شربل داغر:تاريخ الفن هو تاريخ ذوق وملكية مجتمع
أشرف الحساني
الباحث الجمالي اللبناني شربل داغر ذو باع طويل في الكتابة الفنية، جعل منه اليوم إحدى علاماتها البارزة عربيا، إذ تبدو مقاربة داغر للعمل الفني واضحة المعالم والجغرافيات، فهي تستند في طرائق تشكلها على أساس تاريخي يخوّل لها إمكانية الحفر في دهاليز التاريخ الفني العربي الإسلامي وإعادة قراءته بطريقة تجعله أقرب إلى الفكر منه إلى التاريخ. وهذه القراءة تشمل بعض الإضاءات حول مواضيع وقضايا يكتنفها الغموض من ثم ظلت في حكم اللامفكر فيه داخل الفن العربي بماضيه الرفيع، لكن في كتابه الأخير “الفن العربي الحديث : ظهور اللوحة” (المركز الثقافي العربي، 366 صفحة من الحجم الكبير) والذي أجرينا هذا الحوار لمناقشة ما جاء فيه من أفكار، يظل شربل داغر مدينا للمقاربة التاريخية ومناهجها الفكرية، من خلال سبره لأغوار تاريخ الفن العربي والوقوف عند أيقونته: اللوحة المسندية، وإستشكال مكنوناتها ولامفكرها، فضلا عن الأسباب، التي أدت إلى ظهورها من المغرب الأقصى إلى إمارت الخليج في القرون الخمسة الأخيرة، خاصة وأن ظهورها على حد تعبير الباحث “لم يكن فنيا فقط، بل كان أيضا ظهورا سياسيا واجتماعيا”.
تجدر الإشارة إلى أن داغر لم يتوقف عند الكتابة في الفن فقط، بل تعدى ذلك إلى الشعر والنقد الأدبي والترجمة، وصدر له في هذا الصدد أكثر من 60 كتابا.
شرعية قصيدة النثر
(*) بداية فاز كتابك “الشعر العربي الحديث، قصيدة النثر”، الصادر ضمن منشورات “منتدى المعارف”، بجائزة الشيخ زايد في صنف الدراسات النقدية لهذه السنة.. ما الذي يمكن أن تقوله للقارئ العربي عن هذا الفوز المستحق وداخل جنس أدبي هو الشعر، الذي أصبحت اليوم بعض مؤسسات النشر العربية تتحاشى الاهتمام به حتى عند كبار الشعراء العرب بدعوى أننا نعيش زمن الرواية؟
“الكتابات التي أنغمس فيها تشير إلى شغفي، إلى ولعي، سواء في النقد أو في صنوف الإبداع المختلفة”
أنا معتز بفوز هذا الكتاب بجائزة الكتاب المرموقة، ولعدة أسباب؛ منها أن الكتاب الفائز يتناول موضوعاً شائكاً في الشعر العربي، حيث إن البعض لا يعتبر هذه القصيدة في نطاق الشعر، فيما هي كذلك في عالم الشعر والشعرية اليوم. ففوز الكتاب بالجائزة يعني، بكيفية ما، الاعتراف بها، وبشرعيتها في نظرية الشعر ونقده. كما أعتز بفوز هذا الكتاب لكونه يشكل الحلقة الرابعة في مراجعة شاملة طلبتُها لدرس مختلف أنواع الشعر العربي الحديث منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وأن يفوز هذا الكتاب بالجائزة، فهو مصدر فرح داخلي، خصوصاً وأنني من كتاب هذه القصيدة.. أما لجهة اهتمام دور النشر، فهو قد تراجع للغاية – على ما درستُ – في نطاق نشر دراسات الشعر. وهذا مما يؤسف له…
ملاحظة أخيرة: لا أعتقد أن تقدّم الرواية في السوق، في القراءة، فوق الشاشات، في النقد، هو كذبة، بل أرى أن ما يحدث للرواية، بعد علياء الشعر المتمادية أكثر من عشرين قرناً في المدى المنظور للثقافة، يتعين في تغير الدورة الثقافية، وميول القارئ، وتوسع المدن بل تضخمها، فضلاً عن أسباب أخرى باتت “تدعم” الرواية وتطلبها، مثل السينما والشاشة الصغيرة، واليوم وسائل التواصل الاجتماعي.
(*) شربل داغر من الباحثين العرب، الذين تميزت أعمالهم بخاصية التنوع والإقامة في تخوم المعرفة على اختلاف ألوانها من شعر ونقد أدبي وفني وترجمة. كيف تعيش هذا التنوع والتعدد المعرفي في ذاتك؟
هذا التنوع أعيشُه مثل نعمة، عسى أن يشاركني القارئ بها، وأن تكون مفيدة وممتعة له. غير أنها ليست كذلك عند البعض ممن يملكون، بوعي أو تلقائيا، صورة أحادية وجامدة، عن الكاتب: هو شاعر، أو روائي، أو ناقد… يكفي للرد عليهم أن يعودوا إلى كُتاب الماضي في ثقافتنا، مثل المعري أو غيره، فسيجدون التنوع والتعدد قوياً في أعمالهم الكتابية.
ولكن لماذا أبحث عن تبرير لما أكتبُه، ولما أنا عليه؟ الكتابات التي أنغمس فيها تشير إلى شغفي، إلى ولعي، سواء في النقد أو في صنوف الإبداع المختلفة. فكيف إذا كنتُ ممن لا يعرفون الملل أو الضجر في حياتهم، وممن يثيرهم أي عنصر مباغت في حياتهم الثقافية.
إلا أن هذه الحال لم تكن بالسهلة، ولا بالمقبولة في بداياتي الكتابية، حيث وجدتني أتبين وأقاوم صورة راسخة في تربيتي الدراسية والثقافية تقول بوحدانية المؤلف. وجدتني أضيع، وأتساءل: أين لي أن أكون أفضل؟ أفي هذا الصنف الكتابي أم ذاك؟ ثم ما لبثتُ أن وافقتُ ما يتجلى في كتاباتي المتعددة، وتبنيتُها كلها مثل أبنائي الشرعيين في الثقافة كما في الكتابة.
الحاجة إلى تاريخ وافٍ ومتوسع للفن في تجاربه المختلفة
(*) صدر لك مؤخرا كتاب قيم “الفن العربي الحديث : ظهور اللوحة”، وقد حاولتَ فيه الحفر في موضوع يعد من أساسيات التفكير في تاريخ الفن العربي وعوالمه وهي “اللوحة المسندية” وظهورها في بقاع مختلفة من البلاد العربية، وأيضا ذيوعها وتأكدها داخل القصور والدور وما رافق ذلك من خطابات فنية وحساسية تجاه الصورة، خاصة داخل بعض فتاوى الفقهاء.. ما الأسباب الخفية، التي جعلتك تقدم وتتطلع إلى موضوع كهذا، وأعني أن تقوم بأركيولوجيا نشأة الفن العربي الحديث، علما أن الثقافة العربية الإسلامية ومشاريعها الفكرية قد همشت فن التصوير عند حديثها عن تشكل وتكوين الثقافة العربية الإسلامية منذ العصر الوسيط؟
أُعنى بالتاريخ الفني، الإسلامي أو العربي، منذ سنوات بعيدة، كما تعلم. وهو ما شغلني منذ ما قبل أطروحتي الثانية لنيل شهادة الدكتوراه. هذا ما صرفتُ له الكثير من المجهودات: في جمع المدونة اللازمة، وفي معاينة محفوظات هذا الفن، في المتاحف المختلفة في العالم، أو في المجموعات الخاصة، أو في المخطوطات والوثائق والكتب وغيرها. ولقد انصرفتُ إلى هذا العمل بسبب “الهامشية” التي تتحدث عنها. وهي، في حسابي، هامشية غير مبررة، ولنا أن نصحح تاريخ هذا الفن، أو أن نكتبه بكل بساطة.
هذا ما طلبتُه في خلاف صريح مع ما هو معمول به في بعض كتب الفن، التي تشتمل على جانب – محدود بكل أسف – للتاريخ المطلوب. فكثير من هذه الكتب أو أدلة المعارض الكبيرة تُعنى بكتابة تاريخ فني ابتداء من التاريخ الشخصي لهذا الفنان، أو لهذه المجموعة من الفنانين. وهو جهدٌ – وإن كان مفيداً – فهو لا يعوض الحاجة إلى تاريخ وافٍ ومتوسع للفن في تجاربه المختلفة، في فنانيه المكرسين والمعروفين والمغمورين والمجهولين. عدا أن تاريخ الفن لا يعني تاريخ الفن لدى فنان أو لدى مجموعة فنية، وإنما هو أيضاً تاريخ الذوق والملكية في مجتمع وثقافة، وهو تاريخ الاقتناء والحفظ بأشكالهما المختلفة. وهو تاريخ الاستحسان والاستقباح، كما يَظهر في لغة، في استعمالات القول، في الكتب، ولدى الكتاب المختلفين، كما لدى الذواقة والفلاسفة ورجال المؤسسات الدينية والاجتماعية “القيمين” على الذوق والقيمة في أحوال وأحوال بعينها… كما يظهر تاريخ الفن كذلك في الأمكنة الاجتماعية، بين دار وقصر وساحة وغيرها.
(*) ماذا عن المنهج المعتمد في الكتاب، إذ اننا نجد تنوعا في ذلك، مع العلم أن المقاربة التاريخية هي التي تصوغ أفقه الفكري والمعرفي. كيف تعاملت مع هذا الأمر؟
سؤال دقيق ومناسب. ففي الكتاب بقيَ الشاغل الأساس هو الإسهام في كتابة تاريخ لهذا الفن الناشئ في البلاد العربية، سواء ما كان منها تحت حكم السلطنة العثمانية، أو ما كان منفصلاً عنها، قائماً بنفسه، مثل المغرب. وهو اشتغال تاريخي توخى التحقق من “ظهور” هذا الفن في البيئات المختلفة، متوقفاً عند أشكال ظهورها، وعوامل هذا الظهور، مثل معوقاته أو مسهِّلاته. إلا أن الكتاب سعى كذلك إلى التحقق من “ظهور” هذا الفن – وأيقونته، هي: اللوحة المسندية – في اللغة، في الخطاب عن الفن، كما في أساليب الفن. هذا اقتضى، بالتالي، ترتيبَ منهج، بل أكثر من مقاربة تحليلية بما يساعد في معالجة كل جانب من جوانب الكتاب معالجته المناسبة والموافقة لطبيعته التكوينية.
(*) ما هي المقومات الحضارية والتاريخية، التي ساعدت على ظهور الفن داخل البلاد العربية؟
“وقائع الفن تحققت وتمكنت بفعل القدرة السياسية المتعينة في الحضارة”
لم يكن ظهور هذا الفن بالميسر، إذ إن المجتمعات العربية المعنية كانت تتمتع بفنون ذات أساليب وتطلعات أخرى، عدا أنها تلبي احتياجات مغايرة لما كان قد سببَ قوةَ الفن ومكانتَه في الدور والقصور والكاتدرائيات والمتاحف والمجموعات المختلفة في أوروبا الحديثة.
لهذا يتوجب درس هذه الأسباب بتؤدة، إذ إن بعضها يتعين في الغلبة، من جهة، وبعضها الآخر يتعين في “قابليات” الفن نفسها، من جهة ثانية.
فمن يتابع وقائع الفن، إثر ظهور الديانة الإسلامية، أو تأكد القوة الأوروبية، ابتداء من نهايات القرن الخامس عشر، سيتحقق بأن هذه المجتمعات تمكنت، بفعل القدرة السياسية المتعينة في “الحضارة”، من “تغليب” أنماط وأساليب فنية على غيرها: داخل مجتمعاتها، أو في البيئات التي بلغها نفوذُها. وهو ما يصحُّ في تبلور “الفن الإسلامي” في المجتمعات العربية القديمة، أو في غيرها مما جاورها أو مما وقع تحت “غلبة” العرب في العهود الأولى.
هذا ما عرفَه العراك “الحضاري”، والسياسي قبل ذلك، بين جارتَي المتوسط، بين جانبها الشمالي (أي الأوروبي)، وبين جانبها الجنوبي والشرقي (أي المجتمعات العربية في العهد العثماني المتأخر). كانت اللوحة، أو الصورة الفنية (في الصالون، أو فوق علبة ثقاب، أو فوق غلاف كتاب، أو في بطاقة هوية شخصية وغيرها) عنوانَ هذا “الكباش” الذي أدى منذ القرن التاسع عشر، بتفاوت بين المجتمعات العربية المعنية، إلى غلبة فن اللوحة، وثقافة الصورة فيها.
ولكن هذه الغلبة ما كانت لتتمَّ إلا بحكم تضافر عوامل متأتية من جانبَين: الجانب العثماني، الذي “قبلَ” الفن الوافد، بل طلبَه لسلاطينه منذ عهده الأول، والذي بقي مقتصرا على البلاط قبل أن ينتشر على نطاقات أوسع… أما الجانب الآخر فقد تأتى من كون أهل الذوق والفن، في المجتمعات المحلية، قد وجدوا في فن اللوحة، وفي ثقافة الصورة، إمكانات بروز فردي واجتماعي تتفوق على “تنزيهية” الحرف العربي والزخرفة الإسلامية… هذا ما جعلَ اللقاء بين الفنين لقاءً تفاعلياً، وتشاركياً، ما أتاح القبول والتحوير في آن معاً.
(*) يكتنف تاريخ الفن العربي غموض كبير وشح مهول داخل الجامعات العربية، إذ اننا لا نكاد نعثر داخل البحث العلمي العربي إلا عن عدد صغير من الدراسات الأكاديمية الجادة، التي حاولت التفكير في تاريخ الفن العربي الإسلامي، الأمر الذي جعل من المستشرق أوليغ غرابار يقر بأن كتابة تاريخ الفن العربي الإسلامي مهمة تبدو مستحيلة. لماذا ذلك في نظرك؟
“لا قوة لقيمة الفن المادية، من دون القوة في بناء معناه المناسب له”
هذا أمر مؤسف للغاية. وهو أمر مدعاة للتفكير، وللعمل أيضاً. وهو ما للجامعات، ومراكز البحوث، أن تنصرف إليه وتتوكل به، إذ هو سجلٌ حافل، ومرآة مكبَّرة، لما هو عليه تطور الذائقة، وتاريخ الملكية، وحاصل التفاعل بين ثقافتنا البصرية وثقافة غيرنا.
ما قاله غرابار سبق أن تناولتُه بالنقد والشرح في آن. وهو أن تاريخنا الفني القديم (الذي اعتنى به غرابار) دُرسَ أو حوفظ عليه بوصفه مواد مادية “مقتنية”، في المتاحف والمجموعات الخاصة الأوروبية، مكتفين بملخصات ميسرة عن هذا التاريخ وفنانيه. ذلك أن الخطاب الاستشراقي لم يدرس هذا الفن، كما له أن يدرسه في محيطه “الحضاري” والاجتماعي في سياقاته التاريخية المناسبة له، من جهة، كما لم يُدرس وفق ثقافته المخصوصة، أي في الكتب والمعاجم واللغة التي احتضنت مفاهيمه وأساليبه وقيمه وعلامات الذائقة فيه، من جهة ثانية.
إلا أن هذه المهمة لا تقع، في نظري، على أوليغ غرابار وأقرانه – وقد قاموا ببعض المجهودات الطيبة في حفظ هذا المتن ودرسِه – وإنما على مؤسساتنا المعنية بتاريخ الفن وحفظه. فكيف إذا كانت ثروة كبيرة من هذا الفن باتت متعينة في متاحف، ولا سيما في بلدان الخليج: لا قوة لقيمة الفن المادية، من دون القوة في بناء معناه المناسب له، كما كتبتُ مؤخراً.
حول مسألة الصورة و”إجازتها”
(*) داخل أقسام الكتاب توقفت بالتحليل والدرس التاريخي عند ما أسميته بمدونة فتاوى الفقهاء، فتوقفت عند حالة المغرب من أجل إستشكال موقف الفقه تجاه الصورة من خلال حفرك الرصين في الكثير من هذه الفتاوى بالمغرب. كيف إذاً في نظرك تم طرح وتناول مفهوم الصورة من لدن الفقهاء؟ وما هي البراهين الاستدلالية التي لجأ إليها هؤلاء لوضع المفهوم في خانة التحريم؟
تتوافر في المغرب – على ما تحققتُ – مدونة واسعة فقهية حول مسألة الصورة و”إجازتها”. وهو ما لا نجده بالكم نفسه في غيره من البلدان العربية. وهو أمر ليس بغريب، إذ إن المؤسسة الفقهية المغربية لعبت دوراً لافتاً، إلى جانب “المخزن” (السلطان)، في إدارة شؤون المغرب العربي الأقصى. ولقد كان على فقهائه أن يرصدوا، ويفتوا، في ما يمكن إجازته من سلع بين بلدهم والجار الأوروبي، الذي طمع (بغير معنى) بالمغرب إثر سقوط “إمارة غرناطة”، الإمارة الأخيرة في الأندلس الإسلامية. فقد كان “الكباش” ماثلاً في الحرب، والدبلوماسية، وفي السلع التجارية، على اختلافها… لهذا لم يكن “المناخ” مناسباً لقبول أي سلعة من أوروبا “المهدِّدَة” للمغرب، بما فيها قبول اللوحة. ولهذا أتت مدونة الفقهاء سلبية، بل معادية للوحة، حتى مطالع القرن العشرين حيث أبدى فقهاء قلة تجاوباً – محدوداً – مع ثقافة الصورة، فيما انصرف أدباء مغاربة إلى قبول الصورة الفوتوغرافية لهيئاتهم، أو لوضع صور مماثلة على أغلفة كتبهم.
(*) في نفس الطرح، هل يمكن أن نقول إن سبب اختيارك لموضوع الصورة في المغرب ناتج عن كون هذا البلد قد عرف وفي وقت مبكر الصورة وبالتالي اللوحة؟
إن معالجتي لموضوع الصورة في المغرب يتأتى من كونه كان يقع خارج السلطنة العثمانية، فيما كنتُ أطلب في كتابي معالجة “ظهور” اللوحة في جميع البلدان العربية.
أما لجهة بروز اللوحة فقد تأخرت أسباب ظهورها في المغرب عن جبل لبنان أو بيروت أو الإسكندرية والقاهرة وغيرها بسبب العراك المغربي- الأوروبي في القرون السابقة على ذلك. وما يستدعي التوقف في المغرب هو هذا الإقبال الشديد – اللاحق – على فن اللوحة، والنجاحات المذهلة لفنانيها في ممارسة هذا الفن الوافد. هذا يدل على أن ثقافة المغاربة التقليدية استطاعت أن تستقبل بقواها الذاتية هذا الفن الجديد، وأن تبدع فيه.
(*) كيف في نظرك نستطيع أن نميز الفن العربي عن غيره من الفنون داخل فنون أخرى من العالم؟
الجواب صعب عن هذا السؤال، لأن حدود العالم تتساقط بين الدول والمجتمعات، فكيف بين الفنانين المتفاعلين بصورة مزيدة في ما بينهم!
ما أعرفه، وأشدد عليه، هو أن التعمق في التجربة، والمقدرة في المعالجة، وابتكار الموضوعات والمعالجات، هي ما يمكِّن الفنان من الجودة، ومن التميز.
مفهوم “الحُسن”
(*) كيف ترى وتشخص مفهوم “الجمالية” داخل تراث الفلاسفة العرب ثم داخل تراث الخطاب الغربي؟
هذا موضوع شائك ومتشعب، ولقد تناولتُه في أكثر من كتاب، بما فيه الكتاب الأخير. فمهوم “الحُسن” (لا الجمالية) القديم شغلَ الفلاسفة مثل الفقهاء والمدارس الكلامية والفكرية المختلفة، ما يحتاج إلى فحص ودرس أكيدَين. إلا أن مقاربة هذا الموضوع يجب ألا تغيِّب عنا أن الاشتغال العالي القديم بـ”الحُسن” اعتنى بصفات الله، فيما اعتنى بصفات المصنوعات عناية هي أقرب إلى الجودة والتوفق، أي بعبارات أدنى من “الحسن” المنزَّه والعالي.
(*) ما الطريقة التي تم تداول الفن الإسلامي بها من لدن الغرب، وأعني داخل كتابات بعض المستشرقين؟
هذا موضوع متوسع، وتعين في أطوار مختلفة، ما يصعب الإجابة عنه في حوار مقتضب.
في اختصار، أرى أن الخطاب الاستشراقي تعاملَ تعاملات مختلفة مع هذا الفن: أراد التعرف إليه، وتملكه بالمعنى المادي، كما سعى إلى “إنزاله” في مراتب الفن في مجتمعاته، ما جعله ينظر إلى هذا الفن نظرة “دونية”، مثل “فن تطبيقي”. غير أن مواقف الاستشراق ما لبثت أن تعدلت وبات يُنظر إلى هذا الفن بوصفه فناً “وسيطاً” بين فنون الحضارات القديمة وبين فنون أوروبا المتأخرة، والحديثة.
(*) صدرت مؤخرا دراسة جيدة اطلعت عليها للباحث اللبناني جوزيف الشرقاوي: “فلسفة الفن الإسلامي: مقاربة شربل داغر النقدية”. إلى أي حد تستطيع مثل هذه الدراسات أن تلملم أشلاء الفن العربي بمختلف تياراته ومدارسه ومؤسساته ونقاده؟
دراسة الشرقاوي دراسة جادة ورصينة، وتوفق في اشتغاله عليها. وهي ثمرة جهد شاق في جمع مدونتي في نقد الفن الإسلامي، وفي درسها، وفي تعالقاتها المفهومية مع علماء الجمالية ودارسيها هنا وهناك. وهو جهد لم يتوقف عند الشرقاوي، إذ يعدُّ حالياً شهادة دكتوراه في فلسفة الفن، وفق منظور مقارن بين طروحات بيار بورديو وبين طروحاتي في نطاق الفن.
ضفة ثالثة