سياسة

اعتراف ترامب بسيادة إسرائيل على الجولان: نحو تصعيد جديد في المنطقة/ زياد ماجد

إن الاعتراف الرئاسي الأميركي بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، يمثل طيًّا أميركيًّا لصفحة مفاوضات السلام السورية-الإسرائيلية التي رعتها واشنطن وقامت على مبدأ الأرض مقابل السلام، ويعزز مخاطر المواجهة في لبنان مع إسرائيل،حيث تصر بيروت على أن مزارع شبعا الملحقة بالجولان، هي لبنانية وليست سورية.

وقَّع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قرارًا يقضي بالاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل منذ حرب يونيو/حزيران العام 1967. جاء التوقيع الرسمي، في 25 مارس/آذار 2019، بعد أيام من تغريدة لترامب نفسه وعد فيها بالاعتراف، معللًا إياه “بقراءة سريعة للتاريخ” سمحت له بتحديد موقف اعتبره “صائبًا ومناسبًا”.

ويمكن التوقف عند أمرين لافتين في الاعتراف، قبل البحث حتى في توقيته أو في حيثياته ثم تداعياته المحتملة:

الأمر الأول: أن إسرائيل، التي ضمت الجولان العام 1981، متجنبة استخدام مصطلح “الضم” في قرارها وقتها لكونه محظورًا في القانون الدولي (أسمته “توسيع سيادة القانون الإسرائيلي وبسطه في الجولان”)، كانت في معظم المفاوضات الثنائية مع دمشق برعاية أميركية، قابلةً بإعادته (أو بإعادة معظمه) إلى سوريا في إطار سلام شامل، وكان الخلاف المُعلن بين الطرفين يتمحور حول ترسيم الحدود على ضفاف بحيرة طبريا(1).

والأمر الثاني: أن الجولان ليس مشمولًا “دينيًّا” بأراضي الدولة اليهودية التي يستند إليها المتدينون الأيديولوجيون وكثير من الصهاينة. والانسحاب منه بالتالي ليس بالأمر “المستحيل” أو “المحرم” عقائديًّا حتى بالنسبة للمتشددين الإسرائيليين.

بهذا المعنى، يشكِّل اعتراف ترامب بإسرائيلية الجولان هدية مبالغًا بكرمها لتل أبيب التي لم تطلبها في السابق (بعد هديته الكبرى الأولى، نقل السفارة إلى القدس). وهو لا يكتفي في فعلته هذه بانتهاك القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، بل يناقض أيضًا تاريخ المواقف الأميركية الرسمية المتعلقة بالجولان، التي استنكرت ضمه العام 1981، وأسست مسار التسوية الذي أدارته خلال تسعينات القرن الماضي انطلاقًا من فلسفة “الأرض مقابل السلام”.

توقيت القرار ومعطياته

أما فيما يخص توقيت القرار، فتبرز حيثيات عدة دفعت إلى صدوره مؤخرًا، أو استدعته على نحو أتاح لترامب التدرج “السهل” بين تغريده ثم توقيعه في البيت الأبيض.

الأولى: أن الرئيس الأميركي أراد دعم وصول بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية من جديد، فاختار الإعلان عن قراره قبل أسبوعين من موعد الانتخابات في إسرائيل، وبوجود “المرشح” نتنياهو في واشنطن. وللدعم هذا صلة وثيقة بما يحضِّره صهر ترامب، جاريد كوشنر، من “صفقة” شارك مستشارو نتنياهو في بلورتها، هدفها على ما يتسرب إنهاء الكيانية الفلسطينية مقابل مبالغ مالية كبرى تُقدَّم لهم ووعود باستثمارات وتعديلات حدودية(2)، بالتزامن مع احتمال إعلان نتنياهو ضم أراض وتجمعات استيطانية كبرى من الضفة الغربية إلى إسرائيل(3).

الثانية: أن ترامب يطلب من خلال قراره هذا ولاء جزء من قاعدته الانتخابية الأميركية المتطرفة في دعم إسرائيل، وفيها تيارات يهودية مؤيدة لليكود، وأخرى أصولية مسيحية من أقصى اليمين.

الثالثة: أن القرار يأتي في ظل تصاعد العقوبات الأميركية على إيران والتصعيد العسكري الجوي الإسرائيلي ضدها في سوريا. ويمكن لواشنطن القول: إن كل تحرك إيراني أو لحزب الله، على مقربة من الجولان صار اليوم تحركًا مهدِّدًا “للحدود” الإسرائيلية ذاتها، وليس للقوات الإسرائيلية المتمركزة في أرض سوريا فحسب. وهذا من شأنه إطلاق يد إسرائيل أكثر من السابق، ومن دون الأخذ بالاعتبار مطالب موسكو حول حجم العمليات ضد الإيرانيين وحدودها (وفق سياسة التوازنات التي سبق أن أدارتها روسيا بعد تدخلها العسكري في سوريا لإنقاذ نظام بشار الأسد صيف العام 2015).

والرابعة: أن القرار صدر في لحظة ما زال الغموض يكتنفها في ما خص الانسحاب الأميركي من شرق سوريا ومواعيده(4)، خاصةً أن المفاوضات الأميركية مع الأتراك ومع الميليشيات الكردية لم تحسم بعد حدود العملية العسكرية التي تصمم أنقرة على تنفيذها، وتحاول انتزاع الموافقة الأميركية عليها مقابل بحث في قضايا دفاعية وصفقات سلاح “يناور” الأتراك مع الروس والأميركيين على السواء بشأنها(5).

تداعيات القرار سوريًّا

يُضاف إلى ما ورد من حيثيات، واحدةٌ خامسة على ارتباط وثيق بتطورات الوضع السوري اليوم، الذي انهارت فيه الأطر السيادية جميعها وباتت عاصمة الدولة كما معظم مدنها الكبرى تحت “احتلالين”، روسي وإيراني، ويستعد شماله لاستحقاقات عسكرية وسياسية، إن في ريف حماه وإدلب المسلطة عليهما النيران(6)، أو في الشرق والشمال الشرقي حيث احتمالات الصدام التركي الكردي عالية.

وفي كل ذلك ما يسهِّل للأطراف الإقليمية والدولية التفاوض حول الشؤون السورية من دون العودة إلى أية مرجعية وطنية، ويمكن القول في هذا السياق: إن أي بحث مستقبلي في شؤون المسألة السورية سيتعامل مع واقعٍ تتداخل فيه قضية الجولان بسائر القضايا، فتفتح الباب لتكريس التنازع الإقليمي والدولي ليس على التأثير في مآلات الأمور سياسيًّا واقتصاديًّا فحسب، بل في السيطرة أو النفوذ الترابي أيضًا. وهذا قد يجعل الروس أكثر إحكامًا لقبضتهم على الساحل السوري المتوسطي، والأتراك على الشمال، والإيرانيين على الحدود العراقية والحدود اللبنانية (مع استهدافات إسرائيلية دورية لهم)، في حين يبقى الشرق السوري منطقة تنازُع يسعى الجميع، بمن فيهم القوى الكردية “المحلية” إلى الهيمنة فيها.

يأتي قرار ترامب إذًا ليضيف إلى المشهد السوري عناصر جديدة تعقِّد مساراته السياسية مستقبلًا، ولو أنها لا تُحدث تغييرًا في توازنات دينامياته الصراعية شمال البلاد وشرقها، ولا تغير الكثير قانونيًّا وعلى صعيد المواقف الدبلوماسية الدولية التي يبقى الجولان بعُرفها أرضًا سورية محتلة، لا مشروعية لقرار ضمها إسرائيليًّا ولا للاعتراف بذلك أميركيًّا.

وفي ختام هذه النقطة، من المهم الإشارة إلى أن قرار ترامب، لم يُثر الكثير من المواقف السورية؛ إذ استنكره نظام الرئيس الأسد من دون تحويل استنكاره إلى عمل ميداني أو دبلوماسي أو قانوني، واستنكرته أيضًا أطراف المعارضة، بما فيها تلك التي كانت تأمل دعمًا لها من واشنطن، على أن استنكارها بدوره لا يعدو كونه بيانات إعلامية بلا تبعات.

مخاطره لبنانيًّا

تبرز مخاطر وتحديات جديدة لبنانيًّا يُثيرها الاعتراف الأميركي بإسرائيلية الجولان. ذلك أن مزارع شبعا ومنطقة الغجر وبعض النقاط الأخرى التي ما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي هي -وفق سجلات الحدود لدى الأمم المتحدة- سورية. كما أن غزو إسرائيل لها تزامن مع سيطرتها على الجولان في حرب العام 1967، وهي تخضع بالتالي بحسب المنظمة الأممية للقرار 242 وليس للقرار 425 الذي صدر العام 1978 إثر اجتياح إسرائيل الأول للبنان، والذي اعتبر المراقبون الأمميون أن تل أبيب طبقته العام 2000 عند انسحابها من الشريط الحدودي بعد 22 عامًا من احتلاله. ورغم التباسات الخط الأزرق في منطقة شبعا نتيجة إصرار لبنان وسوريا على لبنانية المزارع -من دون تقديم وثائق رسمية تثبت ذلك وتطلب تعديل الحدود وتقديم ترسيم جديد لها يُنهي مفاعيل الخطوط القديمة المعترف بها منذ العام 1923 (تاريخ إنجاز الخرائط الفرنسية والبريطانية)- رغم ذلك، فإن الأوضاع الميدانية في المنطقة بقيت مجمدة حتى الآن، على اعتبار أن المزارع محتلة في أية حال، لبنانيةً كانت أم سورية.

أما أبرز المخاطر فتأتي من احتمال اعتبار إسرائيل ومعها الولايات المتحدة أن ما يسري على الجولان يسري على الأراضي الملحقة به على سفوح جبل الشيخ التي “انتزعتها” إسرائيل من سوريا، وأن كل تدخل لبناني في الأمر هو إقحام للبلد في مسائل إقليمية وفي مواقف مواجِهة لواشنطن وليس فقط لتل أبيب. هذا يعني في ظل التصعيد الأميركي الكبير ضد إيران، إدخالًا للأخيرة، عبر حليفها اللبناني حزب الله، في دائرة الصدام موضعيًّا مع واشنطن، تريده الأخيرة مدخلًا لعقوبات إضافية على الحزب وعلى لبنان.

أكثر من ذلك، يوفر الغطاء الأميركي الكامل للإسرائيليين في عملياتهم العسكرية ضد الإيرانيين وحلفائهم في سوريا تشجيعًا لهم على إيصال شظايا هذه العمليات أو حتى استهدافاتها المباشرة إلى لبنان. ويفاقم من خطورة الأمر احتمال أن تلجأ إيران إلى ردود ولَو محدودة على استهدافها في سوريا، فتختار الحدود اللبنانية والحليف المحلي القوي لتنفيذها.

وهذا إن حصل في بلد يمر كما لبنان بمجموعة أزمات اقتصادية ومالية وسياسية ومجتمعية، و”يسيطر” حزب الله على الجانب الاستراتيجي من سياسته الخارجية، يُنذر بمضاعفات تتخطى آثارها ما عرفه في العقود الماضية.

خاتمة

إن قرار دونالد ترامب المخالف للقوانين والقرارات الدولية يأتي ضمن سياق تتحضر واشنطن خلاله لاندفاعة شرق أوسطية جديدة على خطين. خط مضاعفة التصعيد والعقوبات على طهران، وخط دعم إسرائيل غير المحدود وغير المشروط، خاصة في مواجهة الفلسطينيين. وعلى تقاطع هذين الخطين يبدو لبنان مهدَّدًا مرحليًّا، وتبدو حكومته عاجزة عن أي تحرك مضاد أو أخذ إجراءات استباقية تستوعب التحديات المقبلة. وإذ يجوز اعتبار ما سمي يومًا “عملية سلام”، مبنية على مرجعية “مؤتمر مدريد” وقرارات الأمم المتحدة، قد انهارت تمامًا على المسار الفلسطيني وقبله على المسارين، السوري واللبناني، ولا يبدو أن الحكومات العربية ومعها جامعة الدول العربية بصدد مواقف واضحة تجاه ما يجري أو إجراءات لمواجهة مفاعيله أو لطرح بدائل عنه أو حتى للتذكير بما أطلقته العام 2002 في قمة بيروت من “مبادرة سلام عربية”. لا، بل يبدو بعضها متواطئًا أو على الأقل مستعدًّا للتواطؤ مع المقاربات الأميركية المستجدة والتراجع عما سبق وطالب به. هكذا، يدخل المشرق العربي بمعظمه مرحلة توترات إضافية وتجاذبات كبرى، قد تقدم الأشهر المقبلة أمثلة على احتمالاتها ومؤدياتها.

__________________________________________________________________

د. زياد ماجد، أستاذ دراسات الشرق الأوسط والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في باريس.

مراجع

(1) يفيد التذكير هنا بما اصطُلح على تسميته “وديعة رابين” حول العودة إلى خطوط الرابع من يونيو/حزيران 1967 في أي انسحاب، أو حتى في تفاصيل المفاوضات بين حافظ الأسد وإيهود باراك برعاية الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، في العامين 1999 و2000، والتي انفضت على فشل بسبب أمتار قليلة تفصل الحدود المقترحة إسرائيليًّا عن الضفة السورية السابقة لبحيرة طبريا، التي كان الرئيس السوري يذكر على الدوام أنه مارس السباحة فيها قبل العام 1967.

(2) أشارت تسريبات صحفية أميركية وإسرائيلية وأخرى عربية إلى أن الصفقة المذكورة تتضمن تعديلات حدودية بين ما كان معترفًا به كأراض فلسطينية في الضفة الغربية وإسرائيل، على نحو يسمح للأخيرة بضم كتل استيطانية إليها وقضم الأراضي المحيطة بها. بموازاة ذلك، تقدم السعودية ودول الخليج ودول أخرى تسعى واشنطن إلى تجنيدها مبالغ كبيرة للسلطة الفلسطينية لتمرير قبولها بالصفقة وتحولها إلى سلطة حكم ذاتي محدود لبعض الضفة. وفيما خص غزة، سيُترك لمصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية وبعض دول الخليج البحث في سبل إدارتها وتسهيل الأمور الحياتية فيها وإعادة فتح مرافئها ومرافق حيوية أخرى فيها، مقابل قبول حركتي حماس والجهاد الإسلامي بالتخلي عن السلاح والموافقة على الحل المطروح، أو التعرض لما يسمى “الحرب على الإرهاب”. أما القدس، فتبقى موحدة تحت السيادة الإسرائيلية، في حين يكون للسلطة الفلسطينية دور في إدارة مرافق تربوية وتعليمية في قسمها الشرقي إضافة إلى الإشراف على المواقع الدينية الإسلامية.

(3) وعد بنيامين نتنياهو خلال حملته الانتخابية، في مارس/آذار 2019، بضم تجمعات استيطانية حول القدس الشرقية وداخل الضفة الغربية إلى إسرائيل. وسبق لحكومته أن أصدرت في العام 2018 قانونًا يجيز مصادرة أملاك فلسطينية خاصة، بعد أن كانت المصادرة هذه تصيب الأملاك الفلسطينية العامة.

(4) تراجع الحديث في الفترة الأخيرة عن مسألة جدولة الانسحاب الأميركي من سوريا التي كان ترامب قد أعلن عنها ووعد بإتمام أبرز مراحلها في شهر أبريل/نيسان 2019. ويبدو أن الموضوع معلق راهنًا نتيجة صعوبة الوصول إلى حل حول مآل المناطق الشرقية والشمالية الشرقية التي يتمركز فيها الأميركيون منذ تدخلهم العسكري ضد “الدولة الإسلامية” ودعمهم للمقاتلين الأكراد في حربهم ضدها.

(5) تراهن أنقرة على قدرتها على إقناع واشنطن بتوسيع سيطرتها في الشمال السوري على حساب الميليشيات الكردية وإبعاد الأخيرة مسافة 30 كلم تقريبًا عن الحدود. وللرهان التركي المذكور ما يرتبط باعتبار تركيا نفسها قوة إقليمية لا يمكن لواشنطن المخاطرة بفقدان التحالف أو أقله التعاون معها. كما أن تركيا التي تتفاوض مع روسيا حول الملف السوري وأوضاع الشمال عامة، تبحث معها إمكانية شراء منظومة الصواريخ المتطورة، إس400. والشراء هذا الذي لا تستسيغه واشنطن وتُنذر أنقرة باحتمال تهديده برنامج التعاون بينهما الخاص بطائرات إف 35. ويمكن أن يتحول موضوع التسليح وصفقاته إلى عنصر مقايضة توظفه تركيا في هذا أو ذاك من الاتجاهات وفق ما يُعرض عليها سوريًّا من قبل واشنطن وموسكو.

(6) لم تتوصل تركيا وروسيا وإيران إلى اتفاقات حاسمة حول مستقبل الأوضاع في منطقة إدلب، التي تشهد كما الريف الشمالي لحماه تصعيدًا عسكريًّا كبيرًا تقصف خلاله الطائرات الروسية ومروحيات النظام السوري بلدات ومدنًا عديدة موقعة مئات الإصابات بين قتيل وجريح في صفوف المدنيين ومستهدفة مستشفيات ونقاطًا طبية (على نحو شبيه بما سبق ونفذته قبل هجومها على شرقي مدينة حلب وعلى الغوطة الشرقية). كما تتقدم منذ أيام قوات النظام في عدد من محاور القتال، بما يشي بقرار بتعديل خريطة الانتشار العسكري في المنطقتين المذكورتين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى