في حاجتنا إلى قضية كردية سورية/ عمر قدور
قد يبدو العنوان مستفزاً لإخوة أكراد يعتقدون أن القضية الكردية في سوريا هي في مقام البدهيات، وأنها فقط تنتظر تحقيق غاياتها، أو تنتظر اعترافاً بها بخاصة من القوى الفاعلة. بينما الحديث هنا يقوم على التمييز بين وجود مسألة كردية ووجود قضية كردية، وعلى القياس ذاته لدينا اليوم مسألة سورية، وليس لدينا قضية سورية على أنقاض الثورة التي هُزمت.
بناء القضية هو أمر مغاير للحقوق الأساسية، وإن كان يُبنى عليها. نستطيع على هذا الصعيد استرجاع برنامج منظمة التحرير الفلسطينية الذي قدّمته بوصفه حلا ضمن تصوراتها للحقوق الفلسطينية وواقع قيام دولة إسرائيل، بصرف النظر عن أن هذا البرنامج تقادم وأصبح من الماضي. قضايا الشعوب تُبنى بحركات سياسية، أو سياسية وعسكرية، ذات برنامج واضح يُطرح على الأعداء والأصدقاء، ويكون بمنزلة دليل مقترح لحل المسألة الأساسية.
اليوم، وقبل عقود أيضاً، تصح الشكوى الكردية من عدم وجود فهم أو تفهم عربي للمسألة الكردية في سوريا. يصح هذا بخاصة على عدم وجود فهم وتفهم لاختلاف الأكراد بوصفهم شعبا آخر، ما ينطوي تالياً على عدم تفهم الحقوق المشروعة للأكراد، حتى إذا تغاضينا عن أولئك الذين يفهون المسألة على هذا النحو لكنهم يعادون الأكراد من مختلف المواقع الأيديولوجية، أو حتى باسم المواطنة والوطنية. لكن لا يجوز للشكوى من الطرف العربي حجب ذلك التقصير الكردي المزمن تجاه بناء القضية الكردية، ومن ثم طرحها على باقي السوريين ضمن إطار الحوار، أو في إطار الصراع.
لدينا في التاريخ الطازج أمثلة على غياب القضية المتماسكة بهذا المعنى، فالطموحات لدى شريحة واسعة من أكراد سوريا كانت ترتفع وتنخفض على وقع انتصارات وحدات الحماية الكردية أو هزائمها. لقد رأينا كيف برزت فجأة تسمية “روج آفا” مع خريطتها الممتدة على الشمال السوري كله، ثم طُويت تلك التسمية مع الخريطة لتُستعاد من باب شحذ المعنويات مع الهجوم التركي الأخير.
بيت القصيد أن السوري غير الكردي لا يعرف حدوداً جغرافية ثابتة مقترحة للقضية الكردية، ولن يقبل حدوداً تقترحها أرجل المقاتلين الأكراد إلا بمنطق القوة والاستقواء الذي يفتح على ردة فعل مقابل. بالتزامن مع الصعود والهبوط السابقين، لم يؤخذ طرح الإدارة الذاتية الذي قدّمه حزب PYD بجدية لقناعة لدى كثر “بمن فيهم أكراد” بأن هذا الطرح لا يمثّل الطموح الكردي أو أهداف الحزب الحقيقية.
ثم إن خريطة تتضمن الشمال السوري كله، بما فيه حلب مثلاً، لا يسندها واقع الوجود الكردي الحالي في المنطقة، فيضطر أصحابها إلى نبش دعاوى حق تاريخي، أو حتى اختراع صلات نسب بأقوام انقرضت. وكما نعلم تتسع دعاوى الحق التاريخي لعدد من أقوام المنطقة، بما فيها بقايا أقوام لها أحقية أكثر من العرب والأكراد مجتمعين. الأهم أن الحديث عن الحق التاريخي هو وصفة لحروب لا تنتهي في المنطقة كلها، ولنتخيل مثلاً خريطة الوطن العربي التي اقترحها حزب البعث في ما مضى، وكيف أن السيطرة على هذه الخريطة تقتضي فتح حروب لا تنتهي مع شعوب مجاورة، أو لنتخيل الخريطة الأكثر تواضعاً للحزب القومي السوري.
هنا ربما علينا التفريق بين استرجاع التاريخ لإثبات أصالة وجود شعب ما، ومحاولة إعادة التاريخ إلى الوراء. ولدينا أيضاً أمثلة كانهيار الفكر القومي العربي المستند أصلاً إلى ما يُسمى النظرية الألمانية القومية التي كانت تركّز على عاملي التاريخ واللغة، ولم تكن تكترث بالواقع أو حتى بإرادة السكان. لدينا في مثال معاكس تيار ساد منذ ستينات القرن الماضي في إسبانيا، يعدّ طرد المسلمين من هناك بمنزلة حرب أهلية، حيث لا يجوز التعامل معهم بوصفهم محتلين بعد وجودهم المستمر ثمانية قرون. وفي التاريخ المعاصر لدينا مثال بالغ التأثير هو ما آلت إليه القضية الفلسطينية، فلا إسرائيل حققت شعارات توسعية رافقت بداية تأسيسها، ولا الفلسطينيون “ومن خلفهم غلاة العروبة” حققوا وعيدهم بإزالتها.
لنواجه الواقع بشجاعة: الاستناد المفرط إلى التاريخ مردّه طبيعة الوجود الجغرافي للأكراد في الحالة السورية، لذا لا نرى تركيزاً مشابهاً له في إقليم كردستان العراق أو لدى أكراد تركيا. بل إن ما لا يعلمه كثر من أعداء حزب العمال الكردستاني أن أدبياته المبكرة كانت تنكر وجود مسألة كردية في سوريا وتتجاهل المسألة الكردية في إيران، وتنص على أن القضية المركزية الكردية هي في تركيا مع التنبيه بالتحالف مع نظامي الأسد والملالي.
لقد رأينا دائماً خصوماً للحقوق الكردية يتسللون من ثغرة غياب التواصل الجغرافي بين مناطق وجود أغلبيات كردية، وهذا ما لا نريد الذهاب إليه بالتأكيد. لكننا لا نستطيع أيضاً تجاوز الربط بين تلك الثغرة وحضور حزب العمال الكردستاني في الساحة الكردية السورية، فالحزب حقق نجاحات في استقطاب أكراد سوريين لم يحقق مثيلاً لها لدى أكراد العراق أو إيران.
قبل تأسيس حزب العمال كانت التجربة الحزبية الكردية في سوريا تنضوي عموماً تحت عباءة شقيقتها في العراق ممثلة في تجربة البارزاني، فأول تنظيم حزبي في سوريا أُسس عام 1957 تحت تلك العباءة، ومنه انشق عدد من التنظيمات الأخرى، إنما غالباً من دون مغادرة الإطار الفكري العام للتنظيم. ومن باب الاختزال يمكن حصر التباينات ضمن الحزب الأم وما تفرع عنه بمطالبات ترواح بين الحصول على الحقوق الثقافية وحق تقرير المصير، مع عدم تأويل حق تقرير المصير بوصفه نيّة للانفصال لأن أعلى سقف كان يُطرح هو الحكم الذاتي ضمن دولة سورية تعددية ديمقراطية. بالمجمل؛ كانت أعين أكراد سوريا تتجه إلى العراق الذي شهد انتفاضات كردية شبه مستمرة تُوّجت باتفاق الحكم الذاتي الذي لم يلتزم به صدام حسين بعد توقيعه عام 1975.
مع منتصف الثمانينيات دخل حزب العمال الكردستاني بقوة ليغير الاتجاه تماماً، فالحزب يرى القضية الكردية المركزية في تركيا، ولم يكن من المصادفة أن يحقق الحزب أعلى شعبية له في عفرين أولاً. عفرين ليست على تماس مع إقليم كردستان العراق كما هو حال الجزيرة، وهي بالأحرى منفصلة تماماً عن أماكن الوجود الكردي الأخرى، بمعنى أنها خارج التطلع القومي الوحدوي إذا أتى من النافذة العراقية، بخلاف وقوعها على الحدود مع تركيا. على غرار شبان عرب تطوعوا من أجل ما عدّوه القضية المركزية في فلسطين، استقطب الحزب آلاف الشابات والشبان الذين ذهبوا إلى القتال في تركيا، دافعهم الإضافي تلك القناعة بأن الانتصار في تركيا يعني تلقائياً حل المسألة الكردية في سوريا حيث تحقق مناطق الوجود الكردي اتصالها الجغرافي عبر نظيراتها في تركيا.
الإسهاب في شرح هذا الجانب يبدو ضرورياً لفهم الشعبية التي حظي بها حزب العمال، وأيضاً فهم الكيفية التي انتصرت بها الأوجلانية على البارزانية في الساحة السورية، حيث لا تُقارن شعبية الفرع السوري لحزب العمال الكاسحة بشعبية الأحزاب التي انحدرت من تجربة البارتي الأم، ذلك بصرف النظر عن تخوين الأكراد أحزاب المجلس الوطني الكردي بسبب مواقفه الأخيرة التي تُعدّ محابية لتركيا. بعبارة أخرى، وعن وعي واضح أو من دونه، هناك شريحة واسعة من أكراد سوريا على قناعة بأن حل المسألة الكردية في سوريا متصل بحل نظيرتها في تركيا، والعنوان الحالي للحل هو حزب العمال الكردستاني، بينما لا تقدّم الأحزاب الكردية الأخرى تصوراً آخر مقنعاً.
استئناف هذه القناعة يؤدي إلى وحدة القضية الكردية في البلدين، ويعني بصيغة أخرى ألّا وجود لقضية كردية سورية خاصة، لا على قاعدة الحل ضمن سوريا، ولا على قاعدة الانفصال عنها بصرف النظر عن تطورات الوضع الكردي في تركيا. مرة أخرى، هذا الشرح لا ينطلق من أي موقع سلبي، إذ للأكراد الحق كغيرهم في بناء قضيتهم على النحو الذي يريدون، سواء على قاعدة البقاء ضمن سوريا وكيفية البقاء، أم على قاعدة الانفصال عنها وكيفية الانفصال.
من الجيد، بخلاف الشكوى الكردية المزمنة من التفهم العربي، أن هذا التفهم قد ازداد في السنوات الأخيرة، فقبل الثورة ربما كان الحديث لا يتجاوز مئات السوريين المتعاطفين مع الحقوق الكردية. اليوم، وهذا فضل للثورة السورية ينبغي الاعتراف به مثلما هو فضل لتراكم نضالات الأكراد السوريين، لدينا آلاف من المتعاطفين مع الحقوق الكردية، ولدينا آلاف أخرى ممن يخوضون نقاشات حول المسألة الكردية لدوافع متباينة. هذه أرضية ينبغي البناء عليها، على الرغم من أن الصوت الأقوى حالياً هو لأصحاب الغرائز من الجانبين، والصوت الأقوى للمعركة التي لا تسير لا في مصلحة الأكراد ولا في مصلحة عموم السوريين.
إلا أن البناء على هذا التطور، مهما قل شأنه أو فاعليته، يقتضي نقله إلى الحيز السياسي. هنا نفرّق بين تعاطف إنساني مع الحقوق الكردية بلا تحديد وتضامن سياسي مع مطالب كردية محددة، ونفرق أيضاً بين حقوق مشروعة تصنع مظلومية ومشروع سياسي يبني قضية. الأمر ذاته ينطبق على المسألة السورية، فنحن أمام مظلومية سورية تتعاظم، في حين ليس لدينا بناء لقضية سورية أو لمشروع سياسي يحظى باتفاق أغلب السوريين المطالبين بالتغيير.
لا بأس بالقول إن جزءاً من بناء القضية السورية أصبح متوقفاً أيضاً على المسألة الكردية والموقف منها، وهذا بدوره من أسباب الحاجة إلى قضية كردية سورية واضحة المعالم والأهداف. فإذا شئنا الحديث عن قضية سورية لا نستطيع مثلاً إهمال الجانب الكردي إذا اتفق الأكراد على أن الهدف الاستراتيجي هو وحدة كردستان، أيضاً مع ضرورة التوضيح الدقيق لما يعنيه مصطلح غرب كردستان أو روج آفا على الصعيد الجغرافي بدقة، وهذا توضيح ضروري وملح حتى إذا كان الكلام عن حكم ذاتي أو عن حكم فدرالي، إذ من حق الجميع معرفة المطالب الكردية وأخذها في الحسبان إيجاباً أو سلباً.
واقعياً، الحديث عن الانفصال يستلزم رسم حدود واقعية عادلة تأخذ في الحسبان التوزع السكاني الذي كان قبل عام 2011، لئلا تؤسس حملات التهجير اللاحقة واقعاً ديموغرافياً مبنيا على الأحقاد والعداوات. أيضاً الحديث عن حكم ذاتي، أو فدرالي يتطلب رسم حدود مماثل على أسس ديمقراطية عادلة لجميع الأطراف. إذ من دون تحقيق قدر معقول من العدالة لن يكون هناك حل مقبول ومستدام، وسيكون ذلك مدخلاً لحروب لاحقة.
انعدام الوضوح أو الشفافية أدى، وسيؤدي لاحقاً، إلى مزيد من الاحتقان والحرب على نحو يوازي أكثر الطروحات راديكالية. إذا شئنا تقسيم المسؤوليات فلا شك في أن غير الأكراد يتحملون مسؤولية أخلاقية من جراء عدم الاعتراف بالمسألة والحقوق الكرديتين، إلا أن الأكراد يتحملون مسؤولية الجانب السياسي المتصل بتلك الحقوق، والمتعين بطرح مشروع بعيد المدى لتجسيدها. الانتقال من المظلومية والمسألة الكردية لا يعني الحل تلقائياً، لكنه يعني نقل الصراع إلى مستوى أعلى وأنضج، ومن خلاله ربما يخسر الأكراد بعض متعاطفي اليوم، لكنهم قد يكسبون تعاطفاً على أسس سياسية هي الأكثر تأثيراً من تعاطف إنساني عابر يعفي نفسه من التبعات السياسية.
نحن جميعاً في أمس الحاجة إلى التفكير في سوريا المستقبل على قاعدة من الوضوح والنضج، نحن بحاجة إلى برامج بعيدة عن الشعارات وعموميتها، وبعيدة عن التكسب على الغرائز. نحتاج إلى طرح قضايا بوصفها تعبيراً عن السياسة وعن الصراع السياسي، من دون أن نشعر بالحرج تجاه أي طرح، وأيضاً من دون مسبقات أو مقدسات.
بروكار برس