مقالات في نقد الثورة السورية
في (لا-) ثورية «الثورات العربية» واستحالة ثورات المحافظين/ حسام الدين درويش
كثيراً ما انتُقدت الثورة (السورية)، وانتُقِد الثوار، من خلال القول إن الناس المؤيدين للثورة لا يعرفون ما يريدون، ولا يفهمون أو لا يفقهون معنى الحرية التي بها يطالبون، وهم لا يؤمنون بهذه الحرية، نظريّاً، وضد معظم أشكالها، وأنواعها، وتجلياتها، عمليّاً. وقد تراوح استهزاء/ انتقاد مؤيدي النظام الأسدي، للثائرين المطالبين بالحرية، بين التشديد على وجود الحريات (الاجتماعية)، في ظل النظام1، من جهة أولى، وربط مطلب الحرية بأي عملٍ أو حدثٍ سلبيٍّ أو سيء، كحصول تفجير «إرهابي»، على سبيل المثال، من خلال التساؤل الاتهامي غير البريء، حينها، «هاي هي الحرية يلي بدكن ياها؟!»، من جهةٍ ثانية، أو تذكير المعتقلين والأسرى والمخطوفين أثناء تعرضهم للتعذيب، أو حتى للقتل، بأن مطالبتهم بالحرية هي سبب تعرضهم لهذا التعذيب و/ أو ذاك القتل: «بدك حرية مو هيكيه؟ إي خود لكان…!»2، من جهةٍ ثالثة.
نُشر موقع الجمهورية مؤخراً مقالاً للسيد موريس عايق، معنونٍ ﺑ «الثورات العربية والثقافة المُحافِظة». ويحفِّز هذا المقال على إعادة تناول هذه المسألة، تناولاً نقديّاً، لكونه يعيد طرحها، وتبني و/ أو صياغة بعض الأطروحات النقدية الشائعة، في خصوص ثقافة المجتمعات العربية المحافظة، ويحاول تقديم إجابةٍ عن نوع الحرية / الحريات التي (لا-) يريدها السوريون، عموماً، والثائرون على النظام منهم، خصوصاً. ويمتاز المقال بميزة «الجمع بين أطروحتين تنتميان إلى سويتين تحليليتين متباينتين في مبنى نظري واحد، أطروحة تفسيرية/وصفية وأخرى معيارية/نقدية، وتقديمهما كأنهما طرح واحد كلي مترابط بالضرورة»3. فمن جهةٍ أولى، يتمحور المقال حول ما يراه تناقضاً بين «شعار الحرية الخاص بالثورة السياسية التي سعت الشعوب العربية إلى إنجازها، وبين الثقافة السياسية العامة التي حملتها الغالبية في الوقت ذاته»، بوصفها ثقافةً معاديةً للحريات عموماً. ومن جهةٍ ثانيةٍ، يستخدم هذا التناقض، لتفسير الصدام أو المواجهة بين بعض الجماعات في سورية، وفشل الثورات العربية عموماً. ويتضمن المقال، من جهةٍ ثالثةٍ، نقداً وتقييماً معياريّاً سلبيّاً لهذه الثقافة السياسية المحافظة. ويدمج المقال بين الأمرين، من خلال تأسيس نقده على «شعار الحرية الخاص بالثورة السياسية التي سعت الشعوب العربية إلى إنجازها». وبهذه الطريقة، يكون الوصف تفسيراً ونقداً وتقييماً معياريّاً، في الوقت نفسه. وسأحاول، في ما يلي، إظهار مدى (لا-) معقولية، و/ أو (لا-) منطقية، و/ أو «(لا-) واقعية»، هذا الدمج بين الوصف والتفسير والنقد والتقييم المعياري، ومناقشة بعض النقاط الإشكالية التي يتضمنها.
قد لا يكون مناسباً الحديث، عن مقالٍ صغيرٍ، بهذه الطريقة، لكننا سنتعامل مع هذا المقال، بوصفه فرصةً ﻟ (إعادة) مناقشة أفكارٍ شديدة الشيوع والذيوع و«الخطورة»، في الوقت نفسه. وتكمن خطورة هذه الأفكار في كونها تقدم (إعادة) صياغةٍ لقصة الثورات تجعل المشكلة الأساسية تتمثَّل في الشعب أو في أغلبيته تحديداً، وليس في النظام السياسي/ الاستبدادي، و/ أو تتمثل في الثقافة السياسية لهذه الغالبية، وليس في ممارسات النظام السياسي وشبيحته وداعميه ومؤيديه، أو حتى في الثقافة السياسية لهذا النظام ولهؤلاء الشبيحة والداعمين والمؤيدين. والمتبنون لهذا التعريف للمشكلة، يرون أن المعضلة تتجسَّد تحديداً في تناقض الثقافة الكائنة لغالبية أفراد الشعب مع الثقافة التي يجب أن تكون: ثقافة الثورة والحريات4.
مفهوم «ثورة» هو مفهومٌ معياريٌّ سميكٌ «thick normative concept»، أي أنه، ككل مفهومٍ سميك، يتضمن وصفاً وتقييماً، في الوقت ذاته. وعلى الرغم من كل الويلات التي حصلت خلال الثورات العربية، والتي جعلت الحمولة القيمية/ المعيارية لهذ المفهوم تصبح، في بعض السياقات، ولدى بعض الناس، أكثر سلبيةً وأقل إيجابيةً، مما كان عليه الحال قبل قيام هذه الثورات، فما زال هذا المفهوم يُستخدم، في كثيرٍ من الأحيان، بوصفه مفهوماً معياريّاً إيجابيّاً. وتبدو إيجابية مفهوم «الثورة»، من خلال التشديد على ارتباطها الضروري بمفهوم سميكٍ آخر، هو مفهوم الحرية تحديداً. لكن البعد المعياري، في كلا المفهومين، يكون أحياناً قويّاً وساطعاً، لدرجة أنه يحجب أو يطمس معظم معالم الجانب الوصفي غير المعياري؛ وهذا ما يجعله، أحياناً، أشبه ﺑ «مفهومٍ نحيفٍ thin concept»، أي أشبه بمفهومٍ معياريٍّ ذي مضمونٍ وصفيٍّ ضعيفٍ جدّاً. لكن يمكن القول إن مفهوم الثورة/ الحرية، في هذا الاستخدام الشائع، (وفي المقال)، يُحيل على (التوسع في) الحريات العامة والخاصة، وعلى المواقف «الليبرالية» من «النساء والمثليين والأقليات وأي تعبيرات عن الاختلاف»، في الحياة العامة، وعلى الديمقراطية، وما تعنيه من سيادة الشعب والمساواة بين أفراده، بعيداً عن أي تمييزٍ، على أساس الدين أو الطائفة، أو الإثنية أو الجنس أو الميول الجنسية… إلخ.
إن مناقشة مفهوم «الثورة السياسية» تقتضي بالضرورة مناقشة مفهوم الحرية. فما الحرية أو الحريات المقصودة، أو التي ينبغي أن تكون مقصودةً، عند الحديث عن الثورات السياسية عموماً؟ لا يبدو منطقيّاً، أن يكون تركيزنا، خلال حديثنا عن «الثورات السياسية» وعن «الثقافة السياسية»، على الحريات الاجتماعية/السياسية، المتعلقة بالمواقف من النساء والمثليين وملبس الناس ومأكلها وطريقة حياتها إلخ، أكبر بكثيرٍ من تركيزنا على الحريات السياسية المتعلقة بالطبيعة السياسية لنظام الحكم، ومبادئه، والقيم الأساسية المؤسِّسة لها. فحين نتحدث عن الثورات السياسية والثقافة السياسية، فإن الحرية التي تحيل عليها الثورة السياسية تعني، بالدرجة الأولى، التحرر من نظامٍ مستبدٍ ما، ومن القمع والظلم الممارسين بحق المحكومين منه و/ أو الثائرين عليه؟ وفي هذه الحالة، تكون الثورة السياسية خروجاً على النظام، يتضمن خروجاً عن النظام، بغية إحداث تغييرٍ جذريٍّ ما في نظامٍ سياسيٍّ ما، هو غالباً وربما دائماً، في السياق العربي المعاصر، ذو سمةٍ استبداديةٍ ما. فالثورة السياسية هي إما تغيرُّ، جذريٌّ وأساسيٌّ، يطرأ على نظام سياسيٍّ (استبداديٍّ) ما، أو السعي إلى إحداث هذا التغيّر أو التغيير5. وبعيداً عن الدلالات السلبية التي ارتبطت بمفهوم الثورة، في الآداب السلطانية، وانطلاقاً، جزئيّاً، من مسوغاتٍ دينيةٍ/ إسلامية، يمكن القول إن الدلالات الإيجابية التي ارتبطت بمفهوم الثورة، عموماً، في السياق العربي المعاصر، تكمن في كونه يحيل على تغييرٍ كبيرٍ أو جذريٍّ إيجابيٍّ ما. والثورة السياسية ذات دلالاتٍ إيجابية، بقدر سوء من و/ أو ما تحصل الثورة عليه، وبقدر الإقرار بالحق في رفض هذا الطرف السيء، وفي الثورة عليه. ويحيل مفهوم الحرية، في الثورة السياسية، على التحرر من نظام سياسيٍّ. وعلى هذا الأساس، فإن فهم ثورةٍ ما يقتضي، بالدرجة الأولى، فهم ما تثور عليه هذه الثورة، وما ترفضه، وتدمره أو تسعى لهدمه، والتخلص منه.6
أزعم أن هذا المفهوم للثورة ينطبق على كل الاحداث الموصوفة بأنها ثورات، وهو ينسجم مع الاستخدامات الشائعة للثورة، عموماً، وللثورة السياسية خصوصاً؛ كما أنه يتضمن مضموناً وصفيّاً، غير معياريٍّ، وواضحاً، ومحدَّداً، إلى جانب تضمنه لبعدٍ معياريٍّ مسوَّغٍ، تسويغاً كبيراً. والثورة السياسية، بهذا المعنى، هي إيجابيةٌ، ليس لكونها تتضمن تصوراً لبديلٍ أفضل مما هو قائم، أو سعياً كاملاً لتحقيق هذا البديل، وإنما، بالدرجة الأولى، لكونها تهدم ما هو قائمٌ، أو تسعى إلى هدمه، وتفسح مجالاً لممكناتٍ جديدةٍ، إيجابيةٍ وسلبيةٍ، لم يكن بالإمكان وجودها، لولا حصول هذه الثورة. في مقابل هذا المفهوم للثورة، نجد، في المقال مثلاً، مفهوماً آخر متطرفاً أو مفرطاً في معياريته الإيجابية أو إيجابيته المعيارية. ووفقاً لهذا المفهوم تتماهى الثورة السياسية مع توسّع الحريات وتبني قيم العقلانية والتنوير واحترام الاختلاف… إلخ. وانطلاقاً من هذا المفهوم المعياري للثورة، قد لا يكون صعباً سحب لقب «الثورة» من معظم، وربما كل، ما يسمى ﺑ «ثوراتٍ سياسية» في التاريخ الإنساني. فكل هذه الثورات تضمنت تياراتٍ قويةً لا تتناسب مع المفهوم المعياري الإيجابي الزاهي. وفي كل الأحوال، هذا ما يبدو، لوهلةٍ أو أكثر، ممكناً، في خصوص «الثورات العربية»، عموماً، وفي خصوص «الثورتين السورية والمصرية»، تحديداً. وما يقوله كثيرون من منتقدي الثورة ومعاديها، في هذا الخصوص، هو أن الثقافة السياسية ﻟ «النسبة العظمى من الثائرين على النظام» هي ثقافة «الثورة المضادة» أو ثقافة «مضادة للثورة»؛ فهي ليست ثقافة الثورة/ الحريات، وإنما هي «ثقافة سياسية محافظة معادية للحريات وقيم الثورات نفسها»، وهي بالتالي، تماماً كما يقول إعلام النظام ومؤيدوه أحياناً، «فورة»، وليست «ثورة».
على الرغم من أن المفهوم المعياري، المتطرف في إيجابيته، يفضي إلى القول إن الثورات العربية ليست بثورات، لأن أغلبية الثائرين «المزعومين» معادون للثورة/ الحريات، فإن كثيرين من متبنيّ هذا المفهوم يترددون في القبول بهذه النتيجة التي تبدو منطقية، انطلاقاً من المقدمات التي أشرنا إليها؛ ويستمرون في الحديث عن «الثورة السياسية التي سعت الشعوب العربية إلى إنجازها»، بدون إبداء أي تحفظٍ أو تشكيكٍ في ثورية هذه الثورات. ويبدو أن ثقافة الثورة المضادة تمثل، من منظور هؤلاء، مجرد «تهديدات» ومساعٍ متناقضةٍ مع «فكرة الثورة»، لكونها ترمي «إلى تقييد الحرية وإخضاعها إلى نظام أخلاقي متشدد ومناهض للحرية والمساواة عموماً». ويبدو أن هذه المساعي لا تنجح بالضرورة، وعلى هذا الأساس، نفهم إشارة المقال إلى أن الثقافة السياسية المحافظة التي تهيمن على الشعب «يمكن أن تستخدم في لجم العملية الثورية وتعطيلها.» والقول بإمكانية هذا «الاستخدام» يعني الإقرار بوجود إمكانية ﻟ «عدم الاستخدام»، ومن هنا ضرورة التساؤل عن الشروط أو التي تحيل هذه الإمكانية المبدئية أو الكامنة إلى ضرورة فعليةٍ أو واقعٍ قائم. وترتبط الإجابة عن هذا السؤال بالإجابة عن سؤالٍ آخر يتعلق بالجهة أو الجهات التي يمكن، أو يُرجَّح، أن تستخدم هذه الثقافة. والحديث عن استخدام هذه الثقافة يفترض أن هذه الثقافة لا تفعل بذاتها أو تلقائيّاً، وإنما هي بحاجة لمن يستخدمها، ويفعل بها أو بواسطتها. فمن الذي يستخدمها ويوظِّفها لصالحه وينقلها من عالم الإمكان والقوة إلى عالم التحقق والفعل؟ نرجِّح أن مستخدمي هذه الثقافة لا يقتصرون على متبنيها، ونعتقد أن الإجابة عن مثل هذا السؤال ذات أهميةٍ كبيرة، وينبغي لها أن تأخذ في الحسبان سيرورة تشكُّل هذه الثقافة، وعوامل تشكلها، وطرق توظيفها واستخدامها، ونتائج وغايات هذا الاستخدام.
فوفقاً للمفهوم المعياري المتطرف للثورة، تتوقف ثورية «الثورات العربية» على مقدار كونها حركاتٍ مؤيدةً للحريات، كل الحريات، وساعيةً إلى توسيعها. والحديث عن عدم ثورية أغلبية «الثائرين» المشاركين فيها، لكونهم يتبنون ثقافة محافظة معادية للحريات – ينفي بوضوحٍ تلك الثورية. ومن هنا جاء عنوان هذا المقال عن «(لا-)ثورية الثورات العربية»، وعن «استحالة ثورات المحافظين». فالعنوان يحيل على ما يتم نقده أو انتقاده، في هذا المقال، من أطروحات منتشرةٍ ويتضمنها مقال عايق. وآمل أنه قد أصبح مفهوماً ما أقصده بالقسم الأول «(لا-)ثورية الثورات العربية». القسم الثاني ينص على «استحالة ثورات المحافظين». وأعني بهذه الاستحالة، ليس (فقط) الإشارة إلى الأطروحة التي تنفي إمكانية قيام المحافظين بثوراتٍ سياسية – بالمعنى الإيجابي معياريّاً لمفهوم الثورة – وإنما الإشارة (أيضاً) إلى استحالة/ تحول هذه الثورات إلى ثوراتٍ مضادة. وهذا يعني أنه، وفقاً لهذه الأطروحة، حتى إن كان هناك إمكانية ما لأن تحصل ثورةٌ ما تكون غالبية المشاركين فيها من المحافظين المتزمتين، فإن هذه الغالبية المحافظة المتزمتة سرعان ما تستغل «لحظة الحرية» التي أتاحتها لها هذه الثورة، وتستغل «الوسائل التي قدمتها الثورة والحرية لها»، فتعمل على «فرض قيمها واعتباراتها الخاصة»، بما يهدد «بإقصاء كل الجماعات التي لا تتبنى مثل هذه القيم، سواء من العملية السياسية نفسها أو من المجال العام.» سنعود لتناول هذه النقطة لاحقاً.
وللتمييز بين «الثورة» و«الثورة المضادة»، في عالمنا العربي، لا يبدو مناسباً اتخاذ مسألة الموقف من المثلية الجنسية، معياراً للحكم على انتماء أي شخصٍ ﻟ «الثورة» أو ﻟ «الثورة المضادة»؛ ليس لأن هذا الموضوع غير وثيق الصلة بالمسألة الديمقراطية، فهو، من وجهة نظرنا، يتصل بها بالتأكيد، بقدر الصلة الكبيرة لمنظومة حقوق الإنسان بها، وإنما لأن اتخاذه معياراً سيجعل الأغلبية الساحقة من السوريين (والعرب والمسلمين على الأرجح) مضادة للثورة أو مع الثورة المضادة، بغض النظر عن مواقفهم السياسية المؤيدة للاستبداد أو المعارضة له. كما أن اتخاذ هذا المعيار أساساً للحكم على مدى تبني الثائرين على النظام، في العالم العربي الإسلامي، لثقافة الثورة/ الحرية – قد يعطي الانطباع بأن هؤلاء الثائرين، هم، وحدهم، من يتبنون ثقافةً محافظة، في هذا الخصوص. وهذا غير دقيقٍ بالتأكيد، فمعاداة المثلية الجنسية، في العالم العربي الإسلامي، سائدةٌ ومهيمنة، ليس شعبيّاً فحسب، بل في المستوى القانوني والتشريعي، وفي سياسة الدولة والأنظمة السياسية الحاكمة، أيضاً. ويمثِّل إصدار نظام السيسي، منذ بضعة أشهرٍ، قانوناً يجرِّم المثلية الجنسية ممارسة وترويجاً… إلخ، ويشدِّد العقوبات، في هذا الخصوص – قرينةً، أو حتى دليلاً قويّاً، في هذا الخصوص.
ومن الضروري، في هذا الخصوص، الانتباه إلى مسألة «الموقف من الأقليات». فهذا الموقف هو أحد أهم المعايير التي تتُبنى، لنفي ثورية «الثورة السورية»، والحكم على الثقافة السياسية الشعبية بأنها ثقافةٌ «مضادة للثورة/ للحريات/ للاختلاف». ولهذه المسألة أهميةٌ ودلالةٌ كبيرتان، في خصوص الثقافة، عموماً، والثقافة السياسية خصوصاً. وثمة نظرةٌ شائعةٌ تجعل الأقليات (الإثنية أو الدينية أو الطائفية) في موقف رد الفعل، وتجعل، في المقابل، «الأكثرية» في موقع الفعل، بحيث أنها تفسِّر/ تبرر ضعف مشاركة أفراد هذه الأقليات في الثورة، بفشل الثائرين «في اكتساب أيّ من الأقليات الدينية والطائفية والإثنية للثورة»، بسبب ثقافتهم المحافظة المعادية للحريات والتنوير والاختلاف… إلخ. ووفقاً لهذا المنطق، على الثائرين، تحديداً، تقع مسؤولية السعي إلى اكتساب غير الثائرين للثورة، وبالتالي هم تحديداً من يمكننا أن نلومهم وننتقدهم، في حال امتناع هذه الأقليات أو غيرها عن المشاركة في الثورة، وهم من يمكن أن نحكم عليهم بالفشل أو النجاح، في هذا الخصوص. والجدير بالذكر أن الفئات أو الجماعات المذكورة، التي فشلت الأغلبية المحافظة من الثائرين في اكتسابها للثورة السورية، تمثل نصف عدد السكان تقريباً، أو على الأقل. والحال ذاته في مصر، وفقاً لعرض المقال ذاته للموضوع. وليس واضحاً الأساس الذي ينطلق منه كثيرون للحكم على أغلبية المصريين أو السوريين، أو حتى على أغلبية الثائرين أو المؤيدين لثورتي هذين الشعبين، بأنهم يؤيدون النزوع المتشدد و/أو المحافظ أخلاقيّاً، واجتماعيّاً، وسياسيّاً.
ولا يبدو مستغرباً وجود استقطابٍ حادٍّ، في مثل هذه السياقات، لكن ينبغي الحذر الشديد من رد تلك المواقف والاستقطابات إلى الثقافة السياسية المحافظة أو غير المحافظة، في هذا الخصوص، والنظر إلى أن هذه الثقافة تمثل حالةً مستقرةً ومستمرة. الثقافة (السياسية)، في هذا السياق، تكون مُنتَجة بقدر كونها منتجةٌ، وربما أكثر بكثير، وهي في حالة صيرورةٍ دائمةٍ ويزداد تسارع هذه الصيرورة والتغيرات التي تطرأ على هذه الثقافة في أوقات الأزمات والإضرابات والقلاقل وما شابه. وفي أوقات الأزمات، يكون الموقف المتوقّع الذي تتخذه الجماعات العرقية والدينية والطائفية المختلفة، تجاه بعضها بعضاً، هو التوتر والريبة، على أقل تقدير. وتزداد درجة هذا التوتر والريبة، في حال انتشار العنف وهيمنته على المشهد. والعلاقة بين السوريين المنتمين، نسباً و/ أو انتساباً، إلى أديان و/ أو مناطق و/ أو طوائف و/ أو إثنيات… إلخ، تأثرت وتتأثر بكثيرٍ من المتغيرات التي حصلت قبل الثورة و/ أو بعدها. ولا تقوم هذه المتغيرات، بالدرجة الأولى، على عوامل ثقافية، ولا على الثقافة السياسية المحافظة عموماً، والموجودة قبل هذه الأحداث.
إن «استنكاف الأقليات عن المشاركة في الثورة»، وحصول «مواجهة بين الجماعات»، ليسا نتيجة أن «الثقافة السياسية للجزء الأكبر من الشعب صاحب المصلحة بالثورة، والتي لا يمكن تصور نجاحها بدونه، هي ثقافة محافظة في جوهرها، بما يضعها في مواجهة مباشرة مع الجماعات الأخرى التي هي بدورها تملك مصلحة أساسية في القيام بهذه الثورة والتخلص من الاستبداد والقمع والفساد.» كما يقول المقال. فهذه المواجهة وذاك الاستنكاف، هما، مع الثقافة السياسية السائدة، نتيجة لتاريخ طويل، وحاضر ثقيل، من العنف والإقصاء والمعاناة الرهيبة وسياسة فرِّق-تسُد. فالثقافة السياسية المحافظة، والتوتر بين الطوائف، وحصول مواجهات بينها، على المستوى الرمزي الفكري والشعوري والخطابي، أو على المستوى الفعلي والمادي، هذا كله نتاج علاقات القوة والتسلط القائمة بين الدولة والنظام السياسي والأمني، من جهةٍ، والمجتمع و/ أو الثقافة، من جهةٍ أخرى.
وربما كان من الضروري الإشارة إلى بعض ما حصل ويحصل، في هذا الخصوص، في البلاد الديمقراطية موطن، أو أحد أهم مواطن، الثقافة الليبرالية غير المحافظة اجتماعيّاً وأخلاقيّاً وسياسيّاً، بمعنى ما، ولدرجةٍ ما. فمن الضروري أن نتذكر ماذا حصل في أمريكا بعد تفجيرات برجي التجارة، وماذا حصل في أوروبا بعد حوادث العنف التي قام بها مسلمون أو مهاجرون أو لاجئون… إلخ. فهذه الأحداث العنيفة الطفيفة، مقارنةً بما حصل في سورية خلال السنوات القليلة الماضية، غيرت وتغير الكثير من توجهات ومضامين الثقافة السياسية الشعبية والرسمية «الغربية». لكن ذلك التغيير يحصل في إطار قانوني وسلميٍّ، بدون أن ينفي ذلك وجود مواجهات بين الآراء المتناقضة. فعلى سبيل المثال، عند سؤال أحد الفلاسفة، أو الباحثين في الفلسفة، الألمان عن الواجبات الأخلاقية تجاه اللاجئين، أجاب بأن المحافظة على السلم الاجتماعي تحظى بأولوية أكبر من أولوية الالتزام بهذه الواجبات، وبفكرة/ قيمة العدالة، في هذا الخصوص7. لقد تخلى هذا الشخص عن فكرة/ قيمة العدالة وعن الواجبات الأخلاقية المستندة إلى العدالة، لأنه رأى وجود خطرٍ أو تهديدٍ ما يمكن أن يمسّ السلم الاجتماعي في بلده. ومن الضروري التشديد على أن تأثيرات أحداث العنف المشار إليها متوسَّطة دائماً، بعمل السياسة ووسائل الإعلام. ومع الأخذ في الحسبان لهذا التوسُّط، نلاحظ أن بضعة «هجماتٍ إرهابية» في «بلدٍ ديمقراطيٍّ ما» يمكن أن تؤثِّر تأثيرً كبيراً أو هائلاً في الثقافة السياسية الشعبية والرسمية للشعب والأحزاب والمؤسسات الوطنية والخاصة، على حدٍّ سواءٍ. وهذا ما ينبغي أن نتذكره، عند مقاربتنا للثقافة السياسية المحافظة في عالمنا العربي. فقد يساعدنا هذا التذكر على رؤية أن الثقافة السياسية «لدينا» أقل محافظةٍ بكثيرٍ، مما «ينبغي لها أن تكون»، وأنَّها والمواجهات الفعلية أو الممكنة بين الجماعات، نتيجةٌ أكثر بكثيرٍ من كونها سبباً. والحديث عن معضلات الثقافة السياسية، ينبغي أن يتم في إطار الحديث عن معضلات العنف والتطرف السياسي المُنتِج لهذه الثقافة، بدلاً من التركيز على مواجهاتٍ ثقافيةٍ بين ثقافة الحرية/ الثورة وثقافة الثورة المضادة للحريات والثورة!
يشير المقال أحياناً إلى الدور الأساسي للنظام السياسي وللعنف الذي يمارسه، فهو يؤكد أن هذه الثقافة ليست «نتيجة تراثٍ ما» بل هي «ناتجة عن تحول الدولة الوطنية إلى دولة مستبدة وفاشلة». ومع ذلك، تُحمَّل الثقافة السياسية التي يتبناها الجزء الأكبر من الشعب، مسؤولية المواجهة بين أفراد أو جماعات الشعب، وفشل هذه الثورة. وعلى الرغم من التأكيد أن ما يقوله لا يعني «تعليق الثورة السياسية بانتظار ثورة ثقافية ما، ثورة في الرأس، وهو الادعاء الذي عادة ما يُستخدم لتبرير الاستبداد السياسي.» إلا أننا نجد في الختام تشديداً على أن ما يحصل في البلاد العربية ليس شبيهاً بذاك الذي حصل في الربيع الأوروبي عام 1948، فـ «الشبح الذي يخيم على الثورات العربية ليس شبح ربيع الشعوب، كما تقترح تسمية الربيع العربي، بل شبح الثورة الإيرانية». ويضيف المقال إن تهديد هذا الشبح هو الذي يجعل من يشعر بخطره ينضم إلى تحالفٍ مناهضٍ له أو للثورة، وأنه لأسبابٍ كثيرةٍ، من المستبعد تماماً حصول ثورةٍ شبيهةٍ بالثورة الإيرانية. وانطلاقاً من هذه الرؤية – التي يتبناها مقال عايق ولا يتبناها هذا المقال – يبدو أننا أمام استعصاءٍ ثقافّيٍّ/ سياسيٍّ كامل. فمن ناحيةٍ أولى، لا يبدو أن الثورة، بوصفها ثورةً ليبراليةً تسعى إلى توسيع الحريات، ممكنة، لأن الثقافة السائدة هي ثقافةٌ محافظةٌ ومعادية، للتنوير والحريات؛ ومن ناحيةٍ ثانية، لا تبدو الثورة الدينية المحافظة على النمط الإيراني ممكنةً، أو قابلةً للنجاح، لأسبابٍ كثيرةٍ. وعلى هذا الأساس كان عنوان مقالنا هذا هو: «(لا-) ثورية الثورات العربية واستحالة ثورات المحافظين».
وعلى الرغم من أن هذ المنطق أو الفكر يفضي، بالضرورة، على الأرجح، إلى القول بضرورة «تعليق الثورة السياسية بانتظار ثورة ثقافية ما، ثورة في الرأس، وهو الادعاء الذي عادة ما يُستخدم لتبرير الاستبداد السياسي»، إلا أن بعض متبنيّ هذا المنطق يرفضون هذه النتيجة، وينكرون كونها نتيجةً منطقيةً للمقدمات التي يتبنونها. لكن السؤال الذي يبدو أن النص لا يواجهه بوضوحٍ (كافٍ)،هو التالي: إذا كانت «ثقافتنا السياسية غير متسقة»، من وجهة نظر متبنيّ هذا المنطق، وإذا كان ذلك يعني، من وجهة نظرهم، أن «الثورة السياسية ستكون متعسرةً بالضرورة، في هذه الحالة»، ألا يعني ذلك أنه، إما أنه «ينبغي تعليق الثورة السياسية بانتظار ثورة ثقافية ما، ثورة في الرأس»، أو أن «سؤال الثورة السياسية يبقى متعثراً إذا لم ترافقه ثقافة سياسية متسقة»؟
مقابل القول بهذا الاستعصاء، والتنظير «الثقافوي» له، ومقابل النفي الكامل لإمكانية قيام ثوراتٍ عربيةٍ ولإمكانية نجاحها، في حال قيامها، نعتقد أن الثورات العربية، بالمعنى المعياري الإيجابي للكلمة – قد قامت، حقّاً قامت، وبأن الثقافة السياسية للشعوب العربية المعنية، عموماً، وللمشاركين في الثورة خصوصاً، لم تكن العامل الحاسم في تحديد مصيرها – بدون أن يعني ذلك بالتأكيد إنكار الدور المهم الذي لعبته هذه الثقافة – وبأنه كان من الممكن نجاح عددٍ من الثورات العربية – التي لم تنجح، حتى الآن، على الأقل – على الرغم من هذه الثقافة السياسية، بل وبسببها أيضاً أحياناً. وسنستبق بعض الأفكار التي سنناقشها لاحقاً لنقول: على العكس مما يقوله مقال عايق، لقد كان شبح «ربيع الشعوب» هو أحد الأشباح التي خيمت على الثورات العربية بالتأكيد، ومن هنا معقولية الحديث عن «الربيع العربي». لكن ذلك لا يعني أن هذا الشبح هو الشبح الوحيد الذي كان مخيّماً في تلك الثورات، فشبح الثورة الإيرانية كان حاضراً، و/ أو تمَّ استحضاره، أيضاً بالتأكيد. ولا نعتقد بموضوعية القول الذي يتضمنه مقال عايق والذي يذهب إلى أن «شبح الثورة الإيرانية» فقط، وليس «شبح ربيع الشعوب» هو الذي كان يخيم على الثورات العربية.
ما الإشكالي تحديداً في تبني الأطروحة القائلة إن «المعضلة التي تواجهها الثورات العربية» هي معضلةٌ ثقافيةٌ، وهي تكمن في تناقض ثقافة الشعب المحكوم مع ثقافة الثورة/ الحريات؟ الإشكالي هو أنه، في حديث متبنيّ هذه الأطروحة، عن «الثقافة السياسية» و«الثورة السياسية»، يتغلب حديث الثقافة على حديث السياسة، ويتركز الاهتمام على الثقافة السياسية المحافظة لأغلبية الثائرين على النظام، بما يوحي أو يبيِّن أن متبنيّ هذه الاطروحة يرون أن المعضلة هي في «الثقافة الكارثة» التي يتبناها الجزء الأكبر من الشعب، وأن «الشعوب أسوأ من حكامها»8، في خصوص مسائل الحريات. انتقادنا لهذه الأطروحة لا يروم نفي/ إنكار وجودها، نفياً مطلقاً، وإنما يهدف، من ناحيةٍ أولى، إلى إبراز أنها إحدى المعضلات وليست المعضلة (بأل التعريف)، وليست أبرز أو أهم المعضلاتٍ التي تواجهها الثورات العربية، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، إلى التشديد على ارتباطها الضروري ببعض المعضلات و/ أو الإشكاليات الأخرى التي قد تفوقها أهميةً وتأثيراً، ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، إلى مناقشة بعض افتراضاتها ودلالاتها والاستنتاجات المستخلصة منها، مناقشةً نقدية.
نحن نعتقد أن هذه المعضلة تكون، في البلاد التي تحكمها أنظمةٌ ديمقراطيةٌ، ذات مركزيةٍ أكبر بكثيرٍ من مركزيتها في الواقع السياسي للبلاد التي تحكمها أنظمةٌ استبداديةٌ. ففي البلاد الديمقراطية، ثمة إمكانيةٌ دائمةٌ، من حيث المبدأ، لأن يتعارض رأي الأغلبية الشعبية أو البرلمانية مع رأي الجهات القضائية التي تبطل رأي الأغلبية، ولا تسمح بتنفيذه، لكونه يتعارض مع ما ينبغي أن يكون، وفقاً لفهمها لمبادئ الديمقراطية ذاتها9. ولا يمكن عموماً تخيل حصول مثل ذلك التعارض في البلاد المحكومة من قبل أنظمةٍ استبدادية، حيث تنسجم عموماً قرارات كل الأغلبيات الرسمية أو المعلنة والمتاحة مع رغبات المستبد، وتتراقص وفقاً لمعزوفاته وإيقاعاته. فهذه المعضلة هي «شأن ديمقراطيٌّ داخليٌّ»، أكثر من كونها تحيل على علاقةٍ ما بين الديمقراطية وما هو خارجها، سواء كان ذلك الخارج هو (الثقافة) الليبرالية أو الثقافة المحافظة. فهي لا تتعلق بالعلاقة بين الديمقراطية والليبرالية، بقدر الإقرار بعدم قابلية اختزال الديمقراطية في رأي الأغلبية وصناديق الاقتراع. وهي ليست ذات علاقةٍ خاصةٍ بالثقافة المحافظة، لأن الرأي الديمقراطي/ القضائي الرسمي قد يتعارض مع الكثير من الآراء غير المحافظة، بل والشديدة الليبرالية أيضاً. ومن هنا نرى أن الممكنات، المبدئية أو الأولية، لحل هذه المعضلة/ المشكلة، والتفاعل معها إيجابيّاً، موجودةٌ في النظام الديمقراطي، وليس في النظام الاستبدادي، حيث لا رأياً مهمّاً إلا رأي المستبد. وإن وجود آراءٍ مضادةٍ للحريات، بل وللديمقراطية نفسها، هو أمرٌ «طبيعيٌّ» في أي نظامٍ سياسيٍّ، وجزءٌ أساسيٌّ منه عموماً. وعلى هذا الأساس، لا نرى معقوليةً ولا واقعيةً في الاستناد إلى وجود ثقافةٍ محافظةٍ، لدى جزء كبيرٍ من السكان أو الثائرين على النظام الاستبدادي، للذهاب في الاستنتاجات إلى درجة القول بأن لا إمكانية لثورات عربية ديمقراطية، بسبب وجود ثقافةٍ محافظةٍ مضادةٍ للديمقراطية. فمعضلة وجود هذه الثقافة تتحول إلى مشكلةٍ قابلةٍ للحل، جزئيّاً ونسبيّاً، في حال وجود نظامٍ ديمقراطيّ، لكن هذه المعضلة تظهر بوصفها «المعضلة الكبرى»، بسبب وجود النظام المستبد الذي يعزز وجود الثقافة المضادة للديمقراطية، تعزيزاً مباشراً أو غير مباشرٍ، عن طريق مهادنتها والخضوع لها أحياناً، أو معاداتها وتحويل أفرادها إلى مظلومين ذوي مظلومياتٍ، أحياناً أخرى. فهذه المشكلة/ المعضلة هي سببٌ إضافيٌّ للسعي إلى إقامة النظام الديمقراطي، وليس منطقيّاً كثيراً اتخاذها ذريعةً للخضوع للنظام الاستبدادي، كما يفعل «الشبيحة» وبعض أصدقائهم.
إن متبني الأطروحة القائلة بأن «المعضلة التي تواجهها الثورات العربية» هي معضلةٌ ثقافيةٌ – يرون أن ثقافة غالبية أفراد الشعب العربي هي ثقافةٌ محافظةٌ، ليس سياسيّاً فقط، كما هو حال النظام، بل وأخلاقيّاً واجتماعيّاً أيضاً. ولهذا يرى كثيرون من مؤيدي الثورة، بوصفها ثورة من أجل الحريات، أن من يفترض أن يواجههم المرء لكونهم في صفوف الثورة المضادة، [هم] عوضاً عن هذا في صفوف الثورة نفسها. في حين أن «الأنظمة العربية في سياق تبرير ثورتها المضادة لا تتبنى ثقافة محافظة (ثقافة ثورة مضادة كلاسيكية)، بل تقدم نفسها بوصفها خط الدفاع الأخير عن قيم الحرية والحداثة والتقدم». وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم القول الشائع كثيراً لدى «أفراد بعض الجماعات»، والذي يمثل أحد أهم أسس المقال ونقطة انطلاقته، بأنه يمكن لأحد أبناء الطبقة الوسطى في سورية، وهو «صاحب مصلحة جدية في الثورة على الدولة العربية المستبدة والفاسدة، أن يقضي يومه ببساطة مع “شبيح” يرغب بالثورة عليه، لكنه قد لا يستطيع أن يقوم بالشيء ذاته مع “ثوري” من المتمردين على النظام. فالنظام يترك له كامل “حريته الشخصية” لفعل وقول ما يرغب طالما لا يتدخل بالسياسة، بالمقابل فإن النسبة العظمى من الثائرين على النظام يسعون لضبط وتقييد كل ما يعتبرونه شأناً خاصاً يطاول ملبسه ومأكله وطريقة حياته وإخضاعها لما يعتبرونه حقاً، والذي هو خاضع بدوره للتقاليد والدين».
يكثِّف هذا القول أبرز إشكاليات هذه الاطروحة، والفكر الذي يتبناها، وسلبياتهما.
فمن جهةٍ أولى، ليس نادراً أن يعتقد/ يقول كثيرٌ من المؤيدين و«الرماديين» إنَّ النظام أفضل من الثائرين عليه؛ لأن الثائرين عليه مستبدون سياسيّاً مثله وأكثر، ولأن النظام غير محافظٍ، ولا مستبدّ، لا أخلاقيّاً ولا اجتماعيّاً، على العكس من غالبية الثائرين عليه. وبغض النظر عن غياب أو تغييب العوامل السياسية المفصَّلة في المقارنة والمفاضلة بين الطرفين، وبغض النظر مؤقَّتاً عن دقة هذا القول، وعن تقديمه في صيغة معضلة، إلا أنه يبدو أنه يقدِّم «تسويغاً معقولاً» لقيام كثيرين من «أصحاب المصلحة الجدية في الثورة» بتفضيل النظام وثورته المضادة للثورة عليه!
ومن جهةٍ ثانية، ثمة مغالطةٌ شائعةٌ تقول بإمكانية الفصل بين السياسة والحريات الشخصية للأفراد في سورية. وليس واضحاً لي كيف يمكن أن يكون للسوري «حرية شخصية» كاملة لفعل وقول ما يرغب، بدون «التدخل بالسياسة». فهل يمكن للسوري فعلاً أن يفعل أو يقول ما يرغب في خصوص أي جانب من جوانب حياته التعليمية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الخدماتية… إلخ، بدون أن يستحضر السياسة، وبالتالي «يتدخل فيها»، بشكلٍ أو بآخر. من الواضح زيف كل الدعوات التي تقول بوجود أو بإمكانية وجود فصلٍ، في سورية، بين السياسة أو الموقف السياسي، من جهة، والرياضة أو الفن أو التعليم أو العمل الثقافي (النخبوي) …إلخ. وعدم إمكانية هذا الفصل هو نتيجة تغوّل النظام على المجتمع والتهامه شبه الكامل للدولة. إن «الاستحالة شبه الكاملة» لعدم التدخل في السياسة، ليست ناتجةً عن رغبة الأفراد في «التدخل بالسياسة»، وإنما نتيجةً لتدخل السياسة/ الأمن في كل مفاصل حياتهم. وليس مسموحاً في سورية أن تكون حياديّاً أو أن لا تتدخل، بل يجب عليك أن تتدخل بالطريقة الملائمة للسلطة السياسية/ الأمنية، وإلا تعرضت لمضايقاتٍ كثيرةٍ على الأقل، ولعقوباتٍ شديدة، قد تصل إلى درجة الاعتقال والتصفية، على الأكثر.
ومن جهةٍ ثالثة، من المرجَّح أن الحريات الشخصية المقصودة، في هذا السياق، تتعلق غالباً «بالشأن الخاص الذي يطاول ملبس الإنسان ومأكله وطريقة حياته». وليس واضحاً كثيراً ما المقصود ﺑ «طريقة الحياة» التي لا يتدخل فيها النظام الأسدي، لكن يمكن الإقرار بأن هذا النظام هو أقل تدخلاً من الفصائل في ملبس الناس، وفي مأكلهم ومشربهم (من حيث أنه لا يمنع المسكرات ولحم الخنزير مثلاً). لكن هل تمثِّل هذه الأمور معياراً مناسباً للمفاضلة بين «الشبيح» و«الثوري»؟ وهل من الواقعي والمعقول أو المنصف المطابقة بين الرؤية الإيديولوجية للفصائل المتشددة ورؤية «النسبة العظمى من الثائرين على النظام»؟ إن القيام بالمطابقة بين هذين الطرفين، أو افتراض عدم وجود تمايزٍ بينهما، كما يفعل المقال، هو، من وجهة نظرنا، أمرٌ غير مناسبٍ على الأطلاق، لا معرفيّاً/ منهجيّاً ولا أخلاقيّاً ولا سياسيّاً. وهذا شبيهٌ باختزال الناس الموجودين في محافظة إدلب الخارجة حاليّاً عن سيطرة النظام، في كونهم، أباءً وأبناءً، متطرفين ينتمون للقاعدة التي تحكم كل «مقاطعة إدلب» وتمثل، بثقافتها المحافظة والمعادية للحريات والتنوير، إيديولوجيا (الجزء الأكبر من) السكان هناك. يجب الحذر جدّاً من استسهال القيام بمثل هذه الاختزالات، ومن تبني مضامينها ونتائجها.
ومن جهةٍ رابعة، وفي مناقشة القول بإمكانية أن يقضي صاحب مصلحة جدية في الثورة على الدولة العربية المستبدة والفاسدة، يومه ببساطة مع «شبيحِ»، من الضروري التساؤل عن المعنى المقصود تحديداً ﺑ «الشبيح» هنا، وما معنى أن «يقضي يومه معه»؟ وهل يقضيه معه بوصفه شبيحاً فعلاً؟10 فالسوري، بوصفه شبيحاً، «مغمّسٌ» بالسياسة «دائماً»، ومن المستبعد ألّا يتضمن اليوم العادي للشبيح تدخلاً بالسياسة، لصالح النظام طبعاً. فالشبيح «النموذجي» يلهج بالثناء على سياسة نظامه، بمناسبةٍ – وما أكثر المناسبات التي يجدها او يختلقها لهذا الغرض! – وبدونها. فهل يمكن فعلاً لمثل ذلك الشخص أن يقضي ببساطةٍ يوماً كاملاً مع «شبيحٍ»، أثناء تشبيحه؛ أم أن الشبيح يكون حينها «شبيحاً مع وقف التنفيذ»؟ وفقاً لفهمي للفهم السائد لمصطلح «شبيح»، فهو يحيل على من يشبِّح للنظام بيده (ببندقيته أو هراوته أو عضلاته… إلخ) أو بلسانه (وهذا أضعف التشبيح). وليس واضحاً كيف يمكن لحديثٍ عن الثقافة السياسية، وعن الثورات السياسية، أن يركِّز في مقارنته، بين «الشبيح» و«الثوري»، على «مسائل غير سياسيةٍ» كالملبس والمأكل وطريقة الحياة، وأن يستبعد، في مفاضلته بينهما، ليس الموقف السياسي لكلٍّ منهما فحسب، بل والسؤال الأخلاقي أيضاً؟ وتزداد المقارنة/ المفاضلة «سوءاً»، حين يتماهى الشبيح مع النظام، بحيث يتم الانتقال، في المقال، من الحديث عن كون «الشبيح» «أفضل»، أو «أقل سوءاً»، من «الثوري»، إلى الحديث عن أفضلية النظام – مقارنةً بالنسبة العظمى من الثائرين عليه – لكونه يترك للمرء «كامل “حريته الشخصية” لفعل وقول ما يرغب طالما لا يتدخل بالسياسة». ربما كان ضروريّاً مناقشة مضمون «الثقافة السياسية» للأشخاص الذين يتبنون مثل هذه الأطروحة، بدلاً من التسليم بصحة مضامينها، واتخاذها نقطة انطلاقٍ لمساءلة/ محاكمة «الثقافة السياسية» للأغلبية المحافظة، كما يفعل مقال عايق.
ومن جهةٍ خامسة، يتأسس الحديث عن أفضلية النظام مقارنةً بالثورة/ الثائرين عليه، وأفضلية «الشبيح» على «الثوري»، على ثنائية تبسيطيةٍ كثيرة التداول: «نظام سيءٌ – ثائرون أسوأ منه». وانطلاقاً من هذه الثنائية، ينبغي اختيار أحد طرفي التخيير الذي يتخذ شكل القضية العنادية التالية «إما النظام السيء، وإما الثورة الأسوأ منه!». في مقابل هذه الثنائية وذلك التخيير، ثمة اعتقاد بأن الثورات العربية ليست ممكنةً إلا من خلال رفض الخضوع لمثل هذا التخيير. فهذا التخيير هو الإيديولوجيا الرسمية للأنظمة الاستبدادية في معظم الدول العربية، على الأقل. ومن الضرورة القيام بمساءلةٍ نقديةٍ للأسئلة المطروحة على أساس هذا التخيير (مثل: هل تفضِّل داعش والنصرة أو أمثالهما أم النظام؟)، وللافتراضات المعرفية/ المنهجية التي ينطلقان منها، وللغايات والنتائج السياسية، (غير) الأخلاقية التي يحققانها أو يسعيان إلى تحقيقها، بدلاً من الرضوخ لهذه الأسئلة، وقبول افتراضاتها وتحقيق غاياتها. وغالباً ما يستسهل أصحاب هذا الحديث الرضوخ لهذا الاختيار، ولا يفكرون في إمكانية وجودٍ مسبقٍ لطرفٍ/ خيارٍ آخر بل وأطرافٍ/ خياراتٍ أخرى، أو في إمكانية الإسهام في خلق/ إيجاد هذا الطرف أو هذه الأطراف. ويبدو أن القبول الساذج بهذا التخيير، وعدم إخضاعه للنقد، هو، أحياناً وربما غالباً، ذريعةٌ وتسويغٌ للاختيار القائم أو الحاصل مسبقاً، في المستوى العملي، على الأقل.
ثمة مشاكل هائلة ولا شك، في الثقافة السياسية للشعوب العربية، وثمة سلبيات قاتلة في الممارسات التي أقدمت عليها التنظيمات والأحزاب، الإسلامية/ الإسلاموية، خصوصاً، من داعش والنصرة إلى جيش الإسلام وأحرار الشام… إلخ، وفي التنظيرات التي قدمتها أو قدِّمت لها. لكن لا نعتقد مطلقًا بأنه من الموضوعي، أو المنصف، القول بأن أيديولوجيا هذه الفصائل وثقافتها السياسية تمثِّل فعلًا “الثقافة السياسية للنسبة العظمى من الثائرين”، كما يزعم كثيرون، بحسن نيةٍ، أو بسوء نيةٍ.
وعند الحديث عن «المعضلة التي تواجهها الثورات العربية» نعتقد أنه ينبغي التركيز أكثر على تفاوت القوى بين النظام والثائرين عليه. وفي حال التركيز على الدور السلبي للثقافة السياسية، نعتقد أن المشكلة الأساسية أو الأكبر تكمن في «الثقافة السياسية للنظام وداعميه وشبيحته ومؤيديه»، وليس فقط في «الثقافة السياسية للنسبة العظمى من الثائرين عليه»، وأن معظم سلبيات الثقافة السياسية الأخيرة هي نتيجةٌ، مباشرةٌ أو غير مباشرةٍ، لممارسات النظام وشبيحته ومؤيديه، وعنفهم المادي أو الخطابي، وممارساتهم وثقافتهم السياسية.
ليس نادراً محاولة توصيف الأوضاع العربية، وتشخيص مشكلاتها، بلغة المعضلات التي تبدو، جزئيّاً ونسبيّاً على الأقل، مستعصيةً على الحل. لكن ينبغي الحذر من الحديث عن «الثقافة السياسية للجزء الأكبر من الشعب» بوصفها «المعضلة التي تواجهها الثورات العربية». فالمعضلة أو المعضلات التي تواجهها هذه الثورات أسوأ من أن تتمثل، بالدرجة الأولى، في مواجهةٍ أو مواجهاتٍ ثقافيةٍ. فمن منظورنا، نعتقد أن إحدى أسوأ المعضلات التي تواجه مسألة التحول الديمقراطي11 تكمن، من جهةٍ أولى، في عدم استعداد الأنظمة الحاكمة للتنازل السلمي عن السلطة و/ أو قيادة الإصلاح والانتقال الديمقراطي التدريجي، ومن جهةٍ ثانية، في صعوبة إزاحة هذه الأنظمة بالعنف، وفي أن هذه الإزاحة إن حصلت، ستترافق، على الأرجح، مع دمارٍ وتدميرٍ كبيرين، وانقسامات مجتمعيةٍ هائلةٍ، وأنه من (شبه) المستحيل أن تفضي هذه الإزاحة إلى بناء نظامٍ ديمقراطيٍّ، في المدى المنظور، على الأقل. وهذه المعضلة تشرح أوضاع معظم الثورات العربية عموماً، والثورة السورية خصوصاً. ونحن لا نقول بوجوب الاختيار بين القول بهذه المعضلة أو تلك، وإنما نقول بأن استحضار إحدى المعضلتين على أنها المعضلة (الأكبر)، وتغييب المعضلة أو المعضلات الأخرى ذات الصلة، ليس أمراً محموداً ولا مناسباً، في كثيرٍ من الأحيان، وهذا هو الحال، في المقال المذكور، على سبيل المثال، لا الحصر.
1. لعل أحد أشهر الأمثلة المعبرة عن هذا النموذج هو ذاك الشخص الذي صرّح، بعد قيام الثورة السورية بأشهرٍ قليلةٍ، في مقابلة مع قناة الدنيا: طالبين الحرية؟! أنو حرية؟!… أنا واحد من الشعب السوري، أنا عايش بحرية، أنا وأهلي. أنا أختي بتطلع الساعة تلاتة بالليل مأمنين عليها، كلو أمان، سورية كلها أمان!
2. في الأشهر الأولى من الثورة السورية، ظهر عددٌ من الفيديوهات التي تُظهر تعذيب القوات الأسدية لمؤيدي الثورة أثناء عمليات اعتقالهم أو بعدها أو في سياقات أخرى. ومن أشهر هذه الفيديوهات ذاك الذي يصوِّر هجوم الجيش والشبيحة على قرية البيضا. ففيه نرى الرجال مرميين أرضاً على بطونهم ووجوههم، وهناك من يضربهم ويدوس عليهم ويهينهم ويصرخ: «بدون حرية ولاد الشرموطة»، كما نسمع في الفيديو كلمة حرية تتكرر أكثر من مرة.
3. أقتبس هنا، في وصف المقال، ما كتبه عايق نفسه، في خصوص كتاب وائل حلاق الدولة المستحيلة. انظر: موريس عايق، بين جبرون وحلاق: محولة في التفسير الاجتماعي، إضاءات، 5 آب/ أغسطس، 2017.
4. جاء في المقال: «الثقافة السياسية للجزء الأكبر من الشعب صاحب المصلحة بالثورة، والتي لا يمكن تصور نجاحها بدونه، هي ثقافة محافظة في جوهرها، بما يضعها في مواجهة مباشرة مع الجماعات الأخرى التي هي بدورها تملك مصلحة أساسية في القيام بهذه الثورة والتخلص من الاستبداد والقمع والفساد. […]. بتعبير آخر، من يفترض أن يواجههم المرء لكونهم في صفوف الثورة المضادة، سيراهم عوضاً عن هذا في صفوف الثورة نفسها. وعليه، فالشعب الذي عليه أن يقوم الثورة، تهيمن عليه ثقافة سياسية محافظة معادية للحريات وقيم الثورات نفسها، يمكن أن تستخدم في لجم العملية الثورية وتعطيلها».
5. يقول بشارة، في تعريف الثورة: «المقصود بالثورة هو تحرك شعبي واسع خارج البنية الدستورية القائمة، أو خارج الشرعية، يتمثل هدفه في تغيير نظام الحكم القائم في الدولة». عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، ص 29.
6. أستميح القارئ عذراً في اضطراري إلى اقتباس هذه الفقرة الطويلة، من نصٍّ سابقٍ لي، لتوضيح هذه الفكرة: «لا يمكن فهم الثورة انطلاقاً مما تريده، وإنَّما انطلاقاً مما لا تريده. فهي فعلٌ سلبيٌّ، بالمعنى المنطقي، أكثر من كونها فعلاً يتوجه إلى تحقيق هذه الغاية المحددة أو تلك. الثورة سلبٌ، بمعنى أنها رفضٌ لواقعٍ قائمٍ، أكثر من كونها تخطيطاً وسعياً لواقعٍ مرادٍ منظَّرٍ له مسبقاً. والسلب، كما قال هيغل ومن بعده اسبينوزا وماركوزه وغيرهم، هو وجودٌ أصيلٌ، لا ينبغي رده لمجرد نفيٍ للإيجاب. وفي حالة الثورة عموماً، والثورات في بلادنا العربية خصوصاً، السلب هو أساس الإيجاب، وليس العكس. فالثائرون لا ينطلقون من أيديولوجيةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واضحة المعالم، ولا من تصورٍ نظريٍّ متماسكٍ عن النظام السياسي البديل الذي يرجون تحقيقه أو تحقُّقه. فمنطلقهم يكمن في رفض الظلم والاستبداد والتسلط والفساد … إلخ. وهذا الرفض، بأبعاده المختلفة، هو ما يشكل ماهية الفعل الثوري، ويميزه عن مطالب أو أفعال من يسعون إلى الإصلاح من الداخل، ويؤمنون بإمكانيته وجدواه.» حسام الدين درويش، «الثورة بين العقلانية والانفعالية، بين مشاعر الخوف ومشاعر الغضب، بين الحوار والمناظرة»، موقع الأوان، ملف انتفاضات العالم العربي (37)، 16/5/2011. لأسباب تقنية، تتعلق بالموقع لم يعد المقال موجوداً، على الموقع، وهو موجود في كتابي: نصوصٌ نقديةٌ في الفكر السياسيِّ العربي والثورة السورية واللجوء (بشارة وباروت أنموذجاً)، (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2017)، ص 162.
7. Fabian Wendt, Gerechtigkeit ist nicht alles: Über Immigration und sozialen Frieden, in Welche und wie viele Flüchtlinge sollen wir aufnehmen? Philosophische Essays. Grundmann T, Stephan A (Eds); (Stuttgart: Reclam, 2016), pp. 45-56.
8. أُحيل هنا على عنوان مقال: سامي الكيال، الثقافة الكارثة: هل الشعوب أسوأ من حكامها؟، القدس العربي، 7 آذار/ مارس 2019.
9. أدينُ بالانتباه إلى هذه الفكرة للدكتورة لمى أبو عودة.
10. أنا مدينٌ للصديق الدكتور أحمد نظير الأتاسي بعددٍ من الأفكار والملاحظات، وربما كانت هذه الملاحظة أبرزها. كما أنني مدينٌ دائماً للصديق الدكتور أحمد اليوسف الذي يقرأ كل نصوصي ويزودني بملاحظاته عنها قبل تقديمها للنشر.
موقع الجمهورية
بين جبرون وحلاق: محاولة في التفسير الاجتماعي/ موريس عايق
الدولة المستحيلة، وائل حلاق، مفهوم الدولة الإسلامية، أمحمد جبرون
مما يلفت الانتباه هو النقاش الواسع الذي حظي به عمل وائل حلاق «الدولة المستحيلة» في العالم العربي، وهو نقاش مستحق لكتاب مثير للاهتمام، مقابل محدودية هذا النقاش عند التطرق إلى أعمال أخرى تتقاطع في موضوعها مع موضوع كتاب حلاق، وهي أعمال لا تقل أهمية عنه إن لم تتجاوزه،وأحيل بشكل خاص إلى عمل أمحمد جبرون «مفهوم الدولة الإسلامية»، والذي أعتقد بأفضليته لجهة المبنى والمعالجة التاريخية.
إن تفسير الاستقبال المتباين للعملين، كما أعتقد، لا يتعلق بشكل أساسي بمحتوى العملين، بقدر ما يتعلق بالسياق السياسي للجمهور لحظة استقباله لهما. لهذا سأهتم هنا بتقديم بعض الملاحظات حول اللحظة السياسية للجمهور المتلقي وصلته ابالاستراتيجيات والإجابات المقترحة في كل من الكتابين.
بتعبير آخر، سأقدم بعض الملاحظات، حول لماذا حظي كتاب حلاق بمثل هذا السجال المستفيض على عكس الأعمال الأخرى بما فيها عمل جبرون، دون التطرق إلى مناقشة ومفاضلة محتوى العملين، إلا بما يتعلق بسياق الاستقبال.
الدولة المستحيلة
يمتاز عمل حلاق بميزة لطالما تمتعت بها الأدبيات الماركسية تحديدًا، وهي القدرة على الجمع بين أطروحتين تنتميان إلى سويتين تحليليتين متباينتين في مبنى نظري واحد، أطروحة تفسيرية/وصفية وأخرى معيارية/نقدية، وتقديمهما كأنهما طرح واحد كلي مترابط بالضرورة.
هكذا يقدم حلاق أطروحة تفسيرية تتعلق بالتمايز النوعي بين الدولة الحديثة ونظام الحكم الإسلامي التاريخي، وأخرى ناقدة للحداثة والدولة الحديثة من زاوية المعضلة الأخلاقية التي تواجهها الأخيرة. لكن حلاق يدمج الأطروحتين في مبنى واحد، جاعلاً من التمايز بين نظام الحكم الإسلامي والدولة الحديثة هو الأساس للمعيار الأخلاقي المُستخدم لنقد الدولة الحديثة.
أعتقد أن هذين الطرحين يمكن فصلهما، بحيث أن القبول بأحدهما لا يترتب عليه قبول الآخر بالضرورة، أن نقبل بالتمايز النوعي بين الدولة الحديثة ونظام الحكم الإسلامي لا يعني أن نقبل بالضرورة الامتياز الأخلاقي (القيمي) لنظام الحكم الإسلامي تجاه الدولة الحديثة، نكتفي بالتمييز دون المفاضلة. بالطبع سيعترض حلاق على هذا الفصل، كونه من التباسات الحداثة التي تفصل بين الحقيقة والقيمة، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، ولكن لنترك هذه النقطة جانبًا، طالما أن النقاش لا يدور حول عمل حلاق تخصيصًا.
باختصار تدور أطروحة حلاق حول التمايز الأساسي بين الدولة الحديثة ونظام الحكم الإسلامي بالاستناد إلى «السيادة» كمفهوم مركزي. تحتكر الدولة الحديثة السيادة، بينما تعود السيادة لله في نظام الحكم الإسلامي وتتحقق عمليًا من خلال سيادة الشريعة المندمجة في نظام المعايير الاجتماعي الذي يقوم عليه الفقهاء والعلماء وهم طبقة منغرسة في البنية الاجتماعية وغير منفصلة عنها.
وانطلاقًا من هذا الأساس يقدم حلاق مرافعة نقدية للمعضلة الأخلاقية التي تواجهها الدولة الحديثة، العاجزة عن تأسيس الأخلاقي مما يسبب التناقضات التي تعانيها هذه الدولة الحديثة من فصل متعثر للسلطات وتغول الدولة على مجتمعها إلى تذرير الأفراد أمامها، في مقابل الامتياز الأخلاقي لنظام الحكم الإسلامي والذي يحقق الوحدة بين الأخلاقي والقانوني، بحيث يكون نظام الحكم خاضعًا للاعتبارات الأخلاقية المنغرسة اجتماعيًا. يؤمثل حلاق نظام الحكم الإسلامي التاريخي، فليس هو مثال متعال على التاريخ، بل إن التاريخ نفسه قد رُفع إلى مستوى المثال.
تبدو وصفة حلاق مناسبة تمامًا للسياق السياسي الحالي الذي تجد الحركة الإسلامية، وجمهورها والمتعاطفون معها، نفسها متورطة فيه. من ناحية هناك دولة فاسدة وطاغية ومتوحشة تغولت على المجتمع والأفراد، وهي مسؤولة عما حاق بمجتمعها من هزائم وانهيارات وفشل التنمية والتحديث. كما أنها تمارس القمع والإرهاب، اللذان وصلا مؤخرًا إلى مستويات مهولة في مواجهة الاحتجاجات والانتفاضات. وبرغم هذا أو بسببه، فإن هذه الدولة تدعي الحداثة والتنوير وأنها أكثر تقدمًا من مجتمعها الذي تحكمه وتشرعن حكمها على أساس هذا الادعاء.
على الجهة الأخرى تقف الحركة الإسلامية عاجزة عن مواجهة الدولة. فبمعزل عن التنوعات الإيديولوجية والاستراتيجيات المتباينة التي تبنتها حركات الإسلام السياسي، فإنها هُزمت تمامًا أمام الدولة أو تورطت في حروب أهلية وطائفية. فقد سبق وحاولت بعض تيارات الإسلام السياسي أن تتلاءم مع ما اعتقدته متطلبات الدولة ومعاييرها (لنتجاوز جدية هذه المحاولات واتساقها)، وقد كانت الاشتراكية يومًا والديمقراطية يومًا آخر وحقوق الإنسان واقتصاد السوق في يوم ثالث، ولكنها وبرغم محاولتها الانطلاق من قبول واقعة الدولة والسياسة الحديثة، فإنها وجدت طريقهما موصدة أمامها.
الخيار الآخر تمثل بمواجهة الدولة وتبني الخيار الثوري (المسلح) وإيديولوجية إسلامية راديكالية لمواجهتها. لفترة قصيرة اتشحت هذه الايديولوجيات الإسلامية الثورية ببلاغة يسارية، ولكنها انتهت لاحقًا إلى إيديولوجيا تقوم على الحاكمية والتي ليست إلا نسخة مقلوبة عن الدولة نفسها. حتى هذا الإسلام الثوري مُني بالهزيمة في كل مكان واجه فيه الدولة. بل وبرغم انتصاره في أماكن متفرقة، كما في إيران أو السودان، فإنه انتهى إلى إعادة بناء دولة مستبدة لا تختلف كثيرًا عما يفترض أنه خرج لمحاربته.
تبدو وصفة حلاق بمثابة الترياق السحري لهذه الحالة، فهي قدمت لجمهور الإسلام السياسي الوصفة السحرية للمعضلة التي يواجهها. من ناحية قدم حلاق نقدًا شديد الجذرية للدولة الحديثة، ومن ناحية أخرى قدم تفسيرًا للهزيمة التي واجهها الإسلام السياسي دون المساس بالمثال الإسلامي نفسه، بل وبالتشديد على تفوقه ومثاليته، تفسير يريح النفس المؤمنة بهذا المثال ويطمئنها. فالحركة الإسلامية هُزمت لأنها تورطت في عالم الدولة الحديثة نفسه، وهو عالم متناقض مبدئيًا وبشكل جوهري مع فكرة نظام الحكم الإسلامي. احتفظ الحكم الإسلامي هنا بمرجعيته وبوصفه معيارًا ومثالًا لنقد الدولة الحديثة. حلاق قدم قراءة تلبي الحاجات التالية لجمهوره:
مقاربة نقدية جذرية للدولة الحديثة.
تفسير لهزيمة الإسلام السياسي، تجد أصلها في قبول الإسلام السياسي لفكرة الدولة الحديثة.
دون أن يمس هذا التفسير والنقد بالمثال نفسه وهو نظام الحكم الإسلامي، بل عبر التشديد على قيمته ومثاليته.
والخلاصة أن السعي لتحقيق هذا المثال مستحيل في إطار الدولة الحديثة، فالنضال من داخل بنية السياسة والدولة الحديثة لن يوصل لما يرغبه المرء ويتمناه، طالما أن التناقض مع المثال الإسلامي هو تناقض جوهري لا يمكن حله. المكان الأمثل لمناهضة الدولة الحديثة مع الالتزام بالمثال في الوقت ذاته يقبع خارج السياسة نفسها، مما يسمح للمرء بالتحرر من عبئها المباشر.
لا أعتقد أن هناك وصفة أكثر مثالية لتيار سياسي أنهكته الهزائم المتلاحقة من وصفة حلاق. هذه الوصفة ليست حصرية على الإسلام السياسي، فهناك مثيل لها في تراث الحركات الأناركية والمعارضة اليسارية الجذرية وغير البرلمانية، والتي اعتبرت أن أية مشاركة في النظام السياسي الرأسمالي، بما فيه البرلمان، ستؤدي إلى التورط في هذا النظام ومن ثم قبوله أو التلوث بعيوبه.
قدمت هذه الحركات نقدًا جذريًا للنظام السياسي لدرجة أن الخيار الوحيد الذي أصبح متاحًا لها هو البقاء خارجه، لكن يجب الإضافة أيضًا أن هذه الحركات كانت إما حركات هامشية أو حركات منيت بالهزيمة. في النهاية لدينا وصفة تقدم نقدًا جذريًا لدرجة أنه يستحيل العمل الفعلي معها، حلاق خاطب التيه والضياع الإسلامي في لحظتنا الراهنة وقدم له تأصيلًا نظريًا.
مفهوم الدولة الإسلامية
في المقابل قدم جبرون وصفة مغايرة بالكامل، تنهل مباشرة من الإطار المقاصدي لفهم الشريعة، وهي مقاربة يعترض عليها حلاق بشدة ويعتبرها وسيلة يستخدمها مفكرون إسلاميون حديثون لإدخال قيم ليبرالية إلى داخل الفكر الإسلامي[1]. يمكن تلخيص الطرح الأساسي لجبرون عبر العلاقة بين المتعالي والمتعين في التاريخ، حيث يتمثل المتعالي بالمقاصد الكلية للشريعة كالبيعة والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما المتعين فهو أنظمة الحكم الإسلامية كما تجسدت في التاريخ، باعتبارها استلهامًا بشريًا وسعيًا لتحقيق المقاصد الكلية ضمن الشروط التاريخية التي حكمت هذه التجارب. وهي شروط ليست جيدة بالضرورة، بل ربما تعكس انحدار تاريخي كما حصل مع إمارة التغلب. حيث سعى الفقهاء وقتها إلى ضبط سلطة أمراء التغلب قدر الإمكان من جهة ودرء خطر الحرب الأهلية (الفتنة) من جهة أخرى. سعى الفقهاء إلى حل المسائل العملية التي طرحت عليهم في سياقاتهم وأزمنتهم وتمثل القيم الكلية للشريعة قدر الإمكان بما تسمح به شروطهم والفهم التاريخي للقيم الكلية في تلك اللحظة.
النتيجة أن ما يجعل من النظام إسلامي هو تمثله لهذه القيم الكلية، وهي عملية مفتوحة على التاريخ ولا تنتهي. بالمقابل فإن أنظمة الحكم الإسلامية التاريخية هي تعيينات تاريخية للمثال المتعالي، وليست هي نفسها مثال، على العكس تمامًا من فكرة حلاق. وعليه فإن الحداثة ليست مناقضة للمثال الإسلامي ممثلًا بالقيم الكلية ومقاصد الشرع، وإن بدت الحداثة مناقضة لشيء فهي مناقضة للمتعين التاريخي، الأنظمة السياسية الإسلامية التاريخية وأطروحات الفقهاء التي رافقتها، والتي رُفعت إلى مرتبة المثال.
فالحداثة، وهنا تحيل إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية أي إلى التصور الإيجابي للحداثة، ليس مناقضة أو مضادة للقيم الكلية للإسلامي (المقاصد)، بل هي إسهام بشري في تحقيق هذا الكلي، وهو كلي لا يقتصر على المسلمين، وبالتالي يمكن الاستفادة منه في مسعى المسلمين اليوم لتحقيق تجربتهم في مقاربة القيم الكلية لمقاصد الشريعة، كما فعل المسلمون الأوائل دون حرج، هكذا يكون المجال مفتوحًا للمصالحة بين الحداثة، والدولة الحديثة خصوصًا، والإسلام.
سياق جبرون، وهو السياق المغاربي، يختلف جذريًا على السياق المشرقي الذي يتم فيه استدعاء حلاق. فالدولة المغربية تتمتع بشرعية تاريخية وامتداد لم ينقطع ومتداخل مع شرعية دينية يحوزها الملك، على عكس الدول المشرقية التي نشأت إما عبر التدخل الاستعماري المباشر أو عبر انقلاب جذري في بنية الدولة أسس لقطيعة تامة مع النظام السابق كما في مصر مثلاً.
لم يواجَه الإسلاميون المغاربة بقمع مشابه لما حصل لأقرانهم في المشرق، وهم يشكلون الآن جزء من المجال السياسي،فيؤلفون الحكومة ويتعاونون مع الملك ويواجهون التحديات العملية لإدارة الدولة. لا يعني هذا أن الوضع المغربي وضع مثالي وقد حلت فيه كل المشكلات المتعلقة بالديمقراطية والتنمية والحكم الرشيد، لكن العملية السياسية هناك ليست مختزلة في حرب تدور رحاها بين الدولة ومجتمعها وضمنًا التيار الإسلامي مثلما هو الحال في المشرق، حيث لا مكان للتحديات والتساؤلات التي تطرحها استراتيجية جبرون. تحتاج المقاربة المقاصدية إلى لحظة هدوء وأفق مفتوح على الأمل بتحقيق مكان في عالم السياسة والدولة، بحيث يتم تطويع الأخيرة لحد ما إلى شروط الشرعية الشعبية، وهو ما يبدو ممتنعًا على السياق المشرقي، والذي يُضاف إلى تعقيده المسألة الطائفية المتشابكة مع سياسات الإسلام السياسي.
جمهور حلاق هو الجمهور الذي أُخرج عنوة من السياسة بعد فشل جميع محاولاته للدخول إليها، دون أن يحوز القدرة على فرض نفسه أو حتى حماية نفسه من الهجوم الذي تعرض له. حلاق قدم –كما يبدو- إجابة مغرية، إن التناقض مع السياسة الحديثة، والدولة والنظام العالمي نفسه، تناقض جوهري تمتنع المصالحة معه، دون أن يعني هذا تبني خيار المواجهة وهي لن تفضي على أية حال إلا إلى إعادة بناء مسخ الدولة تحت مسمى الإسلامية. ما يجعل الخيار المتاح، ربما، هو مغادرة السياسة نفسها إلى عوالم النقد الجذري والسؤال الأخلاقي.
جبرون، من جهة أخرى، تحدث إلى جمهور حركة سياسية نشطة وذات أفق مفتوح وفعالة في المجال السياسي وسياسات الدولة، حيث يتوجب عليها حل المسائل العملية التي تواجهها في «عالم الدولة» مستلهمة قيمها الإسلامية. اللحظة السياسية التي خاطبها جبرون هي الاستثناء أمام اللحظة التي خاطبها حلاق.
[1]محاضرة وائل حلاق في مؤتمر “قراءات في الفقه والفلسفة” أكاديمية القاسمي 8.4.2017
كتاب مفهوم الدولة الإسلامية، أزمة الأسس وحتمية الحداثة/ امحمد جبرون
كتاب الدولة المستحيلة وائل حلاق
الثقافة الكارثة: هل الشعوب أسوأ من حكامها؟/ محمد سامي الكيال
أدى تراجع الأيديولوجيات الوطنية والدينية، في معظم الدول العربية، إلى ظهور أنماط جديدة من الخطاب، تسعى لترميم هيمنة السلطات الحاكمة. من أهمها، إلى جانب الحديث المكرر عن «الاستقرار»، فكرة أن الشعوب العربية عموماً أكثر تخلفاً وميلاً للاستبداد من حكامها. ليس فقط لنزوعها للكسل والتواكل والإهمال، وغياب ثقافة العمل وأخلاقيات المواطنة، بل أساساً لأن هذه الشعوب لو تركت على سجيتها، وتم استفتاؤها حول القضايا الاجتماعية والسياسية الأساسية، فستكون النتيجة كارثية، سواء في ما يخص الحريات الفردية، وحقوق الأقليات، والمساواة أمام القانون، وحرية التعبير، وأشكال العقوبات وطرق تنفيذها. باختصار، الديمقراطية ستؤدي، حسب هذا المنظور، إلى نشوء أنماط من الاستبداد، وانهيار سياسي وثقافي، أسوأ بكثير مما نشهده حالياً.
وجهة النظر هذه تتجاوز المقولة الشهيرة: «كما تكونوا يولى عليكم»، التي ترى أن الحكام من طينة محكوميهم، إلى نتيجة أكثر سوداوية، وهي أن الأنظمة العربية، على علّاتها وكوارثها، هي في الظرف الحالي أكثر تقدماً من رعاياها. وعندها لا أهمية للتساؤل حول مدى مسؤولية هذه الأنظمة عن الحالة التي وصل إليها الناس، فسواء كان ما نعيشه نتيجة لسياسات السلطات المتعاقبة، أم تجسيداً لثقافة اجتماعية متأصلة منذ القدم، فالنتيجة واحدة، وهي أن هذه المجتمعات غير مؤهلة للديمقراطية، والأنظمة تلعب فيها دور صمام الأمان، الذي يمنع حدوث ما هو أسوأ.
علاقات إنتاج الثقافة
هذه الأفكار تثير بالطبع غضب كثير من المثقفين العرب، فيتهمون من يتبنونها بالترويج للاستبداد أو الاستشراق، فضلاً عن الجهل والسطحية. والرد التقليدي هو الإتيان بأمثلة لشعوب أخرى، مثل الألمان والكوريين والسنغافوريين، كانت توصف بسمات مماثلة فيما مضى، ثم استطاعت النهوض والتقدم وبناء الديمقراطية، بعد تغيير الإطار السياسي والاقتصادي الذي كانت تعيش ضمنه. مشكلة هذه الحجة، على وجاهتها، أنها تغفل النقطة الأساسية في الطرح الذي تنتقده، فهل من الممكن تغيير الأطر السياسية والاقتصادية، بوجود ثقافة تنتج التردي والاستبداد وتطلبه دوماً، ممتلئة بأساطير القائد المخلص، والامبراطوريات الغابرة، وعقد الاضطهاد والمظلومية، ومفاهيم الشرف والعار؟ وهل يمكن اختصار تجربة الشعوب، التي نجحت بتجاوز تخلفها، بتغيير سياسي واقتصادي، أدى بشكل ميكانيكي إلى تجاوز تخلفها الثقافي؟
يكتسب هذان السؤالان أهمية خاصة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن كثيرين من أصحاب ذلك الرد هم أقرب لـ«اليسار»، الذي غدا بأغلبه هوياتياً، وتيارات الإسلام السياسي. هذه الأيديولوجيات تميل عادة إلى تضخيم أهمية العامل الثقافي، لدى مناقشة أي قضية اجتماعية أو تاريخية، سواء في الشرق أو الغرب، خاصة عندما يتعلق الأمر بنيل الامتيازات والنفوذ، مثل «التمكين» المؤسساتي، والمطالبة باستثناءات قانونية خاصة باسم «الحقوق الدينية والثقافية»، والدفاع عن ممارسات وأفكار معينة بحجة «الخصوصية» و«الاختلاف»، وانتقاد الحداثة بوصفها «هيمنة ثقافية للرجل الأبيض»، ورفض أو تأجيل حريات وحقوق معينة، مثل الزواج المدني والمساواة في الإرث، بوصفها غير ملحّة ثقافياً، وتصطدم مع «هوية مجتمعاتنا». بالمقابل تصبح الثقافة فجأة غير مهمة عندما تكون، بالمنطق نفسه، مثاراً للنقد والمحاسبة. عندها يقال إن الإرهاب نتيجة للفقر والبطالة والتهميش، ولا علاقة للدين والثقافة به، والاستبداد واضطهاد الأقليات نتيجة الاستعمار والإمبريالية، والحجاب «مجرد قطعة قماش»…الخ. وتغدو العوامل الاقتصادية والسياسية، بقدرة قادر، هي المبدأ التفسيري الوحيد لكل شيء. لا يمكننا وصف هذا إلا بأنه احتيال فكري.
لا بد من تجاوز هذا الاحتيال الفكري، الذي يسم التمازج المعاصر بين أيديولوجيات «اليسار» والإسلاميين، إذا أردنا الإجابة عن سؤال الثقافة والاستبداد. ما نقترحه بهذا الخصوص هو مقاربة ترى الثقافة بوصفها مجموعة من المنتجات، يتم تصنيعها وفقاً لعلاقات إنتاج معينة، وليست معطى جاهزاً ومسبقاً، على البشر والمجتمعات التطابق معه. نحن ننتج ثقافتنا وقيمنا وأفكارنا يومياً بناء على «مادة خام»، ليست مستمدة فقط من التراث والتقاليد، بل أيضاً من التأثيرات الثقافية الكثيرة والمتنوعة التي تأتينا من كل مكان. وعملية «الإنتاج» تعني بالضرورة إعادة صياغة المادة الخام وتشكيلها بأسلوب جديد. إذا استعدنا التاريخ بمنظور أركيولوجي، أي دراسناه بوصفه طبقات متراصة عمودياً من بنى اللغة والمفاهيم والخطاب، فسنتوصل إلى نتائج مهمة: إسلام القرن الثامن عشر مثلاً يختلف كثيراً عن الإسلام المعاصر. مفاهيم الجنس والجسد والفرد، تُنتج في أيامنا بأشكال مغايرة تماماً عن القرون الماضية. كثير من العادات والتقاليد القديمة تبدو اليوم غريبة وغير مفهومة..الخ. إنها منتجات تُصنع ويتم تداولها ضمن بنى معينة، ولكنها ليست حكماً نهائياً، أو جوهراً عميقاً يحدد سلفاً ما سنكونه. ينطبق هذا أيضاً على مفاهيم «الشعب» و«العامة» و«الجماهير»، فهي أيضاً مبنية سياسياً وثقافياً، وليست معطيات تجريبية جاهزة.
صناعة الشعوب
الإرهاب والتخلف والاستبداد هي عناصر من واقعنا الثقافي، تساهم، مع غيرها من العوامل، بإعاقة أي تغيير اجتماعي فعلي، وإنكار هذا أو تبريره نوع من النفاق، يختص به بعض الناشطين و«الباحثين»، المتأثرين بأشد الأيديولوجيات المعاصرة رجعيةً، مثل «ما بعد الاستشراق» أو «نقد المركزية الغربية»، التي تؤدي نتائجها المنطقية، حتى لو رفضوا الاعتراف بذلك، إلى دعم ادعاءات الطغاة والمستبدين، كما سمعنا ورأينا في تصريح السيسي الأخيرة عن الغرب، الذي لا يحقّ له أن يعلمنا الإنسانية، عندما نعلّق شبابنا على المشانق. إلا أن هذه المنتجات الثقافية الكارثية، سواء تخلف الثقافة الشعبية، أو احتيال ورجعية النخب، أو تبريرية خطاب السلطة، لا تسندها إلا بنى متهالكة. فلا أجهزة الدولة الأيديولوجية قادرة على فرض هيمنتها، ولا الجماعات الأهلية التقليدية، مثل العائلة والقبيلة والطائفة، تتمتع بحضورها وتماسكها القديم، وقدرتها على الضبط وإنتاج الذوات. في حين لا يملك الاحتيال النخبوي الكثير من الحيثية، بعد فشل الإسلاميين، والضعف والتشرذم الأبدي لـ«اليسار».
قامت ثورات الربيع العربي في ظل تحلل البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ما أدى إلى تسريع انهيارها الشامل. اليوم، مع ظهور بوادر موجة جديدة من الربيع العربي، لا بد من محاولة دراسة المنتجات الثقافية والسياسية لهذه الثورات، وأهمها برأينا إعادة إنتاج مفهوم «الشعب». لم يكن المتظاهرون في تونس ومصر سوى نسبة صغيرة من مجموع السكان، وبالتأكيد لم تكن مبادئهم وقيمهم وطموحاتهم تمثل الجميع، ولكنهم، من خلال احتلالهم للحيز العام، المتجسد جعرافياً بالميادين والشوارع الرئيسية، استطاعوا جعل حراكهم نواةً لـ«الشعب»، الذي قُدم بوصفه ائتلافاً متنوعاً من المواطنين، في مواجهة طغمة فاسدة، يتداولون شؤونهم السياسية والاجتماعية بحرية في الميادين، ينتجون فنونهم وآدابهم وقيمهم الثقافية الأكثر تحرراً، يمتلكون لغتهم المشتركة، ويطالبون بالحقوق الديمقراطية الأساسية، بنزعة جمهورية راديكالية واضحة. حتى أعمال العنف والنهب والفوضى، التي رافقت هذا الحراك، وتجنيد أبناء بعض المناطق العشوائية و«الشعبية» للتنكيل بالمتظاهرين، لم يكن قادراً على زعزعة هذا المفهوم. فقد تمكن الثوار من استيعاب هذه الممارسات وتأويلها لمصلحتهم. بوصفهم، آنذاك، الجهة الأكثر قدرة على إنتاج القيم والخطابات. إنها، في نظرنا، أكثر المحاولات جرأة وبطولة على الصعيد العالمي منذ عقود عديدة، ولكنها لوحدها لم تكن كافية بالتأكيد.
تجاوز الملاحم
إذا كان تغيير القيم الثقافية والسياسية أمراً ممكناً، فمن الصعب أن يتم نتيجة هبّات ملحمية محدودة مكانياً وزمانياً. لأن صياغة مفاهيم جديدة، تتمتع بشيء من الديمومة، تحتاج لمؤسسات وبنى، وعمل يومي يتسم بالنَفَس الطويل. كانت الثورة في تونس أكثر نجاحاً لأنها استندت إلى ركائز مؤسساتية، سياسية ونقابية وثقافية، موجودة بالحد الأدنى في الدولة والمجتمع التونسي، وهو ما لم يكن متوفراً في بقية الدول العربية. ورغم بعض المحاولات المهمة، مثل السعي لتأسيس «النقابات المستقلة» في مصر، فإن نسبة كبيرة من الثوار، استمروا باعتمادهم على المبدأ الملحمي الرومانسي: تحركات ضخمة تطالب السلطة، سواء كانت من العسكر أو الإسلاميين أو الائتلافات الطائفية والقبلية، بتنفيذ مطالب معينة، فإن لاقت هذه المطالب بعض الصدى لدى السلطات، يغرق الثوار بالنشوة الوطنية والشعبوية. وإن فشلت، يستسلمون لملذات الرومانسية السوداء، بآلامها التي تخلّف شعوراً بالنبل والتسامي. ليس العمل السياسي والنقابي والثقافي اليومي بالأمر السهل، في ظل الديكتاتورية والتخلف الاجتماعي، ولكنه بالتأكيد أقل خطورة من الهبّات البطولية، فردية كانت أو جماعية، التي تكون أحياناً أشبه بمحاولات انتحار، مزينة ببعض الشعرية والغنائية. ليست هذه دعوة للتخلي عن مبدأ التظاهر واحتلال الحيز العام، فهو أمر لا غنى عنه في كثير من الحالات، إلا أن إعادة الإنتاج الجذرية للبنى الثقافية والسياسة، تتطلب تجاوز التصورات التقليدية عن الأبطال والشهداء، وثنائيات اليأس والأمل. وتستلزم منظوراً أكثر نضجاً وذكاءً، لا يراهن على «الخلاص»، بقدر ما يسعى لفهم كيفية إنتاجنا لمجتمعاتنا، وإنتاجها لنا.
٭ كاتب من سوريا
المعارضة السورية إذ تنتقد ذاتها/ أكرم البني
هو أمر مفسَّر أن تتواتر المراجعات النقدية في الذكرى الثامنة لانطلاق ثورة السوريين، تحدوها آلام الانكسار والفشل، وفداحة التضحيات التي تكبَّدها الشعب السوري، قتلاً واعتقالاً وتشريداً، وهو أمر مفهوم أن تتصدر هذه المراجعات رموز وشخصيات احتلت مواقع قيادية في صفوف المعارضة السياسية، وإن كان غرضها التحرر من المسؤولية وتبرئة النفس! لكن ما ليس مفسَّراً أو مفهوماً هي شدة التباينات في قراءة هؤلاء المعارضين لما حصل، واستمرار تشتتهم وعجزهم، حتى في بلورة رؤية نقدية صادقة تكشف أسباب النتائج المأساوية التي آل إليها الصراع.
ثمة مَن تمترسوا في انتقاداتهم عند البدايات، عند لحظة تخلي المعارضة عن النهج السلمي واستسلامها المبكر للتحولات التي جرت نحو العسكرة وتالياً حماسها الطفولي «للانتصارات» التي حققها اللجوء إلى السلاح، الأمر الذي أدى برأيهم إلى الوقوع في الفخ السلطوي وإخضاع الصراع السياسي لقواعد العنف التي يتقنها النظام جيداً، ويسعى من خلالها لعزل الثورة عن دوائر التعاطف، وتسويغ كل أنواع القهر والتنكيل ضدها. زاد الطين بلّة وعزّز تنحية الحقل السياسي وتهميش المجتمع المدني، سلوكُ الفصائل العسكرية التي لم تُعِرْ أيَّ اهتمام للمرجعيات والحسابات السياسية ولم تتأنَّ في اختيار معاركها، بل خاضتها في أماكن مكتظة مدنياً، ما أدى إلى ردود فعل سلبية من حاضنة شعبية صارت عنواناً للحصار والقصف العشوائي، وتالياً خسارة قطاعات اجتماعية ترفض منطق السلاح ويصعب عليها إشهار تأييدها لثورة لا تستمد شرعيتها من ممارسات سلمية وحضارية تنسجم مع شعارات الحرية والعدل والكرامة التي تبنّتها.
بينما وجّه آخرون النقد إلى تأخر المعارضة السياسية في اتخاذ موقف واضح وحاسم من تنامي الجماعات الإسلاموية المتطرفة بما في ذلك الاستخفاف بوزنها وتغطية أدوارها الغامضة إلى أن تمكنت في غير مكان من مصادرة روح الثورة وقيمها، غامزين من هذه القناة إلى بعض قادة المعارضة الذين دافعوا وبشكل صريح عن «جبهة النصرة» بعد أن أُدرجت دولياً في قائمة الإرهاب، أو حين شجع آخرون نشوء تشكيلات عسكرية تدعو لدولة الخلافة وتغاضوا عن شعاراتها الدينية وعن ردود فعلها الطائفية بحجة أولوية مواجهة السلطة، أو حين قللوا من أهمية ما أوردته تقارير حقوقية عن انتهاكات وتجاوزات قامت بها الفصائل المسلحة في أماكن سيطرتها على أنها لا تشكل نقطة في بحر عنف النظام! والأسوأ حين صمتوا عمّا قام به الإسلامويون من تهجير واعتقالات بحق الناشطين المدنيين والسياسيين، بما في ذلك تصفيتهم جسدياً، والأمثلة تبدأ برزان زيتونة ورفاقها، ولم تنتهِ بإعلاميَّي كفر نبل، رائد فارس وحمود جنيد! كل ذلك أفضى برأيهم إلى تشويه معاني الثورة وأفقد الجسم المعارض فئات متعاطفة معه، كانت مترددة ومحجمة بسبب غموض البديل المنشود، لتغدو متخوفة من تمدد سلطة الميليشيات الإسلاموية التي لم تختلف في ممارساتها عن أعتي الديكتاتوريات، ولا يغيّر هذه الحقيقة عند هؤلاء النقاد، وضعُ المسؤولية الأساس في أسلمة الثورة على عاتق السلطة التي تقصدت تسعير الاستفزازات المذهبية وإطلاق قادة وكوادر «الجهاديين» من سجونها، بل يؤكدها انزلاق المعارضة نحو خطاب عنفي تصعيدي، بدأ بالإلحاح على استجرار سلاح نوعي، ولا يزال يشدد المطالبة بتدخل عسكري خارجي لفرض منطقة آمنة! ويؤكدها أيضاً سلوك بعض قادة المعارضة اليوم، الذين لا يجدون ضيراً من استيلاء «جبهة فتح الشام» على آخر معقل مناهض للنظام في مدينة إدلب وأريافها، واصطفوا كالعميان وراء سياسة أنقرة التوسعية والمهادنة للنفوذين الإيراني والروسي، وشكّلوا عملياً، رأس حربتها للتوغل عسكرياً، وتطهير الشريط الحدودي، وبخاصة مدينة عفرين، من أبناء شعبهم الأكراد!
«لقد بالغنا في الرهان على العامل الخارجي وخيار التدخل العسكري» بهذه العبارة يكثّف بعض المعارضين انتقاداتهم، ويتساءلون: ألم يقدنا ذلك إلى الترويج لأوهام سقوط سريع للنظام، تأثراً بما حصل في ليبيا، وما ترتب على ذلك من بناء مواقف وتكتيكات مغامرة وأحياناً متهورة، غيّبت عن قصد أو دون قصد، الخصوصية السورية وتعقيداتها، إنْ من جهة تأثرها بحسابات الجوار الإسرائيلي، وإنْ لجهة ارتباط النظام بمحور نفوذ في المنطقة يمده بكل أنواع المساندة والدعم، وإنْ لجهة ما أظهرته النيات الغربية من ميل لاستثمار استمرار الصراع السوري كمستنقع استنزاف لخصومها بدءاً بروسيا، فإيران وحلفائها، إلى المتطرفين الإسلامويين؟! وألم يؤدِّ البحث عن مصادر التمويل إلى الارتهان والخضوع لإملاءات هذا الطرف الخارجي أو ذاك، وتمثُّل مطالبه، أو السير وفق حساباته وتوقيتاته، ليغدو تبدل مواقفنا وتحالفاتنا السياسية كأنه تلبية لإشارات صدرت منه؟ وأيضاً ألم يفضِ الركون إلى الدعم الخارجي إلى قصور وتراجع اهتمامنا بالتطورات والحاجات الداخلية وبأولوية مواكبة حراك الناس وهمومهم، من دون أن نقدّر خطورة هذا القصور والتراجع في ثورة كثورتنا، جاءت مفاجئة وعفوية، وعطشى لقوى سياسية تتواصل معها مباشرةً وتقودها ميدانياً؟
هي قلة قليلة ذهبت في نقدها إلى البنية التكوينية للمعارضة السياسية التي تعتمل داخلها حزمة من الأمراض خلّفتها عقود طويلة من جور السلطة وظلمها، ما أضعف فرصتها في توحيد صفوفها أو الظهور كقدوة ومثلاً يُحتذى في السلوك الديمقراطي والمثابرة والتضحية، وأشاع صورة لقادتها تضجّ بخلافاتهم الشخصية وبتنافس مرضيّ على المناصب، تفوح منه رائحة الأساليب المتخلفة والمصالح الحزبية الضيقة وظواهر الأنانية والاستئثار وأحياناً الفساد، زاد تلك الصورة سوءاً عجزُ الفكر المعارض عن تقديم رؤية موضوعية لمسار الصراع وللآليات السياسية التي تضع في اعتبارها خصوصية المجتمع السوري بتعدديته القومية والدينية والمذهبية وحساسية ارتباطاته الإقليمية.
واستدراكاً، ليس من خيبة أعظم من خيبة أمل السوريين بمعارضة سياسية توجِّههم وتقودهم، وعجزت مراراً عن معالجة أزماتها ومشكلاتها المزمنة، ولا يغيّر هذه الحقيقة استمرارُ الاعتراف الدولي والعربي ببعض جماعاتها، أو الدور الذي لا تزال تمارسه في حقلَي الإعلام والتفاوض، مثلما ليس من وفاءٍ يقدَّر لثورة السوريين وتضحياتهم خيراً من إجماع المعارضة على مراجعة نقدية شاملة لاستخلاص الدروس والعبر وتعميمها، بما يعيد بناء الثقة بين المجتمع والذات السياسية ويمكّنهما من خوض جولات جديدة نحو التغيير، بأقل الخسائر والآلام.
الشرق الأوسط
الشعبويون ضمن اللوحة.. في سوريا أيضاً!/ موفق نيربية
مع تكريس حالة الفشل والخيبة التي جاءت بعد دمار ودماء وتشرّد، وبعد تخلى العالم عن واجباته الإنسانية فيها، وعن جديته في المساعدة على إيجاد حل سياسي حقيقي، ازدهرت “الشعبوية” في سوريا. شعبوية ذات طَعم سوري تلقى دعماً ورعاية خارجيتين، وتلتقي مع حلم طاغٍ باستعادة طموح الثورة في عامها الأول، وتحاول تنظيم نفسها عن طريق اجتماعات ودعوات إلى مؤتمرات وطنية نسمع عنها كل يوم، وتحطيم بنى المعارضة الرسمية التي قادت إلى هذه الخيبة. شعبوية تخلط الغضب مع العدمية، والخبط خبطَ عشواء.
في الولايات المتحدة، البرازيل، فنزويلا، بوليفيا، أوروبا من أدناها إلى أقصاها، الهند وتايلند، وغيرها، تزدهر الشعبوية أيضاً بأشكال مختلفة، فتأكل من أصوات وشعبية يمين الوسط، وتكاد تنهي يسار الوسط. نحن، السوريين، جزء من هذا العالم ومن إحدى أكثر بؤره تَفجُّراً، ولهذا نبدو أجدر بالسير في ذلك الدرب والإمعان فيه.
يبدو للعيان أن شرارة تلك “النهضة” الشعبوية دولياً ترتبط بالعولمة والكساد الاقتصادي وتفاقم الفوارق الاجتماعية ومواضيع الهجرة، بعضها أو كلها، مع تنويعات أخرى أيضاً، ولهذا كله انعكاسات هنا: فهنالك “عولمة” للحرب السورية التي كانت ثورة، وهنالك فقر وبطالة وعطلة دراسية مفتوحة في بعض المناطق، وتشرّد واسع النطاق محلياً وخارجياً. هنالك أيضاً خيبة وإحباط وفشل داهم للدولة وهزيمة للنخب على ألوانها، وربما موت أو سجن، أو ارتهان وعجز ومراوحة في المكان، فمن حقنا، إذن، أن نحظى بحصتنا الوافية من الشعبوية والشعبويين.
الشعبوية ظاهرة في السياسة، مثنوية الطبيعة والمنطق، تتصور العالم ميداناً للخير أو الشر، للجمهور أو النخبة الفاسدة، للشعب أو “المؤسسة”، للمخلصين أو الخونة، للكفار أو المؤمنين، للمتخاذلين أو المقدامين الذين لا يهابون شيئاً ولا يحسبون حسابه، وأحياناً للمتفائلين والمتشائمين.
الشعبوية خصوصاً تعادي “النخبة” في كل اختصاصات تلك النخبة. “حان الوقت لتحرير الشعب الفرنسي من نخبة متغطرسة” تقول ماري لوبان. ويقول دونالد ترامب: “يريد الناس استعادة السيطرة على حياتهم وحياة عائلاتهم”، في حين قال رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان “لقد فشلت النخبة الأوروبية، ورمز ذلك الفشل هو المفوضية الأوروبية”. أساس تلك الهجمة الشاملة هو التخلص من فساد النخب وانحطاطها، وفي ذلك بعض الحق الذي لا يمكن إنكاره بتاتاً، ولكنه يقود إلى الخراب والفوضى أيضاً. لا يمكن استيعاب استمرار الاجتماع البشري من دون النخب المختصة، وهذا شكل مختلف من الأناركية يحمل شحنتها التغييرية من دون بديل. رغم ذلك، تستحق النخب الفاسدة والمستقرة على انعزالها عقوبة وصدمة تدفعها إلى تجديد وتغيير بنيتها وأساليبها.
الأمر ذو الدلالة هنا هو مركزية التعارض مع النخبة في مفهوم الشعبوية وممارستها. ولذلك سحره وجاذبيته!
ابتدأ الأمر لدينا، نحن السوريين، بالتشهير بما يُسمى “معارضة الفنادق”، في مواجهة “معارضة الخنادق”، أولئك الذين “يدفعون حياتهم يومياً ويتحملون كل مغارم الثورة”. واعتمد في مساره على التفريق ما بين “الداخل” و”الخارج”، مع طقوس تكريس وتقديس للداخل، وكذلك للشارع، وتحويلها إلى سوط يلاحق الآخرين بضرباته. وأخذت تظهر بعض الهجمات المباشرة والشرسة على “النخبة”، وتركز بصوتٍ عالٍ على التفريق بين “ثوار” و”معارضين”، وعلى الكثير الذي يجمع بين المعارضة والنظام.
وفي كل تمظهرات الشعبوية الجديدة خصوصاً، يظهر الميل القوي إلى الوقوف في وجه “المؤسسة”، وهذا واضح بشكل ممتاز في الولايات المتحدة. تقوم هذه المؤسسة- الرمز على التوافق الضمني بين الأحزاب الكبرى على قواعد اللعب، وحدود المصالح الجامعة. ليس من مؤسسة إطلاقاً في سوريا، ورغم ذلك يجتهد شعبويوها في ربط المعارضة بالنظام ولو بشكل غير مباشر أحياناً، وهم في ساعات عملهم اليومية، يشتغلون عملياً بالمعارضة، أكثر بكثير مما يشتغلون وينشغلون بالنظام.
هذا المسار وعر، أدرك ذلك. ولكن أحداً ينبغي أن يتحدث. ليس الشعبويون بخصم يمكن الحوار معه بسهولة ويسر، فلديه من الأدوات والآليات ما لا يخضع لضوابط، لا فوق الحزام ولا تحته. تتلبّسهم “المؤامراتية” ويتلّبسونها، سلاحاً فولاذياً لا يفارق اليد. حدث ذلك مثلاً عند استخدام تعبير “الواقعية السياسية” من قبل بعض السياسيين، وطبعاً لا نستطيع تبرئتهم جميعاً من روح التخاذل أو الارتهان أو غير ذلك، ولكن الهجوم على المفهوم نفسه أصبح سائداً بحيث أخذ الكثيرون يحسبونه عنواناً للخيانة أو التآمر.
للتشكيك واستسهال توزيع الاتهامات شعبية لدى الشعبويين، ولوم الخصوم المفترضين على كل ظاهرة أو على كل خسارة أداة ثابتة الاستخدام لديهم. يبدأ الأمر باللوم، ثم ينزلق بسرعة إلى التخوين والتكفير، لأن “الخيانة ليست وجهة نظر”، وبالتالي فإن وجهة النظر الأخرى “خيانة” بالطبع. يستغرب المرء الحديث مثلاً عن المعارض و”الثورجي”، ولا أعرف من قام بنحت هذه المفردة الأخيرة التي طالما كانت في المتداول تعني “من يدعي الثورية” أو لعله “منحبكجي” الثورة، لتظهر الآن وتعني “الثوري” الحقيقي المخلص المتفاني، لديهم.
والناشطون، الناشطون على طبقتين: تشتغل إحداهما كوكيل تحريك وإثارة، وتستخدم كافة أساليب التحريض، والتضخيم، والإعلام الاجتماعي حديثاً، والتصوير والتسجيل، وغرف الواتس أب، لتسويق فكرة أو سياسة، وخصوصاً للتشهير بطرف أو مجموعة. يقوم عمل هؤلاء كثيراً على إعادة تمثيل وتصوير المشاهد واستدعائها من التاريخ “الجميل” المنصرم، وهي ستبدو للناظرين بالطبع مشاهد من الكوميديا في هذه الحالة، ولكن لا فرق! وفي أزمنة الخيبة، يكون من السهل حشد بعض مجاميع الغاضبين على إهمالهم وتهميشهم، الذي تمارسه بإمعانٍ نخبة تتصدر المشهد وتتمسك بحقها في تصدره.
الطبقة الثانية تتألف من سياسيين محترفين، ونشطاء قياديين إلى هذا الحد أو ذاك. هؤلاء يقومون بتأمين الدعم اللازم من دولة صاحبة مصلحة، يتبادلون معها مصلحتهم، ويقومون أيضاً بأدلجة السياسة الشعبوية وتنظيم حزبها أو تحالفاتها، ووضع خططها. لا غضاضة أبداً في أن يتبرأ هؤلاء من أولئك أحياناً، حين يتطلب الأمر ذلك. وحين يضطر هؤلاء إلى تمرير ما لا يحبونه، ويحاولون تلغيمه كما فعل البعض حين اضطر إلى الموافقة على تأسيس “الائتلاف الوطني”، تمهيداً للعملية السياسية التي كانت ستقوم على بيان ومؤتمر جنيف الذي انعقد قبل ذلك بأربعة أشهر، ولكن مع وضع جملة في اتفاق التأسيس تقول إن الائتلاف “يلتزم بعدم الدخول بأي حوار أو مفاوضات مع النظام”، ثم قاموا بحركة احتجاج وانسحاب قوية من الائتلاف في مطلع عام ٢٠١٤، احتجاجاً على قبوله الدخول في عملية جنيف السياسية وفق “الإملاءات الخارجية” في حين كانوا، هم أنفسهم، منسجمين تماماً مع سياسة طرف إقليمي يناسبه مثل هذا الموقف أكثر، في حسابات مصالحه وصراعاته.
يذكر الشيوخ من بيننا شيئاً من هذا انتشر كالنار في الهشيم بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧، وبقيادة القادة المهزومين أنفسهم، حين تم تبني سياسة شعبوية في مؤتمر قمة الخرطوم، قائمة على اللاءات الثلاثة “لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف”، وكانت كل الشعبوية الجارفة بعدها والتي تم تحميلها على الإيديولوجيات السائدة حينها من قومية ويسارية وإسلامية، مع الذهاب بها إلى الحدود القصوى، التي خربت بيتنا لاحقاً.
رغم ذلك، لا تقوم الشعبوية السورية الحالية على فراغ، كما أخواتها في كل العالم. فهنالك إهمال وتهميش للسوريين عن لعب أي دور في مسألتهم أو عن تمثيلهم كما ينبغي، وهنالك تفسخ إلى هذا الحد أو ذاك في المعارضة الرسمية، وكذلك حالة من الحرمان والتشتت والإحباط لا مثيل لها لدى أي شعب في العالم. فلنا أن نذوق حصتنا من هذه الوليمة، ونغوص في مصيرنا حتى الثمالة، ربما!
لعلّ من أهم ما في ظاهرة الشعبوية السورية سهولة التنبؤ بردود أصحابها وسلوكهم، انطلاقاً، على الأقل، من خبرة عقودٍ مع شعبوية النظام التي تبقى، رغم استخدامها للقمع والجلد أحياناً، مسليةً قليلاً، حين لا تبعث على الملل.
المدن
في نقد الثورة/ خضر الآغا
بعد أن آل الوضع السوري إلى ما آل إليه، وقد رأى العديد من السوريين أن الثورة التي دفعوا الغالي والرخيص لأجلها- أو بعبارة أكثر دقة: لأجل غاياتها وأهدافها- قد انتهت، أو للدقة أيضًا: انتهت موجتها الأولى. كثرت المراجعات عبر مقالات، وعبر كتب صدرت، وأخرى قيد الصدور (بحسب تصريحات أصحابها)، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي… هذه المراجعات بقدر ما هي حق للسوريين، هي واجب على المعارضة، خاصة وتحديدًا المعارضة التي عملت في المؤسسات التمثيلية والتي اتخذت شرعيتها من حيث طرحت نفسها بوصفها: صوت الثورة. القاسم المشترك بين المراجعات هو البحث في أسباب عدم “نجاح” الثورة في تحقيق أهدافها، خاصة ذلك الهدف العظيم المتمثل بإسقاط النظام.
تتنوع المراجعات بين من يبحث عن الأسباب في بنية المجتمع السوري من حيث هو -كما يرى بعضهم- مجتمع ريفي، ما قبل مدني، محكوم بعقلية جبروتية، إقصائية، فاقد للبعد المدني والديمقراطي وللأفق التغييري… وأن الثورة كانت ريفية بالكامل، وهذه الثورة، بهذه الصفة، ثورة بلا أمل!
وبين من يرى أن ثقافة المجتمع السوري ثقافة محافظة تهدف إلى الإبقاء على النواظم الثقافية للمجتمع كما هي، فيما أن الثورة “الحقيقية” يجب أن تنطلق من ثقافة غير محافظة، يمكن وصفها بـ”التقدمية” مثلًا تنطوي على فهم شامل ومتجذر لكافة مفاهيم العصر من حقوق الإنسان والمرأة والمثلية والبيئة والتحول الجنسي والجندر وغيره… وبما أن ثقافة المجتمع السوري ليست متجذرة ضمن هذه المفاهيم، أو أن هذه المفاهيم غير محسومة في المجتمع السوري، أو أن هذا المجتمع مضاد لها فإن أية ثورة سورية محكوم عليها بالفشل!
هذا النوع من المراجعات، كما أرى، هو الأكثر سوءًا. من حيث أنه يقطع الطريق على أي أمل، أو أية رغبة، أو أية مبادرة للتغيير، ويعمل وفق مبدأ: يجب أن تغيروا أنفسكم قبل أن تفكروا بتغيير النظام! وهذه نظرة ثقافوية، استعلائية تنطلق من أن المجتمعات تتغير بإيعاز ثقافي، أو يجب عليها ذلك، هذا جانب. جانب آخر، فإن هذه النظرية تنطلق من نقد المجتمع بدلًا من نقد السلطة، وهذه نظرية سلطوية لطالما لجأت إليها السلطات المستبدة لتبرير استبدادها، ولخلق ديمومة لها في الحفاظ على السلطة وفي ممارسة العسف بلا توقف ضد المجتمع بوصفه مجتمعاً غير مؤهل للتغيير وللديمقراطية… المبدأ الصحيح للفكر الحر، كما أعتقد، هو الانتقال من نقد المجتمع إلى نقد السلطة. وعلى هذا فإن الفكر الكامن خلف هذا النوع من الانتقادات والمحرك لها هو فكر ليس حرًّا، فهو خاضع لنسق تاريخي شديد البأس وقد كرسته ثقافة الحداثة (في تجلياتها العربية غالبًا) عندما لم تتوقف عن إلصاق كافة التهم بالمجتمعات العربية ومجتمعات المنطقة من كونها رعاعية، همجية، متخلفة، دينية… إلى كونها حجر عثرة بوجه عجلة التاريخ التحرري! لم تتم مساءلة هذا النسق، بل لم يتم الكشف عنه أصلًا، الأمر الذي جعل صفات مجتمعات المنطقة والمجتمع السوري ثابتة، بدهية، جوهرانية!
من ضمن المراجعات العامة مراجعة ما يطلق عليه: عسكرة الثورة وأسلمتها! الرأي السائد أن العسكرة أنتجت الأسلمة، فالفصائل المسلحة غالبًا هي فصائل إسلامية، وذلك بعد ظاهرة الجيش الحر الذي لقي، إبان تشكله، قبولًا عامًا بوصفه الجيش الذي رفض الانصياع لأوامر النظام بقتل الناس السلميين. المراجعات العامة للعسكرة تفتقر إلى المعرفة الدقيقة بهذا التحول الخطير، وتقول بمجرد انخداع الثوار بالشرك الذي نصبه النظام لهم: شرك السلاح. متجاهلة العنف العسكري غير المسبوق الذي مارسه، ولم يزل، نظام البراميل، ومتجاهلة التداخل المعقد الإقليمي والدولي بهذا الشأن، وأيضًا المحلي! فمن جهة ثمة سوريون يعتقدون بعدم إمكانية إسقاط هذا النظام سلميًا بدليل عمليات الإفناء التي قادها ولم يزل بحق السوريين، وبدليل أنه كان على وشك السقوط عسكريًا ثلاث مرات وتم إنقاذه من قبل حزب الله والميليشيات، ثم إيران، ثم روسيا.
ومن جهة أخرى، ثمة دول إقليمية ودولية رأت أن مصالحها تقتضي أن يتحول الصراع إلى صراع مسلح وإلى حرب ضارية لذلك بنت إستراتيجية كبيرة لتحقيق هذا الهدف. إن الحديث عن العسكرة لا يمكن أن يكون بالبساطة التي يتم فيها. مراجعة التسلح لا تنفصل عن أول طلقة حية استخدمها نظام الهمج السوري، كما لا تنفصل عن أول تشكيل عسكري تم إنشاؤه لتنفيذ أجندات ليست وطنية. مراجعة التسلح مهمة وطنية كبيرة -شأن مراجعة الثورة بمراحلها كافة- لكن لا يمكن الحديث عنه بالبساطة والقطعية التي تحاول تلك المراجعات عمله.
وكذلك الأمر بالنسبة لأسلمة الثورة، فقد كثر الحديث عن ذلك دون النظر إلى أن أعداء الثورة هم الإسلاميون (هذه المرة كانوا شيعة)، وأن أول مجزرة ارتكبها النظام كانت طائفية، وهم أول من “ديّن” خطابهم المعادي لها… لذلك لا يمكن الحديث عن الأسلمة بمعزل عن سياقات الحرب التي شنها النظام وميليشياته وإيران وميليشياتها على الثورة وعلى بيئتها… ولا يمكن ربط الأسلمة بالمجتمع السوري انطلاقًا من أنه مجتمع مسلم، في غالبيته.
“أسلمة” الثورة كانت عملًا مخططًا ومنهجيًا ومبنيًا على إستراتيجية النظام وحلفائه، وكذلك إستراتيجية إقليمية ودولية.. ولا يمكن، بل من الإجحاف، تناول هذه الحالة كمسلمة متفق عليها!
أما المراجعات ممن كانوا، وبعضهم لم يزل، في مؤسسات المعارضة التمثيلية فهي على قلتها وندرتها وتأخرها المحزن كانت على مبدأ: لست أنا! نوع من التبرؤ والتطهر يقدمه أصحابها، بالإضافة إلى أنها تفتقر إلى التفاصيل، وإلى الإشارة إلى “الأشرار” الذين منعوا “الأخيار” من العمل المثمر… كانت مراجعات عامة حتى ليظن المرء أنها مجرد “كلام فيسبوكي”، وأنها مجرد “قيل وقال”.
قد يكون كتاب الدكتور برهان غليون “عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل- سوريا 2011 – 2012″، حتى الآن، أول كتاب يتضمن مراجعة ومكاشفة من شخص كان في صلب الحركة السورية المعارضة، وكان رئيسًا لأول تشكّل معارض ظهر على أنه صوت الثورة، وهو المجلس الوطني السوري.
الترا صوت
تفسير الثورة والثورة المضادة/ عمار ديوب
هنالك فارق بين نقد الثورة، وبين الانتماء إلى الثورة المضادة، ونقد الأخيرة لها. نقد الثورة متنوع، متعدد، وفقًا لرؤية الناقد ولمصالحه. وفكرة هذا المقال لا تنشغل بنقّاد الثورة من خارج حقلها، أي من منظور الثورة المضادة، فالمنظور الأخير لا يرى أن الثورة ضرورة، وهي -عنده- خارج سياق التاريخ، ولا يرى لها من وعي ونظرية فكرية، ويرى أن الضرورة تستدعي الإصلاحات وحسب؛ وهو هنا يتجاهل أن الثورات العربية لم تطالب بداية بإسقاط الأنظمة، بل بالإصلاح، وحينما رُفِضَ ذلك، بسبب الخيار الأمني والعسكري؛ اتجهت الثورات نحو ذلك الإسقاط، وذلك بعد أن أصبحت الثورة ظاهرة عامة، وتعمّمت في عدة مدن وبلدات وقرى.
حينما يثور الشعب، ويتدرج في مطالبه: إصلاح، ثم ثورة، فهذا يعني أن الخيارات وُضعت أمام الأنظمة، وكذلك المعارضات، لإيجاد الحل؛ ولكن فشل الطرفين لا يعني أن مسؤولية المعارضة هي ذاتها مسؤولية الأنظمة. الأخيرة هي المسؤولة الرئيسية عن إفشال الثورات، وفي إعادة السيطرة الأمنية مجدّدًا للحكم. إن المعارضات تتحمّل، من دون شك، مسؤولية كبرى، ولا سيما في سورية وليبيا واليمن، عمّا آلت إليه الأوضاع.
إن تغييب الجانب السياسي للصراع بعد 2011، وآثاره، في النقاش السوري الجديد حول الثورة، والعودة نحو خمسين سنة من قبل أو نحو شكل الوعي المتراكم لتفسيرها، هو هروب من مناقشة سياسات أطراف الصراع بعد 2011، وكذلك تغييب للدور الخارجي المؤثر فيه. الثورة عملية تاريخية ولها مراحل، وتتطور وفقًا لعناصر القوة في كلا الطرفين.
إن تأخر الثورة، وانتصار الثورة المضادة والنظام القديم، يدفع نحو تأثيم الثورة الحقيقية التي غيّرت الواقع المستقر، والتي لم تكن لتوجد، لو لم يكن لها ضرورة تاريخية. وإن الذهاب نحو الماضي أو الثقافة العامة لحظة الثورة، واعتبار أن الماضي أو الثقافة عناصر مستقلة بذاتها، وفاعلة، وأنها سبب فشل الثورة أو رجعيتها، هو تبرير للخيار الأمني والعسكري للأنظمة في مواجهة الثورات، ولا سيما في سورية وليبيا واليمن. وهنا يتبادر إلى الذهن أن يسأل: من المسؤول عن سيادة أشكال محددة من الوعي: الديني والطائفي والجهوي والإثني وسواه؟ أليس الأنظمة ذاتها!
هناك أسباب، يستعرضها بعض الكُتّاب لتفسير أسباب الثورات، وتتعلق بضعف أركان الدولة، وبالتالي أي ثورة لن تنتصر، وهذا يفتح نحو ضرورة إبقاء الأنظمة كما هي، وأن الضرورة -برأيهم- هي تغيير الوعي أو استكمال بناء أركان الدولة! الغريب في كل ذلك هو تغييب أسباب إخفاق التطور العام! ألا يدفع هذا النقاش نحو دراسة الواقع ذاته؟ فما هي أشكال السلطات الحاكمة؟ وأين تراكمت الثروة خلال عقود سيطرة تلك السلطات؟ وأي أيديولوجيا عمّمتها على المجتمع؟ وما هو وضع التعليم والثقافة، والحريات العامة والشخصية؟ حينما ينزل الوعي من تحليقاته المثالية، نحو الواقع، سيجد كل الأجوبة المستعصية، وستوضح دراسة رؤى المعارضة وبرامجها، أوجهًا من أسباب إخفاق الثورات العربية، وكذلك تعقد مسارات بعضها، ولا سيما في تونس.
الدول العربية، وأيّ دولة، لا يمكن القول إنّها لم تستكمل تشكلها، أو ليست دولة كاملة؛ ففي هذه الحالات وسواها، هناك طبقات وفئات مستفيدة من هذه الدول، وهناك ثروات متراكمة، وهي وفق شكلها المحدّد، مهما كان ذلك الشكل، تخدم شرائح أو فئات أو طبقات. لنلاحظ الدولة السورية، منذ الثمانينيات على الأقل، وكذلك الدولة الليبية أو حتى اليمنية؛ إن تفسير تشوّه الصراع الاجتماعي والثورات، والذهاب نحو الصراع الطائفي أو العشائري أو القومي أو الجهوي، لا يُفسر بالعوامل التاريخية القديمة أو الثقافة، بل بدراسة كيف بدأ الصراع واستراتيجية أطرافه، وبالتالي حينما تكون المواجهة عسكرية وأمنية، فهناك احتمال كبير أن تتسلح الثورات، حتى في المواجهة العسكرية هناك فوارق بينها، فما تمّ في اليمن مختلف عمّا تمَّ في سورية أو ليبيا، وكذلك مختلف عمّا تمَّ في مصر وتونس، وأيضًا عمّا يتم حاليًا في السودان. قصدت من كل ذلك أن نجاح الثورات أو إخفاقها لا يُفسرُ إلا بأشكال الصراع الحالي.
طبعًا، لو كانت الديمقراطية متوفرةً، أو أدنى شكل من الحريات في سورية وليبيا بالتحديد؛ لما ذهبت الثورات بهذا المنحى، ولما تمكنت الأنظمة والخارج من دفعها نحو خيارات التسلح والأسلمة، وأيضًا لم يكن سيسمح الشعب بذهابها نحو ذلك بأيِّ شكل من الأشكال.
الآن، بعد كل ما تقدم، سيكون السؤال: لماذا لم يركن الشعب المتظاهر إلى المعارضات؟ لو ناقشنا الأمر بما يخص سورية أو ليبيا، فسيكون نقاشه هدرًا للوقت. فما هي علاقة المعارضات العربية بالثورات، وأين توجد المعارضة في المدن والبلدات والقرى؟ قصدتُ من كل ذلك أن أقول إن الأنظمة وحدها المسؤولة عن خيارات الشعب في شكل التظاهر، ولا سيما في السنوات الأولى للثورات، ولكن ذلك يصبح غير دقيق، حالما يتعزز وجود المعارضة، إعلاميًا وماليًا وإغاثيًا، ومن هنا يتمُّ تحميل المعارضات مسؤولية كبرى في إفشال الثورات.
في ليبيا، تساءل القذافي: “من أنتم”! وفي سورية قيل: “إن سورية مختلفة ولن يكون فيها ثورة”، وحين تمّت، قيل إنها “مؤامرة”. وفي اليمن، تحالف علي عبد الله صالح مع الحوثي ضد الثورة. وفي مصر، استعادت الدولة العميقة دورها ممثلًا في السيسي، وهناك محاولة لزيادة دور العسكر في مؤسسات الدولة كافة، ربما تشذ تونس، ولكنها ما زالت تتعثر في ديمقراطيتها وفي شكل الاقتصاد، وفي الحريات العامة.
الرئيس السوداني، على الرغم من أنه مجرم حرب ومطلوب للعدالة الدولية، ومسؤول هو ونظامه عن أسلمة الدولة وتقسيمها وحروب متعددة في أقاليمها، رأى أن الثورة “مؤامرة خارجية”.. ربما الجزائر الخائفة من سقوط النظام، ومن توسع الثورة في المدن كافة، وقد رأت كارثة سورية، تريد أن تنجو كما تونس عبر التغييرات السياسية الحقيقية، أي تنجو من دمارٍ وقتلٍ واعتقال بمئات الألوف، ومن تدخلٍ خارجي.
أريد القول إن الثورات كانت وما تزال ضرورة تاريخية، ولا يغير من ذلك إخفاقاتها في تحقيق أهدافها في نقل المجتمع نحو الأفضل، وإن هذا الأفضل سيتحقق في المستقبل لا محالة؛ حيث لا يمكن إعادة التاريخ نحو الماضي. إذًا فلتكن قراءة الثورات من منظور السياسة والاقتصاد والعامل الاجتماعي، وإن تفسيرها من زاوية الثقافة أو الدين هو خاطئ بالجملة، فلم يكن الناس يومًا جميعهم مثقفين وقادة ثورات، ولا كلّهم على الصراط المستقيم.
جيرون
الثورة السورية في عامها التاسع: مراجعة نقدية أولية/ عبد الباسط سيدا
-1-
هل بدأت الثورة السورية في الخامس عشر من آذار/ مارس، بتظاهرة الحميدية؟ أم أنها بدأت في الثامن عشر من آذار/ مارس، في درعا، نتيجة تراكمات حالة الغضب، على إثر اعتقال الأطفال، وتعذيبهم، واقتلاع أظفارهم، وتغييب بعضهم؟
هل كانت الثورة السورية استمرارية، وحصيلة لأحداث الثمانينيات، كما سمعنا من بعض قيادات الإخوان المسلمين؟ أم أنها كانت تطويرًا للانتفاضة الكردية التي كانت في الثاني عشر من آذار/ مارس عام 2004، لتصبح ثورة على المستوى الوطني؟ وذلك كما سمعنا وقرأنا في تحليلات بعض الكرد من القائلين بالبعد الوطني للقضية الكردية في سورية.
أسئلة تُطرح مع غيرها من قبل السوريين، وهي أسئلة تبدو متعارضة متنافرة، بالنسبة إلى صاحب النظرة المحدودة التي لا تتجاوز تخوم ديار القبيلة بأسمائها المختلفة. لكن الأمور، بالنسبة إلى صاحب النظرة الوطنية الواسعة التي تشمل كل المكونات السورية وسائر أنحاء الوطن السوري، هي متداخلة ومتشابكة، شكلت بتفاعلها مقدمات لثورة مستمرة منذ ثمانية أعوام قاسية، كابد خلالها السوريون ظروفًا كارثية في سائر الميادين، وتعرضوا لحملات من القتل والتهجير والتدمير، من قبل نظام يريد أن يبقى بأيّ ثمن، نظام استقدم ميليشيات تحمل شارات وشعارات تبدو متناقضة، بينما أكدت الأحداث تكامل أدوارها واشتراكها جميعًا في مواجهة ثورة السوريين على الاستبداد والفساد، التي شارك فيها السوريون، من مختلف الأجيال والتوجهات والانتماءات الفرعية، وكانت الأهداف واضحة جلية: الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
لسنا هنا في وارد تأييد هذا الفريق أو ذاك من المتمسكين بأحقيتهم بشرف البدء بالثورة، أو التمهيد لها؛ لأننا نرى أن مقدمات كثيرة قد تضافرت في ما بينها، وتفاعلت تراكماتها حتى وصلنا إلى مرحلة كان الشعب ينتظر فيها الشرارة الأولى التي قد نختلف حول مكانها وزمانها، ولكنها -سواء أحدثت هنا أم هناك- كانت حصيلة منطقية لمقدمات أفرزتها سياسات نظام الاستبداد والفساد والإفساد، على مدى عقود.
لقد قيل الكثير حول العوامل التي أدت إلى الإخفاقات التي كانت في إطار الثورة السورية، وأسباب عدم تمكّن السوريين من بلوغ الأهداف التي ثاروا من أجلها. وهي عوامل كثيرة، بعضها داخلي سوري، وبعضها دولي إقليمي.
وسنتوقف هنا عند العوامل الداخلية تحديدًا، سواء أكانت على صعيد النظام أم على صعيد المعارضة. أما العوامل الأخرى الخارجية، فسنتركها، على أهميتها، إلى مناسبة أخرى.
لم يكن النظام مستعدًا للتنازل عن شيء من السلطات المطلقة التي سلبها من السوريين، بقوة السلاح وأحابيل أجهزة المخابرات. ولذلك كانت ردات أفعاله، منذ اليوم الأول على مطالبات السوريين بالإصلاحات، هي التهديد والوعيد، بل إنه لجأ إلى الاعتقالات، ومارس القتل، ولا سيّما في درعا، وزج الجيشَ في عمليات المواجهة مع المدنيين من السوريين الذين خرجوا بصورة غير مسبوقة، في معظم المدن والبلدات السورية، حتى بات الجيش -بحكم تركيبته السلطوية الطائفية- أداةً قمعية استُخدمت لضرب السوريين. ولعل هذا ما يميّز الوضع السوري من أوضاع الدول العربية الآخرى. ففي تونس ومصر، لم يتدخل الجيش بصورة مباشرة، واكتفى بممارسة القيادة من الخلف، إذا صح التعبير، لذلك وجدنا التغيير السريع الذي حدث في موقع رأس النظام. بينما في اليمن، انقسم الجيش عموديًا وأفقيًا، وأصبح من الصعوبة بمكان استخدامه بصورة مباشرة لقمع المتظاهرين المحتجين على حكم علي عبد الله صالح. هذا في حين أن الوضع في ليبيا تقاطع، إلى حدٍ بعيد مع الوضع العراقي في 2003، إذ تم تفكيك الجيش، وإلغاء دوره.
واليوم، نلاحظ أن دور الجيش في كل من السودان والجزائر يشبه، بهذه الصيغة أو تلك، دور الجيش الذي كان في كل من مصر وتونس.
أما في سورية، فقد اعتمد النظام -منذ اليوم الأول- سياسة الاستماتة من أجل البقاء. ومن الواضح أنه كان قد تهيأ مع حليفه وراعيه الإيراني لذلك، فاعتمد لغة التحدي والتخوين والتهديد ضد الثائرين عليه، ولجأ إلى استراتيجية اتهام الثورة بالإرهاب في أيامها الأولى.
أما الحوارات الشكلية التي دعا إليها فاروق الشرع، أو الوعود الخلبية الإيهامية الخاصة بإصلاح زائف التي أطلقتها بثينة شعبان، فقد كانت للتعمية والتضليل، وإيهام المترددين من السوريين بوجود نية جادة لدى النظام بإحداث إصلاحات حقيقية تشمل إلغاء حالة الطوارئ، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تنص على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع، إلى جانب سنّ قانون للأحزاب وآخر للإعلام. ثم تبيّن لاحقًا أن النظام كان قد اتخذ قرار المواجهة منذ اليوم الأول للثورة، بل ربما قبل اندلاعها. فقد كان يتلمّس إرهاصاتها عبر تملل الناس، وبحثهم عن المخرج.
وإذا عدنا اليوم إلى الخطاب الأخير لبشار الأسد، وذلك بعد مرور ثمانية سنوات على انطلاقة الثورة، وبعد كل الكوارث التي حلت على الشعب السوري نتيجة سياسات وممارسات النظام؛ رأينا أن توجهه لا يتقاطع -من قريب أو من بعيد- مع خطاب رجل دولة مسؤول، يعمل على توحيد السوريين، رغم كل ما حدث. بل هو خطاب تهديد ووعيد، وتشفّ مفعم بالاتهامات القدحية الحاقدة، الأمر الذي يؤكد أن النظام ما زال يتحرك -كما كان يفعل دائمًا- بعقلية عصابة تتحكم في البلد بقوة السلاح. ولا يهمه في هذا المجال، إذا كان هذا السلاح يمتلكه ويتحكم فيه الآخرون، ما دام المطلوب من جانبه هو الاستمرار، على الرغم من كل الإذلال الذي يتعرض له، من جهة روسيا وإيران.
أما من جانب المعارضة، فقد كانت تعاني، منذ اليوم الأول، صعوبات كبيرة تتمثل في عدم وجود أحزاب قوية ذات صدقية شعبية، كان من شأنها تحديد الإطار العام للثورة وقيادتها من موقع الفاعل المؤثر. فالأحزاب الموجودة كانت ضعيفة، حائرة، غير واثقة من نفسها، وتفتقر إلى الجرأة التي كان يوجبها الموقف لقيادة المتظاهرين الثائرين، ومواجهة النظام بصورة مفتوحة.
-2-
مع تأسيس المجلس الوطني السوري، في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر 2011، في نسخته الثانية، بجهود حثيثة من جانب أكاديميين معارضين مستقلين؛ تشكّلت هيئة وطنية سورية، تصدّت لمهمة قيادة الثورة، خاصة بعد التظاهرات الحاشدة التي خرجت في مختلف أنحاء البلاد، وهي ترفع شعار: “المجلس الوطني يمثلني”. وعلى الرغم من الدور اللافت الذي قام به المجلس في بدايات تأسيسه، على صعيد التحرك الدبلوماسي والظهور الإعلامي، فإنه كان منذ البداية أسير القراءة الخاطئة لمواقف المجتمع الدولي من القضية السورية. فقد كان الاعتقاد السائد هو أن التغيير سيتم بسرعة، كما حصل في كل من مصر وتونس وليبيا، وأن المسألة هي مسألة وقت، وكانت الحسابات مبنية على هذا الأساس. ولم ننتبه، ونحن جميعًا نتحمّل المسؤولية في هذا المجال، إلى ما يميز الوضع السوري من أوضاع الدول العربية الأخرى. وذلك من جهة طبيعة النظام ودور الجيش، والموقع المحوري لسورية، وأهمية سورية الحيوية، بالنسبة إلى القوى الدولية والإقليمية المتصارعة عليها.
ونتيجة للقراءة الخاطئة المعنية، تم التغاضي عن الأخطاء التي كانت تتراكم تدريجيًا، حتى أدت في نهاية المطاف إلى تحولات نوعية باتجاه الأسوأ، تمثلت في أزمات بنيوية ليس من السهل معالجتها. كما أن العسكرة العشوائية، والتدخلات الإقليمة والدولية في التمويل والتسليح، بعيدًا من إرادة المجلس الوطني السوري كمؤسسة، بل بعيدًا من معرفته، ألحقت ضررا كبيرًا بالثورة، من جميع النواحي.
من ناحية أخرى، دخلت القوى الدولية والإقليمية، بأساليب وطرق مختلفة، ومن خلال منظمات عدة على خط مجالس الإدارة المحلية، وخصصت لذلك مبالغ ضخمة، استُخدم قسم كبير منها في استقطاب الشباب من نشطاء الثورة الذين استغلوا -سياسيًا- لمصلحة أجندات لم تكن تتقاطع مع توجهات المجلس الوطني، وإنما كانت تؤدي إلى إضعافه، والحد من تأثيره. وقد تناغمت مجموعات من داخل المجلس مع تلك الجهود، لتستفيد بدورها من الامتيازات التي كانت تُعرض.
وهكذا خضع المجلس لجملة ضغوط داخلية، من جانب بعض المعارضين السوريين الذين ظلوا لأسباب عدة خارج المجلس، أو كانوا قد خرجوا منه لأسباب. كما عانى المجلس آثارَ الخلافات الداخلية ضمن صفوفه، نتيجة تباين المواقف حول كيفية التعامل مع المحاولات التي كانت تستهدف المجلس ككل، وذلك لتعبيد الطريق أمام جسم جديد، يكون بالنسبة إلى المجتمع الدولي أكثر مرونة، وأكثر استجابة لتوجيهات المتحكمين.
مع الانتقال إلى الائتلاف، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، دخلت المعارضة السورية مرحلة جديدة، اتسمت بتعاظم التدخل الإقليمي- الدولي في شؤونها الداخلية، وتحولت تدريجيًا إلى مجرد واجهة للتغطية على الجهود الدولية، والتوافقات الجزئية المتعارضة في بعض الأحيان، بين مختلف القوى الدولية والإقليمية، خاصة بعد عملية التوسعة الشهيرة التي تمت بضغط دولي محكم من جانب النواة الأساسية ضمن مجموعة دول أصدقاء الشعب السوري.
وهكذا فقدت المعارضة القدرة على اتخاذ القرارات بحكم عدم وجود مرجعية شعبية قوية، تمكّن المتصدرين للعمل السياسي من اتخاذ القرارات الصعبة، إذا ما لزم الأمر. كما أن العمل العسكري كان بعيدًا كل البعد من دائرة نفوذ المؤسسة السياسية وقرارتها، ولم تكن تحظى هذه الأخيرة بأي تمثيل قانوني دولي، يمكنها من إصدار الوثائق التي يحتاج إليها السوريون الذين كانوا يشكلون نحو نصف الشعب السوري، ويعانون الأمرين من النزوج واللجوء القسريين، سواء في الداخل الوطني أم في الجوار الإقليمي.
واستمرت الأمور هكذا، حتى بدأت مفاوضات جنيف الأولى التي استندت إلى بيان جنيف 1. ولم تتمكن المعارضة من توحيد موقفها مما كان يجري، ولم يتمكن الخطاب الشعبوي من إنجاز شيء على أرض الواقع.
استمرت الأزمة إلى حين تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات في الرياض، كانون الأول/ ديسمبر عام 2015، التي جاءت لتكون أكثر تمثيلًا لمختلف أطراف المعارضة. ولكن الخطأ الذي وقعت فيه هو أنها تجاوزت دورها. فعوضًا من أن تتصرف كهيئة تقينة وظيفية، مهمتها الدخول في المفاوضات وإدارتها، واعتماد الاستراتيجيات والدراسات الداعمة للوفد المفاوض، بغية تحقيق الحد الأدنى على الأقل من تطلعات السوريين، بما يتناسب مع التضحيات الكبرى التي قدمها الشعب السوري في مختلف الميادين، عوضًا مما تقدم، باتت توحي بأنها تمثل القيادة الفعلية للمعارضة.
وجاءت الهيئة العليا في نسختها الجديدة (تشرين الثاني/ نوفمبر 2017) التي مثلت في واقع الحال انقلابًا على الأولى بجهود سورية، ومباركة إقليمية ودولية، لتبعد الأعضاء الذين وصفهم وزير الحارجية الروسي لافروف بالمتشددين، وتضم ممثلين من جهات عدة، قيل إنها تمثل المعارضة، ولكنها في واقع الحال كانت تسير بموجب أجندات دولية إقليمية تصل إلى مواضع التعارض بينها إلى حد التناقض. وتكررت الأخطاء ذاتها من جهة التصرف، وكأن الهيئة تمثل قيادة المعارضة، بل باتت مرجعية لذاتها، الأمر الذي شتت الجهد المعارض بين جملة من الفعاليات الهشة، حتى أصبحت المعارضة الرسمية غير قادرة على اتخاذ موقف مشترك مما كان يُعرض عليها من قبل القوى الإقليمية والدولية. وهكذا شارك بعضهم في مسار أستانا، ومن ثم سوتشي. هذا في حين ظل بعضهم متمسكًا بمسار جنيف. وكان التعاون بين المشاركين في المسار، وفق الحسابات الدولية لا وفق حسابات السوريين، وكل ذلك أضعف موقف الثائرين على النظام.
وجاءت اتفاقيات خفض التصعيد، والصفقات التي كانت في مناطق عدة، بتغطية من واجهة سورية، أُعلن عنها في بعض الأحيان، أو ظلت في الغرف المغلقة بعيدة من الأعين في معظم الأحايين، حتى وصلنا إلى الوضعية الراهنة المسدودة الآفاق، بالنسبة إلى النظام والمعارضة في الوقت ذاته، هذا إذا استمرت الأمور هكذا.
فالنظام محكوم بتناقضاته الداخلية، وحالة عدم الوئام بين أجنحته المختلفة، والتنافس المعلن وغير المعلن بين الروس والإيرانيين، حول الاستئثار بالحصة الأكبر من الميراث السوري. والمعارضة الرسمية في صيغتها الحالية، عبر مؤسساتها، غير قادرة على أداء أي دور فاعل خارج نطاق ما يُسمح لها إقليميًا ودوليًا.
ولكن ما يعزز الأمل هو وجود حركة دؤوب ونقاشات بينية، بين مختلف المعارضين والقوى الشبابية على وجه التخصيص، تستهدف الوصول إلى حل لهذه الوضعية غير السوية، يُعيد توجيه البوصلة في الاتجاه الصحيح، ويضع حدًا لكل هذا العبث الكارثي الذي أنهك شعبنا على مختلف المستويات، وفي سائر الجهات.
جيرون
هل من مصطفى بوشاشي للسوريين؟/ سلام الكواكبي
كتبت قبل فترة أن المعارضة السورية تفتقد لرمزٍ مثل هوشيه مينه الفيتنامي (1890 ـ 1969)، الذي قارع المحتلين الأميركيين عسكرياً وسياسياً، واستطاع أن يجذب إليه كل الأطراف المشاركة في قتالهم. واليوم، يُقدّم الحَراك الاحتجاجي السلمي في الجزائر للعرب وللعالم دروساً عديدة في الوعي، وفي السلمية، وفي لفظ الاصطفاف الضيّق الأفق، وفي التنظيم، وفي الإصرار، وفي وضوح الموقف والابتعاد عن التذبذب، وفي أمور أخرى كثيرة تُعيد الأمل للشارع العربي بأن ربيعه مستمر، وبأن من ظنّ، عبر الثورات المضادّة والانقلابات العسكرية، والتراجع المُحبط عن الإصلاحات، بأنه استطاع دفنه، فها هو قد عاد إليه وإلينا كطائر الفينيق.
مؤكّد أن التفاؤل، وعن حق، ليس خبزاً يومياً في هذه المنطقة. في المقابل، يحق لمجموعة بشرية عانت عبر قرون من الاحتلالات والاضطهادات، ومن الفساد المؤسسي، ومن الاستبداد المتشبث بعروق حياتها وتعبيرها، يحقّ لها أن تشعر بشيء من التفاؤل الحذر، وهي ترى أمامها ملايين الجزائريات والجزائريين، وهم يجوبون شوارع مدن الجزائر، كبيرها وصغيرها. وفي الوقت نفسه، ترتفع لهجة الحذر عند سماع تصريحات بعض المسؤولين الدوليين، كوزير الخارجية الروسي لافروف عندما اختتم لقاءه مع ممثل النظام الجزائري المرفوض شعبياً، إن “روسيا قلقة من الاحتجاجات في الجزائر، وتراها محاولة لزعزعة استقرار البلاد”.
في هذا التصريح حمولة بالغة الخطورة وتستوجب الانتباه والحذر، وخصوصاً أنه من دولة كروسيا المتطلعة إلى تعزيز نفوذها سياسياً، وحتى عسكرياً، في منطقة البحر الأبيض المتوسط، لا من دولة أوروبية أثبتت مجريات الربيع العربي أنها لا “تُقدِّم ولا تؤَخّر”، إن صرّحت، أو
إن صمتت عن التصريح. كما أن هذا التصريح أتى فور انتهاء اجتماع للوزير الروسي مع وزير خارجية المؤسسة الحاكمة في الجزائر، التي يثور ضدّها الشعب سلمياً منذ الأسبوع الأخير من فبراير/ شباط الماضي.
الشعب في الشارع يُطالب بالتغيير وباحترام إرادته، وبالتخلّص من عصابات الفساد، والوزير في موسكو سائلاً دعمها. وفي هذه الخطوة مؤشّر خطير على تعنّت الحكّام أمام مطالب شعوبهم، ولجوئهم إلى الأجنبي لحماية مصالحهم.
من جهتها، فرنسا التي احتلت الجزائر عقوداً (1830 ـ 1962)، تغيب عن السمع وعن البصر في التعليق الرسمي على الملف الجزائري الملتهب. مع بعض التصريحات “الخجولة” في دعم الحراك الشعبي والدمقرطة في الجزائر، الصادرة عن بعض النواب الممثلين للأكثرية الحاكمة، عبر وسائل التواصل لا في بيانات رسمية، يُحاول الإليزيه تمرير الرسائل إلى الحراك الشعبي. ولكن هل من مستمع؟ على العكس، وعن وعي رفيع المستوى يرفض الجزائريون أي تدخلٍ في شأنهم الداخلي من دول أجنبية، ربما لا يسمح تاريخ تجربتها معهم أن تكون صاحبة قولٍ في ما يجري في جنباتهم. وعلى الرغم من أن هذه الحساسية من التدخل الخارجي ليست جديدة على الجزائريين، إلى درجةٍ أنها دفعت ببعض نخبهم في ماضٍ قريبٍ إلى رفضٍ وصل إلى حد الإدانة، التضامن مع ربيع الآخرين، بحجة وجود مثل هذا التدخل، إلا أن الرفض القائم حالياً، الذي يجري التعبير عنه في مداخلات الوجوه البارزة للحراك، كما يتم التعبير عنه بصراحةٍ وبعفويةٍ في الشعارات المكتوبة والمرفوعة في التظاهرات، هو وعيٌ عميقٌ غاب عن كثيرين ممن قادوا، أو تصدّروا الواجهة، أو أنهم استولوا على قيادة الحراك الثوري في الدول العربية التي عاشته، وخصوصاً في سورية.
غاب أيضاً عن السوريين دورٌ فاعلٌ للنخب الواعية، التي تُؤثِرُ الشأن العام على القناعات الأيديولوجية الضيقة، أو عن الأمراض النفسية التي تمخّض عنها أداءٌ سياسي، وصل إلى حدّ الكارثة في بعض المراحل. ولمراعاة الموضوعية وتجنب لطم الذات، فما عرفته الجزائر في السنوات الأخيرة من هوامش تعبير مهمةٍ في المجالات، الإعلامي والنقابي والحزبي، غاب عن السوريين طوال عقود الاستبداد، ليخرجوا من الظلمة الحالكة فوراً إلى نورٍ ساطع لبدايات مسار الحرية، فلا صحافة عرفوا مذاقها منذ 1963، ولا نقابات انضموا إليها باختيارهم، عبّرت عن تطلعاتهم وحتى مصالحهم، إنما كانت ملحقات أمنية خضعوا لها، ولابتزازها المالي والسياسي، ولا أحزاب سياسية إلا المدجّن منها في “جبهة وطنية تقدمية” صاغت انصياعهم إلى مقرّرات الفرع الأمني الحاكم.
المحامي مصطفى بوشاشي، الذي عرفته قاعات المحاكم واحداً من أشدّ المدافعين عن حقوق الإنسان، مهما اختلف هذا الإنسان في قناعاته السياسية والدينية عنه، والذي عرفه البرلمان الجزائري نائباً لفترة وجيزة، قبل أن يصدح تحت قبّته، بصوت الحق، ويستقيل احتجاجاً على تسيير أمور الدولة، يعود اليوم، وهو الذي لم يصمت البتّة، إلى واجهة التعبير الوجداني عن الأحداث. وفي حديثٍ أخير له، يُعلّق على الطلب منه أن يكون الناطق باسم الحراك قائلاً: “هذا الحراك الشعبي ليس بحاجة إلى أبوية، جيلي ناضل ولكنه فشل، أولادنا أعطونا درساً وهم واعون. ليسوا بحاجةٍ لناطق باسمهم، أو لمن يقودهم. نحن بينهم من دون ادعاء القيام بأي دور قيادي”. درسٌ يستدعي التأمل في الفهم السياسي والتواضع القيادي. فهل من مصطفى بوشاشي للسوريين؟
العربي الجديد
دكاكين عنتاب/ حسام جزماتي
كان مطعماً ناجحاً في حي يكثر فيه السوريون، واسعاً بديكور جميل. افتتحه رجل كان، في سوريا، صاحب سلسلة شهيرة من محلات الوجبات السريعة. ولأنه يملك ما يكفي من المال اشترى مطعمه الخاص في هذه المدينة من جنوب تركيا. كان عماله لا يكادون يهدؤون، بين العدد الوافر من الطاولات التي قلما تخلو وبين الطلبات الخارجية للزبائن المارين وأولئك المتصلين بالهاتف. ولذلك فوجئت بمنظره مغلقاً وقد بدأ الغبار يتراكم على واجهته التي توسطتها لافتة صفراء تعرضه للبيع (Satilik).
في العام السادس لإقامتي في عنتاب، التي تحوي 350 ألف سوري وفق أحدث إحصاء لدائرة الهجرة التركية؛ تراودني فكرة الإطلالة على الحالة السورية من بوابة دكاكين عنتاب.
من المعروف أن هذا التركيب، وباستعمال الأقواس الدالة على المجاز: «دكاكين عنتاب»، بات إشارة سلبية للنيل من عدد كبير من المنظمات السورية التي فُتحت في هذه المدينة أو اتخذتها مقراً رئيسياً. في الحقيقة ورث السوريون بين ما ورثوا من القاموس السياسي اللبناني وربما الفلسطيني، لفظة الدكاكين للتعبير عن المؤسسات الصغيرة ذات العلاقات المادية الخارجية غير المفهومة والشعارات الوطنية العريضة،مع إنتاج غير ملحوظ ورواتب مرتفعة للموظفين. بالتأكيد ظلم هذا الوصف التبخيسي الإجمالي بعض المنظمات، لكن اللاجئين السوريين جرحى ومصابون في أكثر مقومات حياتهم، ولا يملكون الصبر الكافي للتمييز في التفاصيل.
على كل حال فإن موضوع المنظمات كبير وشائك وله خبراؤه و«دكاكينه الاستشارية». أما موضوع الدكاكين الفعلية فتراوح الاهتمام به بين دوائر الترخيص التركية، وأصحاب المتاجر من أهل البلد الذين شعروا بالمنافسة، ووسائل الإعلام السورية المعارضة الباحثة عن موضوع، وأخيراً المستهلك الذي يبحث عن البضائع التي اعتادها، لاسيما مع شعوره أن إقامته هنا مؤقتة مهما طالت، مما لا يحمله على تغيير عاداته في المشتريات اليومية ونمط الطعام، وحتى في الدواء.
تختلف دكاكين السوريين الواقعية عن «دكاكينهم» السياسية والإغاثية والتعليمية والصحية في أن المتجر أو المطعم هو الرهان شبه الأخير لصاحبه، يضع فيه ما بقي وتمكن من استنقاذه من «تحويشة العمر». يفتح الدكان، ظهره إلى الجدار ووجهه إلى «البَلَم» مبحراً، مع أسرته، في رحلة خطيرة نحو بلاد غريبة. إنها ما يشبه رهان الحياة أو الموت، ما دام معظم السوريين يفضّلون الإقامة المؤقتة في تركيا، إن أتيحت الظروف لحياة كريمة، على الهجرة الدائمة إلى أوروبا حيث سيُقاد الكبار إلى مدارس اللغة وسيتيه الأولاد عن هويتهم ولن يتمكن الأهل حتى من ضربهم!!
لابد أن ينجح المشروع الفردي الشخصي إذاً، تحت أي ظرف، ففشله يعني الاقتلاع الذي لم يحدث نفسياً بشكل تام وحاسم رغم القدوم إلى تركيا. أما «المنظماتيون» فهم أقل تأثراً بإخفاق مؤسستهم التي ربما انتقلوا إلى غيرها بيسر، فضلاً عن أن قلة منهم يمكن أن يهددها الجوع أو التلكؤ في تسديد الإيجار والفواتير، وأخيراً فإن حساسية هؤلاء تجاه المنفى المتغرب أقل من توجس السوري العادي، المحافظ تعريفاً. بل ربما وجد كثير من طواقم المنظمات الفارطة في الهجرة فرصة للارتقاء التعليمي والمهني والاجتماعي والثقافي وفي مستوى من العلاقات الأقرب إلى المركز، الغربي تعريفاً كذلك.
يضع السوري العادي ما يملكه من إمكانات في الدكان إذاً؛ قسطاً كبيراً مما يملكه من مال؛ ذهب النساء؛ ما بيده من «مصلحة»؛ من يعرفه ويثق به من «صنايعية». ورغم ذلك… يفشل!
في عنتاب يصعب أن تعتاد التردد إلى مشروع سوري بسيط؛ مطعم أو مقهى أو صرّاف أو سمّان. يجب أن تدمن على مشهد الافتتاح البهيج والتمني أن يكون الدكان «آية للرزق»، ثم على صموده بقدر ما تسمح مدخرات صاحبه، وأخيراً على منظره مغلقاً وعليه إعلان العرض للإيجار أو البيع من جديد.
خلن تعرف ما الذي حصل بالضبط فهو متغير ومركب كل مرة… يفشل الناجحون سابقاً في التكيف مع بيئة عمل وتسوق جديدة؛ يرتجلون مشاريع لا علاقة لهم بها أصلاً؛ يتوهمون في أنفسهم خبرات لا يملكونها؛ يعتمدون على مدّعين سرعان ما ينكشف ضعف صلتهم بما يزعمونه من عراقة في «المعلمية»؛ يقترون في الرواتب فيهاجر من ضاق ذرعاً من العمال والأجراء؛ يختلس منهم المحاسب؛ يسرقهم تراجع الليرة التركية أمام الدولار رغم أنهم أول من يرفع السعر احترازاً؛ يختلف الشركاء على «البروظة» والمقترحات العشوائية المزاجية للإدارة ومدى الاهتمام بالعمل وتوظيف الأقارب والمحاسيب…
اختر ما شئت من الأسباب السابقة أو ادمج بينها وأضف إليها وستحصل على النتيجة المتكررة؛ الفشل!
لسنوات عديدة ظلت دائرة الهجرة التركية تكرر الرقم نفسه عن السوريين في عنتاب، لكنهم ليسوا الناس أنفسهم على الإطلاق. فقد حصدت أعوام ذروة ركوب البحر غرباً كثيراً من المقيمين السابقين وعوّضهم سوء الأوضاع في سوريا بساكنين جدد تسربوا بطرق مختلفة.
في رأيي يجدر بالمرء أن يفكر في هذه الدكاكين، وفي أصحابها المتعاقبين الذين صاروا بعيدين الآن، بينما يتأمل في أحوال «الدكاكين» السورية العامة، الكبيرة والصغيرة، بالتزامن ما جرت العادة على الدعوة إليه من «مراجعات» في كل ذكرى للثورة، ومع تصاعد النقد الذي يلقي باللوم على السوريين لأنهم لم يكونوا جسداً واحداً في تأييد ثورتهم والعمل لها بشكل تنكمش معه الأنا ويسود الإخلاص وتتقدم الخبرة!
للأسف إن ما ينقص هذه المراجعات هو أن تكون أعمق بكثير. ينقصها الاعتراف بعطب سوري متجذر ومتفش ومعنّد ومتلاعب ومعدٍ. ليس جوهرانياً كما يقول العرقيون، بل تاريخي وقابل للتغيير حكماً. لكن القول إنه تبدد لمجرد أن كثيراً من السوريين نادوا بالحرية والكرامة والعدل هو أمل تولده الرغبة أكثر مما تؤيده الوقائع.
لقد ألقت الثورة «قولاً ثقيلاً» على مسامع الجميع. ولم يعد بمقدور أحد، لا النظام وحلفاؤه ولا مَن تعبوا من حمل هذا القول، أن يمسحوه. لكن سنوات كثيرة جداً ستمر قبل أن يصبح السوريون جديرين بأن يعيشوا فعلاً في ما طمحوا إليه من مجتمع جديد في بلادهم. لو كانت الحقيقة غير ذلك لما احتاج الأمر إلى ثورة بكل هذا الثمن الباهظ والزمن الطويل، بل إلى أن يتحرك السوريون -المطلوبون نظرياً- لأسابيع قليلة فقط، فينفضوا النظام العارض عن أكتافهم ويعاودوا حياتهم «السوية» كالمعتاد.
تلفزيون سوريا
في انتظار الـ “هاشتاغ”/ ثائر الزعزوع
مرت الثورة السورية بمراحل عديدة، حتى وصلت إلى الحال التي وصلت إليها الآن، حيث بات اليأس يغلب على جمهورها، وخاصة بعد أن فقدت كل مقومات البقاء والاستمرار، وإن كان الأمر لا يخلو من فيض أمل، مبعثه أن الثورات تنتصر، طال الزمن أم قصر، وهذه حقيقة تاريخية لا ينبغي إغفالها أبدًا، وخاصة أن المسارات الثورية لا تشبه -بأي وجه- مسارات الحروب والصراعات على السلطة. طبعًا الثورة السورية، كما جميع الثورات التي سبقتها، تحولت إلى حروب، لا حرب واحدة، و بدا أنها -في شكل من أشكالها- أخذت طريق صراع على السلطة، بين طرفين أو أطراف عدة. لكن المرحلة الأكثر تميزًا وحضورًا، في مشهدية هذه الثورة المستمرة بتعثر شديد، بل قد تكون المرحلة الوحيدة الباقية في الأذهان، والتي تؤرخ لعمل ثوري سلمي حقيقي، لا تشوبه شائبة، هي مرحلة التظاهرات الأسبوعية، التي كان يوم الجمعة ميدانها المفضل، لا لأسباب دينية، كما ذهب بعض المفسرين، كالشاعر السوري أدونيس مثالًا، ولكن السبب -باعتقادي- كان اقتصاديًا، فيوم الجمعة هو يوم عطلة، وهو لا يسبب تعطلًا للمصالح والأشغال، سواء العامة أم الخاصة، ويمكن إضافة صلاة الجمعة التي توفر ملتقًى للناس، حيث تشكل المساجد منطلقًا للخروج في تظاهرة، يخطط لها في أغلب الأحيان ناشطون مدنيون، بعضهم لا يشارك في الصلاة أصلًا. يحدث الأمر نفسه حاليًا في فرنسا من خلال تظاهرات أصحاب السترات الصفراء الذين اختاروا يوم السبت يومًا لتظاهراتهم، وهم لا يخرجون من الكنائس، طبعًا.
اللافت في تلك الجمع هو أنها كانت تحمل تسميات متنوعة، بدءًا بـ “جمعة الكرامة” التي تعبّر فعليًا عن المطلب الأساس للثورة السورية، الكرامة، مرورًا بأسماء متنوعة ومختلفة: (آزادي، صالح العلي، الحماية الدولية مطلبنا)، إلى ما هنالك من مسميات، كانت تقدمها جاهزة إحدى الصفحات على (فيسبوك)، وما زال موضوع تسمية أيام الجمع خفيًا على الكثيرين وأنا منهم، إذ كيف يحدث أن يتم الاتفاق على التسمية؟ ومن هي المجموعة التي كانت تتولى هذا الأمر؟ طبعًا من دون أن ننساق وراء دعاية النظام عن وجود “مؤامرة كونية” وغرف سوداء يقودها الموساد وسواها، وخطة بندر السرية، وما إلى هنالك من قصصٍ جميعها تصبّ في تخوين ملايين السوريين. ولكن، وقد انقضت ثماني سنوات، لا بد أن نقف ونتساءل، لعلّنا -إن أردنا إكمال الطريق- نتجنب الانجرار والتبعية، ونكون نحن من يقرر الشكل الذي يجب أن تدار به الأمور.
كانت بعض التسميات عامة تعبّر عن روح الثورة، كـ “جمعة التحدي”، “الخلاص”، وسواها، لكن بعض التسميات بدا وكأنها حُشرت حشرًا، كـ “جمعة الحماية الدولية” مثلًا، وهذه برأيي تشكل حدًا فاصلًا بين الثورة الشعبية ضد النظام والاستبداد، وبين فتح الأبواب على مصاريعها لكافة الاحتمالات. ولكن هل شارك الجميع في الوصول إلى هذه التسمية؟ وهل كانت جمعة من “سلّح غازيًا فقد غزا”، مثلًا، تحمل بُعد العمل الثوري السوري؟! ومرة أخرى، من دون أن ننساق وراء اتهامات وقصص مؤامراتية. إلا أن الشعب السوري الذي اكتشف، مع بداية الثورة، قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على الانتشار ومقاومة الحواجز، تفاجأ بأن نظام دمشق -على عكس باقي أنظمة المنطقة التي قامت بحجب وسائل التواصل الاجتماعي- هو من سمح بموقع (فيسبوك) مثلًا، ولكنه على الهامش أسس جيشًا إلكترونيًا مهتمه الأساسية التشويش على الصفحات الثورية، وخلق آلاف الحسابات الوهمية، التي اكتشفنا لاحقًا أن بعضها ساهم -بشكل أو بآخر- في حرف مسار الثورة، و”شيطنتها”، من خلال تسميتها “ثورة السنّة على العلويين”، أو على “النصيرية”. نعم هذا حدث فعلًا، وقد استندت وسائل إعلام النظام إلى صفحات بعينها، لتعزز روايتها عن الفتنة الطائفية، وعرضت تقارير خاصة مستندة إلى تلك الصفحات.
سألتُ أحد ناشطي الحراك الثوري السلمي في دمشق: هل كانوا هم من أطلق بعض التسميات على بعض أيام الجمع. فأكد ما كنتُ أعرفه، أنهم فوجئوا بالكثير من التسميات. وربما أشار بإصبع اتهام تجاه جماعة “الإخوان المسلمين السورية”، وهو اتهام، على معقوليته، يخلو من دليل مادي. وربما لن يتوفر دليل مادي على الإطلاق، طالما أن صفحة (فيسبوك) يمكن إغلاقها والتبرؤ منها بخطوتين فقط، بل يمكن اختراقها بسهولة.
في مرحلة لاحقة، ظهر ما يُعرف بـ “الهاشتاغ”، وهو تخصيص جملة أو مفردة ما، لتصير متداولة على نطاق واسع، وقد رأينا آلاف الهاشتاغات، خلال السنوات الماضية: (أنقذوا الغوطة، حلب تحترق، دير الزور جائعة، دوما تباد، الرقة تذبح بصمت..) وقد حققت بعض الهاشتاغات انتشارًا أكبر من سواها، طبعًا مرة أخرى لم ولن نعلم من يقف وراء اعتماد تسمية ما، أو مفردة ما لتصير هاشتاغًا، ويتم تداولها. وصلني، مثلًا، منذ مدة هاشتاغ يطلب مني الصديق الذي أرسله، في صيغة أقرب إلى أمر عمليات، أن أعتمده، دون أن يعرف هو ولا أنا طبعًا مَن الذي قرّر أن نتداول هذه الجملة، التي سوف ترسم، على بساطتها، توجه رأي عام مدة يومين أو ثلاثة أيام… وسوف نعتبر أنفسنا منتصرين، إن تصدر الهاشتاغ المواقع مدة ساعتين، وإن تحدثت عنه إحدى القنوات التلفزيونية في برامجها.
من يقودنا إلكترونيًا حقًا؟ من هو القادر على توجيه الرأي العام بهذه الطريقة الغريبة والسريعة؟ وهل حقًا أننا ننساق بفعل غريزي، لتبادل جمل وعبارات، لو فكرنا في بعضها قليلًا؛ لما قمنا بتداولها.
هذه أسئلة أطرحها على نفسي، كل يوم تقريبًا، ولا أصل إلى إجابة شافية. لكنني -شخصيًا- ابتكرت هاشتاغًا خاصًا بي، منذ ثلاث سنوات أو أكثر، أجد أنه يعبّر أكثر عن حالتنا.
مبادرات أم بالونات؟/ حذام زهور عدي
فرزت القضية السورية ظواهر بقدر تعقيداتها، ويُقصد” بالقضية السورية” كمصطلح، الثورة، وردود الفعل عليها، نظاماً، ومداخلاتٍ إقليمية ومواقف دولية، وهيئات أممية، وكان التشريد والتهجير والتبديل الديموغرافي من أهم تلك الظواهر التي استعارتها أسرة حاكمة من القرون الأولى للحياة البشرية لتثبت نفسها فوق كرسي الحكم، وتم ذلك تحت بصر قوى الديموقراطية العالمية وسمعها، مع امتلاكها لآليات ما بعد الحداثة في رصد كل صغيرة وكبيرة في الكرة الأرضية قاطبة، ومع أسبابٍ ذاتية متعددة، استطاع العالم أن يسلب الشعب – صاحب الحق – حقوقه القانونية والإنسانية في حياة الكرامة والحرية التي حلم بها وثار من أجلها واحتمل الكوارث والمآسي لتحقيقها، مستهزئاً استهزاء الموجوع حتى العظم من كل مايجري، سواء من أولئك الذين يحتفلون بالانتصار على أنهر الدماء والأحقاد التي تمتعوا بالسباحة بها، أو أولئك الذين أقبل بعضهم على بعض يتلاومون فيما جنت محدودية رؤاهم..
من تلك اللوحة السوداء بدأت ظواهر جديدة تنتشر محاولة رسم بقع بيضاء حولها، تحت شعارات: إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو ثورة حتى النصر، أو التمهيد للحلول المستقبلية أو……
بمعنى طرح عناوين مثل “مبادرات” تلحق بها صفات: وطنية، ديموقراطية…مؤتمرات…تجمعات…إعلان دستوري توافقي..، هيئات..جامعة مانعة…الخ…
وبقدر ما يلفت النظر عودة صفة الديموقراطية وتعميمها، على معظم تلك التجمعات، بعد أن خفت صوتها لصالح شعارات دينية ” تعتبرها بضعة من تشكيلات سلفية بدعة غربية ” بقدر ما كان القلق من التوظيف الشكلي لها وتمييع مضمونها على طريقة النظام الأسدي وجبهته التقدمية..وارداً..
تراكم من المبادرات تحمل معظمها دعوة إلى التجمع والتوحد والخروج من التشرذم الذي كان من أهم الأسباب الذاتية للخسران
فيما يُطرح اليوم، ضمن تحرك الناشطين والثوريين، تراكم من المبادرات تحمل معظمها دعوة إلى التجمع والتوحد والخروج من التشرذم الذي كان من أهم الأسباب الذاتية للخسران، وأيضاً بقدر ضرورة تلك الدعوة وراهنيتها، تتعدد التجمعات والمؤتمرات من أجلها، كلٌ يتمترس خلف تجمعه، منادياً الآخرين الالتحاق به، ويتحول التجاذب والاختلاف “الشخصي غالباً” إلى خلاف يصعبُ ردمه…ويتساءل منتظرو الإنقاذ..لماذا؟…لماذا؟..
من بين ركام تلك المحاولات والمبادرات تبرز ثلاث:
أولاها: مقترحات توافقية لإعلان دستوري أعدَ من قبل مركز الدراسات السوري وذُيل باسم المحامي المعروف “أنور البني” وقد فُصلت فيه مواد متعددة لنظام الحكم المقترح على أن يُصاغ الدستور النهائي بعد المرحلة الانتقالية…
والثانية: جاءت تحت اسم “المبادرة الوطنية السورية”في سبع صفحات، تحوي على مقدمة موسعة، ثم مقترح لنقاط انطلاق للحل السياسي،، ثم مقترح لميثاق تحت اسم الوطن والمواطن، تصدر الأسماء اسم الدكتور عارف دليلة تلاه اللواء الركن محمد الحاج علي وتبعه الدكتور هيثم مناع، ثم عدد من ناشطي الثورة ومن الذين رافقوها كقيادات سياسية أو عسكرية،
أما الثالثة: فكانت تحت عنوان الحوار السني- العلوي، مع ذكر بعض الأسماء التي وصفت بأنها تمثل السنة، بينما أغفلت الأسماء الأخرى..وقد قدَمت نفسها إعلامياً وفق مانشر الإعلامي إبراهيم حميدي في “الشرق الأوسط” بأحد عشر بنداً تنطلق من ثلاث أفكار أساسية : – محاولة إيجاد توافق طائفي كطريق لمصالحة وطنية،…- التحضير لهذه المبادرة استمر سنتين بشكل سري ولكنه لم يكن بعيداً عن المعرفة الدولية به بما فيها النظام الأسدي نفسه،..- الابتعاد عن الحديث حول النظام السوري الأسدي ورئيسه، سلباً أو إيجاباً…وقد رأى أصحابها أن الأوان قد آن للإعلان عنها من خلال مؤتمر محدود عقدوه في برلين !
وبصرف النظر عن التفاوت في هذه المبادرات وفق المنطق الثوري أو السياسي المعارض أو الرمادي أو علاقة النظام الأسدي أو الدولي بها، فإن أية مبادرة من أجل إيجاد حلٍ سلمي حقيقي ذي مصداقية وقابل لإحلال الاستقرار يفتح طريق التنمية وإعادة الإعمار وبالتالي عودة المهجرين والإفراج التام عن المعتقلين والمخفيين قسرياً وإيجاد حلول للمظالم التي عانى السوريون منها، لايمكن بل من المستحيل نجاحها مالم ترتكز بشكل واضح لا لبس فيه على إنهاء حكم الأسرة الأسدية التي أوصلت الوطن السوري إلى الإنهيار المريع…
والأسئلة التي تطرح نفسها بالحوار مع المبادرات المعلنة، سواء ماذكر منها أو مالم يُذكر:
لمن تُوجه تلك المبادرات؟؟
هل توجه للشعب السوري ؟ أم للنظام الأسدي؟ أم لدول الاحتلال التي تتنافس على قضم سورية كلٌ وفق مصالحه ؟أم لأوروبا ذات النفوذ الأقل والثمن الأكبر من خلال المهاجرين واللجوء الذي بات عبئاً سياسياً أكثر منه اقتصادياً ؟
فإن كان التوجه للأسرة المسيطرة ونظامها فإن تلك المبادرات لاتعني لهم شيئاً بما فيها الأخيرة التي أرادوا أن تكون بديلاً عن المفاوضات المقررة تحت إشراف أممي، يلغون من خلالها القرارات الأممية السابقة جميعاً بل بما فيها أستانة وسوتشي وفيينا وجنيف ….الخ.. ولو كان النظام يريد حلاً ما ،كان بإمكانه قبل الكوارث التي جلبها للسوريين والوطن أن يقبل ما قررته الندوة أو المؤتمر الذي جرى بإشراف فاروق الشرع نائب رئيس الدولة…أو بالمقترحات الإصلاحية التي حاول من هم قريبون منه أن يُقنعوه بها، أو…على الأقل بالرغبة بمفاوضات جادة تستند إلى قرارات أممية …الخ.. ومن يفكر أن النظام الأسدي يمكن أن يقدم حالة حتى شبيهة بما كان عليه قبل الثورة فإنه يسبح في بحور من الأوهام …ولذا لايفكرَن أحد بأنه إذا قدَم تنازلات بشأن موضوع النظام كبادرة حل سيتقبل الأسد الحوار حولها، فالنظام يستجلب تنازلاً إثر آخر دون أن يفتح أي باب حتى للتفاوض،
وإن كانت موجهة للدول ذات المصالح، فإنها قد تُشجعها لكسب الوقت، أو لنفاذ مصالحها من خلالها، ولو أرادت تلك الدول حلاً سلمياً حقيقياً لأجبرت من بيده الأمر عبر البند السابع أو بغيره كما فعلت بأحوال أخرى ولجنبت السوريين تلك المقتلة المريعة …
أما إذا كانت موجهة للشعب السوري…فما صدر سابقاً سواء في وثيقة مؤتمر القاهرة الأول، أوفي الدراسة البحثية الشاملة التي صدرت عن المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية ـ واشنطن في إطار أعمال بيت الخبرة السورية ، وتحت عنوان : خطة التحول الديمقراطي في سوريا في عام 2013. وفي ذلك ما يفيد، وقد لايحتاج الأمر أكثر من بعض التفصيل والتوضيح ليتناسب مع المعطيات الواقعية المستجدة، بل في قرارات جنيف وبخاصة ما صدر عن مجلس الأمن من التنازلات ماهو أكثر من كاف لضمان حل سلمي مقبول للضرورة..
بالتأكيد نستبعد الشك بالإخوة الذين يعملون جاهدين لتقديم مقترحات نتيجة الوضع المأساوي البالغ الصعوبة الذي يعيشه الشعب السوري، لكن ذلك يتطلب عقلاً بارداً يميز بين ماهو قابل ليوصف بأنه حل ذو مصداقية، وبين حلٍ يُضمر الزغل وقد يولد انفجارات أكثر سوءاً وحالة من الفوضى المعممة كما هي اليوم!….
حتى يبتعد الناشطون عن المبادرات الملغومة والتي هي أشبه ببالونات اختبار، تستدرج الاستسلام لمنطق الحرب الطائفية وصيغة لاغالب ولامغلوب، وتتهرب من الكلام الصريح حول جرائم النظام وداعميه والموقف من استمرار النظام بوجوهه المعروفة وفلسفة الفصل بين النظام ورئيسه وبين الدولة والسلطة وعدم رؤية الوقائع السورية بدءاً من “أنا الرئيس وأنا الدولة والوطن أنا سورية بكل مافيها”.
وحتى يبتعدوا عن كل ذلك، يُفترض أن :
يكون الخطاب موجها للشعب السوري فقط…
– أن يستفيد من التراكم الذي قدمته مؤتمرات سابقة ولا يبدأ من الصفر، ففي ذلك ليس فرصة راحة للأعداء فقط، وإنما ضياع جهد ووقت قد يكون السوريون بأمس الحاجة له، وتكرار غير مفيد.!..
– التركيز على أهداف الثورة دون أي تنازل، وبخاصة فيما يتعلق باستمرار بقاء الأسرة الحاكمة ومن حولها.
ليس هناك أي مبرر لتقديم تنازلات مجانية في كتابات من يتصدى للعمل السياسي اليوم، ذلك لأن أي تنازل يمكن أن يقدم من خلال مفاوضات جادة، وعلى النشطاء المدنيين تصليب موقف المفاوض لا أن يفاوض عنه، ليستطيع المفاوض الاستناد إلى جدار صلب يحمي ظهره ويبعده عن اتهامه بما لايرضى!.
ولاشك أن الأبحاث ودراسة المعطيات الواقعية، اقتصاداً واجتماعاً وكل ما استجد في أوضاع الناس ومعاشهم، من الضرورة التي لا يمكن من دونها تقديم أي مشروع أو عمل ميداني سليم حتى في الإعلان الدستوري أوأعمال الإغاثة أو الأعمال الصحية….
الثورة السورية لاتحتاج إلى زبد الكلام المنمق، إنما تحتاج إلى ماينفع الناس ويمكث في الأرض، وتلك هي المعضلة التي على شباب الثورة حلها……