“المنظومة العربية” تبدأ حربها على ثورة الجزائر مع حفتر في ليبيا/ يوسف بزي
في أيلول عام 2018، هدد “اللواء المتقاعد” الليبي خليفة حفتر بالحرب على الجزائر! وأطلق وعيده هذا، بعدما أيقن أن الدولة الجزائرية انحازت إلى مبدأ عدم التدخل في ليبيا، وإعلانها دعم الجهود الدولية لترتيب تسوية سياسية للأزمة الليبية.
والضابط الليبي هذا، الذي قاد حروب معمر القذافي سابقاً، وتحول معارضاً منفياً، ثم قائداً لتشكيل عسكري من بقايا الجيش الليبي عام 2011، قام بانقلاب عسكري عام 2014 على سلطة “المؤتمر الوطني العام”. ومنذ ذلك الحين، يخوض حربه ضد الحكومة المؤقتة والمجلس الرئاسي (المعترف بهما دولياً)، تمهيداً لإخضاع ليبيا كلها إلى سلطته.
وفي الوقائع، تقول لنا ظاهرة حفتر، كما أبناء علي عبدالله صالح، أن هناك منظومة عربية “فاعلة” ومقتدرة، تقترح علينا منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، انقلاباً عسكرياً يطيح بمسارين أساسيين: التحول الديموقراطي وأهلية الإسلام السياسي للمشاركة في السلطة والدولة.
عملياً، هذا الانقلاب العسكري هو إعادة إحياء للنظام القائم ما قبل الثورة. مصر كانت النموذج الأوضح. تعثُّر الانقلاب في اليمن وليبيا أوقع البلدين في حرب مستمرة. فيما نجت تونس وذهبت في المسارين اللذين أشرنا إليهما، بسبب أن لا تراث انقلابياً لدى الجيش، ولا صلة مباشرة له بالسياسة. وقد نضيف أيضاً لا دموية الثورة التونسية، على عكس الثورات الأخرى.
في سوريا، الحال أسوأ بكثير، لأن الثورة أصلاً تعرضت لهزيمة فادحة، بسبب “خارجية” النظام. أي لكونه نظاماً يؤدي وظيفة إقليمية ودولية، والثورة عليه هي مواجهة مباشرة مع روسيا وإيران، وتهديد غير مباشر لإسرائيل، علاوة على تهديدها لتلك المنظومة العربية المعادية لطموحات “الربيع العربي”، التي ستكون مستعدة لإعادة إحياء النظام السوري إن انحاز إليها في صراع المحاور (الابتعاد عن إيران وحسب). وقد بدا هذا واضحاً في لهفة الرئيس عبد الفتاح السيسي في التواصل مع نظام الأسد، والخطوات “التطبيعية” التي أقدمت عليه بعض الدول العربية، المعروفة بخصومتها للثورات أينما تكون.
إن أقصى ما تطمح إليه تلك المنظومة العربية هو تنصيب حفتر سوري في سوريا، ومثيله في تونس، وشبيهه في اليمن، فيما نموذج السيسي في مصر هو “الأنصع”. وإذا ترنّح السوداني عمر البشير، فسيكون لتلك المنظومة “حفتر” سوداني ما، جاهز لرفع شعار “محاربة الإرهاب” في حملته للاستيلاء على السلطة والإطاحة بالخطرين المرعبين: اضطرابات التحول الديموقراطي ودخول الإسلام السياسي في معترك الحياة العامة والمدنية.
ولكي لا يبدو الأمر أن “الانقلابية” العسكرية وحدها هي الجانية، لا بد من محاسبة سلوك وأداء وخيار “الإسلام السياسي” المنخرط في تلك الثورات، ففيما التجربة التونسية أبرزت إسلاماً سياسيا متعايشاً مع شروط الدولة المدنية، ومع مبدأ التعددية، واقتناعه أن “الديموقراطية” ليست فقط آلية إجرائية انتخابية، بل هي “عقيدة” سياسية.. كانت التجارب الأخرى تُظهر إسلاماً سياسياً يحتقر “السياسة” أصلاً، متصلباً، ورجعياً ولا مهارة له سوى تكثير أعدائه داخل المجتمع، على نحو يسهل كثيراً الانزلاق في الحروب الأهلية وصعود التطرف.
بالعودة إلى حفتر وتهديده قبل عام ونصف تقريباً بشن حرب على الجزائر، نتابع اليوم الحملة العسكرية التي يقودها اللواء الليبي لاحتلال العاصمة طرابلس وغرب ليبيا وصولاً إلى الحدود الجزائرية. يحدث هذا، في لحظة تاريخية ومفصلية تعيشها الجزائر نفسها، بعد سقوط الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وتدرّج الثورة الجزائرية في أسبوعها السابع من مطلب “لا للعهدة الخامسة” إلى مطلب تغيير النظام.
المكاسب التي تحققها الثورة المدنية السلمية سعياً إلى التحول الديموقراطي، تحدث من دون إراقة نقطة دم واحدة. وهذه واحدة من المفاجآت الكبرى، نظراً للتاريخ السياسي العنيف في هذا البلد، ونظراً للدور المحوري الذي يلعبه الجيش في الدولة والسلطة وفي شرعية النظام.
استفادت الانتفاضة الشعبية الجزائرية من واقع الشرخ القائم بين منظومة بوتفليقة الأمنية والاقتصادية المالية (مافيا رجال أعمال والمخابرات) من جهة، ومؤسسة الجيش من جهة أخرى. لذا، اختار قائد الأركان قايد صالح مواكبة هذه الانتفاضة وتأمين القوة اللازمة لها، لفرض سقوط نظام بوتفليقة من دون مقاومة تقريباً وبلا عنف تماماً. خيار الجيش حتى الآن يبدو أيضاً مفاجأة كبرى. أما المفاجأة الثالثة، فهي تواضع حضور “الإسلام السياسي” في هذه الثورة.
وحسب ما علمنا وذقنا، كان سهلاً سقوط مبارك لكن الامتحان العسير جاء في الخطوة التالية: المجلس العسكري. والحال الجزائرية تبدو أنها تقترب من هكذا امتحان، خصوصاً بعد أن رفعت حشود مليونية “الجمعة السابعة” شعار رحيل “الباءات الثلاثة” وهم: الطيب بلعزيز رئيس المجلس الدستوري، عبد القادر بن صالح رئيس مجلس الأمة، ونور الدين بدوي رئيس الحكومة ويتولى وزارة الداخلية أيضاً. بما ينهي ما تبقى من رموز أساسية للنظام، ويفتح الباب أمام معترك تشكيل هيئات مؤقتة لقيادة المرحلة الانتقالية وتحديد مسارات التحول الخطرة والغامضة.
إن أفضل تعبير عن الانتباه الجزائري لـ “دروس” تجارب الثورات العربية، والوعي المسبق لمخاطر “الثورة المضادة” هو كثرة تداول الشعار الذي ظهر في يافطات يوم الجمعة 5 نيسان: “السيناريو المصري مرفوض، لا لحكم العسكر” وفي يافطة أخرى: “لا سيسي في الجزائر” و “نرفض النموذج المصري”.
هذه رسالة مباشرة إلى قايد صالح والجيش: الثورة لإسقاط نظام بوتفليقة ليست تمهيداً لانقلاب عسكري ولا تسليماً للجيش بتولي السلطة. لكنها أيضاً رسالة غير مباشرة لتلك المنظومة العربية، ممِّولة ومسلِّحة الثورات المضادة والانقلابات العسكرية والحروب الأهلية.
بهذا المعنى، الجذرية الثورية التي أظهرها الجزائريون في مطلب التحول نحو الحرية والديموقراطية، والوعي المسبق بمخاطر صعود “مجلس عسكري” على ظهر الثورة والاستيلاء على الحكم.. هذا أيضاً من المفاجآت العظيمة التي منحنا إياها الشعب الجزائري، نحن الذين قبل شهرين وحسب كنا نظن أن بوتفليقة سيظل حاكماً للجزائر حتى بعد مماته. أو أن أي ثورة في هذا البلد قد تعيد سوداوية الحرب الأهلية في التسعينات.
ليس صدفة تزامن الهجوم الشامل الذي يشنه اليوم خليفة حفتر في ليبيا مع التطورات المذهلة في الجزائر. إنها رسالة “المنظومة العربية” التي لا يخيفها شيء قدر خوفها من الشعوب العربية الثائرة والطامحة للحرية والعدالة والكرامة.
تلفزيون سوريا