في سوريا الأسد.. الولاء وحده لا يكفي/ وليد بركسية
أن تكون شخصاً موالياً للنظام السوري ليس مهمة سهلة ومريحة مثلما قد يعتقد البعض، عطفاً على الدعاية التي يروجها خطابه الإعلامي والدبلوماسي للحياة تحت حكمه بوصفه سلطة عادلة وعصرية بعكس المعارضة “الإرهابية والمتخلفة”، فذلك الولاء يعني حكماً الحياة تحت شروط قاسية تبدأ من الإذلال الاقتصادي اليومي في طوابير الانتظار لتحصيل الحاجات الأساسية اليومية من الخبز إلى البنزين، وصولاً للخدمة العسكرية الإلزامية التي تبدأ ولا تنتهي، وليس انتهاء بأن التعبير عن ذلك الولاء ليس كافياً بحد ذاته لنيل الرضا، لأنه يجب أن يأتي ضمن لغة النظام ومفرداتها بنسبة 100%.
هذا الواقع المخيف، الأشبه بلمحة من عالم افتراضي في أجواء من الديستوبيا، لا يفرق بين مواطن سوري عادي وبسيط أو أحد المشاهير المحليين، حيث شهد الأسبوع الجاري ثلاثة قرارات شفهية من وزارة الإعلام، أكدتها وسائل إعلام محلية وأخرى إقليمية حليفة للنظام السوري، تقضي بمنع الممثلين عباس النوري وعابد فهد وأمل عرفة من الظهور في “الإعلام الوطني”، بما في ذلك التراجع عن بث عدة لقاءات إذاعية وتلفزيونية معهم مؤخراً، وذلك بعد أشهر من حملة قمع طاولت حتى الأشخاص العاديين بسبب تعليقات بسيطة في مواقع التواصل الاجتماعي.
ويشترك الفنانون الثلاثة في خاصيتين، الأولى قربهم من النظام معنوياً من دون أن يكونوا فعلاً جزءاً منه، والثانية وقوعهم بطريقة أو بأخرى في مخالفة لغة النظام أو سرديته عن “الهوية السورية”، ما يجعل القرارات بحقهم الحلقة الأخيرة من سلسلة من القرارات التي طاولت أسماء أقل شهرة وأكثر ارتباطاً بالنظام، مثل الناشطين الإعلاميين الذين أفسح لهم النظام مجالاً للعمل بـ”حرية نسبية”، قبل أن ينقلب عليهم تدريجياً منذ العام 2016، في مسعى واضح لاستعادة مركزية اللغة والخطاب وحصره بشخصيات تشكل جزءاً من النظام أو تعمل تحت مظلته على أقل تقدير.
وإن كان “ذنب” عرفة هو الأفجع، من وجهة نظر رسمية، بعد اعتذارها من السوريين الذين أساءت لهم لوحة قدمتها في مسلسل “كونتاك” سخرت من ضحايا الهجمات الكيماوية في البلاد، فإن خطيئة النوري لا تتعلق بكونه شارك سابقاً في مؤتمرات لـ”المعارضة الداخلية” للنظام حيث ينفي عن نفسه صفة المعارض بأي أشكالها، بل تتعلق بمخالفة خطاب النظام حول القائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي الذي يشكل في خطاب النظام رمزية تاريخية، بوصفه القائد الذي حرر القدس، وهي المهمة الأبدية التي بني خطاب النظام حولها لإعطائه شرعيته بشكله الحالي، ومن المسلي هنا تذكر كيف يشبّه محللو النظام على الشاشات الرسمية، صلاح الدين بالرئيسين حافظ وبشار الأسد.
يحيل ذلك إلى أن الولاء للنظام بات يتطلب الالتزام التام بما تحدده السلطة، لكن الخروج عن ذلك يستلزم العقاب، بطريقة أو بأخرى، من التهميش إلى الاعتقال، ويختلف الأمر هنا بين الشخصيات الموالية للنظام فقط كالممثلين الثلاثة، وبين الشخصيات الأكثر رسمية. فأمل عرفة مثلاً ليست ناطقة باسم النظام ولا جزءاً منه كنقيب الفنانين الممثل زهير رمضان أو عضو مجلس الشعب المخرج نجدة أنزور، واللذين لا يمكن أن يخرجا عن أدبيات السلطة لأنهما يكوّنان تلك السلطة ويحددان ماهيتها.
ومثل تلك الشخصيات، في مختلف المجالات، تصبح رموزاً حية تمثل النظام في نهاية المطاف، وتبقى بعيدة عن العقاب لأنها لا تقترف الخطأ بل تحدده. وإن كان النظام بارعاً في خلق الرموز ضمنه، حتى من خلال الشخصيات التي تعمل تحت مظلته، مثل قائدي الميليشيات العسكرية الرديفة لجيشه، كسهيل الحسن والراحل عصام زهر الدين، إلا أن تلك الرمزية تبقى محددة بإطار زمني تحدده الحاجة لتلك الرموز. وإن كان الجانب العسكري/السياسي لهذه المقاربة معقداً بعض الشي، حيث لا يمكن التكهن باللحظة التي تنتفي فيها الحاجة لتلك الشخصيات، فهو أكثر وضوحاً في المجالات الداعمة له، كالفن والإعلام والثقافة، بالتوازي مع تضخم شعور النظام بـ”الانتصار” في الحرب في البلاد، حتى لو حصل ذلك بدعم الحلفاء اللذين باتوا يتصارعون على تقاسم البلاد فيما بينهم.
فعلى سبيل المثال تخلى النظام عن عشرات الناشطين الإعلاميين، بعد العام 2016، ومنهم الناشط البارز وسام الطير صاحب شبكة “دمشق الآن” الموالية، محاولاً إنهاء سطوة الميليشيات على الإعلام مع تحول الناشطين الموالين لأصوات ناطقة باسم قادة الميليشيات إلى حد ما، وفيما طالت تلك الحملة مراسل التلفزيون السوري شادي حلوة الذي عاد إلى حجمه كمراسل عادي في مدينة حلب، بعدما كان مرافقاً دائماً للعقيد سهيل الحسن، فإنها كانت شديدة على مراسل قناة “الميادين” رضا الباشا، الذي منع من العمل، وهو صوت لا يشكل جزءاً من النظام بل رديفاً له فقط.
ويعني ذلك، أن النظام يحافظ على مركزيته والعناصر الفاعلة فيه، قدر المستطاع، وبشيء من الديناميكية عندما تقتضي الضرورة الملحة. أما العناصر الداعمة التي تدور في فلكه، من ناشطين وممثلين ومثقفين ومحللين وجمهور من المعجبين وما تبقى من المواطنين المساكين، فكلهم عناصر قابلة للاستبدال، ويتم توظيفها مرحلياً لخدمة اللب المركزي في النظام فقط، والذي تتعدد طبقاته وفق الأهمية التي يحددها المجال والدور الوظيفي الذي يتركز حول استمرارية النظام للأبد حسب شعاراته المعروفة.
اللافت هنا أن النظام لا يصدر تعليقات حول كل تلك القرارات التي تبقى مجرد أوامر شفهية، وحتى في حالة الممثلين الثلاثة، تناقلت صفحات رسمية أو يديرها أشخاص يعملون ضمن مؤسسات النظام، بأن النظام ليس متفرغاً للرد على كل إشاعة يتم تناقلها في مواقع التواصل الاجتماعي، وأن النظام ليس متفرغاً لتوجيه عقوبات فردية، رغم أن ذلك هو كل ما يقوم به على أرض الواقع منذ خمسة عقود بحق السوريين في المجمل، بوصفه دولة بوليسية.
المدن