في سر نجاح الحراك الجزائري/ راتب شعبو
شكل الحراك الجزائري، حتى الآن، قصة نجاح غير مسبوقة في الثورات العربية المجاورة أو البعيدة. ضغط الشارع السلمي يجبر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على سحب ترشيحه لولاية خامسة. الشارع يرى في هذا القرار مناورةً قد تفضي إلى ما هو أسوأ من الإبقاء على الترشيح، عن طريق تعطيل الانتخابات الرئاسية وتمديد الولاية الرابعة إلى أجل غير محدود. المظاهرات تتصاعد، على العكس مما توقع أهل القصر، بوتفليقة يقدّم استقالته مكرهاً قبل نهاية مدته الرئاسية في 28 أبريل/ نيسان الجاري، بعد كلمة صارمة من رئيس الأركان، أحمد قايد صالح.
افترقت الحركة الجزائرية عن أمثالها العربيات بأنها انطلقت وراء شعار واحد، “لا للعهدة الخامسة”. ميزة هذا الشعار أنه محدّد وعملي، أي لا يحتاج تطبيقه إلى أكثر من سحب ترشيح بوتفليقة، وهو، إلى ذلك شعار مفهوم، وله مقبولية كبيرة في الشارع، لأن الرئيس غير قادر صحياً وبدنياً منذ سنوات، وعاجز عن مخاطبة شعبه. وقد سبق أن شهد ترشيحه للولاية الرابعة، وكان مقعداً حينها، اعتراضاتٍ شعبية غير قليلة، فمن المفهوم إذن أن يثير ترشيحه لولاية خامسة هذا الرفض الواسع. بساطة هذا الشعار وعمليته أطلقت عمليتين أو آليتين لهما الاتجاه نفسه، الأولى اشتغلت على مستوى زيادة التعبئة الشعبية واتساع الحركة أفقياً، والثانية على مستوى إيجاد خط انقسام في دائرة الحكم الضيقة، وبالتحديد بين مؤسستي الجيش والرئاسة.
كان لافتاً المستوى “الحضاري” الذي تعاملت به السلطات الجزائرية مع المتظاهرين. سبعة
أسابيع من الاحتجاجات وتحقيق مطلب مهم كاستقالة الرئيس، من دون إراقة قطرة دم واحدة. “بساطة” المطلب، أو جزئيته، ساهمت في “هدوء أعصاب” أجهزة الأمن الجزائرية، لكن العامل الأهم الذي ساهم في شل عنف السلطات ضد المتظاهرين قدرة الشعار على زرع انقسام في السلطة، وتأثيره التفكيكي على صانعي القرار الرئيسيين، وهما دائرة الرئيس الذي سبق أن انتزع جهاز المخابرات وألحقه به في عام 2015، والجيش الذي يحافظ في الجزائر على كيانيةٍ له مستقلة عن القصر، لم يتمكّن بوتفليقة من إلحاقها به، على الرغم من أنه سار شوطاً على هذا الطريق. من الخطوات الواسعة على هذا الطريق كان فصل جهاز المخابرات عن وزارة الدفاع، وإلحاقه بالقصر، الأمر الذي أنهته وزارة الدفاع، بعد استقالة بوتفليقة، من خلال عزل مدير المخابرات، اللواء عثمان طرطاق، الحليف لبوتفليقة، وإعادة جهاز المخابرات إلى وضعه الطبيعي هيئة تابعة لوزارة الدفاع. ومن الخطوات أيضاً المحاولة الفاشلة لعزل رئيس الأركان الذي هدم الجسر مع مؤسسة رئاسة بوتفليقة، حين وصف محيط الرئيس بالعصابة.
جاء تراجع بوتفليقة عن الترشيح لولاية خامسة، بعد أن كانت المظاهرات قد اكتسبت زخماً، أي أن التراجع عن الترشيح جاء نصراً يغذّي الشارع الذي لم يرض من قبل بمناورة بوتفليقة، من خلال الوعد الذي قطعه على نفسه بأن لا يبقى في العهدة الخامسة أكثر من سنة، يجري فيها إصلاحات ضرورية، ثم يعلن انتخاباتٍ رئاسية مبكرة. لنا أن نرجّح أن الشارع كان سيخسر زخمه، لو سحب بوتفليقة ترشيحه مع بداية الاحتجاجات، بدلاً من استعراض الشعبية وإرسال الشاحنات إلى مركز استلام الترشيحات، محملةً بأكداس أوراقٍ عليها ملايين التواقيع التي ترشح بوتفليقة. هذا ما يعيد التأكيد على أن في جينات السلطة المستبدة ما يقودها إلى ما يشبه العمى التاريخي، واختيار النهايات السيئة والمهينة.
لم يرض المتظاهرون بعد ذلك بسحب الترشيح، واستمروا بالضغط، حتى فازوا بالاستقالة الكاملة للرئيس في الثاني من شهر إبريل/ نيسان الحالي. والمرجّح أن يستمر الشارع في
الضغط، وفي تصعيد المطالب، كما شهد يوم الجمعة الأول بعد الاستقالة، وكما نرى من مطالب للمتظاهرين بعزل من يسمونهم “الباءات الثلاث”: عبدالقادر بن صالح (رجل بوتفليقة ورئيس مجلس الأمة منذ 16 عاماً) والطيب بلعيز (مقرب من بوتفليقة ورئيس المجلس الدستوري) ونور الدين بدوي (وزير الداخلية الوفي لبوتفليقة الذي عينه رئيساً للوزراء في غضون الحراك)، وسوف تكون للشارع الجزائري مطالب أخرى، مشتقة جميعاً من تطلع الحراك إلى الخلاص من “النظام”.
من عوامل نجاح الحركة الجزائرية، حتى الآن، الحفاظ على الطابع الشعبي السلمي، متعدد الأطياف، والابتعاد عن الأحزاب السياسية، لكن العامل الحاسم في نجاح الحركة الجزائرية، في الواقع، وجود كيانية مستقلة للجيش الجزائري، تعطيه هامشاً للتدخل بين الشارع والقصر، كما حصل حتى الآن في الجزائر. تكرارنا تعبير “حتى الآن” يعني أن هذا الوئام بين الشعب والجيش في الجزائر لن يستمر طويلاً، وأن الجيش الذي يتخلى عن بوتفليقة اليوم هو الجيش الذي سوف يحمي النظام، أي إن التخوّف من المسار المصري له من الأسس ما يبرّره. ونقول “حتى الآن” أيضاً لأن نقطة القوة في الحراك اليوم، وهي، كما سبقت الإشارة، شعبيته وابتعاده عن الأحزاب السياسية وغياب القيادة فيه، سوف تتحول لاحقاً إلى نقطة ضعف، إذا بلغت الحركة حداً يتطلب منها الدخول في حوار وفرض شروط على “النظام”، أو تقديم البديل السياسي والقيادي. على هذا، فإن مأزقاً شبيهاً بمأزق السترات الصفراء في فرنسا ينتظر الحركة الجزائرية. حينها سوف تلعب الذاكرة الجزائرية، المسكونة بإرهاب العشرية السوداء، دوراً مضاداً للشارع الجزائري، وسوف يجد الجيش الذي يحمي اليوم الحراك لحماية الأمة أن واجبه في “حماية الأمة” يقتضي منه سحق هذا الحراك.
في لحظة ممكنةٍ ومتوقعة كهذه، وعند مفصلٍ حساس كهذا، قد تدخل الجزائر نفقاً أسود آخر، ويكون بوتفليقة قد أخرج الجزائر من النفق، كي يتسبّب في إعادتها إليه بعد عقدين. سوف يصعب تفادي خطر الانزلاق في صراع مسلح بعد حراك سلمي (على النموذج السوري)، أو خطر سحق الحراك بقوة الجيش، وتحت أعين جزائرية راضية أو متغاضية (على النموذج المصري في ميدان رابعة العدوية)، ما لم يجتهد الحراك الجزائري في تحديد مطالب عملية متناسبة مع مستوى تطور الحركة، وما لم يعمل على بلورة هيئة قيادية موثوقة من الحراك، وقادرة أن تتكلم باسمه، وأن تترجم الضغط الشعبي إلى قوة مطلبية سياسية، من دون الدخول مع النظام الجزائري في صراع وجودي، من شأنه أن يتحوّل إلى صراع عدمي، وأن يفجر المجتمع الجزائري مجدّداً، وأن يحقن بالتالي النظام القديم نفسه بأسباب حياةٍ إضافية.
العربي الجديد