عن النظام العربي والثورة السورية/ راتب شعبو
الكلام عن نظام عربي يضمر القول بأن الأنظمة العربية تشكّل في ما بينها نظاماً واحداً. ولكن إلى أي حد يمكننا الكلام عن “نظام عربي”؟ في الجواب عن هذا السؤال، يمكن أن نضع مقدمة لفهم تفاعل هذا النظام مع ثورات الربيع العربي، ومع الثورة السورية بوجه خاص.
نقد مفهوم “النظام العربي”
نرى أن القول بوجود نظام عربي هو قول صحيح وخاطئ في الوقت نفسه. إنه صحيح لأن كل الأنظمة السياسية العربية تقوم على مبدأ مشترك في ما بينها هو أولوية السلطة على الشعب والبلد، فتدار الدولة، على هذا، وفق منظور يخدم تأبيد سلطة الحاكم، بدلاً من خدمة البلد وشعبه. منبع هذا المبدأ هو أن السلطات العربية الحاكمة لا تعتمد آلية معقولة في حيازة السلطة أو في تجديد حيازتها، ولا تحوز على شرعية شعبية، ولا تستمد شرعيتها من الشعب أصلاً، بل من دعم دول خارجية ثقيلة وذات سطوة. لذلك تبني السلطات العربية سياساتها ومواقفها، واستراتيجياتها حتى، على مقاس ما يرضي الخارج الذي يزودها “بالشرعية”، وليس على مقاس مصالح شعبها وبلدها. على العكس، فغالباً ما تستجلب هذه السلطات الرضى الخارجي من خلال قدرتها على السيطرة وعلى خنق تطلعات شعوبها، ومن خلال قدرتها على تبخيس مصالح شعوبها وبلدانها. وفق هذا المبدأ الراسخ في النظام العربي، تبدو الأنظمة الملكية المطلقة أكثر ملاءمة من الأنظمة الجمهورية، ولهذا نجد أن هذه الأخيرة تنزع، كما لو بقانون، إلى تحول “ملكي” في توريث الحكم وإنتاج شكل جديد من الأنظمة يجمع بين الجمهورية (في الشكل) والملكية المطلقة (في المحتوى)، يسميه البعض “الجملوكية” أو “الجمهوكية”.
تتشابه علاقة الأنظمة العربية مع شعوبها وبلدانها، وتشترك هذه الأنظمة في المجال الجغرافي السياسي، وفي تقاسم حكم “أمة” يجمعها خيط من اللغة والتاريخ والدين ..إلخ، أمة ما تزال ترى نفسها أنها أمة واحدة موزعة في دول. الأمر الذي يجعل من هذه الأنظمة “نظاماً” واحداً، ويدفعها إلى تشكيل مؤسسة جامعة، أسموها “الجامعة العربية”، لا تملك من أمرها شيئاً.
غير أن الكلام عن “نظام عربي” يبقى، مع ذلك، خاطئاً من حيث إن هذا النظام لا يقوم بوظيفة متّسقة تأخذ مصالحه ككل في الحسبان. بكلام آخر، إن الأنظمة التي تشكل هذا النظام في ما بينها، تعمل في خططها وسياساتها على تقويض بعضها، وتدخل في صراعات بينية دائمة تضعف النظام ككل في مواجهة الخارج. وتتعامل مع الأنظمة الخارجية ضد مكونات “نظامها العربي” ذاته، وتمارس دور وكيل محلي للقوى الخارجية المؤثرة، وتعلي مصالح هذه القوى على مصالح بلدانها. من هذه الزاوية لا يبدو دقيقاً الكلام عن “نظام عربي”، أو هو من هذه الزاوية نظام مضاد لذاته. يمكن التعبير عن هذا بالقول إن مصالح كل نظام من الأنظمة المكونة “للنظام العربي” تعلو على مصالح النظام الكلي. فكيف إذا كانت هذه الأنظمة محلاً لمصالح خارجية أصلاً؟ من شأن هذا الحال أن يجعل النظام العربي الكلي قليل الفاعلية أو معدومها. وقد يتضح ما نقول أكثر إذا قارنا اشتغال أي “نظام” عربي محدد في حماية ذاته وفي خدمة أغراض ديمومته، باشتغال “النظام” العربي في خدمة مصالحه.
الجامعة العربية والثورة السورية
كان تفاعل النظام العربي مع الثورة السورية محدداً بمحددين أساسيين، الأول هو التعارض المباشر بين ما تمثله الثورة من قيمة ديمقراطية، أو من محاولة إعادة صياغة العلاقة بين الحاكمين والمحكومين لصالح تثقيل وزن مشاركة المحكومين في إدارة دولتهم، وما تقوم عليه هذه الأنظمة من تعطيل أي مشاركة شعبية ممكنة، وأي آلية لإنتاج شرعية سياسية وسحبها، أي تعطيل العلاقة التفاعلية بين السلطة والشعب. المحدد الثاني هو الانسجام الضروري للأنظمة المذكورة مع سياسات الدول الخارجية صاحبة السطوة والقرار الحاسم في بقاء أنظمة “النظام العربي أو زوالها”.
لا نغامر إذا قلنا إن الثورة في أي بلد عربي، هي، بطبيعة الحال، ثورة ضد “النظام العربي” ككل. الموقف التلقائي للأنظمة العربية هو أن تقف مجتمعة ضد أي ثورة شعبية ذات تطلع ديمقراطي تحاول إسقاط أحد هذه الأنظمة. مع ذلك لم تكن مواقف الأنظمة العربية واحدة تجاه الثورة السورية. وقد شهدت المؤسسة التي تؤطر النظام العربي (الجامعة العربية) انقساماً بين أعضائها حيال الثورة السورية. ولكن الجامعة تجاوزت انقسامها بفعل الدور القطري لأنه شكل آنذاك قناة للسياسة الأمريكية المهيوبة. وكان أن أدت الجامعة العربية قسطها الأعلى بأن قدمت مبادرة (في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2011) تقوم على سحب الجيش من الشوارع والسماح بالتظاهر والحوار بين النظام وأطراف المعارضة. ولأن الجامعة لا تمتلك أي وزن لفرض مبادرتها، فإن النظام السوري تجاهلها، وردت الجامعة بتجميد عضوية سوريا (16 تشرين الثاني/نوفمبر 2011) لعدم التزامها بالمبادرة، وبعد ذلك أحالت الجامعة المبادرة إلى مجلس الأمن، فأصبحت مبادرة عربية – دولية، ووصل دور الجامعة بعدئذ إلى نهايته المتوقعة.
سلوك الأنظمة العربية حيال الثورة السورية
تفاوتت مواقف الأنظمة العربية من الثورة السورية، هناك من وقف بخجل إلى جانب النظام كالجزائر، وهناك من اختار الحياد (النأي بالنفس) مثل لبنان، ولكن الموقف الغالب كان ضد نظام الأسد أكثر مما كان لصالح الثورة السورية، والمثال الأهم هو موقف دول الخليج العربي. يمكن رد الموقف الخليجي إلى عوامل متباينة، ليس منها بالتأكيد رغبة أي نظام خليجي (أو عربي استطراداً) في دعم ثورة ديمقراطية. من البدهي أن الأنظمة العربية لا ترغب في رؤية أحد أعضاء “قمتهم” العربية وهو يطالبهم، مثلاً، بالإفراج عن المعتقلين السياسيين في بلدانهم، كما فعل السيد معاذ الخطيب، رئيس إتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، حين أتيح لرئيس الائتلاف أن يحضر، مرة أولى وأخيرة، قمة الأنظمة العربية في قطر في آذار 2013.
من العوامل التي تحكّمت في تدخّل الأنظمة العربية، الخليجية بوجه خاص، في الثورة السورية هو موقف هذه الأنظمة من النظام السوري ولا سيما في علاقته التحالفية مع إيران. وفي العموم فإن التدخل العربي أقحم الثورة السورية ذات الهم الداخلي السوري، في شبكة مصالح وعلاقات وتصفية حسابات مع أنظمة إقليمية، بحيث طغت مصلحة الأنظمة الداعمة (نسميها داعمة تجاوزاً) على مصلحة الثورة والقائمين بها. كان هذا النمط من التدخل مكملاً لما بدأه النظام السوري بزج الثورة في أتون الصراعات الإقليمية، عن طريق جلب القوة الإيرانية التي لا تخفي طابعها الديني والطائفي. وبذلك اكتملت في سوريا حلقة صراع لا تخدم ما خرج السوريون من أجله أساساً.
ومن ناحية أخرى، أدى عامل توسيع النفوذ السياسي دوراً مهماً في دفع سلوك أنظمة عربية تجاه الثورة السورية وتوجيهه، وكان هذا العامل بارزاً في التدخل القطري الذي اعتمد على تيار سياسي موجود وواسع (الإسلام السياسي) يغطي الطيف الممتد من الإخوان المسلمين وصولاً إلى جبهة النصرة.
تضافر هذا التوجه من دول خليجية ذات قدرات مالية كبيرة، مع عوامل عدة في سوريا وأفضى إلى اتخاذ الثورة السورية طريق التخلي عن هويتها الخاصة واستقلالها لتجد نفسها مرهونة لقوى لا تتعامل معها بوصفها ثورة بل بوصفها أداة.
لماذا خسرت دول الخليج أمام إيران في سوريا
دعمت إيران النظام السوري منذ البداية، وكان هذا استمراراً لعلاقة قديمة بين النظامين، وكان واضحاً للمراقب أن قوة الدعم الإيراني وثباته يتفوق بمرات على قوة “الدعم” الخليجي للثورة السورية وثباته. لا شك في أن هذه الحقيقة لا تفاجئ أحداً، لأن النظامين الإيراني والسوري من طبيعة واحدة والعلاقة بينهما هي علاقة حيوية، في حين لا يمكن قول الشيء نفسه عن العلاقة بين دول الخليج والثورة السورية. لكي تدعم دول الخليج الثورة السورية، كان لا بد لها من تغيير طبيعة الثورة ودفعها أكثر باتجاه إسلامي وطائفي. وحتى بعد نجاحها في هذا المسعى، لم تكن هذه الدول تكترث بمصير الثورة وأهلها أمام تحقيق مصلحتها. مثل مصلحة السعودية في إخراج إيران من سوريا، مثلاً، في المساومة التي عرضتها على علي مملوك، رئيس مكتب الأمن القومي السوري، حين جرى استقباله في الرياض (يوليو/تموز 2015)، بوساطة روسية، في حين لم تساوم إيران في أي وقت على إبقاء النظام، كما هو، ولم يقبل سفيرها السابق في إيران حتى مناقشة افتراض سقوط النظام السوري في مقابلة تلفزيونية معه في مرحلة باكرة من الثورة السورية، مكرراً، أمام السؤال: ماذا لو سقط النظام؟ إنه لن يسقط.
من جهة أخرى، لم يتطلب الدعم الإيراني تغييراً في طبيعة نظام الأسد. على العكس، سار نظام الأسد، بوساطة الدعم الإيراني، ثم الروسي، شوطاً إضافياً في إظهار محتواه الحقيقي بوصفه قوة أمر واقع شبيهة بقوة الاحتلال. أما الدعم الخليجي للثورة فقد تطلب منها تغيير طبيعتها وإنكار ذاتها إلى حد الوصول إلى انفكاك بين جمهور الثورة والقوى المسلحة المعادية لنظام الأسد التي تدعمها دول الخليج، الأمر الذي حول هذه القوى إلى قوى قمع واجهت غير مرة الجمهور بالرصاص الحي كما يفعل النظام، واعتقلت واغتالت أبناء الثورة كما يفعل النظام أيضاً. والنتيجة أن الدعم الخليجي خلخل قوة الثورة وغير من طبيعتها وأضعفها في نهاية المطاف، فيما كان للدعم الإيراني دور محافظ وتثبيتي لنظام الأسد.
يضاف إلى ما سبق، أن تعدد مصادر الدعم الخليجي، ووجود تنافر بين الدول الداعمة، جعل القوة المعارضة التي تواجه نظام الأسد متعددة الرؤوس، ومتصارعة في ما بينها، وهذا كان من أهم أسباب تشتت قواها من جهة، ودمار قيمتها المعنوية من جهة أخرى، ولا سيما إذا أضيف إلى هذا الواقع، طبيعة الحكم الفاسد والقمعي الذي أظهرته في مناطق سيطرتها. في حين تمكن حلف نظام الأسد من الحفاظ على تراتبية عسكرية هرمية متوازنة إلى حد بعيد قياسا بالقوى التي تواجهها.
فشل النظام العربي في انتصار “أنظمته” الفردية
كانت حصيلة الجولة الأولى من الثورات العربية في صالح الأنظمة العربية الفردية، فيما خرج “النظام العربي” مهمشا بلا فاعلية. لقد قاد تحطم الثورة السورية إلى بروز ثلاثي آستانة الذي يستبعد أي بلد عربي بما في ذلك سوريا نفسها، ويقرر في الحرب والسلم في سوريا، ويشكل اللجان الدستورية ويفتي في مستقبل البلد الذي يعد جزءاً من “النظام العربي”.
قاد تحطم الثورة السورية إلى تحول سوريا إلى محل للاحتلالات المباشرة ولصراع الدول على النفوذ، من دون أن يكون لأي من الدول العربية حضور بين الدول المتصارعة على سوريا. لقد ساهم تدخل “النظام العربي” في تحطيم الثورة السورية، وفشل هذا النظام جملة وتفصيلاً، في تحقيق أي مكسب مادي من جراء هذه النتيجة.
من غير الممكن بناء نظام عربي فاعل ما لم تتغير العلاقة بين السلطة والمجتمع في البلدان العربية، بحيث تصبح مصلحة المجتمع أولى من مصلحة السلطة. هذا هو محتوى الثورات العربية. على هذا فإن فشل هذه الثورات يعنى الفشل في بناء نظام عربي جدير باسمه، نظام يستطيع أن يرى المصالح العربية بمنظور متحرر عن مصالح “الأسر الحاكمة”.
بروكار برس