تغريد سوري خارج السرب/ عادل يازجي
ما كان متوقعاً من الجولة الـ 12 لاجتماعات آستانا أن تعالج شوائب خفض التصعيد والتوتر الميداني والسياسي المشاكس لرغبات قمم الحلف الثلاثي في بياناته المُطَمْئِنة، وكذلك التذاكي في تفسير تلك البيانات وتأويلها لدى كل واحدة من دول الحلف على مزاجها. ولم يكن متوقعا أن ترشح عن هكذا اجتماع أي بادرة إيجابية تجاه لجنة الدستور، سواء بتشكيلها أم بورقة عمل تضبط خط سير نقاشاتها، إذا قُدر لها أن يُلَمَّ شملها، وهذا لا يتم إلاّ بضغط سياسي فعّال.
إذن، لا ضرورة لبحث ما ناقشته طاولة الاجتماع وتحليله، طالما لم ترشح عنه ترتيبات ميدانية، أو قرارات، لكن ذلك لا يعني غياب التفاصيل الفنية والإجرائية التي تُرفع إلى قمم الحلف ذاته ليأخذ قرارات في شأنها. وأغلب الظن أن أي دخان أبيض سيرشح عن قمة مرتقبه له في ما يتعلق بلجنة الدستور، سيقلق النظام حتما، ويشكّل مادة يتلهى بها الإعلام، ريثما تفصح الأزمة الدولية حول إيران وحلفائها عن جدوى تصعيد التصعيد أو خفضه بين أطرافها العربية والأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة فيها. هذه مسائل سيادية تناقش على مستويات أمنية عليا، ترفد، وربما توجّه، القرار السياسي الذي يترنّم بإنجازها.
لا شك في أن هذا الاجتماع (الفني)عنوانه “سورية”، فهو يمهد لقمة الحلف الثلاثي المرتقبة، ويحدد فقط الأكمات المحلية المكتظة في وجه التسوية السياسية، والتي لا تقارن بحجم الأكمات الدولية التي تعترض مسالك التسوية المعقّدة.
منذ بدايتها، لم تكن الأزمة السورية بين نظام ومعارضيه. ولم يأت الدعم الخارجي لكليهما بهدف إصلاح ذات البين بينهما. والحل السياسي المختلف عليه، ليس لإصلاح ذات البين، أو إعادة اللحمة بين الأطياف السورية المتصادمة، ولن يكون لمصلحة أو لـ “سواد عيون” أيّ طيف منها بإرادة دولية، إنما لغاية في نفس المجتمع الدولي مُخْتَلَفٍ عليها، في ظلّ لخبطة دولية يصعب تفكيك مفاصلها في مسارب ودهاليز السياسة الإقليمية – العربية، التي تتشتت، وتصدّر تشتتها إلى الداخل الموالي والخارج المعارض. الداخل المرتبك في أفضلية ردّ الجميل بين طهران وموسكو. والخارج المكبَّل بتبعيته لداعميه كردّ للجميل، ولسان حال كلّ من الطرفين يقول:
“لاخيل عندك تهديها ولا مالُ * فليُسعد النطقُ إن لم تُسعد الحالُ”.
والواقع أن الحراك الموالي والمعارض، هو بمثابة تغريد خارج السرب الاقليمي والدولي، المتمحور ظاهريا حول الحلّ السياسي. وعمليا، هناك ارتباك عربي – عالمي بالتعامل مع “الفقيهين” الإيراني والتركي، لا يستبعد مضاعفات ميدانية أردوغانية، وعينه ترصد إمارة إدلب، كونها قيد استنزاف ميداني من قِبل النظام المدعوم من طهران وموسكو. والأمر قابل للتصعيد ولخفض التصعيد. حتى لجنة الدستور التي جاءت كجائزة ترضية لبيدرسون من موسكو، ربما لا تُمهر بخاتم دولي، طالما لم تتحدد الصيغة النهائية لموقف واشنطن، الذي ما زال معرَّضا لمساومات ومفاجآت ترامبية.
ليست مستغربة صِيغ التعامل الإقليمية والدولية مع الوضع السوري كمآل يفترض أن النجاح الميداني أفضى إليه تلقائيا، وكأنّ هذا النجاح مُنح بشروط، وأعقبه تمرد على تلك الشروط أو تلكّؤ في تنفيذها، والمشكلة مع النظام، ليست في رفضه للأطروحات الأممية حول الحل السياسي، بل في عدم اسهامه في ترسيم حدود التدخّل لدول الحلف الثلاثي في بلده، وهو هاجس العرب وحليفهم ترامب والمجتمع الدولي. الكلّ يسعى جاهدا إلى “ضبضبة” “الفقيهين” التركي والإيراني داخل حدودهما، وإغلاق منافذ استيراد التطرُّف وتصديره منهما. وتضاف إمارة إدلب إليهما، ولو موقتا، ريثما يُحسم أمرها داخل الحدود السورية أو التركية.
لغة الحراك الدولي غير الـ”ترامبي”، توهم بالتسوية السياسية في مفاصلها ما بعد الإقليمية. وشطحة ترامب البهلوانية بإهداء الجولان الى إسرائيل، تبدو مقحمة، بينما هي عمليا ركيزة بُني أو سيُبنى عليها لاحقا في المساومات، فزوابع ما يسمى “الربيع العربي” عادت تعصف وتهدد، وتمتد إلى الشرق الإيراني والشمال التركي. وما من ملاذ آمن إلاّ تحت العباءة الأميركية، التي ربما تُغني عن الفشل في ترسيم حدود “الفقيهين”، ولا بد من التريّث لقراءة سيناريو إدخال الجولان في مرحلة البحث عن تسوية سياسية تائهة بين القطبية الثنائية، وملحقات كلّ منهما عربيا وإقليميا.
تتمحور المساومات التي يتأبّطها ترامب في جعبته السورية – الإيرانية – العربية، حول القوة الأميركية المتأهبة لتلبية الرغبات في صدّ زحف الفوضى الخلاقة، وترسيم الحدود الآيديولوجية والبرية والجوية والبحرية لتركيا وإيران (كفقيهين لا كشعبين)، أمّا ترسيم الحدود الجغرافية السورية، فهو أمر لا غُبار على استمرار التفاوض في شأنه لتحويل الأنظار، بينما الضغط موجّه لترسيم حدود أخرى أكثر خطرا وأهمية.
أيُّ قراءة لما بين السطور في الخطابات السياسية الدولية لا تُوازن بين النظام ومعارضات الداخل والخارج بعد نجاح التهدئة في فرض وجودها واستمرارها، وبين تجارب الإدارات المعارضة في مناطق سيطرتها سابقا، وفي إدلب لاحقا، ليست مشجّعة لتبنّيها دوليا. علما أن ترامب لا يكترث بأيّ من الأطراف السورية المتصارعة، عدا “قوات سورية الديموقراطية” (قسد). لذلك، لا يتخلّى الرئيس الأميركي كليا عن المكوّن الكردي في مساوماته المتعلقة بالتسوية، وإن كانت المغانم (شرعية أو لاشرعية) دون مستوى الطموح، تُصر دمشق على عودة الابن الكردي إلى بيته السوري، وهو احتمال غير مستبعد، إنّما مجهول الثمن.
هذا واقع لا يُفكك عُقده الحلف الثلاثي (روسيا وإيران وتركيا) مهما تصنّع التوافق بين أركانه، أو مع المجتمع الدولي حول رضوخ طرفيه “الفقيهين” لضغوط العودة الى حدودهما الدولية، وهكذا تمويه يصعب تمريره مجانا. لذلك، بقيت القدرة السابقة التأثير للقوة حاضرة في مساومات واشنطن، بينما يتفاقم الهمُّ في الداخل حول منغصات لقمة العيش الغائبة عن أطروحات التسويات المريبة.
* كاتب سوري.
الحياة