انتخابات الإعادة في إسطنبول.. حسابات الربح والخسارة وتأثيراتها على الوضع في سورية –مقالات مختارة-
في خسارة إسطنبول وما بعدها/ بكر صدقي
بحساب بارد وبسيط، خسر حزب العدالة والتنمية الحاكم رئاسة بلدية إسطنبول، محتفظاً بالغالبية في مجلس البلدية، وكذا برئاسات ومجالس كثير من البلديات الفرعية فيها. وعلى رغم أجواء «المعركة المصيرية» التي سادت انتخابات إسطنبول، ما زال «العدالة والتنمية» يحتفظ برئاسة الجمهورية بصلاحياتها الموسعة والحكومة والغالبية البرلمانية، إضافة إلى عدد كبير من بلديات المدن التركية، وأمامه فترة تزيد عن أربع سنوات قبل حلول موعد الانتخابات العامة والرئاسية المقبلة، خريف العام 2023. أضف إلى ذلك أن المؤسسة العسكرية باتت تحت سلطة الرئيس، فاقدةً دورها القديم في الوصاية على الحياة السياسية. ويسيطر الحزب الحاكم على تسعين في المئة من وسائل الإعلام، إضافة إلى المؤسسة القضائية التي فقدت استقلاليتها، إلى حد كبير، إزاء السلطة التنفيذية. فما الذي جعل نتيجة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول المعادة كما لو كانت هزيمة كبيرة للحزب الحاكم، في نظره بالذات ونظر خصومه المعارضين معاً؟
الواقع أنها هزيمة معنوية أكثر من كونها هزيمة حقيقية، ومؤشراً على خط منحدر يمضي فيه الحزب وينذر بمزيد من الانحدار في شعبيته وسلطته. ولعل أخطر ما في نتائج الانتخابات الأخيرة هو تصويت قسم من القاعدة الانتخابية التقليدية للحزب الحاكم لصالح مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، وقد كان هذا واضحاً في نتائج بعض «قلاع» الحزب الحاكم في إسطنبول كمناطق «فاتح» و«أيوب سلطان» وأوسكودار» وإن كان من الصعب تقدير حجم هذا «الانشقاق» لدى ناخبي الحزب. كذلك حافظ حزب الشعوب الديموقراطي، ممثل الكرد، على استراتيجيته المتمثلة في دعم مرشح المعارضة، على رغم إقحام السلطة عبد الله أوجالان في المشهد، رغبةً منها في التأثير على تصويت ناخبي الحزب الكردي، أو على الأقل ناخبي الكرد المحافظين في إسطنبول. بل إن هذا الإقحام لزعيم «العمال الكردستاني» السجين قد أعطى نتائج سلبية، فخسر مرشح الحزب الحاكم دعم ناخبي حزب الحركة القومية الذين لا يتسامحون مع شيء كالاستعانة بأوجالان، فضلاً عن عدم رضى قسم كبير منهم عن تحالف حزبهم مع «العدالة والتنمية» حتى قبل الاستعانة المذكورة.
«للمرة الأولى نحصل على أصوات من خارج قاعدتنا الانتخابية التقليدية» يقول كمال كلجدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري الذي فاز مرشحه في الانتخابات. «استطعنا التواصل مع مختلف البيئات الاجتماعية» يتابع مفسراً هذا الفوز بفارق لم يتوقعه بهذا الحجم «فالتقينا وجهاً لوجه مع البيئات المحافظة والكردية وغيرها من البيئات الاجتماعية على امتداد البلاد».
هل يمكن تحويل هذه المروحة الواسعة التي منحت مرشح الحزب نسبة من أصوات الناخبين تفوق النسبة المعتادة التي يحصل عليها الحزب، عادةً، بأكثر من مرتين، إلى تحالف واسع مستدام من شأنه تغيير معادلات القوة الاجتماعية لغير صالح الوضع القائم؟ يبدو هذا صعباً، بالنظر للشروط القائمة اليوم. فلا يمكن، مثلاً، توقع تحالف سياسي يضم كلاً من الحزب الكردي والحزب الخيّر ذي الإيديولوجية القومية التركية المتشددة، أو تحالفاً يضم الحزب العلماني مع حزب السعادة الإسلامي.
غير أن التحليلات القائمة على لحظة سكونية محكوم عليها بالفشل، في بلد مثل تركيا يتمتع بديناميات اجتماعية عالية، وبخاصة أن الوضع العام يتصف بكثير من الهشاشة والبعد عن الاستقرار، سواء بالنظر إلى الصعوبات الاقتصادية المرشحة للتفاقم، أو التحديات الخارجية الداهمة كالعلاقات مع الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا وإيران، والمشكلة السورية بأبعادها وتعقيداتها.
بات من المعروف، مثلاً، أن كيانات سياسية جديدة هي قيد التشكل الآن، سيكون لظهورها المرتقب آثار سلبية على الحزب الحاكم. ونعني بها انشقاقات من «العدالة والتنمية» يستعد لها الوزير السابق علي باباجان، من جهة، ورئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو من جهة ثانية. ستشكل خسارة انتخابات إسطنبول حافزاً لانشقاق قسم من نواب الحزب الحاكم وانضمامهم إلى أحد الكيانين المشار إليهما، فيفقد غالبيته المطلقة في البرلمان.
هل يؤدي ذلك إلى انتخابات عامة مبكرة؟ قال كلجدار أوغلو إن حزبه لن يطالب بانتخابات مبكرة، في حين قال دولت بهجلي المعروف بدعوات سابقة مفاجئة إلى انتخابات مبكرة، إن مطالبة من هذا النوع أمر غير مقبول. على أي حال، لا يمكن لانتخابات مبكرة أن تغيّر الحكم، بالنظر إلى أن النظام الرئاسي الجديد لا يكترث بتغيير خارطة التمثيل السياسي في البرلمان، فالرئيس غير معني بتشكيل حكومته بناء على غالبية برلمانية، ولا يمكن للبرلمان أن يسحب الثقة منها. لذلك أصبح التغيير في السلطة مشروطاً بالانتخابات الرئاسية حصراً، وما زال هناك أكثر من أربع سنوات على موعدها القادم.
لكن الحزب، وبالأخص أردوغان، ليس من النوع الذي يركن للاسترخاء في السنوات الأربع القادمة، بل من المتوقع أن يبدأ العمل من الآن على تغيير وجهة الانحدار الذي كشفت عنه انتخابات 23 حزيران/يونيو بصورة صاخبة. يتوقع الرأي العام أن تكون المحاسبة الداخلية قد بدأت فعلاً في أروقة الحزب الحاكم، بالنظر إلى تراشق الاتهامات، في الإعلام الموالي، بالمسؤولية عن الخسارة التي حدثت. وإلى جانب حملة تطهير وإعادة هيكلة متوقعة داخل الحزب، تتحدث تسريبات عن تعديل جزئي في الحكومة ربما يشمل وزير الداخلية سليمان سويلو ووزير المالية برات ألبيرق. كما سبق للرئيس أردوغان أن طرح مشروعاً لإصلاح المؤسسة القضائية، قبل فترة من الانتخابات، تحت ضغط الصعوبات الاقتصادية، سنرى كيف سيتم تطبيقه. كذلك أقر البرلمان، ثم الرئيس، قانون التجنيد الجديد الذي يقلص حجم القوات المسلحة ويحولها إلى جيش شبه محترف. أما عودة التواصل مع عبد الله أوجالان، فلا نعرف بعد أبعاده السياسية التي قد تتجاوز مجرد الحاجة إلى تدخله في مسار انتخابات بلدية إسطنبول. هل ستكون هناك إعادة إطلاق مسار الحل السلمي؟ ننتظر ونرى.
قوى المعارضة بدورها ستجد نفسها أمام استحقاق التغيير. فإضافة إلى التعاون الذي حصل، بمناسبة انتخابات إسطنبول، بين عدد من أحزاب المعارضة، من المتوقع أن تحصل تفاعلات متنوعة بين هذه الأحزاب والكيانات السياسية الجديدة المتوقع ظهورها قريباً. وربما نشهد تغييرات في برامج تلك الأحزاب وخطاباتها بما يناسب طموحاتها للمرحلة القادمة.
كاتب سوري
القدس العربي
انتخابات الإعادة في إسطنبول.. حسابات الربح والخسارة
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
أعلنت اللجنة العليا للانتخابات في تركيا النتائج النهائية لانتخابات رئاسة بلدية إسطنبول المعادة التي أجريت في 23 حزيران/ يونيو 2019، بعد إلغاء نتيجة انتخابات 31 آذار/ مارس 2019، إثر اعتراضاتٍ قدّمها حزب العدالة والتنمية. وقد أعيدت الانتخابات بعد حملةٍ قوية استمرت قرابة 85 يومًا تنافس فيها أقوى المرشحين حظًا: بن علي يلدرم، مرشح تحالف الشعب (يضم حزب العدالة والتنمية والحركة القومية)، وأكرم إمام أوغلو، مرشح تحالف الأمة (يضم حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد)، علمًا أن 17 مرشحًا مستقلًا شاركوا أيضًا في الانتخابات. ويوضح الجدول التالي النتائج.
وقد كانت نتائج المرشحين في انتخابات الإعادة وفق التالي: حاز أكرم إمام أوغلو على 4741868 مليون صوت بنسبة 54.21 في المئة، وبن علي يلدرم على 3935453 مليون صوت بنسبة 44.99 في المئة، وكان الفارق بينهما 806415، فيما حاز بقية المرشحين على76500 صوت.
مفاجأة الانتخابات
لم يمثّل فوز مرشح المعارضة، أكرم إمام أوغلو، مرة أخرى مفاجأة في حد ذاته، فقد توقّعته غالبية استطلاعات الرأي، للأسباب والعوامل التي أسهمت في فوزه في المرة الأولى. ولكن المفاجئ أنه، على الرغم من ثبات نسبة المشاركة في المرتين (نحو 84%)، فإن الفارق في الأصوات زاد لمصلحة إمام أوغلو؛ إذ ارتفع عدد أصوات مؤيديه من انتخابات 31 آذار/ مارس بنحو 550 ألف صوت، بينما خسر منافسه بن علي يلدرم (على الرغم من الحملة المكثفة والمكلفة ومحاولة تصحيح عدد من الأخطاء السابقة) 250 ألف صوت، مقارنة بانتخابات 31 آذار/ مارس، وقد مثّل هذا الأمر صدمةً لمؤيدي حزب العدالة والتنمية.
عندما طعن حزب العدالة والتنمية في نتيجة انتخابات إسطنبول الماضية، كان يسعى إلى إعادة فرز الأصوات في كامل مقاطعات إسطنبول. ورفض حزب الشعب الجمهوري ذلك، فاضطر “العدالة والتنمية” إلى التوجه بطعون لإعادة الانتخابات كاملة. وكانت تقديراته أن جهدًا إضافيًا واستدراكًا لبعض الأخطاء، وتركيزًا على أخطاء إمام أوغلو، يمكن جميعها أن تجسّر الفارق البسيط في انتخابات 31 آذار/ مارس، وكان قرابة 13 ألف صوت فقط. وقد تجاهلت قيادة حزب العدالة والتنمية نصائح بعدم السعي إلى إعادة الانتخابات، وهي نصائح تستند إلى سببين: المحافظة على نقاء صورة العملية الديمقراطية وترسيخ مكانة تركيا في نادي الدول الديمقراطية. جعْل فوز إمام أوغلو محاطًا بشبهة التحايل والتزوير وبفارق لا يكاد يذكر. ولكن أهمية بلدية إسطنبول التي تفتح طريقًا لكل من يفوز بها إلى الحكم، وعدم قدرة قيادة “العدالة والتنمية” على استيعاب فكرة خسارتها، دفعَا نحو المجازفة والوصول إلى الخسارة الكبرى التي لحقت بالحزب.
لماذا فشلت إستراتيجية “العدالة والتنمية”؟
بعد أن قرّرت اللجنة العليا للانتخابات إعادة الانتخابات في إسطنبول، انطلقت الماكينة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية لاستدراك الأخطاء التي وقعت في الحملة السابقة، والتي أدت إلى خسارته إسطنبول، ومنها:
1. تجنب المبالغة والتهويل بشأن تأثير نتائج الانتخابات في مستقبل تركيا ووجودها، وقد لقي هذا الأمر استهجانًا واسعًا من فئات المجتمع والقوى السياسية والحزبية في الانتخابات الماضية، باعتبار أن ما يجري ليس إلا انتخابات بلدية، وأن التهويل يهدف إلى تخويف الناخب، ومنعه من التعبير عن إرادته الحرة في اختيار ممثليه للبلديات. وكان تراجع حزب العدالة والتنمية عن هذا الخطاب في انتخابات الإعادة إقرارًا ضمنيًا منه بخطأ استخدامه سابقًا. والواقع أن هذا الخطاب برز بضغطٍ من حزب الحركة القومية في الانتخابات السابقة، والذي كان يدفع باتجاه إضعاف التمثيل الكردي في البرلمان. ولذلك عندما تراجع حزب العدالة والتنمية عن هذا الخطاب في انتخابات الإعادة خسر جزءًا مهمًا من القاعدة الانتخابية القومية التي صوّتت له في المرة الماضية. وقد ثبت، أكثر من مرة، أن التحالف مع القوميين الأتراك الذي كان مفيدًا في مرحلة تغيير الدستور إلى النظام الرئاسي أصبح يُلحق ضررًا بشعبية “العدالة والتنمية”.
2. حرمان مرشح المعارضة من الصوت الكردي: بناءً على تقدير حزب العدالة والتنمية، فإن 4% من الأصوات التي حصدها إمام أوغلو في 31 آذار/ مارس جاءت من قاعدة حزب الشعوب الديمقراطي الكردي. وبناء عليه، حاول حزب العدالة والتنمية نقل الصوت الكردي من مرشح المعارضة إلى مرشّحه، عبر تكثيف الحملات في مناطق التجمعات الكردية وزيارة المدن الكردية، مثل ديار بكر، ولقاء العشائر والأهالي، لحثّ أبنائهم على التصويت لمرشح حزب العدالة والتنمية. ولكن هذه الخطوات أحدثت أثرًا ضعيفًا، على نحوٍ حدا بالحكومة، في محاولةٍ لكسب الصوت الكردي، إلى استخدام ورقة عبد الله أوجلان، فجاءت النتائج كارثية؛ ذلك أنه تم السماح لزعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل منذ عام 1999 بلقاء فريق محاميه، وإرسال رسالةٍ إلى ناخبي حزب الشعوب الديمقراطي جاء فيها أنّ “مفهوم التحالف الديمقراطي، في حزب الشعوب الديمقراطي، يقضي بألّا يكون طرفًا أو سندًا في مناقشات الانتخابات الحالية، وأن أهمية التحالف الديمقراطي، تكمن في ألّا يشارك في المعضلات، ويصرّ على موقفه المحايد في الانتخابات”.
3. يعد عبد الله أوجلان في تركيا إرهابيًا، وغالبًا ما تطلق عليه وسائل الإعلام القريبة من الحكومة وصف زعيم الإرهابيين أو قاتل الأطفال، لكن محاولة استخدامه في معركة سياسية داخلية، والسماح له بتوجيه رسالةٍ قبل ثلاثة أيام من الانتخابات بغرض التأثير في نتائجها، جاءا بنتائج عكسيةٍ كبيرة؛ فبدلًا من ثني الناخبين الأكراد، أو قسم منهم عن التوجه إلى الصناديق، شعروا بأن عليهم فعل عكس الرسالة تمامًا، خصوصا أن أوجلان لم يتخذ هذا الموقف في انتخابات 31 آذار/ مارس، ومن ثم فإن موقفه الجديد ولّد انطباعًا بأن ضغوطًا مورست عليه. أما القوميون فقد رفضوا محاولات حليفهم “العدالة والتنمية” التودد إلى الأكراد، في حين دخل حزب الشعب الجمهوري المعارض في تحالفٍ ضمني مع حزب الشعوب الديمقراطي (لم يقدّم مرشحًا لرئاسة بلدية إسطنبول، ولو قدّم لكانت النتيجة لمصلحة حزب العدالة والتنمية بالتأكيد). وهكذا جاءت رسالة أوجلان بنتائج عكسية، إذ تقاعس القوميون عن المشاركة في الانتخابات، على الرغم من مناشدة زعيمهم دولت بهتشلي، في حين صوّت الأكراد عكس رغبة الرئيس رجب طيب أردوغان. وفي الحالتين، لم تلتزم القواعد بمواقف قيادات أحزابها.
4. محاولة التأثير في ناخب حزب السعادة، إذ تعتبر كتلتا حزب السعادة وحزب العدالة والتنمية متقاربتين فكريًا وأيديولوجيًا، وقد حصل مرشح حزب السعادة في 31 آذار/ مارس على مائة ألف صوت في إسطنبول، وقد حاول “العدالة والتنمية” التقرّب من قاعدة “السعادة” للحصول على هذه الأصوات في انتخابات الإعادة، فكثّف حملته في صفوف الحزب، وأجرى لقاءاتٍ مع نخبه، وكانت التوقعات تشير إلى أن نصف الأصوات تقريبًا أو أكثر بقليل سيذهب إلى حزب العدالة والتنمية، ولكن ما حدث هو العكس، إذ حصل مرشح “السعادة” على 50 ألف صوت، ويُرجح أن الـ 50 ألف صوت الأخرى ذهبت إلى إمام أوغلو الذي ارتفعت نسب التصويت له في أحياء الفاتح وأيوب وأسكودار، وهي مناطق محسوبة على حزب العدالة والتنمية، وفيها تأييد لحزب السعادة.
5. التركيز على أخطاء إمام أوغلو؛ إذ ركّز حزب العدالة والتنمية على قضية التزوير وسرقة الأصوات وأخطاء أخرى له من قبيل شتمه والي مدينة أوردو، ثم إنكاره ذلك، على الرغم من وجود فيديو مسجل يثبت هذا. ولكن يبدو أن هذه الحملة لم تخاطب إلا الكتلة الصلبة لحزب العدالة والتنمية، ولم تؤثّر في مَن هم خارجها، ولا سيما المستائين من سياسات الحكومة، وفي مقدمتها تعيين صهر الرئيس أردوغان وزيرًا للمالية، وملفات الفساد والمحسوبية، وقضية اللاجئين السوريين التي تم استخدامها على نطاق واسع خلال الحملة الانتخابية. وقد حاول حزب العدالة والتنمية استدراك فشله، بالتركيز على قضايا أهم بالنسبة إلى الناخب، مثل البطالة والاقتصاد وغيرها، لكن إستراتيجية الحزب في الخطوط الرئيسة أعلاه فشلت في تحقيق أي فارق، ذلك أنها جاءت متأخرة.
لماذا زادت أصوات إمام أوغلو؟
أدت مجموعة من الأسباب إلى تحويل نصر مرشح المعارضة بهامش بسيط في انتخابات 31 آذار/ مارس إلى نصر ساحق في انتخابات الإعادة، أهمها:
1. عامل المظلومية، أو كما يسمى باللغة التركية “المغدورية”، إذ قدّم إمام أوغلو نفسه باعتباره ضحيةً لماكينة الحزب الحاكم الإعلامية والدعائية ومناوراته السياسية، في محاولة لحرمانه (إمام أوغلو) من حقه الذي منحه إياه الناخب التركي في رئاسة بلدية إسطنبول، وأن نصره الانتخابي سُرق منه نتيجة ضغوط مارستها الحكومة على اللجنة العليا للانتخابات لإعادتها. وقد دفع هذا الأمر شريحة لا بأس بها من الناخبين إلى التعاطف مع إمام أوغلو، بدليل ارتفاع نسب التصويت له في جميع مقاطعات إسطنبول ال 39.
2. لم يكن إمام أوغلو معروفًا على نحو كبير لجميع سكان إسطنبول في الانتخابات الماضية، ولكن الأمر اختلف بعد أن فاز برئاسة البلدية في 31 آذار/ مارس، وقد استغل شخصيته الكاريزمية وأسلوبه اللبق وحيويته وخطابه التجميعي المتفائل خلال الحملة الانتخابية الأخيرة لكسب مزيد من الأصوات. وعلى الرغم من خبرة يلدرم، فقد استفاد إمام أوغلو من الصورة التي أظهرته في المناظرة التلفزيونية شابًّا مفعمًا يسعى إلى التغيير، ويتحدث عن المستقبل، مقابل يلدرم الذي كان كل حديثه عن الماضي، وعن إنجازاته فيه. وقد حقّق إمام أوغلو أصواتًا أكثر من المرة السابقة في المناطق ذات الكثافة العلمانية، مثل بشكتاش وبكركوي وكاديكوي، وقلَب النتيجة على منافسه في مناطق إسطنبول المحافظة.
3. بدأت آثار التراجع الاقتصادي في تركيا تظهر بصورة أكبر خلال الشهور الماضية، خصوصا البطالة بين الشباب، والتضخم الذي يؤثر في قطاع التجارة والأعمال، ومن ثم، كان الوقت في عملية إعادة الانتخابات في مصلحة المعارضة، وليس في مصلحة الحزب الحاكم.
خاتمة
من الواضح أن حزب العدالة والتنمية أخطأ التقدير بقرار إعادة الانتخابات. ولو أنه قبل النتيجة الأولى، لكان أفضل له، ولصورة العملية الديمقراطية في تركيا؛ ذلك أن سلسلة الانتصارات التي دأب الحزب على تحقيقها منذ عام 2002 انكسرت وبقوة، وفي أبرز معاقله (إسطنبول التي احتفظ برئاسة بلديتها نحو عقدين). لقد اكتسب أكرم إمام أوغلو زخمًا كبيرًا خلال هذه الانتخابات، وأصبح قياديًا مهمًا لدى المعارضة، وهو ما يؤهله ليكون منافسًا محتملًا قويًا في أي انتخاباتٍ قادمة. بناء عليه، من المرجّح أن يعمل حزب العدالة والتنمية على مراجعةٍ جذرية للنتائج، وأن يقوم بتقييم أسباب عزوف الناخبين عنه، وعدم كفاية تحالفه مع الحركة القومية لتأمين فوزه. كما سيقوم على الأرجح بتقييم رؤية الناخبين لسياسات الحزب، وسلوك شخصياته، خصوصًا الوزراء، ومن المحتمل أن تجري تغييرات كبرى على مستوى القيادات والكوادر في الحزب والحكومة. لكن التحدّي الأكبر الذي سيواجه الحزب خلال الفترة المقبلة هو منع حصول انقسام داخله، في ظل الحديث عن تشكيل أحزاب جديدة، بمبادرات من قيادات سابقة فيه، مثل أحمد داود أوغلو وعلي باباجان وعبد الله غول. وهذا لن يحصل إلا إذا تغيَّر نهج التهميش والإقصاء الذي دفع بكفاءات الحزب وكوادره إلى الانزواء والتفكير في الخروج منه.
في الحصيلة، حصل مرشح المعارضة، أكرم إمام أوغلو، على 4 ملايين و700 ألف صوت تقريبًا، وهو العدد نفسه الذي صوّت ضد التعديلات الدستورية في إسطنبول في 16 نيسان/ أبريل 2017، وهو الاستفتاء الذي فاز فيه حزب العدالة والتنمية بنسبة 51.4% مقابل 48.6%. ولكن ما تجدر الإشارة إليه أن الفارق الذي حقّقه إمام أوغلو خلال شهرين هو 800 ألف صوت، أي ما يعادل 2% من أصوات الناخبين الأتراك، وهو المعطى الرقمي الذي يجب أن يدخل في حسابات التنافس في أيّ انتخابات مقبلة، إضافة إلى المعطى المعنوي المتمثل في فوز مرشّح المعارضة مرتين.
العِبرة الكبرى من إعادة الانتخابات في اسطنبول/ جلبير الأشقر
أجمع المعلّقون على أن نتيجة إعادة الانتخاب لمنصب رئيس بلدية إسطنبول يوم الأحد الماضي جاءت بمثابة هزيمة سياسية كبيرة للحزب الحاكم، «حزب العدالة والتنمية»، إذ أنها لم تؤكّد شرعية انتخاب مرشّح «حزب الشعب الجمهوري» المعارض وحسب، بل عزّزتها بصورة قاطعة حيث ازداد فارق الأصوات بينه ومرشّح الحزب الحاكم من ثلاثة عشر ألف صوت إلى ما يناهز ثمانمائة آلاف، ومن فارق بسيط نسبته 0.2 في المئة من مجمل الأصوات إلى فارق نسبته 9.2في المئة وذلك على خلفية مشاركة انتخابية بالغة الارتفاع.
ومن تحليل النتائج يتبيّن أن الفارق بين الانتخابات الأصلية والإعادة سببه الرئيسي انتقال عدد هام من الذين صوّتوا لمرشّح الحزب الحاكم في آذار/ مارس الماضي إلى التصويت لمرشّح المعارضة، اعتراضاً منهم على ما رأوا فيه طعناً بالديمقراطية من قبل «حزب العدالة والتنمية». هذا لأن الحجة التي جرى إلغاء النتيجة السابقة بسببها بدت كحجة واهية ملفّقة، تندرج في نمط سلطوي متصاعد لدى حزب حاكم يصعب عليه القبول بهزيمته أمام الرأي العام. وقد سبق للحكم التركي أن أعاد الانتخابات البرلمانية في سنة 2015 بعد أن خسر فيها أغلبية المقاعد المطلقة التي كان يحوز عليها، ولم يضمن استمرار حيازته على الأغلبية سوى بالتحالف الذي عقده مذّاك مع «حزب الحركة القومية» اليميني المتطرّف.
ومن المعروف أن ثمن ذلك المنعطف كان إعادة إشعال الحكم التركي للحرب على الحركة القومية الكردية التي يقودها «حزب العمّال الكردستاني» بعد سنوات طويلة من الهدنة بما فيها فسح المجال أمام تلك الحركة للخوض في العملية السياسية الديمقراطية، وصولاً إلى تشكيل ائتلاف «حزب الشعوب الديمقراطي» الذي يسود فيه أنصارها. والحال أن الهدنة على الجبهة الكردية، بعد أن ظلّت مشتعلة طوال عقود قبل وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى الحكم، كانت من أبرز الإنجازات المنسوبة إلى رجب طيّب أردوغان. وبنتيجتها استمرّت أغلبية الأصوات الكردية تذهب إلى «حزب العدالة والتنمية» حتى تشكيل «حزب الشعوب الديمقراطي» وولوجه الميدان الانتخابي.
جاء منعطف «حزب العدالة والتنمية» القومي في عام 2015 ردّاً منه على قرار الحركة الكردية السعي وراء تشكيل قطب سياسي مستقل في الساحة السياسية التركية. وهذا الأمر الأخير هو العامل الرئيسي الذي أفقد «حزب العدالة والتنمية» الأغلبية البرلمانية في الجولة الأولى من انتخابات 2015 بما حداه على حلّ البرلمان وتنظيم جولة جديدة بعد قيامه بمنعطف سياسي معادٍ للحركة الكردية. ومن المعروف أن الحكم التركي شنّ منذ ذلك الحين حملة قمعية متصاعدة ضد «حزب الشعوب الديمقراطي» وأقال العديد من ممثليه المنتخبين في البلديات ليعيّن أزلامه مكانهم، كما ألغى نيابة سبعة من نواب الحزب واعتقل ستة آخرين بينهم رئيس الحزب حتى ذلك الحين، صلاح الدين دميرطاش.
فقد انتقل «حزب العدالة والتنمية» من الاتكال على الأصوات الكردية بلعبه ورقة الإسلام المعتدل الجامع للأتراك والكُرد إلى الاتكال على الأصوات القومية التركية بلعبه ورقة العصبية القومية التركية. غير أن تلك اللعبة إن ضمنت للحزب الحاكم استمرار استئثاره بمقاليد السلطة ومنافعها عل النطاق العام من خلال ضمان غالبية الأصوات الريفية، إنما كلّفت الحزب نسبة هامة من الأصوات المدينية من خلال التقاء أصوات الطبقات الوسطى المدينية مع أصوات الكُرد النازحين من الأرياف وهم نسبة هامة من الناخبين في المدن الرئيسية، لاسيما العاصمة السياسية أنقرة والعاصمة الاقتصادية إسطنبول. وقد ساهم هذا الأمر في إفقاد «حزب العدالة والتنمية» للأغلبية في كافة مدن تركيا الرئيسية بما فيها العاصمتين.
وقد فطن الحزب الحاكم إلى هذا الأمر. فبعدما ألغى نتيجة انتخابات بلدية إسطنبول في آذار/ مارس الماضي وفرض إعادتها، انصبّ جهده على تغيير التصويت الكردي. فلجأ إلى حيلة قديمة هي توظيف رئيس «حزب العمّال الكردستاني»، عبد الله أوجلان، الذي يقبع في السجن منذ عشرين عاماً. وقد نشرت وسائل الإعلام التركية، التي يُشرف عليها الحزب الحاكم أو يملكها، دعوة منسوبة إلى عبد الله أوجلان تحثّ الكُرد في اسطنبول على التصويت لمرشّح «حزب العدالة والتنمية»، بيد أن المناورة فشلت فشلاً ذريعاً.
تندرج خلاصة ما سبق في المحصّلة العامة: فقد عرف «حزب العدالة والتنمية» سنوات ذهبية في حكمه عندما كان يرى فيه الناخبون حزباً يسعى وراء تحقيق سلطة مدنية ديمقراطية وإحراز السلام في تركيا بما ترافق مع ازدهار اقتصادي تواصل عدّة سنوات. أما في السنين الأخيرة فقد انعكست كافة هذه الأمور: بدأ رجب طيّب أردوغان ينزلق على منحدر السلطوية بما أثار اشمئزاز بعض أقطاب حزبه، فما بالكم بسائر ألوان الطيف السياسي، وانتقلت صورته من صورة الرجل النظيف إلى صورة الحاكم الذي يولّي عائلته ومحاسيبه مناصب الدولة ويمنحهم عقودها. وقد أعاد الحكم التركي شنّ الحرب وحملات القمع الشنيعة على الحركة الكردية، بينما أخذ الاقتصاد التركي يتراجع بما يُنذر بأزمة اقتصادية ومالية عظيمة.
قبل قرن ونصف، كتب الرجل السياسي والمفكّر الكاثوليكي الإنكليزي لورد أكتون تعليقاً واحتجاجاً على إعلان الفاتيكان لمبدأ «العصمة الباباوية»: «تنزع السلطة إلى الإفساد، وتُفسد السلطة المطلقة بصورة مطلقة. ويكاد كبار الرجال أن يكونوا دائماً رجالاً سيّئين، حتى عندما يمارسون النفوذ بدل السلطة، وكم بالأحرى عندما تنضاف نزعة الإفساد الناجم عن السلطة، بل حتمية ذلك الإفساد».
كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي
هل يخسر الحكام التسلطيون الانتخابات؟/ صادق عبد الرحمن
أظهر سوريون كثر، من توجهات إسلامية على وجه الخصوص، غضباً عدوانياً جارفاً تجاه كل سوري أعلن ارتياحه أو سروره بنتائج جولة إعادة انتخاب رئيس بلدية اسطنبول، التي فاز فيها أكرم إماموغلو مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض، على حساب بن علي يلديرم مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.
وقد استخدم هؤلاء الغاضبون عتاداً خطابياً متنوعاً، حضرت فيه الاتهامات بخيانة الثورة السورية، بالاستناد إلى مقولة أن أردوغان وحزبه هم حلفاء الثورة الوحيدون في تركيا؛ وحضرت فيه الاتهامات بالكفر والإلحاد و«العلمانجية»، بالاستناد إلى مقولة أن أردوغان وحزبه تيار إسلامي، وبالتالي فإن جميع الانتقادات الموجهة له تنطلق بالضرورة من موقع كاره للقوى الإسلامية؛ وحضرت فيه الاتهامات بنكران الجميل، باعتبار أن أردوغان هو من استقبل ملايين السوريين في تركيا، ويقتضي الوفاءُ الوقوفَ إلى جانبه.
لكن من أكثر الأفكار حضوراً في قلب هذا الغضب، كانت الفكرة التي تقول إن خسارة أردوغان وحزبه للانتخابات دليلٌ على أنه حاكم ديمقراطي، رداً على كل اتهام له بأنه صاحب توجهات تسلطية أو دكتاتورية. ذلك أنه، بحسب أصحاب هذه الفكرة، لا يخسر الحكام التسلطيون الانتخابات، بل يمنعون إجراءها أصلاً، أو يزوّرونها إن أُجريت. وقد استخدم كثيرون هذه الفكرة بنبرة ساخرة، معتبرين أنهم يفضحون تناقضاً في خطاب خصومهم، وأنهم يكشفون عبر هذا التناقض عن دوافع أخرى، غير الانحياز للديمقراطية، في مواقف الفرحين بهزيمة مُرشّح العدالة والتنمية.
ولكن هل يخسر حكام تسلطيون الانتخابات؟ الجواب ببساطة هو نعم، بل أكثر من ذلك، إن فكرة تداول السلطة عبر الانتخابات وُجدت أصلاً لمواجهة الحكام التسلطيين والتيارات ذات التوجهات التسلطية؛ هذا مبرر وجودها، أنها أداةٌ تُستخدم من أجل لجم مطامح الديكتاتوريين وأصحاب المشاريع الاستبدادية، وإعطاء الشعب إمكانية إزاحتهم عن السلطة دون اللجوء إلى العنف وسفك الدماء.
ولا يخسر الحكام التسلطيون الانتخابات فقط، لكنهم يربحونها في أحيان كثيرة، دون أن ينفي هذا عنهم صفة التسلط والديكتاتورية. ولدينا أمثلة فاقعة على أشخاص معادين للديمقراطية، وصلوا إلى السلطة عبر انتخابات لم يتحدث عن تزويرها أحد، من بينهم من نجح بعد انتخابه في قيادة تراجع هائل عن كل ملامح الديمقراطية في بلاده، مثل فلاديمير بوتين، ومن بينهم آخرون لا تخفى ميولهم التسلطية على أحد، لكن تقاليد الديمقراطية راسخةٌ في بلادهم بحيث يُستبعد أن يتمكنوا من النيل منها والاستئثار بالسلطة، مثل دونالد ترامب.
خلاصة هذا الكلام، أن خسارة زعيم للانتخابات في بلده لا تصلح في ذاتها دليلاً لنفي الاتهام بالتسلطية عنه، لكن استكمال هذا النقاش غير ممكن دون التمييز بين الديمقراطية باعتبارها صفة لأنظمة حكم، وبين الديمقراطية باعتبارها توجهاً لدى أفراد أو تيارات سياسية. فعندما تكون الديمقراطية وصفاً لنظام حكم، يكون المقصود أن هذا النظام يقوم على التداول السلمي للسلطة عبر الاحتكام لصناديق الاقتراع، وعلى ضمان حرية الاعتقاد والتعبير والعمل السياسي بشكل متساوٍ لجميع المواطنين، باعتبار أن هذه الحرية هي الضمانة الوحيدة لنزاهة الانتخابات.
وكما تختلف الأنظمة التسلطية عن بعضها بعضاً بحسب أساليب ومقادير العنف والترهيب التي تستعملها للبقاء في الحكم، وبحسب الفئة التي تمسك بالسلطة والأسس النظرية التي تبني عليها حكمها، كذلك تختلف الأنظمة الديمقراطية عن بعضها بعضاً بحسب مقادير الحرية والمساواة التي تتيحها لمحكوميها. وفي كل الأحوال، يبرز دائماً سياسيون من أصحاب التوجهات الديمقراطية، فينجحون أو يفشلون أو يذهبون إلى السجون أو يتم قتلهم، ويبرز سياسيون من أصحاب التوجهات التسلطية، فينجحون أو يفشلون، يفشلون عبر الانتخابات فقط عندما تحتفظ آليات الديمقراطية الإجرائية بفعاليتها.
في الأنظمة الديمقراطية، تتصارع التيارات السياسية على السلطة سلمياً، وليس ثمة ضمانات بأن لا يتمكن تسلطيون من إقناع أكثر من نصف الناخبين بالتصويت لهم، ولأن التسلطيين يسعون غالباً إلى تأبيد سلطتهم، فإن ما يتكفل بلجم مساعيهم تلك هو النظام الديمقراطي نفسه، وليس أهواء هؤلاء التسلطيين وآراؤهم وآراء شركائهم الشخصية.
باستخدام ما تتيحه الدساتير من آليات لتعديل القوانين، وتعديل الدساتير نفسها، وباستخدام التجييش والتحريض ووسائل الإعلام وشبكات العلاقات الاقتصادية، يسعى تسلطيون في أنظمة ديمقراطية كثيرة إلى الاستئثار بالسلطة تدريجياً، فيحدث أن يتمكن المجتمع من إيقافهم عبر الآليات الدستورية والديمقراطية السلمية، ويحدث أن لا يتمكن، لتنفتح البلاد بعدها على جولات من العنف، أو يتواصل مسار التراجع عن الديمقراطية، وصولاً إلى نظام حكم استبدادي.
وبالعودة إلى المثال التركي، يبدو واضحاً أن ثمة مساراً مديداً من التراجع عن الديمقراطية، تدلّ عليه علامات كثيرة أبرزها التضييق على حرية الصحافة وتداول المعلومات، والاعتقالات والمحاكمات السياسية التي طالت عشرات الصحفيين والحقوقيين والنشطاء والسياسيين، والتعديلات الدستورية التي أفضت إلى تركيز معظم السلطات في يد رئيس الجمهورية. لكن هذا المسار يتعثر اليوم على يد ناخبين أتراك اختاروا أن يقفوا في وجهه عبر صناديق الاقتراع، وهو ما لا يمكن أن يكون إلا مثاراً للارتياح بالنسبة للديمقراطيين الرافضين للسلطوية من أي نوع.
أما عن بقية العتاد الخطابي الذي استخدمه سوريون يدافعون بشراسة عن الرئيس التركي، فإن النقاش حوله يطول جداً، لكن ثمة ملاحظة لا يمكن أن تخطئها العين فيه، وهي أن الديمقراطية بالنسبة لأغلب أصحابه صناديق اقتراع فقط، أما حرية الاعتقاد والقول فهي خارج المعادلة بالنسبة لهم. ولكن ما الذي تعنيه صناديق الاقتراع دون حرية الاعتقاد والقول؟ لا شيء طبعاً، مجرد ديكور مبتذل ينتهي إلى أن يكون أشبه باحتفالات تجديد البيعة للقائد الرمز.
موقع الجمهورية
انتخابات إسطنبول… ماذا بعد؟/ مصطفى حامد أوغلو
في جو يسوده التخندق والانقسام المجتمعي والاصطفاف الشعبي الحاد، توجّه الناخبون الأتراك إلى صناديق انتخابات الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، وكأنهم ذاهبون إلى انتخاب النظام الرئاسي أو البرلماني التركي، وليس مجرد اختيار رئيس بلدية. وأسباب كثيرة وعوامل عديدة جعلت هذه الانتخابات تخرج من كونها انتخابات محلية، ولم تعد انتخاب المرشح الذي سيقدم البرامج الخدمية الأفضل لسكان المدينة، ولم يعد الناخب يناقش البرامج الانتخابية والوعود والإصلاحات التي يتقدم بها المرشحون، فقد تحولت هذه الانتخابات إلى شيء أكبر من ذلك بكثير، وباتت تحمل معاني ومفاهيم كثيرة.
رسخت سيرة الرئيس التركي، رجب أردوغان، وطريق نجاحه الذي بدأ بقيادة إسطنبول لمّا ترأس مجلس بلديتها، قناعة لدى ناخبين كثيرين أن من يفوز بقيادة إسطنبول ينجح بقيادة تركيا، وطريق الوصول إلى رئاسة تركيا يبدأ من إسطنبول. كما أن الحملة الانتخابية التي اختارها حزب العدالة والتنمية (الحاكم) في الجولة الأولى، وتركيز رئيس الجمهورية على مدينة إسطنبول، والتذكير دائماَ بأن من يخسرها سيخسر تركيا، بالإضافة إلى أهمية إسطنبول الحقيقية الاقتصادية والثقافية والسياحية والسكانية، جعل لهذه الانتخابات مغزىً مغايرا ونكهة مختلفة. تضاف إلى ذلك رمزية إسطنبول المعنوية الخاصة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، كونها مدينة محمد الفاتح، ومخزن أصوات الحزب، وسيطرته، والفوز ببلديتها الكبرى منذ 1994، حيث استطاع أردوغان ترؤسها وتحقيق مشاريع وإنجازات كثيرة فيها، وعلى كل المستويات خلال ربع قرن.
على الرغم من أن “العدالة والتنمية” استطاع حصد أكثر من ثلثي مقاعد مجلس بلدية إسطنبول في الجولة الأولى، و25 بلدية من أصل 39 بلدية، بدا كأنه الخاسر، لأنه خسر رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، لرمزية هذا المنصب، وما يحمله من معان. وربما كانت نتيجة الانتخابات صاعقة بالنسبة لكثيرين، لكنها لم تكن مفاجئة على الإطلاق لكل من يتابع الأجواء الانتخابية والحملات الآنية التي لعبها كل طرف. وكانت استطلاعات الرأي كلها تشير إلى تقدم مرشح المعارضة إمام أوغلو وإلى فوزه. وكان حزب العدالة والتنمية (الحاكم) يعرف هذه الحقيقة، ويتوقعها، نتيجة أخطاء وعوامل كثيرة. نتيجة الانتخابات وإن كانت معروفة من قبل ومتوقعة، لكنها تعتبر زلزالا، ولها هزاتها الارتدادية التي لن تتوقف حتى الانتخابات الرئاسية في العام 2023.
لماذا خسر حزب العدالة والتنمية قلعته الحصينة؟ لأسباب كثيرة وعديدة، منها طول فترة سيطرة الحزب وكثرة الناقدين، والوضع الاقتصادي، والترهل بين كوادر الحزب، وما أصاب أفراده من تغيراتٍ على المستويات، الذهنية والفكرية والنوعية. ولكن هناك عوامل بارزة وآنية حصلت أخيرا، زادت من فارق الأصوات، وساهمت في حصول هذا الزلزال الانتخابي. من أهمها التغير الكبير في الحملة الانتخابية الثانية المناقض للحملة الأولى، حيث اعتمدت الأولى على شعارت التجييش القومية، وتهديد بقاء تركيا والمؤامرة الخارجية على أمن تركيا واقتصادها، بينما تحولت الثانية الى سياسة الهدوء والاحتواء والانفتاح، وهذا يعتبر بمثابة العودة إلى مبادئ الحزب الأولى، ولكن التوقيت جاء بعكس ما تشتهي الأنفس.
ولم يقنع قرار إلغاء نتائج الانتخابات في المرة الأولى المواطن التركي، ولم يستطع حزب العدالة والتنمية شرح عدالته، بل شعر المواطن التركي بأن هناك اعتداء على قراره وصوته، واعتداء على حق الفائز إمام أوغلو، واستطاع الأخير وفريقه الناجح أن يستغلا هذه “المظلومية”، وأن يستثمراها ويبنيا عليها حملتهم الانتخابية، ربما هي السبب الرئيسي الذي جعل النتائج بهذا الفارق الكبير.
وهناك سبب ثالث، كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، تسريب “العدالة والتنمية” رسالة زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، في اللحظات الأخيرة، في محاولة فاشلة لكسب أصوات الكرد، أو على الأقل لثنيهم عن التصويت لإمام أوغلو، وكانت هذه المحاولة صدمة لناخبين كثيرين، القوميين منهم خصوصا.
سيجري حزب العدالة والتنمية الذي عُرفت عنه قدرته وبراعته، تقييم نتائج الانتخابات، وفهم رسائل الناخب التركي، تقييما ومراجعة لمواقف وسياسات كثيرة له. وستكون آثار الزلزال الحقيقية في هذه التغييرات والتحولات، وعلى كل المستويات الحزبية والحكومية والسياسية.. سننتظر ونرى.
العربي الجديد
تركيا ما بعد معركة إسطنبول/ خورشيد دلي
انتهت معركة إعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول بنتيجتين: ظهور قائد سياسي شاب، لم يكن معروفاً حتى قبل أشهر قليلة، وهو أكرم إمام أوغلو، وهزيمة كبيرة للرئيس رجب طيب أردوغان قبل مرشحه بن علي يلدريم في هذه الانتخابات، فللمرة الأولى، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، يتعرّض لمثل هذه الخسارة القاسية، في مدينةٍ انطلق منها أردوغان سياسياً، وقال عنها إن من يفز بها يحكم تركيا. وفي الواقع، فتحت معركة إسطنبول الانتخابية الطريق واسعاً أمام سطوع نجم إمام أوغلو، فهو، بنظر المراقبين، بات الشخص القادر على منافسة أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ولعل سطوع نجمه على هذا النحو السريع يطرح أسئلة كثيرة عن الوصفة التي يمتلكها هذا الرجل، والذي يتشارك مع أردوغان في نقاط عديدة، أهمها، الجذور من طربزون، وحب كرة القدم، والانطلاق من إسطنبول كرئيس بلدية في بناء مسيرة الحياة السياسية. والهدوء من أهم صفات إمام أوغلو، وكذلك الحرص على الخطاب الجامع، والابتعاد عن الاستقطاب والأيديولوجيا، فالرجل المنظم في حزب يساري علماني (الشعب الجمهوري)، يتسم بالمحافظة، ويمارس واجباته الدينية. وبفضل ذلك، نجح في استقطاب شرائح واسعة من المحافظين والإسلاميين، حتى من حي الفاتح المعروف بحبه وولائه لأردوغان. كما أن إمام أوغلو المحسوب على الأيديولوجيا الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك)، والتي أنكرت، عبر تاريخ الجمهورية التركية، وجود هوية كردية في البلاد، وأقصتها من المشهد التركي العام، لم يجد مانعاً بعد فوزه، في توجيه الشكر للكرد، وللزعيم السابق لحزب الشعوب الديمقراطية المعتقل، صلاح الدين ديميرداش، بل للمرة الأولى، يرفع زعيم سياسي تركي صورة زعيم كردي، ويشيد به (إمام اوغلو حمل صور ديميرداش)، بعد أن كان ديميرداش قد دعا بوضوح إلى التصويت لإمام أوغلو، عقب أحاديث نُسبت إلى زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، دعا فيها الكرد إلى الحياد في هذه الانتخابات.
وكانت لافتة أيضاً دعوة إمام أوغلو الرئيس أردوغان إلى التعاون، وإبداء الاستعداد لذلك، من أجل خريطة طريق للنهوض بإسطنبول وأهلها. وعلى هذه الأرضية والممارسة السياسية، ينجح إمام أوغلو في تقديم نفسه رجلاً من خارج الطبقة السياسية التقليدية، فيجد نفسه جامعاً للكرد والترك، وفي منأى من تداعيات الانقسام والاستقطاب الأيديولوجيين. في المقابل، تبدو الصورة في جبهة الرئيس أردوغان مختلفة، فرجله القوي بن علي يلدريم، القادم من رئاسة البرلمان، ومن قبل من رئاسة الحكومة، خسر أمام رجلٍ لم يكن له سجل سياسي قبل أشهر قليلة، وحزب العدالة والتنمية الذي يقوده بات كأنه مجموعة أحزاب أو تكتلات داخل حزب واحد، فهناك تكتل القادة الكبار والمؤسسين، من أمثال عبد الله غل وأحمد داود أوغلو وعلي بابا جان، والذين بدأوا يرفعون الصوت عالياً في وجه أردوغان. وهناك تكتل رجال الأعمال داخل الحزب، والذي باتت أولويته الحصول على المشاريع والامتيازات، وهناك الرئيس أردوغان الذي يشكل وحده تكتلاً، إن لم نقل الحزب نفسه، فيما بات جسم الحزب يتأرجح بين هذه الكتل، ليفقد (الحزب) الوظيفة الأساسية التي قدم نفسه من أجلها عند تأسيسه، وهي تقديم نموذج يوفق بين الإسلام والديمقراطية والاقتصاد. يتزامن هذا الواقع الجديد لحزب العدالة والتنمية مع تحدياتٍ كثيرة، تبدأ بالتعثر الاقتصادي، وانهيار مستوى معيشة المواطن التركي، وقد لا تنتهي بالخلاف الأميركي – التركي على صفقة إس 400، والتهديد الأميركي بفرض عقوباتٍ على تركيا إذا مضت الأخيرة في إتمام هذه الصفقة مع روسيا.
بعد معركة رئاسة بلدية إسطنبول، تبدو تركيا أمام مرحلة جديدة من الدينامية السياسية الداخلية، على شكل فرصة حقيقية لتعزيز الديمقراطية، وإنهاء الاستقطاب السياسي والأيديولوجي والاجتماعي، وتحقيق المصالحة التركية ــ الكردية. ولعل هذا كله يتوقف على كيفية تعاطي الرئيس أردوغان مع إمام أوغلو في المرحلة المقبلة، وما قدّمه الأخير من رسائل سياسية حتى الآن.
العربي الجديد
وبضدّها تتبيّن الأشياء/ هوشنك أوسي
لا يسعني إلاّ الاعتذار عن الإطالة، مع تقديم الشّكر للكاتب والباحث في العلاقات الدوليّة والصّحفي هشام منوّر، على قراءته مقالي السابق “عن خيارات أردوغان الخاطئة أيضاً وأيضاً” المنشور في 26/6/2019، وتجشّمه عناء الردّ على الملاحظات والأفكار والانتقادات التي تناولت الراهن التركي وطويت عليها مقالي، اعتماداً على نتائج جولة إعادة الانتخابات البلديّة في إسطنبول، وفوز مرشّح المعارضة أكرم إمام أوغلو، حيث عنون منوّر ردّه المنشور يوم 29/6/2019 بـ(رداً على أوسي.. “النخبوية البطركية” إذ تطلق النيران على أقدامها!). وآمل أن يتّسع صدره لهذا التعقيب، وغايتي منه، ليس الدخول في حلبة السجال غير المجدي، بل الاستمرار في محاولة فهم التجربة التركيّة بموضوعيّة مستندة إلى المزيد من الدراية والإلمام والتمحيص وتقليب الحدث على أوجهه، بعيداً من ممارسة منطق وذهنيّة الوصاية على أحد، أو النزوع نحو “النخبويّة البطركيّة” أو”المُريديّة – المشيخيّة – الشعبويّة” أو أي شيء من هذا القبيل، على الشارع التركي أو العربي أو الكردي. محاولاً عدم تكرار الكليشات التقليديّة التمهيديّة والاستهلاليّة المعتادة، من طينة؛ إن “الشارع تجاوز النخبة ووصايتها”، و”لستُ في وارد الدفاع عن كذا وكذا”، لأن سرعان ما سيكتشف القارئ أن مقام مقالي مكرّس الدفاع عن كذا وكذا!
أولاً: رغم أن “اللغة حمّالة أوجه” إلاّ أن مفهوم الأمّة كاصطلاح اجتماعي – سياسي، يمكن توظيفه دينيّاً، لكنه بشكل مجرّد، الطابع الديني ليس الغالب على تعريف هذا المصطلح أو المفهوم. وحين أتيتُ على خلفيّة تبنّي المعارضة شعار “تحالف الأمّة” لم أطلق حكم قيمة أو تفسيراً مبرماً قطعيّ الدلالة والثبوت، بل نحوت منحى الاحتمال والظنّ. ومعلوم أن مقال الرأي ومنطق التحليل السياسي منفتح على الظنّ والاحتمال. أمّا تبنّي السلطة (العدالة والتنمية + الحركة القوميّة) شعار “تحالف الشعب” لا اعتقد أن الهدف منه كان ” إبراز حجم الإجماع الشعبي على خياراته”، لأن الحزب الحاكم، يعرف أنه فقد التفويض الشعبي الذي كان يتبجّح به، بفقدانه بلديّة العاصمة أنقرة، وإزمير وإسطنبول.
ثانياً: حزب “العدالة والتنمية” خرج من رحم حزب “الرفاه الإسلامي” سنة 2001، مدعوماً من حركة “الخدمة” ومؤسساتها الأخطبوطيّة التي كانت وما زالت متغلغلة في المجتمع والاقتصاد والإعلام والدولة، بالإضافة إلى دعم القواعد الجماهيريّة؛ التابعة للداعية الإسلامي فتح الله غولن، منذ 2001 ولغاية 2012 تقريباً، قبل أن ينشب الخلاف بين أردوغان وغولن، لأسباب لم تعد خافية. نعم، الحزب يقدّم نفسه على أنه حزب “محافظ – يمين الوسط”، في حين أن النشأة والسلوك والممارسات واستثمار الدين والشعارات الدينيّة، كلها تقول إنه حزب إسلامي. وينطبق على العدالة والتنمية القول الشعبي الدراج: “اسمع كلامك أصدّق، أشوف أمورك، أستعجب”. ولا أعلم كيف لباحث متابع وملّم بالشأن التركي أن يحاول نفي صفة الإسلامي عن حزب العدالة والتنمية في تركيا، لمجرّد أن الحزب لا يقول عنه نفسي ذلك!؟ إذ كيف لحزب تركي يقول عن نفسه إنه إسلامي، وقانون الأحزاب في تركيا، يرفض تأسيس الأحزاب على أساس ديني؟! حزب الرفاه الإسلامي، (الحزب الأم) لم يكن يقول عن نفسه بشكل رسمي وفي العلن أنه حزب إسلامي!، فكيف للعدالة والتنمية قول ذلك؟!
أمّا نفي صفة التطرّف عن حزب الحركة القوميّة (MİLLİYETÇİ HAREKET PARTİSİ – MHP) والمبرر الذي ساقه الأستاذ منوّر، فهذا ما ليس بي طاقة على فهمه وهضمه وتبريره أو تمريره! إذ ليس لهذا التبرير أيّة آصرة بالإلمام والاطلاع على الواقع السياسي التركي، أقلّه في الخمسين سنة الأخيرة. فحزب الحركة القوميّة (MHP)[1] ليس متطرفاً وحسب، بل عنصريٌّ وفاشيّ أيضاً. هل اطلع الكاتب على التاريخ الدموي لهذا الحزب في السبعينات والثمانينات ضد الحركات اليساريّة والكرديّة في تركيا؟! ذلك أن تصويت شرائح من الشعب التركي لهذا الحزب، لا ينفي عنه عنصريّته وتطرّفه اليميني. ثم، متى كان حظيُ الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة ببعض الشعبيّة دليلاً على نفي صفة التطرّف عنها؟! فهتلر وصل للحكم بالانتخابات وليس بانقلاب عسكري. كذلك الأحزاب اليمينيّة في البلدان الأوروبيّة حظيت وتحظى بشعبيّة متناميّة مؤخّراً. فهل هذه الشعبيّة تنفي عنها صفة التطرّف اليميني والعنصريّة؟! زد على هذا وذاك، حزب البعث؛ جناح حافظ الأسد كان يقدّم نفسه على أنه “يسار الوسط”، وحزب البعث؛ جناح صدام حسين، كان معروفاً بـ”يمين الوسط”، فهل سلوك وممارسات حافظ الأسد وصدام حسين وحزبيهما يشفع لهما نسب نفسيهما إلى يسار ويمين الوسط؟!
بالنتيجة، ربما ليس دقيقاً القول: “قل لي؛ مع مَن تتحالف، أقل لك من أنت” لكن من يتحالف مع حزب يميني عنصري وفاشي متطرّف كـ(MHP)، ستصل إليه أمراضه وفيروساته أيضاً.
ثالثاً: من حقّ الكاتب ألاّ يعتبر خسارة بلديّة إسطنبول بألف خسارة. ويمكنه أن يقنع قارئاً غير مطلع على تفاصيل المشهد التركي بمبرراته
ومنطقه في الدفاع عن حزب العدالة والتنمية. لكن ليسمح لي بالقول: هل أصدّق كلامك، أم أصدّق كلام الرئيس التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية حين قال: “من يخسر إسطنبول، يخسر تركيا”؟! وربما أكون مبالغاً في اعتبار خسارة بلدية إسطنبول بألف خسارة، لكن التقليل من هذه الخسارة أيضاً، وبتلك الطريقة التي ذهب إليها الأستاذ منوّر، والحديث عن النظام الرئاسي الذي لا تؤثّر فيه صلاحيّات البلديّات، أعتقد أن ذلك أيضاً يشي بعدم اطلاع الكاتب على نظام الحكم والإدارة المحليّة في تركيا. صحيح أن النظام الرئاسي في تركيا، ألغى صلاحيّات رئيس الحكومة على حساب توسيع صلاحيّات رئيس الدولة، لكن الصحيح أيضاً أن ذلك لا علاقة له بموضوع البلديّات. ثم إن شخصاً متوسّط الاطلاع على السياسة بشكل عام وفي تركيا بشكل خاص، يعي ويدرك أن المعركة لم تكن معركة صلاحيات رئيس دولة ورئيس حكومة، بل معركة شعبيّة، أو ما يشبه الاستفتاء أو اختبار للسلطة والمعارضة في هذا الإطار. والنتائج قالت قولتها بأن شعبيّة السلطة تراجعت بشكل كبير، على حساب اتساع رقعة شعبيّة المعارضة. والأرقام التي أفرزتها الانتخابات البلديّة في آذار الماضي، والجولة الثانية من انتخابات إسطنبول، لها دلالاتها السياسيّة، وسيكون لها تبعاتها وانعكاساتها على السلطة والمعارضة معاً، لاحقاً.
وعلى فرض صحّة هذا الكلام: “لا يخفى على أحد، فكيف يمكن مقارنة خسارة بلدية إسطنبول” على أهميتها “بسلسلة الانتصارات الانتخابية التي حققها الحزب الحاكم على مدار 17 عاماً، لا سيما أن المحصلة النهائية لذات الانتخابات “أي البلدية” صبت في مصلحة تحالف الشعب الحاكم ذاته؟!”. طيب والحال هذه، من هو صاحب هذا الكلام: (واقع الحال لا يمكن حجبه من خلال هيمنة حزب العدالة والتنمية على نسبة تقارب النصف من مجالس البلديات الكبرى والمدن يضاف إليها حصة حليفه في “تحالف الجمهور” الحركة القومية بما يؤمن له استمرار السيطرة على المشهد السياسي وحتى الخدمي في تركيا، لكن خسارة العاصمة أنقرة وإزمير وبورصة وحتى إسطنبول (هناك طعون انتخابية لم يبت فيها حتى الآن فيما يخص إسطنبول لحظة كتابة هذه الأسطر) شكلت “ضربة” رمزية لشعبية حزب العدالة رغم استشعار قياداته السياسية هذا الأمر حتى ما قبل الانتخابات.)[2] هذا ما قاله الكاتب نفسه في مقال سابق له منشور في 8/4/2019؟
وحين تكون بلديات أنقرة وإسطنبول وأزمير بالإضافة إلى ديار بكر وهي أكبر ولايات تركيا من حيث عدد السكان، معطوفاً عليها البلدات الأخرى الموجودة في حوزة المعارضة الكرديّة والتركيّة في تركيا، ماذا يعني كل ذلك؟ لو أجرى الكاتب عملية حسابية بسيطة بخصوص مساحة الولايات التي صارت خارج سلطة حزب العدالة والتنمية، وعدد سكانها، لوصل إلى أرقام تفيده بحجم شعبيّة الحزب الحاكم في تركيا، ومدى تراجعها، وأسباب ذلك، أثناء محاولته الدفاع عن العدالة والتنمية!
رابعاً: في انتخابات سابقة، أكثر من مرة اشتكت المعارضة من استخدام الحزب الحاكم مؤسسات الدولة لصالحه. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، الإعلام الرسمي التابع للدولة. ولست مسؤولاً عن عدم اطلاع الكاتب على ذلك.
خامساً: لو لم يكن الصوت الكردي مهماً ووازناً ومفصليّاً، لما أرسل أردوغان موفده إلى أوجلان، كي يطالب بتحييد الكرد، وفسخ الاتفاق بين حزب الشعوب الديمقراطي وحزب الشعب الجمهوري؟!
كذلك على سبيل الذكر لا الحصر، حزب الشعوب الديمقراطي HDP في إسطنبول وحدها لديه 12 عضوا في البرلمان التركي، وهم: Pervin Buldan, Musa Piroğlu, Erkan Baş, Erol Katırcıoğlu, Ahmet Şık, Oya Ersoy, Hüda Kaya, Zeynel Özen, Dilşat Canbaz Kaya, Hakkı Saruhan Oluç, Ali Kenanoğlu, Züleyha Gülüm [3]. بينما لحزب الشعب الجمهوري 24 عضو عن مدينة إسطنبول في البرلمان التركي[4]. من يعني أن الوزن الجماهيري والسياسي لحزب HDP هو نصف وزن وحجم حزب CHP. ناهيكم عن زعيم الحزب والبرلماني الكردي السابق، المسجون حالياً صلاح الدين دميرتاش، في الانتخابات الرئاسيّة التي أجريت العام الماضي، جاء في المركز الثالث، وحصل على ما يزيد على 4 ملايين صوت. كل ذلك، وغيرها الكثير من المعطيات التي تشرح وتؤكد الثقل الوازن للكتلة الكرديّة وتأثيرها على التوازنات السياسيّة في تركيا. من جهة أخرى، الانقسام الموجود في الجانب الكردي، يلزمه الكثير من الشرح، وأتيتُ في مقالي السابق على جانب بسيط من خلفيّات الانقسام غير المعلن الموجود بين أوجلان وقيادة حزبه في قنديل، وكيف أن كفّة الأخيرة باتت الراجحة في إدارة شؤون ودفّة الكتلة الكرديّة في تركيا، بخاصّة منها حزب الشعوب الديمقراطي. وحين يتساءل منوّر: “وكيف يمكن التعامل مع دعوات قيادات مصنفة على قوائم الإرهاب التركية والغربية، وهو حزب PKK على أنه أمر عادي ويمر مرور الكرام؟ والمساواة بينها وبين بقية القيادات السياسية للمكون الكردي؟” هذا أيضاً يشي بأن الأستاذ الباحث غير مطلع على تفاصيل الملف الكردي في تركيا، وغير مطلع على جولات ومراحل التفاوض بين الدولة التركيّة وحزب العمال الكردستاني منذ 1993، 1997، 1999 مروراً بـ2009-2011، وصولاً لإرسال أردوغان وفيدان موفد (د. علي كمال أوزجان)[5] إلى سجن إيمرالي والطلب من أوجلان أن يقنع حزب الشعوب الديمقراطي بالتزام الحياد وعدم التصويت لمشرّح المعارضة! جرى كل ذلك، رغم أن المسؤولين الأتراك والإعلام التركي كان وما زال يصف العمال الكردستاني بالحزب الارهابي، وأنه لا تفاوض مع الإرهابيين!
سادساً: “بنظرة سياسية معمقة”، أمكن للكاتب أن يدرك “أن نتائج الانتخابات البلدية في إسطنبول، أياً كانت نتيجتها، كان الهدف منها الإذعان لخيار الشعب التركي أياً كان، لاعتبارات داخلية وإقليمية، وكان تركيز الحكومة التركية على إنجاح هذه الانتخابات وإظهارها بمظهر لائق بالتجربة الديمقراطية في تركيا، وهي تجربة واعدة وصاعدة، وليست منجزاً كاملاً كما هو الحال في مخيلة بعض النخب الفكرية والسياسية العربية”.
ولكن بنظر سياسيّة سطحيّة، يمكن القول: إن هذا الكلام؛ محض اجتهاد وتأويل جانبه الصواب، بدليل طعن الحكومة التركيّة في نتائج الجولة الأولى. ماذا يعني الطعن في نتائج عمليّة انتخابيّة وعدم “الإذعان لخيار الشعب التركي، أيّاً كانت النتائج…”؟ يعني فيما يعينه؛ التشكيك في نزاهة الخصم، والتشكيك في الجولة الانتخابيّة! وحين أتت نتائج الأخيرة لصالح إمام أوغلو واتساع الفارق الذي يفصله عن يلدرم، لم يكن أمام العدالة والتنمية إلاّ “الإذعان لخيار الشعب التركي” في إسطنبول! ثم أي حزب هذا، يدخل الانتخابات والمنافسة على بلدية أهم مدينة في تركيا، فقط “لإظهار الانتخابات بمظهر لائق بالتجربة الديمقراطيّة في تركيا” دون الأخذ في الاعتبارات حسابات الفوز والهزيمة!؟
المقال الذي كتبته، وكان موضع ردّ الاستاذ هشام منوّر، من ألفه إلى يائه، لا يوجد فيه أي تصريح أو تلميح إلى أن فقدان بلدية إسطنبول، يعني سقوط حكومة “العدالة والتنمية” أو انعدام الديمقراطيّة في تركيا. ناهيكم عن أن خسارة يلدرم وفوز إمام أوغلو، لم يشكّل مفاجأة بالنسبة لي. فاستطلاعات الرأي، ونتائج الجولة الأولى، والكثير من المعطيات والمؤشّرات الأخرى، كانت تفضي إلى تلك النتيجة. وربما بعض الأوساط في العدالة والتنمية أيضاً، لم تتفاجأ بذلك. فمن أين أتى منوّر بعنصر المفاجأة لجهة النتائج في الأوساط العربية أو الشرق أوسطية؟!
سابعاً: “من المعروف أن مرشح حزب العدالة والتنمية بن علي يلدريم، كان يتمتع بإرث سياسي محكوم بحقبة زمنية معينة بحكم كونه آخر رئيس وزراء في النظام السياسي البرلماني السابق، وهو رئيس سابق للبرلمان التركي، لكنه لا يتمتع بالكاريزما اللازمة في صفوف الحزب الحاكم، لا سيما قطاع الشباب، بالتالي، فهو شكل “نوعاً ما” عبئاً على الحزب أكثر من كونه رافعة لسياساته وجماهيريته، فكان التعامل مع الموضوع وكأنه “محاولة أخيرة” لاختبار إمكانية استمراره في مناصب قيادية رفيعة في الحزب الحاكم، وعليه، لم تكن خسارة يلدريم لتسيء إلى حزب العدالة والتنمية بقدر ما أفادته لإنعاش شعبيته، ودراسة حجم الخلل في شعبية الحزب وخياراته، ما يؤدي إلى تلافيها مستقبلاً”. هذا الكلام يفتقد للضبط والتوازن والانسجام. أو أنه كلامٌ كبير وعويص، “صعب على أمثالي فهمه”. ذلك أنه من غير المفهوم لدي، ولو حتّى على صعيد المجاز والتأويل؛ اعتبار خسارة الحزب الحاكم بلديات أنقرة، إسطنبول، ومناطق أخرى، “إنعاش لشعبيّته”؟! وكيف لحزب يدير دولة بحجم تركيا منذ 2002، أن يجعل من بلدية إسطنبول اختباراً لشعبية رئيس وزارة، في عهده حدثت العديد من الانزلاقات الاقتصاديّة، ويفتقد الكاريزما، والشعبيّة في الحزب نفسه، وبين شرائح شباب الحزب؟! أبهذه الطريقة يدار العدالة والتنمية، طبقاً لفهم وتوصيف الكاتب على أن أي قيادي يشكّل عبئاً على الحزب، يتم الزج به كمشرّح لخوض انتخابات بلديّة هامّة من وزن بلديّة إسطنبول!؟ أكرر؛ وجود يلدرم مرشّحاً لبلديّة إسطنبول كان خيار رجب طيب اردوغان، بنفس القدر كان خياره في رئاسة الوزارة أيضاً، خلفاً لأحمد داوود أوغلو، ففشل يلدرم في إدارة الحكومة، وفي انتخابات إسطنبول أيضاً. يعني فشل مزدوج لخيار اتخذه رجب طيب أردوغان. نقطة، من أول السطر.
ثامناً: سأفترض أن الأسطر التي كتبتها في مقالي السابق، موضوع النقاش، كانت بعيدة عن الموضوعيّة، لكان ما هي قصّة (محاولة “تشفٍ غريب) التي أوردها الكاتب؟! من يعود إلى مقالي، سيلتقط أنني لم أكن مع خيار الأكراد التحالف مع حزب الشعب الجمهوري (CHP)، ولم أكن مع خيار أوجلان، تبنّي الحياد، بل كنت مع خيار إيجاد صفقة مع العدالة والتنمية. وهذا ما كتبته في مقالات عديدة سابقة على امتداد سنوات. وعليه، لست حزيناً أو سعيداً بخسارة العدالة والتنمية بلدية إسطنبول، ولست حزيناً أو سعيداً بفوز إمام أوغلو والمعارضة التركية برئاسة بلدية إسطنبول. قصة الحزن والفرح، والتشفّي والافتتان المتهافت، ليست عندي. فقط أبدت في تلك الأسطر، وجهة نظري، كما هي عادتي، متوخّياً
مقولة الشافعي “رأيي صائبُ يقبل الخطأ”، لكن على الآخر أن يثبت أن رأيه الخاطئ، يقبل الصواب. إذ حاولت جاهداً أن أقنع نفسي بأن ردّ هشام منوّر، يخلو من التناقض، وبالتالي، ينطوي على قدر لافت من الموضوعيّة، حين رأى الكاتب مقالي على أنه: “تجاهل خيارات الشعب التركي الذي انحاز إلى مرشح (إمام أوغلو) لا ينتمي فعلياً إلى التيار العلماني التقليدي بحكم تكوينه الثقافي وانتمائه إلى تيار الشباب المحافظ، رغم انتمائه السياسي لحزب الشعب الجمهوري”. أمّا قضيّة تجاهل خيارات الشعب التركي، فيمكن للقارئ العودة للمقال[6] كي يرى أن المقال كان محاولة مناقشة وفهم خيار أردوغان الذي كان بالضد من خيارات الشعب التركي، والتحالفات الانتخابيّة التي حصلت، والنتائج التي أفرزتها تلك الخيارات؟! من جهة ثانية، أعتقد أن من ينفي صفة الحزب الإسلامي عن العدالة والتنمية، من السهل عليه نفي صفة العلماني عن إمام أوغلو أيضاً، على أنه محافظ، ينتمي إلى حزب علماني، وأن هذا الانتماء، لا اعتبار له، لأنه ليس علمانيّاً تقليديّاً، “بحكم تكوينه الثقافي، وانتمائه لتيار الشباب المحافظ”! أي تيّار هذا؛ الشباب المحافظ؟! زد على ذلك، حزب الشعب الجمهوري، يمكن اعتبار علمانيّته أيضاً غير تقليديّة، لأنه اختيار أكمل الدين إحسان أوغلو (الإسلامي) مرشّحاً لرئاسة الجمهورية سنة 2014، واختار إمام أوغلو؛ “المحافظ” مرشّحاً لخوض انتخابات بلديّة إسطنبول؟!
أعتقد ان هكذا تقييمات تتعلّق بالفهم التقليدي الإسلامي للعلمانيّة التي تطالب بفصل الدين عن الدولة، على أنها معاداة ومناهضة الدين! فعلى زمن كل الحكومات العلمانيّة التي تعاقبت على حكم تركيا، كان هناك دائماً دائرة الشؤون الدينيّة، وهي بمثابة وزارة الأوقاف، وميزانيّتها من الدولة. ما يعني حتى علمانيّة تركيا، منذ 1923 ولغاية 2011، كانت منقوصة، ولم يكن هناك فصل تام للدين عن الدولة! ومع ذلك، كان يتم اتهام العلمانيين في تركيا على أنهم أعداء الدين والتديّن والمتدينين! العلمانيّة في تركيا أو أي بلد آخر، على أنها تسعى إلى فصل الدين عن المجتمع. وهذا غير صحيح. وحين حاولت الشيوعيّة ذلك في تجربة الاتحاد السوفيتي، فشلت فشلاً ذريعاً.
حاصل القول: مقالي “عن خيارات أردوغان الفاشلة أيضاً وأيضاً” كان أشبه بفصل المقال بين الحال والمآل في تركيا، وتلك الأسطر، (كما هي حال هذه الأسطر أيضاً)، لم تكن من طينة “تجاهل خيارات الشعب التركي” ولا من قماشة “تضخيم وزن الكتلة الكردية”، ولا ممارسة وصاية بطركيّة ولا مشيخيّة، ولا هم يحزنون.
[1] https://www.mhp.org.tr/usr_img/_mhp2007/kitaplar/mhp_parti_programi_2009_opt.pdf
[2] https://www.syria.tv/content/قراءة-هادئة-في-نتائج-الانتخابات-البلدية-في-تركيا-ومآلاتها
[3] https://www.sozcu.com.tr/2018/gundem/iste-hdpnin-27-donem-milletvekilleri-2488202/
[4] https://www.chp.org.tr/parti-yonetimi/milletvekilleri
[5] http://www.cumhuriyet.com.tr/haber/siyaset/1449672/AKP_nin_caresizligi.html
[6] https://www.syria.tv/content/عن-خيارات-أردوغان-الخاطئة-أيضاً-وأيضاً#_ftnref1
تلفزيون سوريا
تركيا وإيماءات ترامب/ عائشة كربات
هناك أغنية تركية تقول “عندما ذهبت إلى هناك كنت حزينة لكنني مفعمة بالفرح”. كان هذا بالضبط مزاج الوفد التركي برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان في اجتماع مجموعة العشرين الأسبوع الماضي في أوساكا.
في الطريق، كانت لديهم أسباب للتوتر.
أحد الأسباب هو هزيمة حزب “العدالة والتنمية” الحاكم في انتخابات الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول. فقدوا السيطرة على المدينة التي تستضيف ما يقرب من ربع السكان وتنتج ثلث الاقتصاد.
سبب آخر يدعوهم للقلق هو العلاقات الأميركية التركية التي تمر بأسوأ فترة في تاريخها.
الإدارة الأميركية طلبت منهم الاختيار بين واشنطن وبين موسكو مع مهلة حتى نهاية تموز/يوليو، وهو التاريخ الذي من المتوقع أن تصل فيه صواريخ الدفاع الجوي الروسية الصنع من طراز “إس-400” إلى تركيا. في رسالة إلى أنقرة، قال الأميركيون أيضاً إنه إذا جاءت هذه الصواريخ إلى تركيا، فستكون هناك عواقب وخيمة: عقوبات مالية وطرد من مشروع الطائرات المقاتلة الشبح “إف-35”. حتى كانت هناك محادثات بأن شراء المنظومة الروسية قد يمهد الطريق لخروج تركيا من “الناتو”.
علاوة على ذلك، كانت هناك أحداث على الأرض؛ في الأسبوع الماضي، قُتل جندي تركي وأصيب ثلاثة آخرون عندما هاجمت قوات النظام السوري مركز المراقبة التابع لهم في منطقة إدلب. أثار هذا الهجوم علامات استفهام وتكهنات صحيحة إذا كانت رسالة من روسيا، نوعاً من التحذير لإظهار ما يمكن أن يحدث إذا كانت تركيا تفضّل علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة على علاقاتها التكتيكية مع روسيا.
إذا غيّرت أنقرة رأيها بشأن “إس-400″، فربما تستطيع موسكو إعطاء ضوء أخضر لهجوم واسع النطاق على إدلب. وقد لا تكون على استعداد لمواصلة إعطاء موافقتها على الحملة التركية ضد قوات حماية الشعب الكردية وهي فرع لحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تركيا منظمة إرهابية.
لذلك باختصار، في الطريق إلى أوساكا، التي ستكون مكاناً للقاء التاريخي بينهم وبين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كان لدى الوفد التركي أسباب للشعور بأنه على وشك أن يكون مأزوماً اقتصادياً ويتعين عليه مواجهة تحدي المفاضلة بين روسيا وأميركا.
ورغم ذلك، في الدقائق الأولى من اجتماعهم مع ترامب والوفد المرافق أصبحت الابتسامات الواسعة على وجوه الوفد التركي المكون من رجال ذكور، واضحة للغاية، تحت شواربهم التي نمت بأمر من أردوغان (وزير الدفاع فقط ليس لديه شارب). ما جعلهم يبتسمون بهذا الحجم هو التصريحات اللطيفة لترامب، على الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي في تركيا تجرأت على مناقشة أن كلماته كانت تعني شيئًا آخر أكثر من كونها مجاملة.
ترامب بإيماءاته أشار إليهم وقال: “انظروا إلى هؤلاء الناس، كم هم لطيفون. من السهل للغاية التعامل معها. تجربة أداء مركزية، لا توجد مجموعة من أفلام هوليوود حيث يمكنك إنتاج أشخاص يشبهونهم”.
كان لدى الوفد التركي المزيد من السعادة عندما قال ترامب إن السبب الوحيد لشراء تركيا “إس-400” هو إدارة الرئيس السابق باراك أوباما التي لم تسمح لتركيا بشراء صواريخ “باتريوت” الأميركية.
عندما سأل الصحافيون ترامب عما إذا كانت الولايات المتحدة ستفرض عقوبات على تركيا بسبب “إس-400” أجاب: “نحن نناقش ذلك، لدينا وضع معقد…”.
بعد الاجتماع ، أكد الرئيس أردوغان أن ترامب أخبره أنهم لن يفرضوا عقوبات على تركيا.
ومع ذلك ، يزعم بعض النقاد أن هذه الكلمة “المعقدة” لترامب قد تعني شيئاً آخر. إنهم يذكرون الجمهور بأن القانون الأميركي لمكافحة الإرهاب “CAATSA” يستهدف الكيانات التي تتعامل مع روسيا وأن الرئيس ترامب قد لا يمنع تنفيذ هذا القانون الأميركي، ومع ذلك، يمكنه التفاوض مع الكونغرس حول نطاقه.
من الممكن الآن أن نقول إن تركيا كسبت وقتاً لإعادة التفاوض بشأن القضية مع المؤسسة الأميركية (الكونغرس) التي لا تتفق دائماً مع ترامب. الآن على الأقل هناك خيارات على الطاولة. للحصول على “إس-400” ولكن الاحتفاظ بها في الصناديق، لنشرها في مكان آخر. يتعين على الحكومة التركية أيضاً أن تفعل شيئًا لإقناع الكونغرس ذي القطبين بشأن العديد من القضايا، لكن عندما يتعلق الأمر بموقف سلبي تجاه تركيا، فإنهم متحدون تقريباً.
نافذة الفرص ضيقة لكنها موجودة، ويمكن أن تستفيد أنقرة منها. لكن على أي حال، قد يكون من الجيد عدم الاعتماد على ترامب الذي يبدو موقفه غير ثابت كما نشهد في تعامله مع كوريا الشمالية وإيران.
المدن
سياسات ضاغطة .. انتخابات إسطنبول والتوتر التركي – الأوروبي/ مصطفى صلاح
شهدت تركيا في 31 مارس 2019، أول انتخابات بلدية بعد أن تم تنفيذ التغيرات الجديدة في النظام الرئاسي وفق التعديلات الدستورية التي تم إقرارها في أبريل 2017، وتحظى الانتخابات البلدية بأهمية كبيرة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية لعدة أسباب سيتم التحدث عنها، إلا أن نتائج الانتخابات ومؤشراتها الأولية أفرزت فوز مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو بالانتخابات في بلدية إسطنبول، الأمر الذي لم يلقى قبول من جانب حزب العدالة والتنمية وبناءًا عليه، مارس الحزب العديد من الضغوط بالتلميح أو التصريح عن وجود اختراقات وتزوير في نتائج الانتخابات تجاه المجلس الأعلى للانتخابات، وتمكن الحزب في 7 مايو 2019، من إلغاء الانتخابات التركية في بلدية إسطنبول وإعادة إجراء الانتخابات في 23 يونيو 2019. (1)
وبالتزامن مع إجراء الانتخابات في إسطنبول أعلن الاتحاد الأوروبي خلال قمة بروكسل في 21 يونيو 2019، تهديد تركيا بالعقوبات إن لم توقف توقف عملياتها غير الشرعية للتنقيب عن الغاز قبالة سواحل قبرص، وذلك بعد ساعات على إرسال أنقرة سفينة تنقيب ثانية إلى هناك، وعملت دول الاتحاد على اتخاذ تدابير مناسبة في خياراتها تجاه التصعيد التركي في منطقة شرق المتوسط.
تحولات الداخل والخارج
جاءت الانتخابات البلدية في مدينة إسطنبول في ظل العديد من الظروف الداخلية والإقليمية والدولية التي أثرت بصورة كبيرة على سير العملية الانتخابية، خاصة في ظل احتدام المنافسة بين بن علي يلدريم مرشح حزب العدالة والتنمية، من خلال تحالف الشعب وأكرم إمام أوغلو مرشح حزب الشعب الجمهوري، من خلال تحالف الأمة، ويسعى مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض إلى تثبيت فوزه الملغي في الانتخابات السابقة في اقتراع 31 مارس 2019، الذي فاز بفارق بسيط في الاقتراع السابق، فيما يحاول حزب العدالة والتنمية استعادة الأصوات التي خسرها في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، إلا أنه في المجمل ستشكل الانتخابات مهما كانت النتائج انعكاسات سلبية على النظام السياسي التركي وخاصة حزب العدالة والتنمية الحاكم؛ وفق أمرين هما: في حال فوز مرشح المعارضة سيقوض صورة “الماكينة الانتخابية” التي لا تهزم لحزب أردوغان ويمكن أن يعزز ذلك نزعات الانشقاق داخله، والأمر الثاني يتعلق بفوز إمام أوغلو مما سيمنحه هالة وطنية من شأنها أن تهدد زعامة أردوغان على المدى البعيد.
وتكمن أهمية تلك الانتخابات كونها تعد بمثابة استفتاء شعبي مصيري على المشهد السياسي التركي، سواء فيما يتعلق بالحراك السياسي الذي تتبناه المعارضة منذ إقرار النظام السياسي وفوز حزب العدالة والتنمية، وتفرده بالسيطرة على السلطة السياسية والعسكرية، أو فيما يتعلق بقدرة حزب العدالة والتنمية على إعادة التموضع من جديد مع تلك التغيرات السياسية الداخلية والخارجية؛ حيث تمثلت التحالفات الانتخابية على غرار الانتخابات البرلمانية والرئاسية في يونيو 2018، في نمط تحالفاتها؛ حيث خاض حزب العدالة والتنمية الانتخابات بالتحالف مع حزب الحركة القومية، كما هو الحال في السابق، وتحالف الأمة بين حزب الشعب الجمهوري (CHP)، وحزب الجيد (İP)، والحزب الديمقراطي الشعبي (HDP) وحزب السعادة (SP)، وبرغم فوز حزب العدالة والتنمية في الكثير من المناطق، إلا أنه فشل في السيطرة على العاصمة أنقرة للمرة الأولى منذ أن سيطر الحزب عليها عام 2001، ذات الرمزية السياسية وأزمير.(2)
بجانب الضغوط الداخلية، يضاف لذلك حجم الضغوط الخارجية التي تواجهها تركيا خاصة تلك التي تتعرض لها أنقرة من جانب الاتحاد الأوروبي والتي وصلت حد التهديد بفرض العقوبات الاقتصادية على أنقرة على خلفية سلوكها التصعيدي تجاه اليونان وقبرص على الغاز في منطقة شرق المتوسط، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية التي تمر بها تركيا، الأمر الذي دفعها إلى توسعة دوائر حلقاتها الصراعية، بعد رفض أنقرة لكافة الاتفاقيات الموقعة بين قبرص واليونان مع الدول المشاطئة للبحر المتوسط، مثل اتفاقية مصر وقبرص في عام 2013، واتفاقية ترسيم الحدود بين قبرص وإسرائيل عام 2010.
وتأسيسًا على هذا المشهد؛ يعتمد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على مقاربتين أساسيتين في هذه الانتخابات؛ أولاهما، أمنية وتتمثل في استثمار فزاعة الإرهاب والتهديدات الداخلية والخارجية كما المؤامرات التي تتربص بالبلاد وتهدد أمنها القومي. وفي هذا السياق، جاءت السياسات والمغامرات العسكرية الخارجية، كالإصرار على التدخل العسكري المكلف اقتصاديًا واستراتيجيًا في سوريا والعراق، والتصعيد العسكري التركي في منطقة شرق المتوسط، كبؤرة جديدة للصراع، وثانيهما، دينية تتجلى في توظيف الدين لخدمة السياسة عبر استخدام المساجد في الدعاية الانتخابية، كما قامت الاستراتيجية الانتخابية لأردوغان على الاعتقاد بأن أواصر العلاقة الأيديولوجية بين حزبه والقواعد الاجتماعية في تلك المنطقة تتجاوز أي ظرف اقتصادي حرج تمر به تركيا الأن.
لماذا إسطنبول؟
تمثل إسطنبول أحد أهم البلديات المهمة بالنسبة لتركيا خاصة فيما يتعلق بأهميتها الاقتصادية في الاقتصاد التركي، وما توفره من موارد مالية كبيرة يمكن أن تكون بمثابة الداعم الأكبر لها في مواجهة الضغوط الاقتصادية الأخيرة من جانب الولايات المتحدة أو من جانب الإجراءات الجديدة من الاتحاد الأوروبي.
بالإضافة لذلك تكتسب إسطنبول أهمية خاصة لدى الرئيس التركي أردوغان فيما يتعلق بكونها بداية مسيرته السياسية التي انطلق منها لرئاسة الجمهورية التركية عام 1994، كما أن إسطنبول تعد أكبر التجمعات الاقتصادية التركية التي يحاول حزب العدالة والتنمية السيطرة عليها في ظل تراجع قيمة الليرة التركية وحالة الكساد الاقتصادي التي تعاني منها تركيا في ظل ارتفاع معدلات التضخم والتي وصلت نسبة 20%، بجانب ارتفاع معدلات البطالة إلى 13.5%، في ظل اعتقاد بأن إسطنبول تمثل الوقود الذي يدير ماكينة حزب العدالة والتنمية.
وبالنسبة للبعد الأوروبي في التأثير على نتائج هذه الانتخابات؛ فإن الرئيس أردوغان يحاول توظيف العديد من الملفات الخارجية في توجيه الرأي العام الداخلي، والتأثير على توجهاته، وتجدر الإشارة إلى أن الخيارات الأوروبية في التعامل مع التصعيد التركي ستؤثر بصورة مباشرة على وضعية تركيا الحالية والمستقبلية، خاصة وأن مخرجات مؤتمر بروكسل المنعقد في 21 يونيو 2019، أفرزت موقف أوروبي موحد لم تقتصر تداعياته على مستقبل الانتخابات البلدية هناك، وإنما بلورت موقف حاسم لمواجهة تعاظم الدور التركي، وخاصة وأن هذا الملف يعد من أهم الملفات المحورية لدول الاتحاد؛ حيث تمثل الاكتشافات الضخمة للغاز في شرق المتوسط، ضمانة هامة لهم في تأمين احتياجاتهم من الغاز بعيدًا عن الجانب الروسي الذي تشهد فيه علاقات دول الاتحاد بموسكو توترات متزايدة على خلفية العديد من الملفات منها قضايا التجسس والاغتيالات داخل الأراضي الأوروبية، ومن ثم فإن مصلحة دول الاتحاد في أن تبقى هذه المنطقة بعيدًا عن بؤر الصراعات في المنطقة.
فوز المعارضة
لا يوجد أدنى شك في أن فوز المعارضة بالانتخابات التي جرت في 23 يونيو 2019، متمثلة في أكرم إمام أوغلو لم يقتصر تبعاته على السياسة الداخلية فحسب، بل أنه سينعكس بالضرورة على العديد من الملفات الخارجية واستراتيجة تركيا وعلاقاتها مع الدول الأخرى، كما أن سيطرة المشروع السياسي الجديد لتركيا متمثلًا في أردوغان والذي أعلن عن ملامحه من قبل، سوف يشهد تراجعًا كبيرًا في حركته الداخلية والخارجية من ذي قبل، خاصة وأن الدعاية الانتخابية التي تم توظيفها باستخدام الملفات الخارجية والتهديدات التي تتعرض لها تركيا من دول الجوار الجغرافي خاصة سوريا والعراق لتحقيق كتلة تصويتية كبيرة. (3)
وتأسيسًا على ذلك يمكن أن تكون نتائج الانتخابات المحلية بمثابة نقطة الرجوع عن السياسات الأخيرة التي تبناها حزب العدالة والتنمية لتحقيق أجندته الخاصة دون الاعتيار لباقي التوجهات السياسية التركية، كما أنها على الجانب الآخر يمكن أن تكون نقطة تحول بالنسبة للقوى المعارضة التي حاولت البناء على ما تم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الماضية، في مواجهة حزب العدالة والتنمية ومشروعه السياسي، بالإضافة لذلك فإن الأمر سينعكس على معايير المسألة الخاصة ببعض الأشخاص المنتمين إلى حزب أردوغان أو عائلته فيما يتعلق بقضايا الفساد التي طرحها أوغلو في برنامجه الانتخابي المتعلق بمواجهة مثل هذه التجاوزات، ويمكن القول في النهاية بأن خسارة بلدة إسطنبول قد تكون اللبنة الأولى لبداية تحول جذرية في المشهد السياسي الداخلي والخارجي برمته، خاصة مع تصاعد الضغوط الاقتصادية من على تركيا في ظل حكومة أردوغان من جانب الاتحاد الأوروبي على خلفية أزمة الغاز الأخيرة في شرق المتوسط.
المراجع
1) الاتحاد الأوروبي يهدد تركيا بالعقوبات إن لم توقف التنقيب عن الغاز قبالة قبرص، على الرابط:
2) مصطفى صلاح، الانتخابات البلدية التركية .. الدلالات الداخلية والانعكاسات الخارجية، على الرابط:
3) فوز مرشح المعارضة في تركيا أكرم إمام أوغلو في انتخابات بلدية إسطنبول، على الرابط:
المركز العربي للبحوث والدراسات
خسارة أردوغان الكبرى .. قراءة في مؤشرات ودلالات نتائج الانتخابات البلدية التركية
شهدت تركيا في 23 يونيو 2019، عملية الإعادة لانتخابات بلدية إسطنبول بعدما تم إلغاء النتائج السابقة والتي أكدت فوز مرشح المعارضة وحزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو، وأقرار مرشح الحزب الحاكم، بن علي يلدريم، بتقدم منافسه بعد فرز معظم الأصوات.
وتمثل إسطنبول وجهة اقتصادية وسياسية مهمة لتركيا لما تمتلكه من إمكانيات اقتصادية وسياسية وأن من يسيطر عليها يتيح له ذلك السيطرة على العديد من مجريات الأحداث الداخلية والخارجية التركية، لما تمثله من ثقل استراتيجي في محوري السياسة والاقتصاد، والتي وصفها أردوغان بأن نتائج الانتخابات تمثل “مسألة حياة أو موت”، في ظل شعار من يفوز في إسطنبول يفوز بتركيا، بل أن الأمر امتد تلحويل انتخابات إسطنبول البلدية إلى استفتاء حول شخصه، وبالتالي دفع المعارضة لحشد قواها لتوجيه ضربة له، بعد حال هزيمة مرشحه.(1)
دلالات الفوز
هناك العديد من من المؤشرات المنعكسة على الأوضاع الداخلية والخارجية التركية خاصة بعدما فاز مرشح المعارضة أوغلو في نتائج انتخابات بلدية إسطنبول، والتي تحظى بأهمية كبيرة خاصة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بصورة خاصة، وفيما يلي أبرز الدلالات المنعكسة من فوز المعارضة، على النحو التالي: (2)
1) تراجع أهمية الحزب في العديد من المناطق الجغرافية الهامة داخل تركيا وخاصة المدن الكبرى، مثل أزمير وأنقرة العاصمة التركية، بالإضافة إلى إسطنبول التي تستحوذ على أهمية كبرى في الناتج القومي التركي من حيث العوائد الاقتصادية.
2) أن السيطرة على إسطنبول من جانب حزب المعارضة وتحالفه الأمة، يأتي بعد محاولات أردوغان وحزبه إعادة الانتخابات هناك من خلال ممارسة الضغوط على المجلس الأعلى للانتخابات في الطريق الذي يخدم مرشح حزب العدالة والتنمية بن علي يلدريم، ومن ثم فإن هذا الأمر سينعكس على مصداقية الحزب في الشارع التركي الذي قد يمتد إلى حدوث انقسامات وانشقاقات داخلية تؤثر على مسار حركته.
3) لم تنجح المقاربة السياسية والدينية التي وظفها حزب العدالة والتنمية في تحقيق طموحاته التي يسعى إلى تحقيقها، فبعدما كان يستخدم الحزب المشاريع الاقتصادية في الترويج لسياساته؛ خاصة بعدما تجمدت المشاريع التنموية على غرار تأجيل افتتاح مطار اسطنبول الجديد، على وقع الركود الاقتصادي الكبير، بالتزامن مع حدوث ردة كبيرة على صعيد الديموقراطية وحقوق الإنسان.
4) تمثل انتخابات بلدية إسطنبول بمثابة استفتاء شعبي مصيري على المشهد السياسي التركي، سواء فيما يتعلق بالحراك السياسي الذي تتبناه المعارضة منذ إقرار النظام السياسي وفوز حزب العدالة والتنمية، وتفرده بالسيطرة على السلطة السياسية والعسكرية، أو فيما يتعلق بقدرة حزب العدالة والتنمية على إعادة التموضع من جديد مع تلك التغيرات السياسية الداخلية.
5) إن الانتخابات المحلية في تركيا جاءت بالمجمل انتصارًا لحزب المعارضة الرئيسي حزب الشعب الجمهوري وتحالفه تحالف الأمة؛ حيث تمثل هذه النتيجة انتكاسة كبيرة للرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية الحاكم، الأمر الذي يعكس رؤية الشارع التركي حول جدية مشروع الحزب الحاكم وتغيير بوصلته تجاه القوى السياسية الأخرى، والذي تجلى بصورة واضحة في العديد من المدن ليس فقط إسطنبول بل أيضًا أزمير وأنقرة.
6) يمكن أن يزاحم الوجه الجديد أكرم إمام أوغلو الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان على شعبيته، بل ومواجهته في الاستحقاقات السياسية الانتخابية القادمة، الأمر الذي يمثل تهديدًا مباشرًا، وذلك بعدما أثبت استحقاقه مرتين متتاليتين على ثقة الناخب التركي، نظرًا لتراجع شعبية أردوغان بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية.
سياسات ارتدادية
تمثل هذه الهزيمة الضربة الأولى التي تلاقاها حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية بزعامة دولت بهتشلي منذ أكثر من 25 عامًا، والتي جرى فيها التصويت في 39 دائرة بإسطنبول، تشمل نحو 31 ألف صندوق اقتراع، ويحق لنحو 10.5 ملايين ناخب التصويت في هذه الانتخابات.
فبعد انتكاسة حزب أردوغان، في الانتخابات البلدية التي أجريت قبل نحو ثلاثة أشهر في 31 مارس 2019، وضع الرئيس التركي وحزبه كل ثقله في المعركة الجديدة، بعد أن ألغيت النتائج الأولى، لضمان فوز مرشحه في إسطنبول، إلا أن الأمر لم يسير كما يتوقع أردوغان وحزبه، وجاءت النتائج لتؤشر على فوز مرشح المعارضة برغم حالة السيطرة الكاملة التي يفرضها النظام التركي الحالي على مجريات الأحداث، وتأميم الحياة الداخلية وتراجع معدل الحرية وحقوق الإنسان، خاصة وأن قرار إعادة الانتخابات تلقى انتقادات دولية واتهامات بتراجع الديمقراطية، وبث أيضًا القلق في الأسواق المالية.
ولم تتوقف الاتهامات التي وجهها أردوغان إلى أمام أوغلو؛ حيث اتهمه بالتحالف مع الداعية التركي فتح الله جولن الذي يعيش في المنفى في الولايات المتحدة وتتهمه أنقرة بتدبير انقلاب فاشل في 15يونيو 2016، كما أن أردوغان دائمًا ما يربط بين قوة سيطرته على السلطة باستقرار وتوسع شعبيته في مدينة إسطنبول التي رأس بلديتها في 1994، مشددًا على أن الأمة التركية باقية في إسطنبول، ولن يتمكن أحد من تحويل هويتها مجددًا، ليؤكد أنه إذا تهاوت تلك المدينة أو سقطت، سقط معها كل تركيا.(3)
وبرغم كل تلك السياسات، إلا أنه للمرة الأولى مُنذ العام 2002، تلقى أردوغان ضربة قوية في الانتخابات المحلية؛ حيث أظهرت تراجعًا في شعبية العدالة والتنمية وتنظيمه وتأثيره على الرغم من التحالفات السياسية التي عقدها حزب العدالة والتنمية التُركي وزعيمه رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان مع أحزاب أخرى، وكذلك التعديلات في قانون الانتخابات، كي توافق مصلحته.
سيناريوهات مستقبلية
شكل الفوز الذي حققه مرشح المعارضة أوغلو نقطة محورية وفاصلة في تداعياتها على مستقبل حزب العدالة والتنمية الحاكم بصورة خاصة والحياة السياسية التركية الداخلية والخارجية بصورة عامة، الأمر الذي يلقي الضوء من جديد على خريطة الأوضاع المستقبلية وفيما يلي أبرز تلك السيناريوهات:
السيناريو الأول: يفترض هذا السيناريو تحقيق مزيد من النجاحات الميدانية للأحزاب المعارضة في مواجهة حزب العدالة والتنمية الحاكم، والذي بدوره سينعكس على حركة ومسار الحزب داخليًا وخارجيًا إلى حد قبوله بنتائج هذه المرحلة وما ستفرضه الوقائع السياسية الجديدة، وامتدادًا لهذا فمن المحتمل أن يتم الكشف عن العديد من قضايا الفساد في إسطنبول والتي يشار إلى العديد من قيادات الحزب وعائلة أردوغان بالتورط فيها، الأمر الذي يضع الحزب الحاكم في مرمى المعارضة بصورة مباشرة والذي سيؤدي بالضرورة إلى تراجع شعبيته، خاصة وأن هذه الملفات تأتي بالتزامن مع العديد من الضغوط الاقتصادية التي تتعرض لها تركيا على المستويين الداخلي والخارجي ولعل آخرها ما أعلنته دول الاتحاد الأوروبي خلال انعقادها في بروكسل في 21 يونيو 2019، حول اعتزامها فرض عقوبات اقتصادية على تركيا في ظل تزايد نشاطاتها العسكرية في منطقة شرق المتوسط، مع تراجع سعر الليرة وارتفاع معدل التضخم والبطالة.
السيناريو الثاني: يفترض هذا السيناريو تحقيق تعاون حذر بين حزب العدالة والتنمية الحاكم، وبين الأحزاب المعارضة وخاصة حزب الشعب الجمهوري فيما يتعلق بالتنسيق المشترك تجاه الملفات الخلافية مثل تراجع مستوى الحريات، ومؤشرات الديموقراطية، وتأميم المجال العام، خاصة بعد السياسات المتبعة من جانب الحزب التي أظهرت نيته الحقيقة تجاه تركيا وفق مشروعه السياسي والاقتصادي.
السيناريو الثالث: يفترض هذا السيناريو عدم اعتماد مقاربات سياسية وعسكرية راديكالية من جانب الحزب الحاكم في التعامل مع النشاطات الحزبية، وفتح المجال العام أمام حركة التفاعلات الداخلية، مما يفرض سياقات جديدة يعيد من خلالها حزب العدالة والتنمية رؤيته للمشهد السياسي الداخلي والخارجي.
المراجع
1) من يفوز في إسطنبول يفوز بتركيا”.. إعادة حاسمة لانتخابات البلدية في العاصمة الاقتصادية، على الرابط:
2) مصطفى صلاح، الانتخابات البلدية التركية .. الدلالات الداخلية والانعكاسات الخارجية، على الرابط:
3) بلسان أردوغان.. ماذا تعني خسارة انتخابات إسطنبول؟، على الرابط:
هل يمكن لأردوغان أن يتغير/ غوكهان باجيك
بعد الهزيمة المُذلّة لحزبه في إعادة الانتخابات لاختيار رئيس بلدية إسطنبول، السؤال المطروح هو كيف سيكون رد فعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؟ هل سيغير الرئيس، الذي يدير البلاد منذ عام 2003، المسار أم سيستمر في طريقه إلى الحكم الاستبدادي؟
يحدث التغيير على الأرجح عندما تكون لدى الناس القدرة على انتقاد زعيمهم. إذا كان الزعيم محصّنًا من النقد، فلن يكون التغيير محتملًا.
زعمت بعض الشخصيات البارزة في حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان أن هزيمة إسطنبول لم تكن خطأ الرئيس، بل خطأ من حوله. هذه ليست سوى ذرائع تكتيكية تستخدمها قيادة الحزب. من غير المحتمل أن ينتقد أعضاء حزب العدالة والتنمية أردوغان على الهزيمة، أو يتساءلون عن دوره فيها. تشكل عبادة الزعيم داخل حزب العدالة والتنمية عقبة كبرى أمام إصلاحه.
ثانيًا، التغيير ممكن إذا قامت الجهات السياسية الفاعلة بتشخيص أخطائها، ولم تتذرع بمخططات العدو الوهمية كسبب في الهزيمة.
فهل يعتقد حزب العدالة والتنمية أنه خسر انتخابات إسطنبول بسبب أخطائه واستبداده وغطرسته وفساده وإخفاقاته الاقتصادية؟ أم هل يواصل حزب العدالة والتنمية إلقاء اللوم على تآمر مختلف الأعداء لإسقاطه؟
ثالثًا، التغيير ممكن إذا كان الحزب يملك القدرة على التخلص من أولئك الذين كانوا على خطأ.
ثمة عدد من الوزراء وكبار الشخصيات الحزبية والصحافيين الموالين للحكومة الذين لعبوا أدوارًا رئيسة في تشكيل إستراتيجيات حزب العدالة والتنمية الحالية. فهل سيتمكن حزب العدالة والتنمية من الإطاحة بهذه الشخصيات البارزة؟
منذ هزيمة الانتخابات الأحد الماضي، أصبح من الواضح أن هذه الشخصيات في حزب العدالة والتنمية تتحدث عن الحاجة إلى النقد الذاتي، لكن من الواضح أنهم لن يدعوا ذلك يحدث أبدًا.
من المهم أن نتذكر أن حزب العدالة والتنمية حزب إسلامي وأن التزامه الديني يجعل التغيير والبراغماتية أكثر إيلامًا. من الصعب تحدي وانتقاد زعيم حزب إسلامي، لأن قيادته مليئة بالرمزية الدينية. واليوم بالنسبة للعديد من الأشخاص داخل حزب العدالة والتنمية، فإن أردوغان هو أكثر من زعيم للحزب، فهو أيضًا زعيم ديني يُعتقد أن لديه مهمة عالمية لقيادة المسلمين في جميع أنحاء العالم.
وبالتالي داخل الحركة الإسلامية، من المحظور انتقاد القائد. بدلًا من ذلك فإن الرواية الجماعية المعتادة ترتكز على أن الهزيمة ترجع إلى فشل الأعضاء في فهم القائد. تجعل فكرة عبادة القيادة هذه من الصعب تغيير جميع الأحزاب والجماعات الإسلامية.
أخيرا، التغيير ممكن إذا كان يساعد على بقاء أي حزب سياسي. من غير المرجح أن يعزز التحول الديمقراطي أو حرية التعبير أكثر من فرص البقاء السياسي لحزب العدالة والتنمية. كان بقاء الحزب في السنوات الأخيرة بسبب قدرته على فرض الحكم الاستبدادي.
سيقوم أردوغان وحزبه على الأرجح ببعض التحولات البراغماتية على المدى القصير، ولكنهما سيحافظان على أجندته المعتادة. التغيير الحقيقي داخل حزب العدالة والتنمية ممكن من الناحية النظرية، لكنه غير محتمل على أرض الواقع.
كاتب وأكاديمي وباحث تركي
العرب
انتخابات إسطنبول:ليست إنتصاراً للمعارضة/ عائشة كربات
نتيجة انتخاب الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول هي مجرد دليل على الإخلاص العميق للشعب التركي للديموقراطية ولكنها ليست انتصاراً للمعارضة، على الأقل حتى الآن، وبرغم أنها قد تكون بداية انهيار حزب “العدالة والتنمية” الحاكم.
صحيح أن أهالي إسطنبول أحبوا جهود مرشح المعارضة أكرم أمام أوغلو الهائلة للتواصل مع كل مواطن. ذكرهم هذا برئيس بلدية آخر كان يحكم مدينتهم النابضة بالحياة إسطنبول ذات مرة، جنباً إلى جنب مع سكانها: رجب طيب أردوغان.
لكن السبب الحقيقي لنتائج انتخابات الإعادة ليس مشاعر أهالي إسطنبول تجاه إمام أوغلو، ولكن قرار مجلس الانتخابات العليا إعادة الانتخابات. هذا ما جعل سكان المدينة غاضبين للغاية ودفع ببعضهم إلى تغيير مرشحهم لمنصب رئيس البلدية.
للديموقراطية في تركيا الكثير من أوجه القصور منذ البداية؛ كانت هناك عدة انقلابات ومحاولات انقلاب، أياً كان النظام، عانينا دائماً من عدم وجود توازن في الأرصدة، وضعف المجتمع المدني والقضاء غير المستقل ووسائل الإعلام التي تسعى إلى تحقيق المصلحة الذاتية، ولكن منذ بداية النظام التعددي في عام 1945، أحب المواطنون الأتراك فكرة صندوق الاقتراع وأخذوه على محمل الجد في كل وقت. كانت نسبة المشاركة في الانتخابات مرتفعة للغاية في تركيا بسبب هذا التفاني. هذه هي القضية الأكثر قداسة للديموقراطية التركية، ولكن بمحاولة غير مرئية، أجبرت الحكومة المجلس الأعلى للانتخابات على اتخاذ قرار بإعادة الانتخابات.
إن نتائج انتخابات الأحد هي بشكل أساسي عقوبة على محاولة خطف صندوق الاقتراع، أكثر من كونها أي شيء آخر.
ثانياً، عندما بدأ رجب طيب أردوغان إدارة إسطنبول في عام 1994 كرئيس للبلدية، كانت هناك جماهير حول المدن الكبرى، بسبب ثورة التصنيع. واجه هؤلاء المهاجرون الجدد صعوبات في التكيف مع ثقافة المدينة والحياة التي شعروا أنهم مستبعدون منها. قام أردوغان بتحويلهم، ونقلهم من الأطراف إلى الوسط. كانت هذه في الواقع مهمة حزب “العدالة والتنمية” التي تم إنجازها بطريقة ناجحة للغاية. الجماهير تكيفت مع حياة المدينة، لكن حزب “العدالة والتنمية” لم يكن قادراً على تجديد نفسه وفقًا للعقد الاجتماعي الجديد الذي أنشأه بنفسه. تتطلب حياة المدينة فرصاً جديدة ومزيداً من الترفيه والمزيد من الحرية والفردية، لكن “العدالة والتنمية” كان قاصراً عن الاستجابة لهذه المطالب.
ثالثاً، لقد اختار معظم الأكراد الذين يعيشون في إسطنبول؛ المتدينين أو القوميين، التصويت لصالح المعارضة، ليس لأن المعارضة كانت تعنى بهم، بل لأنهم فقدوا كل آمالهم في حزب “العدالة والتنمية”. محاولة الحكومة في اللحظة الأخيرة تمهيد الطريق لبيان زعيم حزب “العمال” الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان، الذي حث الأكراد على البقاء محايدين في الانتخابات، جاءت بنتائج عكسية. أدت هذه المحاولة بالناخبين القوميين الأتراك إلى وضع مسافة مع حزب “العدالة والتنمية” لأنه أعطى الانطباع بأنه مستعد لفعل كل شيء للفوز في الانتخابات.
إضافة إلى ذلك، فضل الأكراد الاستماع إلى حزبهم القانوني، حزب “الشعب” الديمقراطي وليس حزب “العمال” الكردستاني المسلح. الحزبان ليسا منظمتين مختلفتين تماماً بالطبع، لكن مطالب الأكراد بالسياسة والقانون هي أكثر من أي وقت مضى، وهي علامة أخرى مهمة لمستقبل تركيا وبالطبع بالنسبة للمنطقة.
حسناً، إنها أيضًا حقيقة أن المعارضة، على الرغم من الانقسامات العميقة في ما بينها، تمكنت من حشد قواتها وأنصارها. الاحتفالات الجماهيرية في شوارع إسطنبول تظهر الإمكانات هناك؛ المعارضة خرجت من الزجاجة الآن وقد يكون من الصعب دفعها للخلف.
ومع ذلك، هناك العديد من المشاكل الضخمة العاجلة التي تقترب بسرعة من تركيا مع وجود إمكانية كبيرة لتحقيق الضرر؛ العقوبات الأميركية المحتملة بسبب شراء صواريخ روسية الصنع من طراز “إس-400″، والكفاح من أجل الموارد الطبيعية لشرق المتوسط وسوريا وعدم الاستقرار في المنطقة بالإضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي. قال أردوغان الذي يتعين عليه مواجهة هذه المشاكل، بعد تهنئته لإمام أوغلو: “سنواصل معالجة جميع قضايا تركيا الداخلية والخارجية بعناية”.
الكرة في ملعبه الآن. هل سيستمر في فعل ما يفعله؟، هل سيجري تغييرات شكلية في حزبه وحكومته أم سيحاول أن يوضح للناس أنه تلقى الدروس؟، والأهم من ذلك، هل سيكون قادراً على تحديد مهمة جديدة لحزبه؟. إذا لم يكن كذلك، فإن الانهيار الحقيقي لحزبه بدأ بالفعل.
المدن
عن فوز أكرم أوغلو في إسطنبول/ عمر كوش
يبدو أن الفوز الذي حققه مرشح تحالف المعارضة التركية، أكرم إمام أوغلو، في جولة الإعادة لانتخابات رئاسة بلدية إسطنبول، التي أجريت في 23 يونيو/ حزيران الحالي، جاء كي يؤكد فوزه الأول في انتخابات 31 مارس/ آذار الماضي، والتي ألغتها اللجنة العليا للانتخابات في 6 مايو/ أيار الماضي، بعد اعتراضات حزب العدالة والتنمية (الحاكم) على نتائجها. غير أن اللافت في نتائج جولة الإعادة هو الفارق الكبير في الأصوات التي نالها إمام أوغلو، فقد حصل على نسبة تفوق 54% من أصوات الإسطنبوليين، بينما حصل مرشح حزب العدالة والتنمية، بن علي يلدريم، على 45% من أصواتهم، ما يعني أن الفارق بينهما وصل إلى تسع نقاط، أي أكثر من 750 ألف صوت، بينما في انتخابات نهاية مارس/ آذار الماضي، كان الفارق بينهما حوالي 30 ألف صوت، وبعد اعتراضات حزب العدالة والتنمية، وإعادة فرز الأصوات في عدد من الدوائر، تقلص الفارق إلى قرابة 13 ألف صوت.
يشكل هذا الفوز الكبير لمرشح المعارضة ضربة قوية لحزب العدالة والتنمية، وللتحالف الذي بناه مع حزب الحركة القومية والأحزاب الصغيرة الأخرى، كونه سيعيد رسم المشهد السياسي التركي، على الرغم من أن الانتخابات محلية الطابع، ولن تؤثر في المدى القريب على مستقبل تركيا وسياساتها، لكنها ترسل إشارات واضحة إلى “العدالة والتنمية” الذي فاز قبلها في جميع الانتخابات التي خاضها منذ وصوله إلى الحكم في 2002.
وعلى الرغم من أن الحزب قد غيّر استراتيجيته في حملة انتخابات الإعادة، وركّز على الخدمات الاجتماعية وسوى ذلك، إلا أن الناخب الإسطنبولي لم يقتنع بها، واختار مرشح المعارضة، إمام أوغلو، بوصفه شاباً، ركّز في خطابه على الشباب التركي، وعلى حاجات أهل إسطنبول وخدماتهم، ورفع شعار “كل شيء سيكون أفضل” في حملته الانتخابية.
ولعل الأهم في الحملات الانتخابية هو تركيز تحالف المعارضة على “المظلومية” التي لحقت بمرشحها الذي اعتبرته فائزاً في الجولة الأولى، وأن الحزب الحاكم ظلمه بتشكيكه واعتراضاته على نتائج الانتخابات، ولذلك رفعت أحزاب المعارضة شعار “الحق سوف يعود إلى أصحابه”، وراحت تخاطب وجدان الناخبين الإسطنبوليين. وفي المقابل، لم يأخذ حزب العدالة والتنمية بالاعتبار متغيرات عديدة طاولت المشهد السياسي التركي، بعد انتخابات نهاية مارس/آذار الماضي، وأعادت رسمه، بل جاء قرار الإعادة كي يعطي جولة الإعادة معنىً سياسياً إضافياً، حتى باتت ترتقي إلى مصافي استفتاء شعبي على مرحلة سياسية، تزعم فيها حزب العدالة والتنمية المشهد السياسي التركي، وسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي فإن نتائجها جاءت كي تعلن ولادة مرحلة جديدة في التاريخ السياسي التركي.
ولم يتمكّن حزب العدالة والتنمية (الحاكم) من جذب أصوات الممتنعين عن التصويت في الجولة السابقة، والذين كانوا يشكلون كتلة انتخابية مهمة، كما لم يتمكّن من جذب المتكاسلين والمتردّدين من أنصار الحزب، وكذلك لم يصوّت أنصار الأحزاب الصغيرة لصالح مرشحه. والأهم أنه على الرغم من السماح لمحامي الزعيم الكردي، عبد الله أوجلان، بزيارته في سجنه، والرسالة التي بعث بها الأخير إلى مناصريه، لم يصوت غالبية الإسطنبوليين من أصل كردي لصالح مرشح حزب العدالة والتنمية، الأمر الذي أفضى إلى ذهاب معظم هذه الأصوات لصالح مرشح تحالف المعارضة، وتحقيقه فارقاً كبيراً في عدد الأصوات لصالحه، إذ زاد عدد المصوّتين له بأكثر 571 ألف صوت، بينما خسر بن علي يلدريم أكثر من 220 ألف صوت.
وستكون لنتائج انتخابات جولة الإعادة في إسطنبول انعكاسات على المشهد السياسي التركي، وخصوصا أن من يفوز في انتخابات هذه المدينة سيكون له شأن سياسي، الأمر الذي حدا ببعضهم (ومن بينهم أردوغان) إلى القول إن من يفوز برئاسة بلدية إسطنبول سيحكم تركيا، بل وراحوا يبحثون عن نقاط التشابه بين مسيرتي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والفائز الجديد بكرسي رئاسة بلدية إسطنبول أكرم إمام اوغلو، من حيث إن مسيرة الأخير تكرر مسيرة صعود أردوغان السياسية الذي فاز برئاسة بلدية إسطنبول عام 1994، وتعرّض وقتها إلى مضايقات وسُجن، ووقع عليه ظلم من الحاكمين في ذلك الوقت، ثم تمكّن من الوصول إلى رئاسة الجمهورية.
ومن المهم أن يتقبل قادة حزب العدالة والتنمية ومناصروه هذه الخسارة، بعد أن خسروا معظم بلديات المدن الكبرى في الجولة السابقة، وأن يقوموا بجملة من المراجعات والإصلاحات، كونها تعتبر الخسارة الأولى لهم في بلدية إسطنبول منذ 25 عاماً، وخصوصا أن عليهم تحمّل الثمن السياسي لها، وأن يقرأوا بإمعانٍ جوانب وأسباب التغير في الخريطة السياسية التركية، التي يكمن بعضها في ميدان السياسة، وبعضها الآخر في الاقتصاد والوضع المعيشي، ذلك أن قيادة حزب العدالة والتنمية تغيرت كثيراً خلال السنوات السابقة، بعد أن أبعدت قياداتٌ تاريخيةٌ عنها، خصوصاً تلك التي ساهمت في تأسيس الحزب ونجاحاته، وبروز نزعات الترهل والاطمئان إلى الإنجازات التي حققها الحزب في المراحل الأولى من وصوله إلى الحكم في تركيا. إضافة إلى ضرورة البحث عن سبل تحسين الأوضاع المعيشية التي تدهورت كثيراً، خلال السنوات القليلة الماضية، إثر التراجع الاقتصادي، وتدهور قيمة الليرة التركية، وارتفاع نسبة التضخم وزيادة نسبة البطالة، وخصوصا بين أوساط الشباب. لذلك، الأجدى بهم العمل من أجل تحديد أوجه التقصير وبذل الجهود من أجل تلافيها، وإصلاح مواضع الخلل، وأن يستخلصوا الدروس المفيدة التي حملتها نتيجة الانتخابات.
العربي الجديد
تحرك تركي لحماية مصالح أنقرة في المعادلة السورية/ رانيا مصطفى
تتحرك تركيا سريعا لاستباق حصول تفاهمات أمنية ثلاثية؛ روسية- أميركية- إسرائيلية، تخرجها من المعادلة السورية؛ فإذا كانت محاصرة إيران، وتحجيم نفوذها في سوريا، هو أولوية بالنسبة لأميركا وإسرائيل والعرب، فإن تقليص دور تركيا هو ثاني الأهداف، وهو يلتقي مع الطموحات الروسية في استعادة السيطرة على مناطق شمال غرب سوريا، من يد المعارضة المسلحة الأقرب إلى تركيا.
دعت تركيا تحالف أستانة الثلاثي؛ تركيا وروسيا وإيران، إلى عقد جلسة جديدة في إسطنبول خلال شهر يوليو الجاري، ودعا الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال زيارته إلى الصين، لحضور قمة مجموعة العشرين في أوساكا اليابانية، إلى عقد قمة رباعية جديدة بمشاركة وروسيا وفرنسا وألمانيا، بعد الاجتماع الأول الذي عقد في إسطنبول في أكتوبر 2018.
وغير ذلك هناك القمة الثنائية بين بوتين وأردوغان، على هامش قمة مجموعة العشرين الأسبوع الماضي، والتي تم فيها بحث الوضع في شمالي غربي سوريا، والبحث عن تفاهمات جديدة لإيقاف الحرب في إدلب.
ومنذ شهر ابريل الماضي، ظهرت معالم تقارب أميركي- تركي بخصوص الوضع في سوريا، حيث عقدت اللجان العسكرية التركية والأميركية لقاءات مكثفة بهذا الخصوص، اقتربت من الوصول إلى اتفاق أعلن عنه جيمس جيفري، المبعوث الأميركي إلى سوريا، يتعلق بالمنطقة الأمنية شمالي شرقي سوريا، ثم تأكد التفاهم بعد القمة الثنائية لترامب وأردوغان، على هامش قمة مجموعة العشرين في اليابان، من خلال التصريحات الإيجابية للرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه تركيا. وانعكست مؤشرات هذا التقارب التركي- الأميركي سريعا على تحسن في قيمة الليرة التركية بمقدار 13 نقطة.
استفادت تركيا من الموقف الأوروبي الداعم لاتفاق المنطقة منزوعة السلاح في إدلب، في سوتشي في 17 سبتمبر 2018، والمتمثل باجتماع إسطنبول الرباعي، ومن الدعم الأميركي الذي تمثل حينها بتحذير روسيا والنظام السوري، من استخدام الأسلحة المحرمة دوليا، والذي تطور إلى تحذير شديد اللهجة من شن أي هجوم على إدلب. في خطوة من إدارة ترامب للضغط على روسيا، بعد أن ألغي اللقاء الثنائي للرئيسين بوتين وترامب والمقرر عقده على هامش قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين العام الماضي.
لكن حصل تراخ أميركي بعض الشيء، حيال إمكانية شن هجوم محدود على إدلب، من قوات النظام السوري، بغطاء جوي روسي، والذي بدأ بالفعل في 25 أبريل الماضي، وذلك بعد التقارب الأميركي الروسي، والذي كانت بدايته مع زيارة مايك بومبيو، وزير الخارجية، برفقة جون بولتون مستشار الأمن القومي إلى روسيا، ولقاء فلاديمير بوتين، وذلك بعد شعور الإدارة الأميركية بتورطها بشأن التصعيد مع إيران، وهناك تسريبات عن نقاشات حول توافقات أميركية- روسية حينها حول تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا.
وبالتالي أخذت روسيا وقتها في حربها على إدلب، وفي إجراء ما تحتاجه من تغييرات عسكرية ضمن فرق النظام المهاجمة وقياداتها، دون أن تتمكن من تحقيق تقدم يخدمها، ومع المزيد من الخسائر في قوات النظام، التي بدت هزيلة أمام فصائل المعارضة، رغم الغطاء الجوي الروسي الذي تحظى به. وبالتالي استنفذت روسيا خيارها بالاعتماد على جيش النظام، وهي الآن تقامر بالاستعانة بمليشيات إيران مجددا، خاصة حزب الله اللبناني، الذي يحشد بالقرب من جبل الزاوية جنوب إدلب، وسهل الغاب شمال حماهة
العودة الروسية إلى التحالف الميداني مع إيران في معركة إدلب، يعني أن التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة وإسرائيل لا يزال بعيدا، أو أن روسيا، التي تتقن سياسة الابتزاز، تستغل المطلب الأميركي- الإسرائيلي الملحّ بخروج الميليشيات الإيرانية، وذلك بتقوية هذه الميليشيات، من أجل تضخيم الورقة الإيرانية، وعزز ذلك امتعاضها من الضربات الإسرائيلية الأخيرة، وهي الأعنف منذ 3 سنوات، على المواقع الإيرانية في ريف دمشق وحمص، وذلك للمساومة على مطالب أكبر تتعلق بالانسحاب الأميركي من شرق الفرات، وتركه للنظام، وبالسماح بالتطبيع العربي مع نظام الأسد وعودته إلى جامعة الدول العربية، وبتمويل عربي لمشاريع الإعمار، حتى يتسنى لموسكو حصد نتائج تدخلها العسكري في سوريا منذ خريف 2015. فيما تراهن موسكو على وساطة إسرائيل مع واشنطن للقبول بالمطالب الروسية.
عدم الاتفاق الروسي الأميركي الإسرائيلي، يعطي وقتا لتركيا لترتيب اتفاقات تضمن مصالحها وأمنها في سوريا، فقد باتت تريد، حسب تصريحات أردوغان، ضم إدلب إلى مناطق نفوذها كما في منطقة “غصن الزيتون” في عفرين وريفها، ومنطقة “درع الفرات” الممتدة على حدودها من جرابلس حتى إعزاز في ريف حلب الشمالي؛ باعتبار منطقة إدلب قريبة من حدودها، وهي تراهن على قدرتها على ضبط الفصائل، إذا ما تم التوصل إلى توافق جديد مع روسيا، لحماية القواعد الروسية القريبة من أي هجمات. وفي الوقت نفسه، ما زالت تركيا لا تطرح أي حلول بشأن المعضلة الجهادية، وحل هيئة تحرير الشام وتطويعها ضمن الفصائل المعتدلة، بانتظار تفاهم مع روسيا، يحتاج إلى دعم أميركي وأوروبي، يخص مصير إدلب، ومجمل الحل في سوريا.
في هذا الوقت الصعب، تتعرض حكومة أردوغان إلى ضغوط داخلية هائلة تهدد بقاءها في الحكم، بعد خسارة حزب العدالة والتنمية مدينة إسطنبول في الانتخابات البلدية الأخيرة، الأمر الذي أعطى حظوظا لحزب الشعب الجمهوري المعارض، الذي فاز بالانتخابات البلدية في المدن الكبرى بعد 15 سنة من الإخفاقات السياسية، هذا عدا التسريبات الصحافية عن حصول انشقاقات في حزب العدالة والتنمية نفسه. وبالتالي يسعى أردوغان إلى توافقات سريعة مع كل من أميركا وروسيا، بشأن حسم ملفات شرقي الفرات، وإدلب، لتأمين عودة السوريين اللاجئين في إسطنبول، والبالغ عددهم 3 ملايين و663 ألفا، منهم 600 ألف في إسطنبول وحدها، ويشكلون نسبة 4.6 في المئة من إجمالي الشعب التركي، حسب إحصاءات رسمية تركية؛ خاصة مع تصاعد تيارات عنصرية تركية مؤخرا ضد التواجد السوري في تركيا.
كاتبة سورية
العرب
إلى أحزاب تركية جديدة/ خورشيد دلي
لعل الأمر الأكثر جدلاً وترقباً في تركيا، بعد هزيمة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) في جولة إعادة الانتخابات البلدية في إسطنبول، هو تشكيل أحزاب جديدة، واللافت في هذا الأمر أن معظم الذين يجري الحديث عن نيتهم تشكيل هذه الأحزاب هم أعضاء بارزون في “العدالة والتنمية”، ما يذكّر ببداية تأسيس هذا الحزب نفسه، إذ عندما قرر رجب أردوغان ورفاقه تشكيله، وهم أعضاء في حزب الفضيلة عام 2001، ذهبوا إلى زعيم الحزب ومؤسس الإسلام السياسي في تركيا، الراحل نجم الدين أربكان، وأبلغوه نيتهم تأسيس حزب جديد، فكان “العدالة والتنمية” الذي طرح نفسه حزباً مجدّداً معتدلاً، يجمع بين كل الأتراك، ويعمل من أجل نهضة تركيا. واليوم يتكرر السيناريو نفسه تقريباً، مع زيارة وزير الاقتصاد السابق، علي باباجان، الرئيس أردوغان، قبل أيام، وإبلاغه نيته تأسيس حزب جديد، فيما يقف الرئيس السابق، عبد الله غول، خلف باباجان في كل حركة واجتماع وخطوة وتصريح، من أجل الحزب الجديد، والذي تقول مصادر تركية إنه أطلق عليه اسم حزب الحرية والقانون.
وبموازاة جهود باباجان، يتحرّك رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو، والذي يعد المنظر الفكري لاستراتيجية حزب العدالة والتنمية، لتأسيس حزب جديد، موجّهاً ومواصلاً انتقاداته اللاذعة لأردوغان، محمّلاً إياه مسؤولية هزيمة “العدالة والتنمية” في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول، ومسؤولية استمرار التعثر الاقتصادي في البلاد، وانزلاق تركيا إلى حكمٍ يقمع الحريات. وخارج “العدالة والتنمية”، يجري الحديث عن جهود مماثلة لمحرّم إينجه، القيادي في حزب الشعب الجمهوري المعارض، والمرشح السابق لانتخابات رئاسة الجمهورية عام 2017، لتأسيس حزب جديد.
يؤكد هذا النشاط المحموم لتشكيل أحزاب تركية جديدة أن مرحلة ما بعد انتخابات اسطنبول ستكون جديدة في الحياة السياسية التركية، لعل من أهم ملامحها أفول عهد الأردوغانية السياسية، وبروز دينامية سياسية جديدة، سواء من المعارضة التي بقيت مشتتة وضعيفة الفترة الماضية، أو من أوساط محسوبة على “العدالة والتنمية”، لم تعد ترى في أردوغان الأمل المُرتجى، بعد أن اتجه نحو الفردانية في الحكم، وأوصلت سياساته البلاد إلى مرحلة مليئة بالتحديات الصعبة.
ومع جهود تأسيس أحزاب تركية جديدة، إلى جانب بروز نجم أكرم إمام أوغلو بعد فوزه برئاسة بلدية اسطنبول، تبدو تركيا أمام تغيراتٍ سياسيةٍ في مشهدها الداخلي، ليس على صعيد تأسيس أحزاب جديدة فحسب، وإنما على صعيد طبيعة التحالفات الحزبية والسياسية ومستقبلها، وربما تغير طبيعة النظام السياسي نفسه، لا سيما في ظل ازدياد وتيرة الدعوات المطالبة بالعودة إلى النظام البرلماني، أو على الأقل تعديل النظام الرئاسي الحالي، والذي يعطي للرئيس أردوغان سلطاتٍ شبه مطلقة. وبطبيعة الحال، سيؤثر تأسيس باباجان وأوغلو حزبين جديدين على تركيبة البرلمان التركي، وإذ صحّت التوقعات بأن نحو مائة نائب من “العدالة والتنمية” سيلتحقون بالأحزاب الجديدة، وأنه سيتم بالتالي تشكيل كتل برلمانية جديدة، فإن الحزب سيفقد أغلبيته البرلمانية، وهو ما قد يفتح الطريق أمام الدعوة إلى استفتاء على العودة عن النظام الرئاسي، أو إصلاحاتٍ في الأخير، وربما الدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكّرة. وفي كل ما سبق، تتجه الأنظار إلى الرئيس أردوغان، وكيفية تعاطيه مع تشكيل أحزاب جديدة من رحم الحزب الذي أوصله إلى مجده السياسي.
سيقول أردوغان وحليفه السياسي في الانتخابات، دولت باهجلي، إن تركيا ليست بحاجة إلى أحزابٍ جديدةٍ، بقدر حاجتها إلى مواصلة طريقها بحزم لتحقيق الأهداف، إلا أن كل المؤشرات والمعطيات والدلائل تفيد بأن تركيا بدأت تشهد بداية سياسية جديدة بعد انتخابات اسطنبول.
العربي الجديد