أربع سنوات روسية في سوريا/ بسام مقداد
مع أفول شهر أيلول/سبتمبر ، تكون قد انقضت أربع سنوات على انخراط روسيا في المقتلة السورية ومآسيها وحروبها المتناسلة منذ أكثر من ثمانية أعوام . وفي حين لم يدل أي من المسؤولين الروس باي تصريح في هذه المناسبة ، توقف عندها معظم الصحف والمواقع الإخبارية الروسية ، ونشر بعضها تحقيقات مفصلة من سوريا ، تحدث فيها موفدوها عن مراحل الحملة الروسية ، وعن يوميات العسكريين الروس ، الذين أكدوا أن وجودهم في سوريا “ليس مؤقتاً” .
في التحقيق ، الذي نشرته صحيفة الفاشيين الروس “zavtra” بقلم مبعوثها الخاص إلى سوريا نائب رئيس تحريرها ، وعنونته “النصر ، هذه الكلمة حلوة المذاق” تقول ، أنه للمرة الأولى تبرز روسيا كمركز قوة قادرة على مجابهة الهيمنة الأميركية ، ليس في الفضاء ما بعد السوفياتي فحسب ، كما في أسيتيا الجنوبية العام 2008 ، أو في القرم العام 2014 ، بل في العالم ككل ، بما فيه المحيطات البحرية ، كما أظهر إطلاق صواريخ “كاليبر” في العام 2015 . وتقول أن انطلاق الحملة السورية ، منذ أربع سنوات ، رافقه الكثير من التنبؤات “بالفشل الحتمي لمغامرة الكرملين” ، وتتساءل عن مصير العملية برمتها اليوم ، وإلى أي مدى نجح “الإختراق الروسي نحو الجنوب” ؟ وبعد أن يستفيض التحقيق في الحديث عن مراحل مواجهة “الغرب الجماعي” في سوريا ، وما أنجزه العسكريون الروس من تطوير لقاعدتي حميميم وطرطوس ، يقول أن لدى روسيا ما تعتز به ، وأنها عادت إلى سوريا لزمن طويل .
التحقيق المطول الآخر من سوريا بهذه المناسبة نشرته الصحيفة السوفياتية الروسية المخضرمة “KP”(كومسومولسكايا برافدا) ، الموالية للكرملين والتي توصم بالصحيفة الصفراء ، كان بعنوان “العسكريون الروس : لن نغادر سوريا” ، كتبه المراسل العسكري للصحيفة المقيم في سوريا منذ سبع سنوات . واستفاض هذا التحقيق في وصف البنى التحتية وشبكات الكهوف، التي انسحب منها المقاتلون في خان شيخون ، ونشر صورة كتابة بلغة روسية ركيكة على جدار أحد الكهوف تقول : “قريباً سنشرب من دمكم” . وفي إطار الإجابة عن السبب ، الذي دفع روسيا إلى القيام بالحملة السورية ، ينقل التحقيق عن المستشرقة الروسية يلينا سوبونينا قولها ، بأن روسيا خرجت من الشرق الأوسط بعد انهيار الإتحاد السوفياتي مباشرة ، وكان الرئيس الروسي بوريس يلتسين يعتبر أن المنطقة ليست جديرة بالإهتمام . لكن موسكو أخذت تعود بالتدريج إلى هذه المنطقة المهمة استراتيجياً بالنسبة لروسيا ، التي يرتبط أمنها باستقرار الشرق الأوسط وأمنه ، على قولها . واعتبرت أن العملية الروسية أتاحت إمكانية القضاء على فصائل كاملة من “الإرهابيين” المعادين بأيديولوجيتهم “للسكان الروس”، والذين جاء بعضهم من روسيا والدول السوفياتية السابقة، و”لن يعودوا إليها بعد الآن” .
وتعتبر المستشرقة أن روسيا قد حققت جميع الأهداف العسكرية للحملة ، “بل وأكثر” ، وتتحدث عن أعمال توسيع قاعدتي حميميم وطرطوس الضروريتين لتنفيذ مهمات الطيران والأسطول الحربي في البحر المتوسط وإفريقيا وأميركا اللاتينية. وتؤكد أن هاتين القاعدتين تشكلان أداة مهمة لروسيا، التي تطمح لامتلاك “كلمة جدية” في السياسة الدولية .
أما صحيفة “kommersant” المستقلة، فقد تميز التحقيق، الذي نشرته بهذه المناسبة ، بالحديث عن هموم السوريين ومعاناتهم ، وليس عن الحرب فقط . فقد عنونت تحقيقها بالقول أن سوريا “هي الحرب بالنسبة للبعض ، والوطن بالنسبة للبعض الآخر” ، وقالت بأن من الرمزية أن يعلن المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا غير بيدرسن في هذا التاريخ بالذات عن تشكيل اللجنة الدستورية ، التي دعت إليها روسيا مع شركائها في منصة أستانة . وكل طرف من أطراف النزاع السوري ينظر إلى هذه اللجنة من وجهة نظره ، لكن السوريين البسطاء تعبوا من انتظار الحلول الوسطى من السياسيين ، وهم يريدون العمل والدراسة وانتشال حياتهم من بين الأنقاض .
وتنهي مندوبة الصحيفة، التي أمضت ثلاثة أيام في سوريا ، تحقيقها بالقول أن ثلاثة ايام غير كافية لمعاينة الحياة في سوريا وفهمها، بل يبقى خلف الكادر الفساد والفقر والنهب ، وتبقى السجون . وتبرز للعيان مباشرة إرادة السوريين في الحياة ، ورغبتهم في العمل وإعادة إعمار وطنهم ، دون الحاجة لأية بروباغندا.
من جهتها، لم تخصص صحيفة “NG”، التي تدعي الإستقلالية ، ريبورتاجاً من سوريا بهذه المناسبة، بل نشرت مقالة لهيئة التحرير بعنوان “غموض في الحملة الروسية في سوريا” ، قالت فيها بأن الحرب في سوريا تحتاج إلى تبريرات إضافية . وتعلن الصحيفة في مقالتها تأييدها الكامل لمشروعية الوجود العسكري الروسي في سوريا المستمدة من الطلب الرسمي للنظام السوري لهذا الوجود، وتتحدث عن تعزيز هذه الشرعية بالبروتوكولات والمعاهدات مع النظام حول حميميم وطرطوس وتواجد القوات الجوية الروسية على الأراضي السورية. وترفض الصحيفة جميع الحجج التي ساقها اللاعبون الدوليون للتشكيك بشرعية الوجود العسكري الروسي في سوريا ، وتقول بأن هذه الحجج بقيت غير مقنعة .
لكن الصحيفة تقول ، بأنه إذا كان الوجود الروسي في سوريا مشروعاً ، فإن المبررات التي دفعت موسكو لبدء العملية العسكرية لا تزال ، كما في السابق ، تثير من حولها الأسئلة . وتقول بأن الرئيس بوتين سبق وأعلن ، أن موسكو وضعت نصب عينيها تفادي الصوملة الشاملة للأراضي السورية وتفكك مؤسسات الدولة وتسرب القسم الأكبر من الإرهابيين إلى روسيا والدول المجاورة لها . وعلى الرغم من أن مجموعة المسائل هذه تبدو سبباً مهماً للقلق ، إلا أنه من المستبعد أن تكشف حتى النهاية إستثنائية الملف السوري لكي يكون موضع اهتمام القيادة الروسية .
وفي محاولة من الصحيفة لتفنيد مبررات القيادة الروسية للتدخل العسكري في سوريا ، تقول بأن مشكلة تسرب الإرهابيين إلى روسيا موجودة على خلفية الأزمة الأفغانية. أما في ما يتعلق بالأسباب “الإنسانية” لبدء الحملة السورية، فهي تبدو غير مقنعة أيضاً، إذ كان بوسع روسيا أن تقترح، وللأسباب عينها، تقديم المساعدة إلى اليمن ، التي افضى الصراع فيها إلى أفظع أزمة إنسانية في التاريخ المعاصر . لكن خطاب القيادة الروسية بشأن الملف اليمني لا يتميز بالحذر وحسب ، بل ويمهد السبيل لإقامة علاقات شراكة مع “المحامي” الرئيسي للحرب في اليمن ، حسب الصحيفة .
على الرغم من انتقادات الصحيفة لدوافع الإنخراط الروسي في المقتلة السورية ، إلا أنها توافق مع سواها من المواقع والصحف الروسية ، التي أدلت بدلوها بهذه المناسبة، على أن بوتين قد انتصر عسكرياً في سوريا ، وحال دون سقوط نظام الأسد . لكن التقويم السليم لهذا الإنتصار وأبعاده في المنطقة والعالم ، لا يستوي إلا على ضوء الإستنتاجات ، التي عبر عنها السفير الفرنسي السابق في دمشق ميشال ديكلو في مقابلة مع BBC الناطقة بالروسية في 30 الشهر المنصرم ، وقال فيها بأن سوريا أصبحت رمزاً لانهيار القيم العزيزة على الغرب، وسابقة خطيرة بالنسبة للأجيال القادمة. ويتساءل ما إذا كان بوسع أحد في العالم الجديد ، الذي تنمو فيه الأنظمة التسلطية كالفطر ، من مجابهة هذه الأنظمة إذا قررت مجابهة معارضيها على الطريقة الأسدية .
المدن