سياسة

في التنازع على إسطنبول/ بكر صدقي

مضى على انتهاء الانتخابات المحلية في تركيا عشرة أيام، ولم يحسم بعد، رسمياً، من سيحتل رئاسة بلدية إسطنبول ذات الخمسة عشر مليوناً من السكان، على رغم أن النتائج غير النهائية قد أشارت إلى فوز مرشح المعارضة العلمانية أكرم إمام أوغلو بفارق ضئيل على منافسه بن علي يلدرم.

منذ ذلك الحين انشغل الرأي العام في تركيا بحسم التنازع الذي ظهر بعد اعتراض حزب العدالة والتنمية الحاكم على النتائج المعلنة بدعوى وجود شوائب في صحتها ونزاهة العملية الانتخابية. المرشح الخاسر، وفقاً للنتائج غير الرسمية، بن علي يلدرم هو الأقل ضجيجاً بشأن النزاع، فلم يدل بتصريحات تعبر عن تعرضه لظلم أو تشكيكه بالنتائج. أما الإعلام الموالي فهو الذي يقود معركة استعادة بلدية إسطنبول، بعد ربع قرن من سيطرته عليها، فيما يشبه حرباً نفسية هدفها تغيير النتائج. وقد وصل الأمر برئيس تحرير صحيفة يني شفق الموالية إبراهيم قره غول أن وصف الانتخابات البلدية بأنها «انقلاب» من خلال صناديق الاقتراع يستهدف مكانة تركيا وأمنها القومي، مثله في ذلك مثل «انقلاب» انتفاضة غزي (2013) و«انقلاب» حملة جماعة فتح الله غولن على الفساد الحكومي (2013 ـ 2014) والانقلاب العسكري الفاشل في تموز 2016. وهذه أول مرة تتهم فيها صناديق الاقتراع بدور انقلابي، بعدما كانت حصن «إرادة الأمة» في خطاب العدالة والتنمية.

فمن بين أسس الشرعية تمسك الحزب الحاكم دائماً بصناديق الاقتراع بوصفها أساساً لمفهومه للديمقراطية التمثيلية، وهي التي لم تخذله يوماً في جميع الاقتراعات التي تمت طوال ربع قرن مضى (حسبان استلامه لبلديتي إسطنبول وأنقرة قبل صعوده إلى السلطة السياسية منذ 2002). يشير الكاتب إبراهيم كيراس، بحق، إلى أن الحزب (وأردوغان) قد استخدما، دائماً، خطاباً ذا وجه معارض أيضاً، طوال سنوات حكمهما، بالنظر إلى تعدد مراكز القوة في الدولة. فقد أمضى الحزب جل سنوات حكمه في الصراع ضد وصايات المؤسسة العسكرية، والمؤسسة القضائية، وأصحاب رؤوس الأموال، ومعها كل مرتكزات «النظام القديم». فكان خطابه معارضاً وصراعياً إلى أن تخلص منها جميعاً، وأمسك بجميع مفاصل الدولة، فأخضع المؤسسة العسكرية وقلم أظافر المحاكم العليا، جنباً إلى جنب صراعه مع المعارضة ذات القاعدة الاجتماعية الصلبة، وصولاً إلى تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي يكون فيه الرئيس حزبياً، ويشكل مجلس وزراء برئاسته غير منبثق من الأكثرية في مجلس النواب، ولا يخضع للمساءلة منه. وكان مصدر شرعيته في ذلك هو صناديق الاقتراع التي تعكس، برأيه، إرادة الأمة.

مضى الآن عامان على إقرار النظام الرئاسي، وقرابة العام على انتخاب أردوغان رئيساً بصلاحيات موسعة، فلم يبق أمام السلطة ما تعارضه من مراكز قوة. المفارقة أن عدم قبول الحزب الحاكم وبيئته الموالية نتائج الانتخابات المحلية، بدعوى شوائب في صحتها، هو، برأي كيراس، تدمير للأساس الوحيد والأخير لشرعية السلطة. وفي عمليات التصويت السابقة، من انتخابات عامة أو محلية أو رئاسية أو استفتاءات عامة، كانت أحزاب المعارضة هي التي تشكك في نتائج الانتخابات من موقع الطرف الضعيف الذي لم يحصل على ما أراده من الصناديق. أما الآن فهي المرة الأولى التي تنقلب فيها الأدوار وتأخذ السلطة موقع الضعيف المظلوم.

يفسر بكير آغردر، مدير مؤسسة كوندا لاستطلاعات الرأي أن نتائج الانتخابات المحلية أظهرت أن كتلة لا يستهان بها من ناخبي العدالة والتنمية أو تحالف السلطة قد استنكف عن المشاركة في التصويت كموقف سياسي سلبي من السياسات الحكومية، وبصورة خاصة بسبب الوضع الاقتصادي. لكن الكتلة المذكورة لم تغير اصطفافها فتصوت لمرشحي المعارضة، لأنها لا تثق بهم أيضاً، فكانت المقاطعة الصامتة رسالة عدم رضى وجهها للسلطة.

ولعب تكتيك حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) بالتصويت لمرشحي المعارضة في المدن الغربية، دوراً مرجحاً في فوزهم في كل من إسطنبول وأنقرة وأضنة ومرسين وأنطاليا وإزمير. وهكذا يرتسم المشهد السياسي الجديد في تركيا، على ضوء انتخابات 31 آذار/مارس المحلية، بانقسامه إلى ثلاث كتل رئيسية من الناخبين، لا يمكن حكم تركيا بمعزل عن أخذها بنظر الاعتبار، وفقاً لتحليل آغردر. الأولى، وهي الأكبر، تتشكل من البيئة المحافظة التي تصوت عموماً للعدالة والتنمية، تجمع بين مستويين منخفضين نسبياً في التعليم والدخل، وتقع جغرافياً في وسط الأناضول وشماله. الكتلة الثانية تقع في الغرب وعلى طول ساحل المتوسط، بمستوى أعلى من الدخل والتعليم، مع نمط حياة حديث وقيم اجتماعية حديثة، تصوت للمعارضة، والعلمانية منها بصورة خاصة. الكتلة الثالثة هي الكتلة الكردية في جنوب شرقي الأناضول وبعض الحواضر الكبرى في الغرب، تضاف لديها المطالب الثقافية ـ اللغوية إلى المطالب الاجتماعية المتعلقة بمستوى الدخل والتهميش الذي تتعرض له من قبل الدولة.

ويرى كثير من المحللين في الإعلام التركي أن انتكاسة السلطة في 31 آذار هي تكرار لانتكاستها في انتخابات حزيران 2015 التي فقد فيها «العدالة والتنمية» الأكثرية المطلقة في مجلس النواب، للمرة الأولى منذ صعوده إلى الحكم في العام 2002. بل هي انتكاسة أكبر من تلك المذكورة بالنظر إلى أنه خاض الانتخابات الحالية في إطار تحالف جمعه مع حزب الحركة القومية، ومع ذلك خسر بلديات أهم المدن، وبخاصة «جوهرة التاج» إسطنبول، وفقاً للنتائج غير الرسمية طبعاً.

وبشأن كون النتائج «غير رسمية» بعد، ثمة قناعة غالبة في الرأي العام، بما في ذلك جناح «الموالاة» أنها نتائج صحيحة وفاز فيها إمام أوغلو مقابل خسارة يلدرم. لكن الاعتراض على تلك النتائج يأتي من أولئك الذين لا يريدون الاعتراف بالخسارة، ومستعدين لفعل أي شيء لتغيير النتيجة. ويشارك قسم من الرأي العام المعارض في هذه الحرب النفسية، بصورة غير مباشرة، من خلال الاستسلام لليأس بدعوى أن «السلطة لن تسلم إسطنبول للمعارضة» مهما كان الثمن، كما يشير الكاتب روشن تشكر الذي يدعو المعارضة إلى التحلي ببرودة الأعصاب وعدم الانجرار إلى استفزازات الإعلام الموالي.

خاض تحالف السلطة معركة الانتخابات المحلية تحت شعار أنها مصيرية، على غرابة هذا الوصف. ولكن من المحتمل أن كلاً من النتائج وردة الفعل لدى الموالاة ستحولانها فعلاً إلى نقطة انعطاف مصيرية بالنسبة لحزب العدالة والتنمية ومستقبله في الحكم.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى