حوار “ضفة ثالثة” مع فاروق مردم بك
سوق الأدب العربيّ بالغرب: شهادة فاروق مردم بك (5)
عماد فؤاد
سيكون على الثّقافة العربية، ممثّلة في مؤسّساتها الرّسمية وغير الرّسمية، أن تحتفل قريباً بمرور 25 عاماً قضاها الكاتب والمؤرّخ والنّاشر السّوري الكبير فاروق مردم بك (75 عاماً)، مشرفاً على سلسلة “سندباد” التي تصدرها دار “أكت سود”، أحد ألمع دور النّشر الفرنسيّة. وهي السّلسلة التي تولّى مردم بك مسؤوليتها منذ العام 1995 وحتى يومنا هذا، والمعنية بالدّرجة الأولى بترجمة الآداب العربية الكلاسيكيّة والمعاصرة إلى اللغة الفرنسيّة. جاءت مسؤولية سلسلة “سندباد” بعد عمل مردم بك مديراً لمجلة ” Revue d’études palestinienne” الفرنسيّة في الفترة من 1986، حتى 2008، كما عمل مستشاراً لمعهد العالم العربي في باريس بدءاً من 1987 وحتى 2008.
نحن إذن أمام أحد نسّاك الثّقافة العربية الذي وهب عمره لخدمة هذه الثّقافة ونقل إبداعاتها إلى لغة رامبو وموليير، ومن ثمّ كان لزاماً علينا أن نحاوره ضمن ملفّنا الموسّع حول “سوق الأدب العربي بالغرب”، فالرّجل، الذي يمكننا أن نطلق عليه لقب “سندبادنا في باريس”، يملك خبرة ما يزيد عن 30 عاماً في مجال ترجمة أدبنا المعاصر إلى الفرنسيّة، ويعرف أكثر من غيره المشهد الأدبي العربي في أوروبا الرّاهنة.
ولد فاروق مردم بك في دمشق سنة 1944، وتخرّج في كلية الحقوق في الجامعة السّورية سنة 1965. نشر بالفرنسيّة بالاشتراك مع سمير قصير كتاباً بعنوان “مسالك بين باريس والقدس، فرنسا والصّراع العربيّ – الإسرائيلي”، وبالاشتراك مع إلياس صنبر “أن تكون عربيّاً” أيضاً عن أكت سود 2007. كما أشرف على نشر العديد من الكتب الجماعيّة ذات الطّابع التّاريخي أو السّياسي أو الأدبي أو الببليوغرافي، منها “ساركوزي في الشّرق الأوسط”، التي أصدرتها أكت سود بالتّعاون مع مؤسّسة الدّراسات الفلسطينيّة؛ كما ترجم إلى الفرنسيّة أعمالاً لمحمود درويش وسعدي يوسف. وعن الثّورة السّورية، وضع مردم بك بالاشتراك مع صبحي حديدي وزياد ماجد كتاباً بعنوان “في رأس بشار الأسد” صدر في أواخر 2018. وقد قلّدته فرنسا وسام الشّرف من مرتبة “فارس” عن مجمل إسهاماته الأدبية. وهو الوسام الذي سلّمه له المؤرخ الفرنسي هنري لورانس في حفل مهيب أقيم بمعهد العالم العربي في باريس أواخر السّنة الماضية 2018.
هنا نص الحوار كاملاً:
(*) تُسهم منذ ما يزيد عن 30 عاماً بكثير من جهودك في تقديم الثّقافة العربية وترجمتها إلى اللغة الفرنسيّة، كيف بدأ مشوارك الطّويل في العمل الثّقافي بفرنسا؟
حين جئت باريس طالباً في أواخر 1965، لم يكن يخطر ببالي أنّي سأبقى فيها عشرات السّنين، ولا أنّي سأصبح في يومٍ من الأيّام ناشراً معنيّاً قبل كلّ شيء بترجمة الأدب العربي إلى اللغة الفرنسيّة. هذا، على الرّغم من ولعي القديم بالأدب، وخصوصاً بالشِّعر، ومن هوسي
“في 1981، كنت أحد مؤسّسي مجلّة الدّراسات الفلسطينيّة بطبعتها الفرنسيّة، وكانت تتميّز، حتّى عددها الأخير في حزيران/ يونيو 2008، بانفتاحها على الإنتاج الفكريّ والثقافيّ”
بالكتب الذي دفعني في أثناء دراستي الجامعيّة في دمشق إلى العمل في مكتبةٍ مُختصّةٍ ببيع المنشورات الفرنسيّة. ما جرى لي هو أنّي اضطررت، بعد سبع سنين قضيتها بين الدّراسة والنّشاط السّياسي وما كان لا بدّ منه من “بوهيميّة” الشّباب الأوّل، إلى البحث عن عملٍ يضمن لي على الأقلّ تجديد بطاقة الإقامة، فوجدته سنة 1972 في مكتبةٍ جامعيّةٍ عريقة، هي مكتبة معهد اللغات والحضارات الشرقيّة، موظّفاً متعاقداً بمرتّبٍ صغير لمدّة ثلاثة أشهر، ثمّ لسنة، ثمّ لسنةٍ أُخرى، ودام ذلك إلى أن استقلت في 1986 بدافع الملل. تعلّمت الكثير في غضون عملي في المكتبة، ولم أغادرها إلّا بعد أن لمست وشممت وتصفّحت جميع مُقتنياتها من الكتب العربيّة، وأغلب ما زخرت به من أعمال المستشرقين القدماء والمحدثين. وفي سنة 1980 أسّست مع صديقي إلياس صنبر داراً للنّشر أسميناها “كتابة”، وكنّا نتطلّع إلى مضاهاة ما يُطبع في فرنسا لهواة “الكتب الجميلة”، وقد نشرنا بالفعل، بالعربيّة وبالفرنسيّة، بالتّعاون مع صديقنا العزيز محيي الدّين اللبّاد، ستّة كتب من التّراث العربي يتضمّن كلٌّ منها صفحاتٍ مصوّرة من مخطوطٍ قديم. ولو توفّر لنا آنذاك بعض الدعم المالي لما اقتصر إنتاجنا على العلبة السّوداء الأنيقة التي ضمّت الكتب الستّة، ومعها كتابٌ سابع يُعرّف بها وبكتّابها بقلم المستعرب الكبير أندريه ميكيل. وفي 1981 كنت أحد مؤسّسي مجلّة الدّراسات الفلسطينيّة بطبعتها الفرنسيّة، وكانت تتميّز، حتّى عددها الأخير في حزيران/ يونيو 2008، بانفتاحها على الإنتاج الفكريّ والثقافيّ. وممّا أعتزّ به أنّها شاركت، بقدر المُستطاع لمجلّةٍ سياسيّة، في حركة ترجمة الأدب العربي، إذْ خصّصت زاوية للشِّعر والقصّة القصيرة.
(*) وكيف ومتى بدأت رحلتك مع سلسلة “سندباد” الأدبيّة والمعنيّة بترجمة الآداب العربيّة إلى الفرنسيّة؟
كانت حركة التّرجمة هذه قد انطلقت في 1972 بفضل دار سندباد التي نشرت في السّبعينيات والثّمانينيات ترجمات لبعض أعمال نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، والطيّب صالح، وغسّان كنفاني، وبدر شاكر السيّاب، وأدونيس، وصنع الله إبراهيم، وعبدالرحمن منيف، وغيرهم. ومن مآثرها في نظري اهتمامها بالتّراث الشِّعري والنّثري، من مجنون ليلى إلى أبي نوّاس، ومن الجاحظ إلى ابن حزم، وكذلك بمؤلّفات كبار الصّوفيّين مثل الحلّاج والجُنيد وابن عربي. تعرّفت إلى صاحبها بيير برنار غداة تأسيس “كتابة”، وتداولت معه في منتصف الثّمانينيات عن
“من مآثر دار سندباد، في نظري، اهتمامها بالتّراث الشِّعري والنّثري، من مجنون ليلى إلى أبي نوّاس، ومن الجاحظ إلى ابن حزم، وكذلك بمؤلّفات كبار الصّوفيّين مثل الحلّاج والجُنيد وابن عربي”
مشاريع لم يُكتب لها النّجاح، واشتركنا في 1990، بعد أن عُيّنت مُستشاراً ثقافيّاً في معهد العالم العربي، في تنظيم معرض الكتاب العربي– الأوروبي. وعندما توفّي في 1995، انتقلت ملكيّة دار سندباد إلى أكت سود، وكنت قد تولّيت قبل سنة مسؤوليّة سلسلتها “عوالم عربيّة”، فكلّفتني بالإشراف على فرعها الجديد، وهذا ما كان حتّى اليوم.
عدم رضى
(*) باعتبارك أحد الذين أخذوا على عاتقهم أن يكونوا جسراً بين الثّقافة العربيّة والفرنسيّة، كيف ترى حركة ترجمة الأدب العربي اليوم إلى الفرنسيّة، وكيف تقارنها بما كان يحدث في ثمانينيات القرن الماضي؟
نشطت حركة التّرجمة شيئاً فشيئاً في الثّمانينيات، إذ ساهمت فيها، مع سندباد، دور نشرٍ مرموقة، مثل غاليمار، وسوي، ومنوي. لم تُنتج أيّ منها أكثر من كتابٍ أو كتابين، ولكنّ حضور الأدب العربي فيها إلى جانب الآداب العالميّة، وليس في دارٍ مختصّة، شجّع القرّاء على الاطّلاع عليه، وعرّفهم على أهمّ أعمال بعض الكتّاب مثل “الزّيني بركات” لجمال الغيطاني و”المتشائل” لإميل حبيبي، وأحلّ محمود درويش مكانةً خاصّة في المشهد الثّقافي الفرنسي. وفي الثّمانينيات أيضاً، أعدّ معهد العالم العربي بُعيد تأسيسه، وقبل افتتاح مبناه في 1987، برنامجاً لترجمة عشر روايات أو مجموعات قصص قصيرة، نُشر تسعٌ منها في دار لاتيس، ومن بينها الكتابان الأوّل والثّاني من ثلاثيّة نجيب محفوظ. كانت فرنسا إذاً رائدةً في هذا الميدان إذا ما قورنت بالدّول الأوروبية الأُخرى، إيطاليا أو إسبانيا مثلاً، حيث لم تنطلق حركة التّرجمة من اللغة العربيّة في هذه اللغات إلّا بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في 1988، وما زالت فرنسا تحتلّ حتّى الآن المرتبة الأولى (نحو عُشر الإنتاج العالمي)، قبل إسبانيا وتركيا وإيران وألمانيا.
كما تُبيّن الدّراسات القليلة المتوفّرة عن التّرجمة من العربيّة إلى الفرنسيّة نهوضاً ملحوظاً في التّسعينيات منذ أن أصدرت أكت سود في 1992 أولى روايات سلسلة “عوالم عربيّة”، ثمّ أتبعتها بدءاً من 1996 بتسع أو عشر ترجمات في كلّ سنة. ومع ذلك، لم يتجاوز عدد ما تُرجم في فرنسا من العربيّة في كلّ سنة 1% من مجموع التّرجمات عن اللغات الأجنبيّة (0.8% في 2018، مقابل 12.2% من اليابانيّة، و0.9% من الهولنديّة، ولكنْ 0.6% من الصينيّة!). ولعلّ أوّل ما ميّز أكت سود عن جميع دور النّشر الأُخرى، غير اضطلاعها طوال هذه السّنوات بأكثر من نصف التّرجمات الأدبيّة عن العربيّة (لا تتجاوز منشورات دور النّشر الكبرى مُجتمعةً 8%)، هو اتّباعها برنامجاً يهدف إلى التّعريف بما تعتقد أنّه يستحقّ أن يُعرّف قبل غيره، مؤمّلةً أن تُكافأ جودته ببعض الرّواج في السّوق. أضرب على ذلك مثلاً برنامج سندباد الشِّعري الذي أدّى تدريجيّاً إلى نشر مختاراتٍ من الشِّعر الجاهلي ومن شعر العصر العبّاسي الأوّل ومن شعر المتنبّي وأبي فراس الحمداني والمعرّي، بمُوازاة محمود درويش وسعدي يوسف وأُنسي الحاج وعبّاس بيضون وسركون بولص وبسّام حجّار ووديع
“في الثّمانينيات، أعدّ معهد العالم العربي بُعيد تأسيسه، وقبل افتتاح مبناه في 1987، برنامجاً لترجمة عشر روايات أو مجموعات قصص قصيرة، نُشر تسعٌ منها في دار لاتيس، ومن بينها الكتابان الأوّل والثّاني من ثلاثيّة نجيب محفوظ”
سعادة وإيمان مرسال، ولم يشذّ نهج السّلسلة العربيّة في أكت سود عمّا يُسمّيه الفرنسيّون “سياسة الكاتب”، وتعني وفاء الدّار لكُتّابها، وذلك بمتابعة أعمالهم اللاحقة بحيث ترسّخ أسماؤهم في ذاكرة القرّاء.
أتمنّى أن لا يُفهم من كلامي، على الرّغم من اعتزازي بإنجازات سندباد، أنّي راضٍ عن أحوال التّرجمة الأدبيّة عن العربيّة ونشرها في السّنوات الأخيرة، إذ أنّها تدهورت من حيث التّوزيع لأسبابٍ تصعب الإحاطة بها كلّها، منها ما هو عام، يتعلّق بتضخّم الإنتاج الرّوائي، وعجز أغلب المكتبات عن عرض القسم الأكبر ممّا يُنشر في واجهاتها وعلى مناضدها (وهي قلّما تحتفظ بالكتاب أكثر من شهر إذا لم يلقَ رواجاً سريعاً)، ومنها ما يخصّ صورة العالم العربي والإسلام المتدنّية في الغرب. وتتجدّد هذه الصّورة كلّ يوم عبر وسائل الإعلام الكُبرى التي يكاد يختفي فيها تماماً صوت ضحايا الاستبداد السّياسي والتعصّب الدينيّ، المتطلّعين إلى شيءٍ من الحرّيّة والكرامة. وما يزيد الطين بلّة سلوك بعض الكتّاب العرب الذين “يعوون مع الذئاب”، بحسب التّعبير الفرنسي، بحثاً عن شهرةٍ لا تُكلّفهم أيّ عناء.
(*) هل يمكننا أن نعدَّ أن حركة ترجمة الآداب العربية إلى اللغات الأوروبية نشطت بعد الرّبيع العربي؟ وكيف تدلّل على هذا النّشاط إن كان قد حدث فعلاً؟
كلّا، مع الأسف. كنّا نفترض أنّ الحراك الجماهيري الذي عمّ العالم العربيّ في 2011 لا بدّ من أن يُثير على الأقلّ فضول جمهور القرّاء، وأن يحثّ دور النّشر على الاهتمام بما كتبه ويكتبه العرب عن أحوالهم، وخصوصاً الجيل الشّابّ، ولكنّ هذا لم يكن إلّا في حدودٍ ضيّقة، وأدّت الثّورة المضادّة إلى عكس ما افترضناه وتمنّيناه، أي إلى نفور القرّاء أو حذرهم من كلّ ما يمتّ بصلة إلى العرب والمسلمين. ربّما ازداد هنا وهناك عدد الكتب المُترجمة بسبب الهجرة غير المسبوقة واستقرار عددٍ كبير من الكتّاب في أوروبا، ولكنّي واثقٌ من انخفاض المبيعات في فرنسا، مثلاً، إلّا في حالاتٍ نادرة، ولا أخجل من الاعتراف بأنّنا أخفقنا في تسويق مؤلّفاتٍ لكتّابٍ مُجيدين، ومنهم من كنّا نعتدّ من قبل ببيع ألوف النسخ من كلّ كتابٍ من كتبهم. ومن الجدير بالذّكر أنّ الصحافة الأدبيّة لم تبخل في الكتابة عن أغلب هذه المؤلّفات وفي إطرائها، غير أنّ الفجوة بين العرض والطلب لم تكفّ عن الاتّساع.
(*) تحتفي العديد من العواصم الأوروبيّة اليوم باحتضانها للكثير من شباب الكتّاب العرب الذين برزوا بعد موجات الثّورات العربية، وهو ما نشهده بقوّة في عواصم أوروبية غير باريس، مثل برلين وبروكسل وكوبنهاجن وغيرها. هل يمكن لنا اليوم أن نُطلق على هذه الموجة الجديدة في الأدب العربي الرّاهن بأنّها إرهاص لأدب “لجوء” أو “هجرة”، أو قل أدب “حرب” جديد؟
لم تظهر بعد لهؤلاء الشبّان والشابّات أعمالٌ عظيمة، ولكنّي لا أستبعد أن يتمكّن بعضهم من
“لا أستبعد أن يتمكّن بعضهم من صياغة تجربتهم في المستقبل القريب في رواياتٍ ومجموعاتٍ قصصيّة وشعريّة متجذّرة في الواقع العربيّ الرّهيب”
صياغة تجربتهم في المستقبل القريب في رواياتٍ ومجموعاتٍ قصصيّة وشعريّة متجذّرة في الواقع العربيّ الرّهيب، ومنفتحة في الوقت نفسه على الأفق الإنسانيّ الرّحب. أخشى دائماً أن يستسهلوا الأمر، مطمئنّين إلى ما يلقونه من تشجيع بعض المؤسّسات، والأدب الجدير بالبقاء يقتضي الكثير من العناء والأناة والجرأة على نقد الذّات. من النّادر جدّاً في تاريخ الثّورات والحروب الأهليّة أن تتمخّض بسرعة عن أدبٍ كهذا، خصوصاً في الرّواية، ولكنّه أتٍ لا محالة، تبشّر به بعض كتابات من بقوا في أوطانهم المنكوبة ومن هاجروا على السّواء.
سوق العرض والطلب
(*) ثمّة دراسة أجرتها الشّاعرة المصرية إيمان مرسال تناولت من خلالها حركة ترجمة الشّعر العربي خلال المئة عام الأخيرة، وخلصت فيها إلى أن أغلب هذه التّرجمات لم تخرج عن إطار نظرة الكيتش التي تنظرها أوروبا إلى الثّقافة العربية، حتى التّرجمات التي تمّت لأسماء كبيرة وبارزة مثل محفوظ ودرويش لم تبتعد عن هذه النّظرة الغربية للثّقافة العربية، فكيف ترى هذه القضية، خاصة وأنك ترجمت درويش وسعدي يوسف وغيرهما إلى الفرنسية منذ سنوات؟
لم أقرأ دراسة إيمان مرسال، وعلى الرّغم من إعجابي الكبير بشعرها، أعتقد أنّ ما خلصت إليه، كما ورد في سؤالك، غير صحيح. لا أنكر أنّ بعض دور النّشر الفرنسيّة أو الأوروبيّة كانت وما زالت أسيرة هذه النّظرة الإكزوتيكيّة، فنجدها لا تهتمّ إلّا بالغريب والعجيب في حياة العرب وثقافتهم. ولا أنكر أيضاً النّزعة الاستشراقيّة العفوية في التّرويج للأدب العربي أحياناً، ومن ذلك على سبيل المثال اختيار صورةٍ “فولكلوريّة” للغلاف لا تتناسب إطلاقاً مع مضمون الكتاب ولا مع شخصيّة الكاتب. ولكن أين الكيتش في تلقّي روايات نجيب محفوظ؟ وبماذا يختلف قرّاؤه الغربيّون في نظرتهم إلى الثّقافة العربيّة عن قرّاء الياباني كواباتا أو البرازيلي جورج أمادو أو الكولومبي غارسيا ماركيز في نظرتهم إلى ثقافة كلٍّ من هؤلاء المشاهير؟ حين صدرت أوّل ترجمةٍ فرنسيّة لروايةٍ لنجيب محفوظ “زقاق المدقّ” سنة 1970، لم تقتصر الصّحافة على امتداح خصوصيّته المصريّة، بل جعلته أحد أحفاد بلزاك أو إميل زولا. وأمّا محمود درويش فقد اشتهر في الغرب، عندما تُرجمت مُختارات من أعماله الأولى، على أنّه شاعر قضيّة سياسيّة وإنسانيّة، وفيما بعد على أنّه شاعرٌ فحسب، مثله مثل شعراء آخرين من اليونان أو المكسيك أو كوريا أو ما شئت من أرض الله الواسعة، وليس في كلّ ما كُتب عنه في فرنسا أو سواها من الدّول الغربيّة ما يُمكن ردّه إلى غير هذين الاعتبارين. أين الكيتش فيهما؟ ثمّ كيف نُفسّر الإقبال على قراءة شعر درويش وعلى تلحينه ومسرحته ودراسته وتدريسه، بعد
“أين الكيتش في تلقّي روايات نجيب محفوظ؟ وبماذا يختلف قرّاؤه الغربيّون في نظرتهم إلى الثّقافة العربيّة عن قرّاء الياباني كواباتا أو البرازيلي جورج أمادو أو الكولومبي غارسيا ماركيز في نظرتهم إلى ثقافة كلٍّ من هؤلاء المشاهير؟”
مرور أكثر من عشر سنين على وفاته، إذا وافقنا إيمان مرسال فيما انتهت إليه؟
وما يصحّ في حالَتي محفوظ ودرويش يصحّ في أحوال الأغلبيّة الغالبة من الشّعراء والرّوائيّين الذين تُرجموا إلى اللغات الأوروبيّة. لعلّ أدبهم قُرئ أحياناً على أنّه وثيقةٌ سياسيّة أو اجتماعيّة، ولم يُحلّلْ بأدوات النّقد الأدبي، وهو ما سبق أن أشار إليه الباحثون القلائل في الموضوع، ولكنّ هذا في حدّ ذاته، وإن استهجنّاه، ينقض صورة “الشّرق السّحريّ” القديمة. إنّ القاعدة الوحيدة التي استخلصتها من موقعي كناشر عن تلقّي الجمهور الغربي للأدب العربي تتلخّص في أنّه من العبث البحث عن قاعدة! ثمّة كيمياء عجيبة تتفاعل فيها عناصر مُختلفة، موضوعيّة وذاتيّة، بمقادير تتغيّر بحسب الظّروف والمزاج العام ويصعب تحديدها بدقّة، وهي التي تحكم على ما ننشره بالنّجاح أو الفشل في سوق الكتاب. ولكن، أليس هذا شأن أيّ عملٍ أدبي أيّا كان مصدره؟
(*) أجري هذا الحوار معك ضمن سلسلة أعكف عليها منذ فترة تحت عنوان “سوق الأدب العربي بالغرب”، هل ثمّة سوق فعليّة للأدب العربي اليوم بالغرب؟ وإن كانت هذه السّوق موجودة فما هي المعايير الأدبية التي من خلالها يتمّ تسويق جديد الأدب العربي في أوروبا اليوم؟
يبدو لي أنّي أجبت عن هذا السّؤال بصورة غير مباشرة. لا معنى للكلام عن السّوق إذا لم نتطرّق إلى العرض والطلب. نعم، ثمّة سوق للأدب العربي في أوروبا، ولكنّها سوقٌ هشّة، غير مُستقرّة، خصوصاً في أيّامنا هذه، بسبب قلّة الطلب، طلب بائع الكتب من النّاشر، وطلب القرّاء من البائع. أحاول كما قلت أن أحدّد بعض المعايير ثمّ أزداد اقتناعاً بلا جدوى أيّ محاولة حين أرى التّفاوت المُريع في أرقام التّوزيع بين كاتبٍ وكاتب، وكلاهما مُبدعان، وبين كتابٍ وكتاب للكاتب نفسه، أو بين النّجاح الإعلامي والفشل التّجاري. لدينا في سلسلة “بابل” الشّعبيّة التي تُصدرها أكت سود نحو أربعين كتاباً مُترجماً عن العربيّة، ممّا يعني أنّها لقيت في طبعتها الأولى بعض النّجاح في السّوق (بين 3000 و5000 نسخة على الأقلّ) وأنّ الدّار تتوقّع لها انتشاراً أوسع وعُمراً مديداً في المكتبات. ستجد فيها، إذا استعرضت عناوينها، “بيست سيلرز” علاء الأسواني مع رواياتٍ لنجيب محفوظ وصنع الله إبراهيم وحنان الشيخ وسليم بركات وجمال الغيطاني والطيّب صالح وإلياس خوري وهدى بركات وسنان أنطون
“ثمّة سوق للأدب العربي في أوروبا، ولكنّها سوقٌ هشّة، غير مُستقرّة، خصوصاً في أيّامنا هذه، بسبب قلّة الطلب، طلب بائع الكتب من النّاشر، وطلب القرّاء من البائع”
ورشيد الضّعيف وغيرهم، ومعها أيضاً مؤلّفاتٍ شعريّة ونثريّة لمحمود درويش، وقصص شعبيّة من مصر وفلسطين، وبعض الكتب التّراثيّة مثل “طوق الحمامة” لابن حزم وديوان مجنون ليلى وقصائد مُختارة لأبي نُوّاس. ما الذي يُمكن أن نستخلصه من هذه القائمة غير أنّها تضمّ، على تنوّعها، بعض ألمع الأسماء في العالم العربي؟ ولكنْ، أين إبراهيم أصلان ومُحمّد البساطي، وهما من كتّاب أكت سود الذين تعتزّ بهم؟ وأين جبّور الدويهي وحسن داوود ونجوى بركات؟ لماذا لم تبلغ أعمالهم الحدّ الأدنى اللازم من التّوزيع للدخول في ملكوت بابل؟ إنّها الكيمياء العجيبة التي حدّثتك عنها!
مهما يكنْ الأمر، ليس للنّاشرين الأوروبيّين المطّلعين على الإنتاج العربي، إذا وُجدوا، إلّا معيارٌ أدبيّ وحيد لتسويق الكتاب، هو جودته. يُمكنهم أنْ يختصّوا بنوعٍ من الأنواع الأدبيّة، أو بأدب الجيل الشّابّ، أو بأدب الحرب، وقد ينجحون أو يفشلون تجاريّاً ما دامت حالة السّوق على ما هي عليه، إلّا أنّهم يُسيئون إساءةً بالغة إذا كان جلّ همّهم البحث عن صفقةٍ رابحة. أتمنّى أنْ يزداد العرض بحيث ينتشر الإنتاج العربي الجديد والجيّد على نطاقٍ أوسع، ويطّلع الجمهور الغربي على كُتّابٍ مرموقين لم يُنشرْ لهم شيء حتّى الآن، ولكنّي أعتقد أنّ المُهمّة العاجلة، والأصعب، هي العمل الإعلامي الجادّ على زيادة الطّلب. ما الفائدة من إغراق السّوق بالكتب المترجمة إذا كانت لا تباع أو إذا كان ما يُباع منها أقلّ من المرتجعات التي سرعان ما يُضحّى بها في فرّامات الورق؟
استثمار “لعنة الحرب”
(*) ترجمات عديدة تمّت للأدب السّوري الحديث بعد الأحداث الأخيرة إلى الفرنسية، ومن بينها ما أثار الكثير من اللغط والتّساؤلات وكان مثار انتقادات صحافية، كما حدث مثلاً بعد ترجمة كتابين للسّورية سمر يزبك في 2016، وهجوم عبده وازن اللافت عليها، إلى أي مدى ترى أنّ هناك كُتّاباً سوريّين استثمروا “لعنة الحرب” في سورية كما سمّاها وازن؟
أوّلاً، لم تصدر، مع الأسف، بعد 2011 ترجماتٌ “عديدة” للأدب السّوري إلى الفرنسيّة، فعددها يكاد لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، مع العلم بأنّ ما تُرجم للكتّاب السوريّين من قبل كان قليلاً جدّاً. ثانياً، أعتقد أنّ هجوم عبده وازن كان مُجحفاً – وهذا أقلّ ما يُقال. أين الخطأ في ترجمة كتابٍ أو كتابين أو أكثر لسمر يزبك؟ كانت سمر قد نشرت مجموعتين من القصص القصيرة وخمس روايات قبل لجوئها إلى فرنسا، وكانت روايتها “رائحة القرفة” قد تُرجمت إلى الإيطاليّة في 2010، وتبعتها بعد سنة روايتها “لها مرايا”، أي أنّها لم تكن “حديثة نعمة” حين اهتمت بها دار النّشر الفرنسيّة بوشيه شاستيل، ثمّ دار ستوك. ثالثاً، من الطّبيعيّ جدّاً، ومن المطلوب بشدّة من دور النّشر الأوروبيّة، إزاء المأساة السّوريّة، أن تهتمّ بأدب الحرب السّوري. رابعاً، لم يُترجم كتاب “بوّابات أرض العدم” إلى الفرنسيّة في 2016 بفضل إقامة الكاتبة في فرنسا، إذ كان قد صدر قبل ذلك بالإنكليزيّة والنّرويجية والسّويديّة والإسبانيّة والبرتغاليّة. خامساً، يجب أن نبتهج لرواج هذا الكتاب مرّتين: مرّة لأنّ نجاح أيّ كاتب عربي في الغرب مكسبٌ للأدب العربي، ومرّةً لأنّه لفت أنظار قطّاعٍ واسع من الجُمهور إلى الفظائع التي يرتكبها النّظام المتحكّم برقاب السّوريّين – ومن حسن حظّنا أنّه كتابّ جيّد من المنظور الأدبي المحض.
(*) ربّما هي ظاهرة أخرى غريبة، لكن كيف تفسّر أنّ كثيرين من الكُتّاب العرب السّوريين الّشباب (في ألمانيا اليوم مثلاً) لم يكن لهم علاقة بالكتابة قبل دخولهم أوروبا، وصاروا اليوم كُتَّاباً فجأة وتترجم كتبهم إلى الألمانية قبل حتّى أن يصدر بعضها باللغة العربية؟ ألا ترى أن بعض هؤلاء الكُتَّاب استغلوا الدّعم المادي الذي تمنحه المؤسّسات الثّقافية الأوروبية ليقدّموا حالهم باعتبارهم كتَّابا يكتبون عن الحرب، بمعنى آخر، هل كلّ هؤلاء الكُتّاب السّوريين اليوم يستحقّون هذا الدّعم المادي وهذه المساندة من المؤسّسات الأوروبية؟
ليس جميع هؤلاء الشبّان والشابّات من طينةٍ واحدة، فمنهم من كان قد نشر كتاباً أو قصصاً أو
“هجوم عبده وازن كان مُجحفاً. أين الخطأ في ترجمة كتابٍ أو كتابين أو أكثر لسمر يزبك؟ كانت سمر قد نشرت مجموعتين من القصص القصيرة وخمس روايات قبل لجوئها إلى فرنسا، وكانت روايتها “رائحة القرفة” قد تُرجمت إلى الإيطاليّة في 2010″
قصائد قبل لجوئه إلى ألمانيا، ومنهم من دفعته تجربة الهجرة إلى الكتابة عنها، فكتب ما كتب. ومن المعروف أنّ ألمانيا تسعى إلى اندماج المهاجرين إليها، ولذلك لم أستغرب الدعم المادي والمعنوي الذي حصل عليه هؤلاء الشبّان من قبل بعض المؤسّسات المانحة. قلت في ردّي عن سؤالك المتعلّق بأدب الحرب إنّي أخشى فقط أن يستسهلوا أمر الكتابة، وبالأخصّ كتابة الشّعر، وأن يعتبروا أنفسهم شعراء مُجيدين لأنّ نصّاً من نصوصهم تُرجم إلى الألمانيّة، أو لأنّهم اشتركوا في ندوةٍ أدبيّة مع كتّابٍ ألمان. آمل أنْ لا يخدعهم هذا النجاح، فهو عابر، ولن يصحّ إلّا الصحيح في نهاية المطاف، وكما قال الحُطيئة: الشعرُ صعبٌ وطويلٌ سُلّمُهْ / إذا ارتقى فيهِ الذي لا يعلمُهْ / زلّتْ بهِ إلى الحضيضِ قَدَمُهْ!
(*) تشرف على سلسلة “سندباد” التي تصدرها دار أكت سود الفرنسية العريقة منذ عام 1995، هل أثّرت الأحداث السّياسيّة العربيّة الأخيرة على مسار نشر هذه السّلسلة، أو هل دفعت هذه الأحداث إلى توجه السّلسلة إلى كتّاب لم تكن لتلتفت إليهم لولا ما كتبوه عن هذه الأحداث؟
نعم ولا! نعم، أثّرت الأحداث لأنّها أدّت أوّلاً، كما قلت، مع أسبابٍ أُخرى، إلى تدهور سوق الكتاب العربي المُترجم، ممّا دفعني إلى تقليص عدد الرّوايات الصّادرة في كلّ سنة، وثانياً لأنّي نشرتُ بعض الكتب السّياسيّة عن الثّورات العربيّة. ولكنّي لم أنشر أعمالاً أدبيّة لها صلة مباشرة بالأحداث إلّا مُختارات شعريّة لسليم بركات ورواية “الموت عمل شاقّ” لخالد خليفة، وكلاهما من الكُتّاب الذين نشرت لهم من قبل.
حدود تصرّف المُترجم
(*) في حوار أجريته ضمن هذا الملف مع المترجم اللبناني أنطوان جوكي، ألمح إلى أن أيّ مترجِم لا يقبل أن يمرّر مقطعاً ركيكاً مكتوباً في لغته الأصلية إلى لغته التي يترجِم إليها، واعترف صراحة أنّه تدخّل في إعادة صياغة بعض هذه المقاطع الشّعرية التي سمّاها ركيكة وقدّمها في الفرنسية بشكل أفضل بكثير من أصلها العربي، إلى أي مدى يجب على المترجِم أن يكون مخلصاً للنّص الأدبي الذي يترجمه وألّا يتدخّل في صياغته أو تحريره من وجهة نظرك؟
قرأت حوارك مع الصّديق أنطوان جوكي، ولم يستوقفني ما قاله في هذا الصّدد، إذ أنّي أعتبر أنّ المُترجم مسؤول قبل كلّ شيء عن النصّ – الهدف، فهو الذي سيُطبع، وهو الذي سيُقرأ. المشكلة التي كثيراً ما تعترضنا هي أنّ دور النّشر العربيّة تفتقد بصورةٍ عامّة إلى مُديرٍ أدبي،
“نادرون هم النّاشرون العرب الذين يقرؤون النصّ الموكل إليهم بعينٍ نقديّة ويُراجعون الكاتب في شأن ما سها عنه، ولذلك يُضطرّ المُترجم، بالاتّفاق مع النّاشر، إلى أن يقترح على الكاتب التّعديلات التي يراها ضروريّة، وله أن يتصرّف في الصّياغة برويّة وفق ما اصطُلح عليه في اللغة – الهدف”
وإلى من يُعدّ النصّ للطّبع إعداداً مهنيّاً. يقع على عاتق المُدير الأدبي في أوروبا تنبيه الكاتب إلى أخطائه في بناء الرّواية، كالمفارقات التّاريخيّة أو التّناقض في عرض الأحداث أو في وصف الشّخصيّات، إلخ. وقد يقترح عليه تعديلاتٍ كبيرة كتقديم فصلٍ أو تأخيره أو اختصاره أو حذفه. أمّا مُعدّ النصّ فيُقدّم للنّاشر مخطوطة نهائيّة تلتزم القواعد الشّكليّة المعمول بها في الدّار، بعد تصحيح الأخطاء اللغويّة والأسلوبيّة الفادحة والإشارة إلى الجُمل والمقاطع الملتبسة حتّى تُعاد صياغتها. نادرون هم النّاشرون العرب الذين يقرؤون النصّ الموكل إليهم بعينٍ نقديّة ويُراجعون الكاتب في شأن ما سها عنه، ولذلك يُضطرّ المُترجم، بالاتّفاق مع النّاشر، إلى أن يقترح على الكاتب التّعديلات التي يراها ضروريّة، وله أن يتصرّف في الصّياغة برويّة وفق ما اصطُلح عليه في اللغة – الهدف. وليس في هذا كلّه أيّ خيانة للنصّ الأصلي، بل يجب أن يُشكر للمُترجم والنّاشر معاً حرصهما على طباعة نصّ مُحكم يستمتع به القرّاء. أذكر في هذا الصّدد أنّي رأيت مخطوطةً لصمويل بيكيت، وهو من هو، وفي هوامشها اقتراحاتٌ من ناشره المشهور جيروم لندون، صاحب دار منوي، بإعادة صياغة بعض المقاطع وحذف بعض الجُمل. سألت لندون: هل يقبل بيكيت أن تتدخّل في نصّه؟ فأجاب: سيقبل شاكراً لي ما فعلت! وأذكر أيضاً أنّي سألت نجيب محفوظ عن رأيه في مسألة تصرّف المُترجم فقال إنّه لا يعترض عليه إذا كان لا بدّ منه لأناقة الترجمة وقراءتها بمتعة من قبل القارئ الفرنسي. ما يجب أن يُدهشنا في ما قاله أنطوان جوكي ليس تصرّفه في الترجمة، بل كثرة الأخطاء في النصّ الأصلي!
(*) وهل يعني هذا أن التّرجمات الأوروبية للأدب العربي تخضع لإعادة صياغة أو تحرير من قبل النّاشر والمترجم الأوروبي؟
كلّا، إذا كان النصّ الأصلي سليماً من العيوب التي ذكرت وإذا لم تكن ترجمته الحرفيّة عسيرةً على الفهم. أمّا إذا رأى المُترجم أنّه مُضطرّ إلى التّصرّف فيما يتعدّى تصحيح الهفوات التّاريخيّة أو الجغرافيّة أو أداء المعنى وفق القواعد المرعيّة في اللغة المُترجم إليها فعليه دائماً أن يستأذن الكاتب.
(*) أعتقد مع تاريخك الطّويل في العمل الثّقافي بفرنسا أنك تستطيع أن تضرب لنا بعض هذه الأمثلة، سواء كانت تؤكّد أو تنفي ما طرحته في السّؤالين السّابقين؟
سأضرب لك ثلاثة أمثلة: الأوّل أنّ مُترجم رواية “ذات” لصنع الله ابراهيم – التي يتناوب فيها السّرد والتّوثيق – اقترح عليه اختصار الفصول التّوثيقيّة، فوافق، وكذلك الأمر في رواية “شرف” التي حُذف في ترجمتها إلى الفرنسيّة نصّ المسرحيّةً التي كتبها أحد السّجناء. والثّاني أنّ مُترجمة “أولاد الغيتو” لإلياس خوري اقترحت عليه أن تحذف نحو ثلاثين صفحة من قصّة وضّاح اليمن التي تتضمّنها الرّواية، فقبل، وحسناً فعل. والثّالث أنّي كنت أراجع بانتظام محمود درويش في أثناء ترجمة “ذاكرة للنسيان”، وهو كتابٌ مليء بالإحالات التّاريخيّة والسّياسيّة والأدبيّة التي يستعصي فهمها على القارئ الفرنسي، وكان يطلب منّي بإلحاح أن أتصرّف في صياغة النصّ حتّى يُقرأ بسلاسة.
(*) نهاية، مَن مِن الكتّاب العرب اليوم الذي ترى أنه يجب أن ينقل إلى لغة رامبو وموليير، ولماذا؟
يستطيع القارئ الفرنسي إذا شاء، من خلال ما تُرجم حتى الآن من الأدب العربي القديم والحديث (في سندباد/ أكت سود وحدها 300 كتاب)، أن يطّلع على اتّجاهاته الرئيسة وعلى نماذج من أعمال العشرات من أبرز كتّابه. ولكنّ من ينظر بدقّة في قائمة هذه الترجمات يُلاحظ غياب أو ندرة كُتّاب المغرب العربي والسودان والجزيرة العربيّة، ولذلك أعتقد أنّ الاهتمام بهم في السنوات القادمة من الأولويّات. من الملاحظ أيضاً أنّ بعض الروايات التي تُعتبر من عُيون أدبنا المُعاصر، على اختلاف عوالم كتّابها وحساسيّاتهم الاجتماعيّة والفكريّة والأدبيّة، لم تُترجم بعد، ومنها “الخُماسين” أو “السّؤال” أو “سلطانة” أو “الرّوائيّون” لغالب هلسا، ومنها “رامة والتنّين” لإدوار الخرّاط و”المسرّات والأوجاع” لفؤاد التكرلي، وقد تعسّرت من جهةٍ أُخرى، طوال هذه السنوات، ترجمة المسرح لأنّ دور النّشر قلّما تُقبل عليها ما لم يتوفّر للمسرحيّة مُنتجٌ ومُخرج (وكيف يتوفّران إذا لم تُترجم؟!)، ولعلّها لهذا السبب أجدر الأنواع الأدبيّة بالدعم المالي في أيّامنا من قبل المؤسّسات المانحة.
ذكرت لك قبل كلّ شيء “النواقص” التي أراها معيبة وآمل أن تعمل دور النّشر الأوروبيّة على سدّها. أمّا ما عداها من الإنتاج الأدبي الحالي، فمن القادر على الإحاطة به من الخليج إلى المُحيط ليُقرّر ما “يجب” أن يُترجم؟ لقد صدرت في العام الماضي في المغرب الأقصى وحده 159 رواية و94 مجموعة قصصيّة و233 مجموعة شعريّة و23 مسرحيّة! كلّ ما أستطيع أن أجيب به عن سؤالك هو الإشادة بكتابين صدرا منذ قليل: “مملكة آدم” لأمجد ناصر و”مستر نون” لنجوى بركات. وسيسعد عزيزنا رامبو إذا تُرجما إلى لغته!
ضفة ثالثة