وطن السوريين البديل/ بكر صدقي
شهدت سنوات الثورة والحرب في سوريا عمليات نزوح وتهجير كبيرة، شملت أكثر من نصف السكان. وفي حين تشتت النازحون داخلياً بعيداً عن مواطنهم الأصلية، تبعثر أكثر من ستة ملايين سوري بين مختلف بلدان العالم، ليرزح من تبقى تحت ظروف قاسية من الاستعباد والعوز وانعكاسات الحرب المختلفة.
ما نسميه بالتغيير الديموغرافي له وجوه عدة، أولها انتقال كتل بشرية كبيرة من منطقة إلى أخرى داخل الأراضي السورية، إما هرباً “طوعياً” من الحرب أو بفعل قرارات تهجير قسري ممنهجة بعد حصار طويل مصحوب بالقصف. وثانيها عمليات نزوح خارج الحدود السورية، إلى البلدان المجاورة، لينتقل قسم منهم إلى بلدان أبعد لاحقاً. وثالثها استقدام مجموعات أجنبية للقتال في الصراع السوري، ثم استقرار الأمر بهم وبعائلاتهم في بعض المناطق التي سبق وأفرغت من سكانها الأصليين.
حدثت مختلف أنواع التغيير الديموغرافي هذه في مناطق عدة، وبالمحصلة على مستوى سوريا ككل. وعلى رغم مرور أكثر من ثماني سنوات على حالة عدم الاستقرار هذه، لا يبدو أي بصيص ضوء في نهاية نفق هذه المأساة البشرية الكبيرة التي حفلت، إضافة إلى التغيير الديموغرافي، بمختلف أنواع القتل والتنكيل والمجازر الجماعية والاعتقالات والتعذيب حتى الموت وتدمير العمران والحياة الاقتصادية والروابط الاجتماعية واحتلال الجيوش الأجنبية.
في ثماني سنوات كبر من ولدوا في العام 2011 وأصبحوا في عمر الدراسة. وانخرط من كانوا أطفالاً، في التاريخ المذكور، في العمل أو القتال أو البطالة، ما لم يموتوا على دروب النزوح واللجوء. وترمل رجال ونسوة أو تطلقوا، في حين تزوج آخرون وأنجبوا أطفالاً. وتعلم سوريون، في بلدان اللجوء، لغات أجنبية واندمجوا، بدرجات متفاوتة، في المجتمعات المضيفة أو رفضوا الاندماج. تفرقت السبل بأسر وأقارب وأصدقاء وأبناء بلد وشركاء أو زملاء عمل، أو شركاء نشاط اجتماعي أو ثقافي أو سياسي. بقول مختصر: انفجر الاجتماع السوري وتشتت في أربع جهات الأرض، ما لم يدفن في التراب أو يصعد إلى السماء.
على رغم ذلك، وربما بسببه، ثمة اليوم “جماعة متخيلة” اسمها السوريون، وإن كانوا جماعات فرعية متنابذة وأفراداً ذوي بصمات شخصية مختلفة وأصوات مختلفة. يجمعهم عنصر ثقافي يتجلى في المأكل والملبس والسلوك واللغة واللهجة والذكريات الجمعية والطقوس الاجتماعية، وإن كان كل ذلك متنوعاً. فثمة ما هو مشترك بين وجوه التنوع ذات الطابع المحلي والجهوي والعرقي واللغوي والديني.
ينقسم هؤلاء السوريون، جغرافياً، بين الداخل والخارج، وإن كان هذا التقسيم قد فقد الكثير من أهميته ومعناه. ترى هل سكان الرقة اليوم، على سبيل المثال، من أهل الداخل أم من أهل الخارج؟ وماذا عن سكان طرطوس أو دير الزور أو إعزاز أو عفرين؟ بل ماذا عن العائلات الأفغانية أو العراقية أو الروسية التي استقرت في بعض المناطق وربما حصل بعضها على الجنسية السورية؟ وماذا – بالمقابل – عن سكان مخيمات اللاجئين السوريين داخل الحدود أو خارجها؟ وماذا عن مقاهي السوريين في إسطنبول أو أحيائهم في المدن الألمانية؟
ثمة تنافر أساسي، بالطبع، بين “سوريي النظام” وسائر السوريين، وهما جماعتان سياسيتان، إلى الآن، بحدود مرنة مرونة متفاوتة، ومتنوعة داخلياً بتنوع غير متساوٍ. فمن وصفناهم بـ”سائر السوريين” ليسوا جماعة موحدة سياسياً، وقبل ذلك ثقافياً وأهلياً، بل توجد بين جماعاتهم تنافرات وصراعات. أما “سوريو النظام” فهم، ظاهرياً، أكثر تماسكاً وتجانساً، من غير أن يغطي ذلك على شقوق عميقة تخترق بنيتهم وقد تظهر إلى السطح في شروط ملائمة.
لا يبدو في الأفق، إذن، احتمال اجتماع شمل كل السوريين من جديد في مكان واحد، سواء انتهت الحرب أم استمرت بوتائر منخفضة وموضعية، وسواء انتهى الصراع بتغيير النظام أم بقائه، وسواء خرجت الجيوش والمجموعات الأجنبية من الأراضي السورية أو بقيت كلها أو بعضها. حتى إذا افترضنا “عودة الحياة الطبيعية” إلى كل أرجاء سوريا، فمن المشكوك فيه أن يؤدي ذلك إلى اجتماع شمل السوريين من جديد، هذا على فرض أننا نعرف معنى هذه العبارة الخرقاء (عودة الحياة الطبيعية) أو متفقين على معنى واحد لها.
ثمة وطن بديل للسوريين تشكل خلال السنوات السابقة، هو وسائل التواصل الاجتماعي التي “يلتقي” من خلالها سوريون من مختلف المناطق والمنافي والمنابت والهويات. وأبرزها شبكة فيسبوك التي سبق وتم تشبيهها بـ”الدولة” وإن كانت افتراضية، بسبب عدد منتسبيها الذي يفوق ملياري شخص، أي أكثر من عدد سكان الصين. ليس فيسبوك بعامة هو وطن السوريين الذي أتحدث عنه، بل تلك “المنطقة” من الشبكة التي “يقطنها” سوريون متشابكون في علاقاتهم البينية وتفاعلاتهم بصورة متواترة. إن مبدأ “الصداقة” الذي يقوم عليه موقع الشبكة هو الذي يحد، من جهة، علاقات السوريين بغيرهم، ويكثف، من جهة ثانية، اشتباكهم الداخلي. شبكة الأصدقاء التي قد تبدأ بالعلاقات الأصلية من العالم الواقعي، تتوسع تدريجياً لتضم أشخاصاً لا نعرفهم مسبقاً يتحول قسم منهم، بمرور الزمن وتطور التعارف، إلى أصدقاء واقعيين قد يسعون إلى لقاءات وجهاً لوجه.
بدأ استخدام السوريين لشبكة فيسبوك، في وقت متأخر نسبياً، قبل الثورة السورية بسنوات قليلة، وشاع استخدامها على نطاق واسع مع بداية ثورات الربيع العربي، على رغم أنها كانت محظورة في سوريا. ثم فك النظام الحظر عنها بعد بداية الثورة بأيام قليلة، فشهدت الشبكة قفزة كبيرة في عدد السوريين المستخدمين. أما اليوم فربما لم يبق سوري واحد، فوق حد معين من العمر، ليس لديه صفحة واحدة على الأقل على شبكة فيسبوك.
وإذا كانت السياسة هي الوجه الأبرز لاهتمام الصفحات السورية، موالاةً ومعارضة، وهذا مفهوم بالنظر إلى الوضع القائم، فكل وجوه الحياة الأخرى حاضرة فيها أيضاً. يحتفل السوريون بتخرج أولادهم من الجامعات على صفحات فيسبوك، ويتلقون العزاء على موتاهم، ويعلنون خطوباتهم وزواجهم وولادة أطفالهم، وسفرهم من مكان إلى آخر، ويباركون بعضهم بعضاً بالأعياد والمناسبات السعيدة، ويلتاعون معاً بالمصائب، ويتبادلون الأخبار العامة والخاصة، ويطرحون أفكاراً وينشرون نكاتاً وفيديوهات وروابط كتب ومقالات، ويعلنون صدور أعمالهم الإبداعية، ويتبادلون الرأي والشتائم، يحبون ويكرهون ويلعنون ويباركون، يدافعون ويهاجمون، يسخرون ويشمتون ويستحسنون، يمارسون النميمة ويراقبون ما يكتبه الآخرون فيتصيدون سقطات بعضهم بعضاً أو يسجلون مواقف على بعضهم بعضاً، كل ذلك وأكثر على صفحات “فيسبوك السوري”.
إن لم يكن هذا هو الوطن البديل للسوريين المشردين عن وطنهم الأصلي، في الداخل والشتات، فماذا يكون؟
تلفزيون سوريا