تنافس روسي إيراني على اقتسام سورية/ عدنان أحمد
تعاونت روسيا وإيران على نحو وثيق طوال الأعوام الماضية للحفاظ على نظام بشار الأسد ومنع سقوطه في مواجهة الثورة السورية التي دخلت عامها التاسع خلال شهر مارس/آذار 2019 الجاري، إلا أن خلف هذا التعاون عناوين خلاف عدة في الرؤى والمصالح والأهداف في سورية، تظهر شواهدها في أكثر من مكان في سورية وفي أكثر من موقف عبر عنه مسؤولو البلدين.
يرصد “العربي الجديد” هذه الخلافات التي بدأت تتسع في الآونة الأخيرة، وتظهر إلى العلن، مع انحسار العمليات العسكرية، وبدء المرحلة المفترضة لـ”جني الثمار”، بعد سنوات من الاستثمار العسكري والمالي والسياسي للبلدين لصالح نظام الأسد.
ولعل الزيارتين المتزامنتين تقريباً اللتين قام بهما كل من رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى طهران في 25 فبراير/شباط الماضي، ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى موسكو بعد يومين، تعكسان إلى حد بعيد هذا التناقض في الموقع والمصالح، خصوصاً إذا ما أضيف إليهما قصف إسرائيل المتكرر الذي يستهدف مواقع ومستودعات إيرانية في سورية بغض طرف، على أقل تقدير، من قبل روسيا، وأحدثه القصف في حلب ليل الأربعاء- الخميس،
فضلاً عن الرسالة الواضحة التي نقلها وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى الأسد خلال زيارته دمشق في 19 مارس الحالي، بالتزامن مع المباحثات الثلاثية الإيرانية العراقية السورية التي كانت تعقد في دمشق، ومفادها بأن ما حققه النظام من تقدم عسكري تم بفضل روسيا، وأنه بفضله أيضاً تم “الحفاظ على الدولة السورية”. كما لا يمكن إغفال الموقف الروسي من الاعتراف الأميركي بـ”سيادة” الاحتلال الإسرائيلي على الجولان السوري المحتل. وبينما اختارت موسكو التنديد اللفظي بالخطوة امتنعت عن قيادة التحرك في مجلس الأمن الدولي لمواجهة القرار الأميركي.
وإذا كانت أولوية نتنياهو العمل على منع إيران من تثبيت قواعدها في سورية، فإن استدعاء طهران للأسد كان الهدف منه عكس ذلك تماماً، أي زيادة الحضور الإيراني في سورية، مع إحساس بات راسخاً وعلنياً من جانب طهران بأن روسيا تتساهل، وربما تتواطأ مع الضربات الجوية الإسرائيلية لأنها تخدم مصالحها في سورية، تحديداً ما يتعلق بإضعاف هذا الوجود، في ظل التزامات روسية سابقة لإسرائيل بإبعاد ايران عن الحدود مسافة 40 كيلومتراً على الأقل، وهو ما لم يحصل حتى الآن، بل إن إيران زادت من حضورها، المستتر والمُعلن، في تلك المنطقة بعد سيطرة النظام السوري عليها في أيار/مايو العام الماضي.
وأسفرت زيارة نتنياهو لموسكو، كما أعلن في حينه، عن تشكيل “فريق عمل بمشاركة عدد من الدول لدراسة مسألة إبعاد القوات الأجنبية من سورية”، وإن كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال إن هذه المجموعة، التي ستضم ممثلين عن كل الأطراف المعنية بما فيها إسرائيل، “لن تبدأ عملها إلا بعد القضاء بشكل كامل على الإرهاب في سورية” حسب تعبيره.
حاولت طهران الاستخفاف في العلن بنتائج مباحثات نتنياهو في موسكو، معتبرة أن تصريحات الأخير “لن تؤثر على الوجود الإيراني في سورية”. وقال الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، إن “إيران ستواصل تقديم الدعم للحكومة السورية طالما بقيت تطلب ذلك”. من جهته، قال مندوب النظام الدائم لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري إن موسكو لم تشاور دمشق بشأن تشكيل المجموعة.
خلافات سياسية
ويرى كثر من المتابعين أن العلاقات الروسية-الإيرانية في سورية غير مستقرة، ولا تستند إلى أسس راسخة، بل إن الطرفين يستفيدان من بعضهما البعض، ومن ضعف الموقف العربي والدولي. وتنظر روسيا إلى إيران بوصفها ورقة ضغط في العلاقات مع الغرب والعرب، أكثر من كونها حليفاً. وبينما تستقوي إيران بروسيا حيال الغرب، فإنها ترى أنّ علاقاتها مع الغرب أهم من علاقاتها مع موسكو والعرب.
ومن خلال تتبع بعض مظاهر الخلاف بين مواقف الطرفين في المسألة السورية، يمكن تسجيل العديد من النقاط، أحدثها ما يتعلق بالموقف من “المنطقة الآمنة” المقترحة في الشمال السوري، إذ ينظر نظام الأسد، ومعه طهران، إلى هذه المنطقة باعتبارها “مؤامرة أميركية لتقسيم البلاد”، بينما أبدت روسيا تفهماً للموقف التركي الراغب في إقامة هذه المنطقة، وعرضت نشر قواتها فيها.
والخلاف الأساسي بين الطرفين هو حول استمرار نظام حكم الأسد، إذ يمثل ذلك هدفاً بحد ذاته لإيران بوصفه ضمانة لاستمرار نفوذها، بينما تقول روسيا إنها “تفصل” بين بشار الأسد الشخص والنظام السياسي السوري بمؤسساته المختلفة، وتؤكد أنها تدعم استقرار النظام السياسي.
وثمة تخوف روسي من المليشيات المسلحة التي شكلتها إيران في سورية، إذ تقترح موسكو ضم تلك المليشيات إلى القوات المسلحة التابعة للنظام والتي تقيم معها موسكو علاقات قديمة، وهي خطوة تثير امتعاض إيران التي تعتقد أن روسيا تستهدف حرمانها من نفوذها العسكري، وتالياً انفرادها بالسيطرة على القوى العسكرية لنظام الأسد.
وعلى مستوى العلاقات الخارجية والتحالفات الخاصة بكل طرف، تتخوف طهران من احتمال حصول مقايضات أميركية – روسية لإيجاد تسوية في سورية، تكون على حساب نفوذها في سورية والمنطقة. وينطبق هذا على علاقات روسيا مع إسرائيل، وإمكانية أن تتخلى موسكو عن طهران بسبب مزايا العلاقات مع تل أبيب، والتي قد تكون في حسابات السياسة الدولية أفضل من العلاقة مع إيران.
كما تتوجس إيران من علاقات روسيا مع تركيا، وتخشى أن يحصد الطرفان النتائج بينما هي تتكبد التكاليف والخسائر. وهناك تباين في دعم الأكراد، فروسيا كانت تراهم منذ البداية “مجرد وسيلة غير مكلفة” لتحقيق غاياتها في دحر “داعش” والتنظيمات المتشددة، والضغط على نظام الحكم في دمشق، في حين ترى إيران أن الأكراد يمكن أن يشكلوا عامل ضغط عليها مستقبلاً، في ظل الوجود الكردي في إيران، وبالتالي تتوجس من أن تنتقل إليها “عدوى الانفصال” إن نجحت التجربة في سورية.
خلافات على الأرض
وعلى أرض الميدان، حيث تنتشر القوات الخاصة بالدولتين، أو المجموعات المحلية الموالية لكل منهما، تزايدت في الفترة الأخيرة الخلافات والصدامات بين أتباع الطرفين، وبدأت تطفو على السطح بشكل خاص الخلافات والصراعات بين رجل روسيا القوي العقيد سهيل الحسن، قائد ما يسمى بـ”قوات النمر”، وماهر الأسد قائد “الفرقة الرابعة” وشقيق رئيس النظام الموالي لإيران. وحسب مصادر عدة، فإن اشتباكات وقعت أخيراً بين الجانبين في منطقة الغاب في محافظة حماة وسط سورية جراء خلاف على التحكم بطرق مرور البضائع والسيطرة على المنازل التي هجرها سكانها نتيجة الحرب. وقال قائد عسكري محلي إن ما يجري هو صراع روسي إيراني للهيمنة على النظام، إذ لا ترغب موسكو في وجود قوات عسكرية موالية لطهران على خطوط الجبهة مع المعارضة السورية. ورأى مراقبون أن روسيا تسعى لإبعاد المليشيات التابعة لإيران من سهل الغاب لتطبيق اتفاق سوتشي مع تركيا وحماية قاعدة حميميم بينما تسعى طهران إلى إدارة المعابر.
وهذه ليست المرة الأولى التي تصطدم فيها قوات موالية لإيران وأخرى موالية لروسيا خلال الأشهر الأخيرة، إذ شهدت محافظة دير الزور اشتباكات واعتقالات متبادلة بين المليشيات التابعة لإيران ومليشيات الدفاع الوطني المرتبطة بموسكو، بعد أن قامت الأخيرة، مدعومة من قوات تتبع جيش النظام، بالسيطرة على معابر نهرية كانت تحت سلطة المليشيات الإيرانية صيف العام الماضي. وكان النظام حاول بطلب من إيران، صيف العام 2017، تأسيس ما يسمى بـ”الحشد الشعبي السوري” في محافظة الحسكة التي يتشارك السيطرة عليها مع “قوات سورية الديمقراطية” (قسد). كما قيل إن طهران تسعى إلى تشكيل “جيش محلي” في البادية السورية، قوامه نحو 40 ألف عنصر، بهدف تحقيق السيطرة على المثلث الحدودي مع العراق، وعدم إدخال أي مليشيات تنافس المليشيات الإيرانية في المنطقة، خصوصاً “الفيلق الخامس” الذي يدين بالولاء لروسيا. وبالفعل قامت المليشيات الإيرانية مطلع العام الحالي بطرد مجموعات تابعة إلى “الفيلق الخامس” من مناطق البوكمال الحدودية مع العراق ومنطقة الميادين بريف دير الزور، اللتين تعتبران معقلاً رئيسياً للمليشيات التابعة لإيران.
كما يستمر الصراع بين الطرفين على السيطرة والنفوذ في محافظة درعا جنوب البلاد، وعلى استقطاب المجندين ومقاتلي المعارضة السابقين إلى القوات الموالية لكل طرف، في الوقت الذي تتحدث فيه مصادر محلية عن أن بعض عمليات الاغتيال والاعتقال التي طاولت القادة المنخرطين في المصالحات في الجنوب، كانت في الواقع جزءاً من التنافس بين موسكو وطهران.
واندلعت أخيراً اشتباكات بين رجل روسيا في الجنوب السوري، أحمد العودة، وقوات أبو صدام خربة التابع إلى “حزب الله” اللبناني انتهت بسيطرة قوات العودة على مدينة بصرى الشام في ريف محافظة درعا الشرقي.
وخلال الأسابيع الأخيرة، تواترت أنباء عن نية روسيا إنشاء تشكيل جديد قد يسمى “الفيلق السادس”، على غرار “الفيلق الخامس” الذي شكلته سابقاً من قادة وعناصر فصائل المصالحات في درعا، وذلك بالتزامن مع عودة بعض قادة الفصائل السابقين من الأردن، إثر اتصالات وترتيبات جرت مع ضباط روس واستخبارات النظام السوري والاستخبارات الأردنية.
وذهبت بعض التحليلات الى أن التشكيل العسكري الجديد “السني” يأتي في سياق توافق خليجي ــ أردني ـ روسي لمواجهة “المد الشيعي” في الجنوب السوري المتمثل بمليشيات تابعة إلى طهران، والتي تواصل التغلغل في المنطقة على الرغم من تعهدات سابقة بالابتعاد مسافة 40 كيلومتراً. وكان رئيس النظام أوفد، نهاية فبراير/شباط الماضي، إلى المحافظة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، اللواء محمد محلا، في زيارة جال خلالها على عدد من مدن المحافظة وبلداتها. وعقد محلا اجتماعات مع بعض قادة فصائل المعارضة السابقين بهدف التنسيق معهم لتشكيل فصيل عسكري جديد، من المتوقع أن يترأسه عماد أبو زريق، بدعم من روسيا ودول إقليمية بهدف تقليص نفوذ إيران في المنطقة. وتأتي زيارة محلا بعد ثلاثة أشهر على زيارة مماثلة لرئيس جهاز الاستخبارات الجوية اللواء جميل الحسن إلى المنطقة، بهدف تجنيد أبناء المنطقة للعمل مع الاستخبارات الجوية المقربة من إيران، وذلك على عكس زيارة محلا التي جاءت بهدف وضع حد للنفوذ الإيراني في المنطقة.
ولعل أكثر ما يثير امتعاض طهران ما بدا أنه ضوء أخضر من موسكو لتل أبيب لضرب الأهداف الإيرانية في سورية. وفي يناير/كانون الثاني الماضي انتقد نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، العداء الإيراني لإسرائيل، في اليوم نفسه الذي اتهم فيه رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، حشمت الله فلاحت، القوات الروسية بتعطيل منظومة “أس 300” خلال الغارات الإسرائيلية على سورية. وقال فلاحت “لو كانت منظومة أس 300 الروسية تعمل بشكل صحیح، لعجز الكيان الصهيوني عن شن هجماته على سورية بسهولة”. وأعرب عن اعتقاده بوجود نوع من التنسيق بين هذه الهجمات والدفاع الجوي الروسي المتمركز في سورية.
التنافس الاقتصادي
وعلى الصعيد الاقتصادي، تعتقد روسيا وإيران أنهما استثمرتا الكثير من الأموال والإمكانات في سورية، وأنه لا بد من حصول كل منهما على التعويض الكافي. وتنفق موسكو، منذ تدخلها العسكري في سورية نهاية سبتمبر/أيلول 2015، نحو مليار دولار سنوياً على العمليات الحربية، وفق تقديرات مجموعة “أي أتش أس جاينز” الاستشارية البريطانية، وسقط لها أكثر من 200 مدني وعسكري بين قتيل وجريح في سورية. وفي موازاة ذلك، حصلت حتى اليوم على اتفاق للتنقيب عن النفط والغاز في مياه سورية الإقليمية ومشاريع في قطاعات الغاز والمطاحن والأعلاف والكهرباء والقمح، بالإضافة إلى اتفاقيات تخص القواعد العسكرية الروسية في سورية تضمن استمرارها لـ49 سنة مقبلة.
وعلى الرغم من ذلك، تحدث نائب رئيس الوزراء، الروسي ديمتري روغوزين، نهاية 2017، عن “ضرورة التفكير بكيفية جني الأموال لقاء العمل الكبير الذي قامت به روسيا على أراضي سورية، لأن روسيا ليست فاعل خير أو دولة مانحة وإنما ستحسب كل روبل وضعته في هذه الحرب بدون التساهل في ما يخص مصالحها وأرباحها”. وتريد موسكو تأمين وصول الشركات الروسية إلى الأراضي السورية للاستثمار وإعادة الإعمار، حيث المنافسة مع الشركات الإيرانية والصينية أيضاً، فيما صادق مجلس الشعب السوري في 27 مارس/آذار 2018، على عقد يعطي شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية حق استثمار واستخراج الفوسفات في منطقة مناجم الشرقية جنوب غرب تدمر، ضمن قطاع يبلغ الاحتياطي المثبت فيه 105 ملايين طن.
من جهتها، دعمت إيران النظام السوري مادياً وبشرياً منذ الأشهر الأولى لاندلاع الثورة. ويقدر خبراء اقتصاديون إنفاق إيران أكثر من ستة مليارات دولار والمئات من الجنود خلال الحرب في سورية، إضافة إلى قروض ائتمانية بملايين الدولارات. وقد طالب مستشار المرشد الإيراني للشؤون الاستراتيجية رحيم صفوي بتعويض طهران عن “التضحيات والتكاليف التي قدمتها وهي تحارب الإرهاب في سورية، مع إمكانية توقيع معاهدات مع الحكومة السورية مشابهة لما حصلت عليه موسكو من معاهدات استعادت عبرها ما قدمته لسورية”، حسب قوله.
وحصلت إيران بالفعل على عقود اقتصادية في سورية في مجالات الزراعة والنفط والصناعة والثروة الحيوانية والموانئ، ونمت مختلف صادراتها للبلاد بشكل مطرد، خصوصاً بعد إعفائها من الضرائب في العام 2012. كما تهدف طهران للسيطرة على صناعة الاتصالات السورية، التي تضررت خلال الحرب، لكنها لم تدمر بالكامل. ويشكل قطاع الاتصالات أهمية خاصة لإيران، ليس فقط بسبب العائدات المالية وإنما للتنصت على المواطنين أيضاً.
كذلك حصلت طهران على اتفاق يسمح لها بتطوير مناجم فوسفات في سورية، على الرغم من أنه ليس من الواضح ما إذا كانت ستحصل على حقوق حصرية لتلك المناجم أم ستتشاركها مع موسكو. ويشمل ذلك عقود انتفاع بين إيران والنظام السوري، لنحو 12 ألف فدان من الأراضي في محافظتي حمص وطرطوس، يمكن استخدامها لبناء محطات للنفط والغاز.
ومن المنافع المالية الأخرى لإيران التي قد تخرج بها من عملية إعادة الإعمار، نقل ملكية الأراضي الزراعية في سورية، التي تركها السوريون الفارون من الحرب على مدار السنوات السبع الماضية، إلى أيدي الإيرانيين، وتحويل بعض تلك الأراضي إلى أعضاء المليشيات الموالية لطهران، كوسيلة لمساعدتهم على ترسيخ وجودهم في سورية.
وفي 25 فبراير الماضي، أعلن نائب رئيس جمعية المقاولين الإيرانية إيرج رهبر أن بلاده أبرمت مع نظام الأسد مذكرة تفاهم لبناء 200 ألف وحدة سكنية في سورية، فيما وقّع النظام في يناير/كانون الثاني الماضي مع حليفه الإيراني 11 اتفاقية اقتصادية استراتيجية طويلة الأمد، استكمالاً لاتفاقيات سابقة ترتبط بإعادة الإعمار في سورية. كما بدأت إيران بمشروع فتح طريق من المقرر أن يربطها بسورية مروراً بالعراق. وحصلت على استثمارات سيادية، مثل عقود لبناء مصفاة نفط كبرى قرب مدينة حمص بطاقة تكريرية تبلغ 140 ألف برميل يومياً. وتلقّت مؤسسة الخط الحديدي الحجازي عرضاً من شركة “ميللي ساختمان” الإيرانية لتنفيذ مشروع قطار ضواحي دمشق، على أن يتم تنفيذه بالشراكة مع الصين. وبالتزامن كشفت وسائل إعلام روسية عن اهتمام شركة “أورال فاغون زافود” الروسية المُختصّة بتصنيع العربات بتصدير عربات الشحن لشبكة السكك الحديدية بسورية. وكانت إحدى أهم الاتفاقيات، التي تم التوقيع عليها في العام 2017، إنشاء ميناء تصدير النفط في سورية، بغية تسهيل قيام إيران بتصدير النفط إلى الأسواق الأوروبية.
الثقافي والإنساني
وعلى الصعيد الثقافي، تحاول روسيا السير على خطى إيران في سورية، عبر اهتمامها بقطاع التعليم والثقافة، فيما يبدو أنه حالة من التنافس الإيديولوجي على أطفال سورية. وقد افتتحت موسكو نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مدرسة ثانوية في الغوطة الشرقية، فيما ذكرت مواقع موالية أن أخصائيين في قسم علم اللغات الروسي في جامعة دمشق يخططون لوضع كتب مدرسية جديدة لتلاميذ المدارس في سورية، تشمل المزيد من الأعمال الأدبية الروسية. كما تقوم جمعيات دينية، مثل جمعية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، باستغلال حاجة السكان في بلدات الغوطة الشرقية الفقيرة عبر تقديم بعض الخدمات والهدايا لطلاب المدارس والأهالي لزرع أفكارها وثقافتها.
وضمت روسيا، في سبتمبر/أيلول الماضي، أول مجموعة من الأطفال السوريين إلى معهد السكك الحديدية والاتصالات العسكرية، التابع للأكاديمية العسكرية للإمداد والنقل في سان بطرسبورغ. وتحت ضغط من موسكو، أغلقت وزارة الأوقاف التابعة للنظام عدة مدارس تمولها إيران في الساحل السوري بحجة أنها لا تلتزم بالمناهج الرسمية. وتعتبر روسيا الساحل السوري منطقة نفوذ لها، باعتباره يضم قاعدة حميميم العسكرية ومنفذ الوصول الروسي البحري إلى البلاد، في حين تعتبره إيران أيضاً منطقة نفوذ لها.
وفي الوقت الذي اتجهت فيه إيران إلى دعم انتشار اللغة الفارسية في الساحل السوري، بدأت روسيا تقديم منح دراسية لتعلم اللغة الروسية، فيما أعلنت وزارة التربية التابعة للنظام بدء تدريس اللغة الروسية مع العام الدراسي الحالي، وأصبحت لغة اختيارية مقابل الفرنسية، ويبدأ تدريسها من الصف السابع الإعدادي.
وفي المقابل، تركز إيران اهتمامها على دعم المعاهد الشرعية والتعليمية للغة الفارسية. ووفق تقارير محلية فإن هناك مراكز لتعليم اللغة الفارسية في العديد من المحافظات مثل اللاذقية ودمشق، بدعم مباشر من الملحقية الثقافية الإيرانية في سورية. كما تدعم تعليم اللغة الفارسية جهات أخرى، منها “حوزة الإمام الخميني” في دمشق، و”مجمع الرسول الأعظم”، و”مجمع السيدة رقية” و”مركز الحُجة” في طرطوس، ناهيك عن المنح المقدمة من إيران للطلاب السوريين. وامتد هذا التنافس بين الجانبين إلى المجال الإنساني والخدمي، حيث سجلت مصادر محلية مطلع فبراير الماضي، قيام القوات الروسية بتوزيع مساعدات على مناطق في القطاعين الغربي والشمالي الغربي من ريف حماة، إذ وزعت هدايا للأطفال ومساعدات إنسانية وغذائية، ضمن المناطق القريبة من خطوط التماس مع الفصائل المقاتلة والواقعة ضمن المنطقة منزوعة السلاح. كذلك وزع مركز المصالحة الروسي في سورية دفعة من المساعدات الإنسانية على سكان قرية الدلافات في منطقة منبج شمال شرقي محافظة حلب.
وفي الوقت نفسه، تعمد القوات الإيرانية لاستغلال حاجة السكان في غرب الفرات والجنوب السوري والمنطقة الممتدة بينهما، وتمدهم بالمساعدات الإنسانية والغذائية، وتقدم رواتب للمتطوعين بمبالغ تبدأ من 150 دولارا أميركيا. وتحاول القوات الإيرانية تجنيد مزيد من العناصر ضمن صفوفها، والتقرب من السكان من خلال دفع أموال أو تقديم معونات أو محاولة حل قضايا عالقة، فيما تعمل روسيا على إقصاء الإيرانيين عن مراكز القرار والتحكم بالتفاصيل السورية، من خلال محاولة كف يدهم في الساحل السوري وريفي حمص وحماة، وتحجيم الدور الإيراني في إدلب ومحافظة حلب. لكن الانتشار الإيراني الواسع، على الأصعدة العسكرية والفكرية، يحول دون تمكن الروس من لي ذراع الإيرانيين في الوقت الحالي، على الرغم من التوجه الدولي تحديداً الأميركي والعربي لمحاربة الوجود الإيراني، خصوصاً على الأرض السورية.
وعلى الرغم من حالة التنافس بين الحليفين الرئيسيين للنظام، روسيا وإيران، إلا أن الحديث عن صراع مفتوح بينهما في سورية قد يكون فيه بعض المبالغة، لأن طهران، التي يتعرض وجودها في سورية لضغط سياسي دولي، إضافة إلى الضربات الإسرائيلية المتلاحقة، ليست في موقع تستطيع معه فتح صدام مفتوح مع موسكو. والحقيقة أن الطرفين لا يزالان يعتمدان على بعضهما في سورية، لإيجاد توازن مع أنقرة وواشنطن، وسيؤدي تحولهما إلى خصمين إلى إضعاف موقفهما. لكن احتمالات تصاعد الخلاف بين الجانبين، وظهورها إلى العلن بشكل أوضح، تظل قائمة، بل مرجحة مع اقتراب الحرب في سورية من نهاياتها، والدخول في مرحلة اقتسام الغنائم، ورسم مستقبل البلاد، حيث الرؤى والمصالح متضاربة إلى حد كبير بين الطرفين. وبالنسبة لنظام الأسد، فإن من المفهوم أنه يثق بإيران أكثر من ثقته بروسيا التي تعتريه شكوك بأنها قد تفاوض عليه في مرحلة ما. لكن خياره المفضل حتى اليوم هو الموازنة في العلاقة بين الجانبين، لأنه ما زال بحاجة لكليهما فيما بقاؤه مرتبط باستمرار دعمهما.
العربي الجديد