مقولة مبتسرة من نوع “الإرهاب لا دين له”، لأن منظومات الإرهاب العالمية تتغذى على عدة منابع منها الأديان، متى تحولت الأخيرة إلى أيديولوجيا شمولية إقصائية ذات نزوع إمبريالي، أو متى اتخذت طابعاً توتاليتارياً بتعبير حنة أرندت.
بدورها، مقولات أرندت تفسّر لنا شيئاً من البناء النظري للإرهاب أكثر مما تفسّره براهنيته، ومن المفيد تذكّر تأثيرات النازية والستالينية على اشتغالها على التوتاليتاريا مع حجم الضحايا المهول الذي تسببتا به، بخاصة مع بروز التيارات اليمينية المتطرفة التي تتشبه بالنازية في عموم الغرب وصعود البوتينية شرقاً. ما يميز إرهاب الإسلاميين عن تلك التيارات، بخلاف البنية النظرية المؤسسة له، انطلاقه من موقع الضعف واقترانه بالعدمية السياسية. غاية هذا الإرهاب إيقاع أكبر أذى ممكن بالأعداء، من دون أفق لجني المكاسب جراء ذلك لأن احتساب موازين القوى المحلية والخارجية لا يصب في صالحه إطلاقاً.
ميزة الانطلاق من الضعف ينبغي تنحيتها في الحديث عن التيارات المتطرفة الغربية، فمعظمها يجد متسعاً “ديموقراطياً” للتعبير عن خطابه الظاهر والباطن. إرهاب هذه التيارات ينطلق من موقع القوة إزاء اللاجئين المستضعفين في الغرب، وأيضاً من موقع قوة دولها في ميزان العلاقات الدولية، لذا تظهر اعتداءاتها على اللاجئين استعراضاً لفائض القوة، وفي بعض الأحيان استكمالاً وحشياً لسياسات حكومية أكثر نعومة إزاء الضحايا أنفسهم في الداخل أو في بلدانهم. ضمن المناخ ذاته سيكون خارج أي منطق رؤية تلك التيارات مساندة لأمثال بوتين وبشار الأسد، على اعتبارهما متسببين بموجة لجوء جديدة ضخمة جداً، إلا عندما يقتضي المنطق الخاص بها بقاء أولئك اللاجئين في بلدانهم وتعرضهم للإبادة بدل النجاة منها. جدير بالذكر أن روسيا كانت طيلة التاريخ الحديث المتسبب الأكبر بموجات اللجوء، سواء من داخلها أو داخل الاتحاد السوفيتي سابقاً، أو من مجمل المنظومة التي رعتها أثناء الحرب الباردة والتي تود البوتينية استرجاعها بدعم الاستبداد أينما وجد، أو عبر الحروب التي كانت روسيا طرفاً فيها، وهذا كله لا يجعل منها خصماً لتيارات اليمين المتطرف، ولا اليسار المتطرف الذي يساند اللاجئين في الداخل ويساند قتلتهم في بلدانهم الأم.
إننا اليوم أمام لوحة لا يكون فيها سواد داعش سوى بقعة من سواد أعظم، والمثال الوحيد الذي قدمه التنظيم “عن غباء أو خبث” فيه ما يغذّي “ويتماشى مع” أسوأ تصورات الاستشراق القديمة عن المنطقة، وكأن مهمته الأسمى تقديم نفسه كنموذج للوحشية المطلقة التي تغطي على باقي الوحوش في المنطقة وخارجها. وقوعنا في فخ هذا النموذج يُفقدنا الكثير من المعرفة بما لا يقل أثراً عن داعش، وبما يفوقه تأثيراً واستمرارية، وسيكون نقيض الإسلاميين الذين يرون في الغرب شراً مطلقاً أولئك الذين لا يرون فيه سوى ما هو مشرق وتنويري.
المدن