الطباخ الذي أصبح مستشاراً لبوتين ووكيله للمهمات القذرة/ محمد خلف
“هو رجل مستعد للقيام بأعمال بوتين القذرة”. بهذه العبارة وصفت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية رجل الكرملين “الأسطورة” يفغيني بريغوجين، الذي اشتهر بلقب “طباخ بوتين”، وأصبح أحد أهم مستشاريه، بعدما تعززت العلاقة بينهما، وبات ذراعه الخفية في تنفيذ المهمات شديدة الخطورة في الداخل والخارج.
تعود علاقة الرجلين إلى ما قبل عبور بوتين عتبة الكرملين من “الكي جي بي”، حين التقيا في مسقط رأسيهما مدينة سانت بطرسبرغ، ونمت بينهما صداقة وطيدة، ارتقت إلى مستوى أعلى بعد تسلم بوتين زعامة الكرملين.
كان بريغوجين قبل أن يقتحم أسوار الكرملين ويستحوذ على لقب “رئيس طهاة بوتين”، يمتلك أحد مطاعم الأكل السريع في مدينته العريقة، واكتسب لقبه بعد تنظيمه ولائم الرئيس الروسي وخدمته شخصياً أحياناً. ويروي الصحافي في صحيفة “نوفايا غازيتا”، دينيس كورتكوف أن بريغوجين شعر بغضب شديد منه، بعد مقالة تناول فيها حياته ودوره في الكرملين، إلى حد انه تلقى من مجهولين أكاليل خاصة بتشييع الموتى. واستلم مكتب الصحيفة هو الآخر سلة تحتوي على رأس ماعز مقطوع. اعتمد كورتكوف في مقاله على معلومات استقاها من لقاء أجراه مع فاليري أليميتشينكو، وهو محكوم سابق يعمل مساعداً أمنياً في إحدى شركات بريغوجين، وقال عنه إنه “نظم حملات اعتداءات على معارضين للنظام، وقتل مدوناً معارضاً يفضح فساد بوتين وحاشيته”. وكشفت الصحيفة الروسية أن محررها كورتكوف مدرج في لوائح الشرطة الخاصة بالأشخاص المفقودين بلا أثر، ولمحت إلى أنه ربما يكون قد قتل. وقال اليميتشنكو إنه “تعرف إلى أحد أزلام بريغوجين وهو أندريه ميخائيليوف، وبدأ العمل معه في نهاية 2012 وبداية 2013”. واعترف ميخائيليوف لصحيفة “نوفايا غازيتا” بأنه “هو الذي استقطب اليميتيشنكو للعمل مع مجموعة بريغوجين”. وفي حديثه للصحيفة الروسية أقر الأخير بأنه ضرب مدوناً في سوتشي كان معارضاً للنظام، وقتل شخصاً في لوغانسك في شرق أوكرانيا. وتحدث أيضاً عن مهمته في حمص السورية ومحاولته الفاشلة في كناري. واستفاض في الحديث عن جريمة تسميم سيرغي ميخوف وهو باحث اجتماعي يصدر مجلة بعنوان “علم آثار الموت الروسي”، وتعمل زوجته في مؤسسة مكافحة الفساد في روسيا، التي أسسها المعارض نافالني.
ذاعت شهرة بريغوجين خلال السنوات الأخيرة وأصبح الشخصية الأكثر إثارة للتعليقات والتكهنات في الصحافة الغربية، بعدما اتهمته واشنطن بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي أتت بترامب إلى البيت الابيض، لا سيما بعدما تحول إلى أحد أثرياء روسيا ومن أصحاب المليارات في سنوات قليلة. فانتقل بذلك من كونه “متعهد مطابخ” للجيش الروسي، إلى متعهد حروب خاصة، إذ كانت له أدوار استثنائية في الحرب الأوكرانية، وفي سوريا في ما بعد. وآخر جولاته كانت في السودان التي أرسل إليها مرتزقته لدعم الرئيس المطاح به حسن البشير في قمعه الاحتجاجات، وتقديم الدعم والتدريب لقوات الأمن الاستخباراتية السودانية، وفق ما أوردته صحيفة “سودان تريبيون”، استناداً إلى مصدر أمني رفيع. وسبق لوزارة الخارجية الأميركية أن أدرجت اسمه على لائحتي عقوبات عام 2016، بسبب اتهام إحدى شركاته بدور قذر في حرب بوتين على أوكرانيا. وعام 2017 اتُّهم بتمويل حملات الدعاية والأخبار الكاذبة، ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي في اطار التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية.
قسم للاستفزازات وامبراطورية إعلامية
ورد اسم بريغوجين في لائحة الاتهام التي تضمنت وثائق تشير إلى أن شركة “أبحاث الانترنت” التي مولها قادت ما سمته “عملية مذهلة”، أطلقت عام 2014. وهدفت لإحداث انقسام اجتماعي في الولايات المتحدة، والتأثير في السياسة الأميركية. وكشفت “سي أن أن” محتوى وثائق، قالت انها اطلعت عليها وهي مسربة من شركات بريغوجين، تؤكد انها مصدر تقارير مزورة بثتها على الانترنت، واطلع عليها مئات آلاف الأميركيين. والمثير بحسب “سي أن ان”، أن “لدى الشركة قسماً يحمل اسم “الاستفزازات”، مختصاً بنشر أخبار تثير الانقسامات في الغرب، وكيفية فبركة الأخبار واختلاقها”. ووفقاً للوثائق التي اوردتها القناة، فإن بريغوجين قاد عام 2016 مجموعة من مئات الاشخاص، تناوبوا على العمل على دعم ترامب وشن حملة افتراء على منافسته هيلاري كلينتون. ويدير الطباخ المستشار شركة “ونكورد”، التي تنظم حفلات الاستقبال في الكرملين، وهي خاضعة لعقوبات أميركية.
هذه المجموعة وفقاً للاتهام أقامت صلات واتصالات بعدد من العاملين في حملة ترامب، بهدف “تفكيك النظام السياسي الأميركي وزرع الانشقاق داخل المجتمع”. وأدرجت وزارة الخزانة الأميركية اسمه على لوائح العقوبات الخاصة بروسيا. وقال بريغوجين في تعليق على الاتهامات الأميركية: “إذا رغب الأميركيون في أن يصوروني على أنني شيطان، فليفعلوا”.
يدير بريغوجين امبراطورية إعلامية روسية ضخمة تضم أكثر من 12 موقعاً إخبارياً، تجذب مئات آلاف القراء. وتعد بحسب خبراء الميديا، سلاحاً إعلامياً فعالاً بيد بوتين لنشر سياساته في الداخل والخارج. وكان تحقيق أجرته مجلة “آر تي بي” الاقتصادية، أشار إلى وكالة بحوث الانترنت ترتبط هي الأخرى بالاوليغارسي بريغوجين. وهذه الوكالة كانت تعمل ضمن (وكالة الأنباء الفيدرالية). ووفقاً لتحقيق استقصائي أجرته وكالة (RBK) الروسية، فإن “ميخائيل بورتشيك أحد المتهمين بماكينة صنع الترولات الروسية ضد الغرب، لعب دوراً محورياً في الدعم الإعلامي الذي يمتلكه طباخ بوتين”. ورأى المعلق الروسي ديمتري اورشكين أن “بوتين يسعى من خلال مجموعة ميديا بريغوجين لصوغ الرأي العام وتشكيله، وبث الأخبار والتعليقات والقصص الإعلامية التي تخدم سياساته”. وأضاف: “بريغوجين يريد من خلال مصنع الترولات والبوتات الذي يديره، ومجموعات المرتزقة التي يقودها عبر الوكلاء، تعزيز صداقته مع بوتين وعدم التفريط بثقته وبالصلاحيات والامتيازات التي توفرها مباركة رئيس الكرملين له شخصياً ولشركاته”.
القرب من بوتين وتدفق المليارات
شهدت وكالة الأنباء الفيدرالية التي تأسست عام 2014 تنامياً استثنائياً بدعم واضح من الكرملين، ونجحت في الاستحواذ على 15 موقعاً إخبارياً آخر، وتمكنت من استقطاب أكثر من 30 مليون زائر شهرياً، متجاوزة وكالات أنباء رسمية في روسيا. وتطرّقت هذه الوكالة إلى ملفات واسعة، من السياسة الخارجية إلى الاقتصاد والمشاهير، وكانت توجهاتها متطابقة مع توجهات بوتين. ووجّهت انتقادات عنيفة للغرب، ونشرت مواضيع عن نشاط الرئيس الروسي، وأخرى تُبرز تحسن الوضع المعيشي في عهده، إلى جانب مقالات تنتقد بشدة الولايات المتحدة وحلفاءها. وقال المحلل السياسي ديمتري أوريشكين أن هذه الوكالة والمجموعات الأخرى التابعة لبريغوجين «تسيطر على فضاء الأخبار والمعلومات وتضع الأجندة الإعلامية للفيدرالية». ولفت إلى أن العمل الإعلامي هو جزء من جهود بريغوجين للحفاظ على مصالح بوتين.
وأشار إلى عقد وقعه بريغوجين مع وزارة الدفاع الروسية، يُقدر بـ 1.2 مليار دولار، لتأمين أغذية وخدمات للجيش، مكافأة له على تقديماته وخدماته للكرملين وللرئيس شخصياً. وأضاف أن “الصلات الوثيقة مع السلطة العليا تتيح (لمؤسسات بريغوجين) توقيع عقود مع الدول الأخرى”. وتوظّف وسائل الإعلام التي يديرها بريغوجين مئات من الصحافيين، وتقدم لهم رواتب أعلى مقارنة بوسائل الإعلام الأخرى في سانت بطرسبرغ وموسكو، وتُقدّر الكلفة السنوية لتشغيل إمبراطورتيه الإعلامية بأكثر من 6 ملايين دولار، فيما تصل ثروته إلى 7.14 مليار دولار، ويحتل المركز 106 في قائمة أغنى الرجال في مدينة بطرسبورغ وفقاً لتقديرات صحيفة “ديلوفوي بيتربورج” الروسية.
الطباخ ومرتزقته في سوريا
في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وزع “داعش” شريط فيديو من 42 ثانية ليؤكد اعتقاله رجلين روسيين: رومان سيرغيييفيتش زابولوتني، ورفيقه غريغوري تسوركام الذي بدا أنه تعرض للضرب وانتفخت عينه اليسرى. وعلى الفور، نفت وزارة الدفاع الروسية فقدان أي من جنودها في سوريا، إلا أن شقيق تسوركانو أطل على وسائل الاعلام الروسية، ليقول إن أخاه ذهب للقتال في سوريا، لا مع الجيش الروسي وإنما مع شركة للمرتزقة تعرف باسم “فاغنر”. والأخيرة كانت أرسلت مقاتلين إلى أوكرانيا، وتبين لاحقاً أنها ترتبط مباشرة بطباخ بوتين ومستشاره بريغوجين، الذي أبرم عقوداً مع الجيش الروسي للقتال في سوريا. وذلك بعد دوره القذر في أوكرانيا، وبالتحديد في المناطق الشرقية من البلاد الناطقة بالروسية، والتي اعلنت الانفصال بمباركة من بوتين في إطار السياسة التي انتهجها سابقاً في جورجيا والقرم على سبيل المثال.
تضطلع الشركة العسكرية الخاصة التي اعتبرت الرديف الروسي لشركة “بلاكووتر” الأميركية التي صار اسمها “أكاديميا”، بدور كبير في الحرب السورية. وخرج هذا الدور إلى العلن مراراً في السنوات الأخيرة. فمع أن القانون الروسي يحظر الشركات العسكرية الخاصة، أفاد موقع “فونتانكا. رو” الروسي بأن ضابطاً سابقاً في القوات الخاصة الروسية يدعى دميتري أوتكين يجنّد جنوداً سابقين أقوياء للعمل مع الشركة.
ونشر موقع محطة ABC التلفزيونية الأميركية أواخر العام الماضي تقريراً مفصلاً تحت عنوان “جيش فلاديمير بوتين السري: آلاف من المقاولين الروس يقاتلون في سوريا”. وجاء فيه أن مجموعة “فاغنر”، نشرت في سوريا 3 آلاف مقاتل منذ 2015، قبل أن تتمكن القوات الروسية من ترجيح كفة الميزان لمصلحة بشار الأسد. وكشف أن المرتزقة الروس يتولون حماية المنشآت النفطية والغازية، التي يتم استردادها من الجماعات المسلحة بموجب عقد بين الحكومة السورية وشركة “ايفرو بوليس” الروسية، التي تعود مليكتها إلى بريغوجين. وتعمل “ايفرو بوليس”، في مجال خدمات اطعام الجيش الروسي. وقال زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني إن شركات بريغوجين باتت تسيطر على كل عقود وزارة الدفاع الروسية. وتشمل لائحة أعمال الشركة أيضاً مجالات التعدين وإنتاج الغاز والنفط وافتتحت مكتباً لها في العاصمة السورية دمشق.
لا تتوفر معطيات كافية حول ظروف نشأة مجموعة “فاغنر”، وذكرت وكالة رويترز نقلاً عن صحيفة “فونتانكا رو”- التي أجرت تحقيقات عن هذه المنظمة- أن تأسيسها يعود إلى خريف 2015، أي الفترة التي شنت فيها روسيا غارات دعماً للسلطات السورية.
واعتبرت وكالة بلومبيرغ الأميركية، أن المجموعة تمثل جزءاً أساسياً من إستراتيجية روسيا الأوسع المتمثلة بالحرب الهجينة، فهي مزيج من العدوان الحركي والإعلامي لتعزيز المصالح الروسية، عبر نشر مقاتلين يرتدون أزياء غير الزي الرسمي للجيش الروسي، كما حدث في شبه جزيرة القرم في 2014. ونسبت إلى إيفلين فاركاس النائب السابقة لمساعد وزير الدفاع الروسي، قولها إن أي مرتزق روسي – في أوكرانيا أو في سوريا- فإنه يعمل لحساب الحكومة الروسية”. وإضافة إلى الأدوار التقليدية لهذه الميليشيات، سلطت وسائل إعلام متعددة الضوء على دور جديد تقوم به هذه القوات في سوريا يتعلق بحماية المنشآت النفطية. وذكرت أسبوعية “سوفيرشينكو سيكريتنو” (سري جداً) أن مهمة عناصر “فاغنر”، تغيرت وباتت تتمثل في “حراسة المنشآت النفطية”. وذكرت “واشنطن بوست”، أن الاستخبارات الأميركية، تعتقد “بصورة شبه مؤكدة” أن بريغوجين يتحكَّم إلى جانب شركاته المختلفة في المرتزقة الروس الذين يقاتلون في سوريا إلى جانب قوات النظام السوري”.
درج