سليم بركات:سأكون كمن أضاع ذاكرته إن أوقفتُ الكتابة
وليد هرمز
صعب جداً إجراء حوار مع شاعر وروائي غنيّ عن التعريف مثل سليم بركات. فليس من السهل اقتناص ظرف مناسب في إقناع سليم وهو في عزلةٍ تامة رافضاً أية لقاءات صحافية أو متلفزة. لكن الأصعب في ذلك حين يكون سليم صديقاً قريباً وأديباً ينبغي لمحاورته صياغة أسئلة منتقاة باعتناء ودراية، وهو الذي يمتلك تجربة إبداعية ذهبية تمتد لما يقرب من 50 عاماً، أصدر خلالها العشرات من الدواوين والروايات. في رصيده، لحد الآن، (53) كتاباً وما زالت جذوة إبداعه متقدة.
يقيم سليم بركات، منذ أعوام، في العاصمة السويدية ستوكهولم، وقد نُقلت ثمانية من أعماله إلى السويدية لغاية الآن، وكذلك إلى العديد من اللغات العالمية، وهو مرشح لنيل جائزة نوبل إلى جانب العديد من الأدباء والمبدعين المشهورين.
هذا الحوار هو القسم الأول من حوار طويل نعمل عليه منذ فترة وسوف يصدر في كتاب لاحقاً.
لست رساماً
(*) حلمتُ، مرة، أنني أقمتُ، في داري، معرضاً في إحدى غرفه الصغيرة، رتَّبتُ فيها مخطوطات أعمالك الشعرية والروائية، ووضعت جنب كل مخطوطة نسختها الورقية المطبوعة، إضافة لبعض المقالات المتفرقة، وزيَّنتُ حائط الغرفة بلوحاتك التشكيلية “الخرافية” التي رسمتها، وأهديتني إياها، في إطاراتٍ خشبية مزجَّجة ذوات مقاسٍ واحد. دعوت بعض الأصدقاء والمعارف إلى زيارة معرض مخطوطاتك هذه، في أُمسية خططتُ لها أن أُطلع الأصدقاء على هذه المخطوطات، ثم تتخللها جلسة نقاشٍ ومسامرةٍ. تفاجأتُ بحضورك أيضاً. لم أدعُكَ، على ما أظن إلى هذه الأمسية. سُررتُ بك، وافترضتُ أنكَ ستبتهج بهذا الاحتفاء البسيط، ومدى حرصي على الاحتفاظ بهذه المخطوطات واللوحات. لكنك كنتَ قلقاً، عجولاً تُقلِّب محتويات المعرض بعينين تجدحُان غضباً. رحبتُ بك وأكرمتُ وجودكَ بكأسٍ من النبيذ، لكنك سحبتني لتختلي بي بعيداً عن الضيوف، دون أن يلحظوك، لتسألني: لِمَن هذه المخطوطات، ومن هو مؤلفها؟ لِمن هذه اللوحات الغريبة الدقيقة في تشكيلها، وفي ألوانها؟ لأنك لم تمهرها ببصمة توقيعك إلا على ظهر كل لوحة. ابتسمتُ لسؤالك، معتقداً أنك تُمازحني، لكني اكتشفتُ علامات الاستغراب مرسومة على وجهك، بِجَد. قبلها، كنتُ على وشك أن أُعلن للحاضرين عن وجود صاحب المخطوطات بيننا، لكنني عدلت عن الأمر حيث لفني الصمت الخجول. لكنك ألحَحْتَ عليَّ في سؤالك بطريقة أشعرتْني أن شرراً يتطايرُ من عينيك، فأجبتك: هذا المعرض لأعمال الشاعر سليم بركات.
ـ هل هو حيٌّ يُرزَق؟ سألْتني باستغرابٍ لا تلاعب في مضمونه.
ـ نعم، ويُقيمُ في ستوكهولم. أجبتُك باستغرابٍ لاستنكارك شخصك.
بعد ثوانٍ مدهونة بصمت الحيْرة، ومن دون مقدمات، أو إضافات لأسئلتك، التي ظننتها مُزحة مسلفنة بنكتة، سحبتَ، من وراء ظهرك، خنجراً وقدمته لي، قائلاً: عليكَ أن تقتل صاحب هذه الاعمال.
صُعقتُ من هذا التصرف. لم أتناول الخنجر من يديك، لكنك مسكت بيدي ووضعتَ المقبض في باطن كفي اليمنى، واختفيتَ.
صحوتُ من منامي أتفصَّدُ عَرَقاً، ماسكاً برأسي كأنني أحاول أن أستعيد ما حلمتُ به.
كيف تُفسر لي هذا الحُلم، يا سليم بركات؟
– سأفسر لك حلمك على نحوٍ لا يشبه “تفسير الأحلام لابن سيرين”، في تثبيته “الدعم الإلهيَّ” للإشارات الوميض في خيال النائم، على النقيض من تفاسير السيد فرويد المكتظة بـ”حوريات” التحليل النفساني على أسرَّتهن في كل شيء، اكتظاظاً حتى التخمة لا تنجو منها الحروب كامتدادات لأعضاء التناسل.
“وجودي هو الكتابة. الكلمات أنفاسي. السطورُ عنايةُ العافية بجسدي”
الأمر بسيط: لديك رسومٌ كُثر جداًّ أهديتُكَها، ومخطوطات كُتبٍ وثَّقتَها لي تنضيداً في خمس عشرة سنة، فتداخلت الأشياء على يقظتك فائضةً عنها، مندلقة من القِدْر على أحلامك المنام.
كتبتُ الكثير. نعم. ورسمتُ أيضاً. لكنني لست رساماً. كتابي الشعريُّ “آلهة”، عن دار الزمان، حوى رسوماً عدة. أصدر لي الناشر السويدي الصديق، من ضمن ما نشر، ترجمة كاملة للكتاب القصيدة “عجرفة المتجانس”، مرفقا النص بثمانية عشر رسماً على غايةٍ في الأناقة. عُرِض عليَّ، مراراً، أن أقيم معارض، فرفضتُ. كل رسومي أهديتها إلى أصدقاء. كنتُ أرسم بين الانتهاء من كتاب، والبدء بآخر، “سوناتاتٍ” لونية لا أكثر، لأهديها إلى الأصدقاء في الأرجح.
مفاجأة عمري، في أمر الرسم، كانت من حيث لم أحتسب: صاحبة مجلة “كَرَفان” الأدبية، المعُتبرة والمقدَّرة جداًّ بصيتها في السويد، فاجأتني على نحوٍ لم أحتسب له قط. دعتني إلى احتفالية ربع قرن على إصدار مجلتها، في قاعة واسعة الأرجاء، حضرها أهل الأدب بمن فيهم أعضاء من الأكاديمية السويدية. فوجئتُ حين دخلتُ، بل ذُهلت: كانت السيدة استعارت حوالي مائة رسم من كل من تعرفه في السويد أهديته رسوماً. أطَّرَت عديدَها الكثير. علَّقتْها في القاعة كلَّ رسمٍ على حدة تحت أضواء كاشفة، حتى لَيَخالُ الداخل أنه في حضرة رامبرانت. لم أُطِلْ بقائي لحظةً حين انتهى الحفل الذي اسْتُهِلَّ بقصائد لي. هربتُ من أيِّ سؤال عن رسومي. لستُ رساماً. توقفتُ حتى عن “السوناتات” اللونية منذ سنتين.
(*) لا أُخْفيك، يا سليم، حين تصلني منك الفصول الأولى من كل مخطوطة، لتنضيدها على الآلة الجهنمية “الكومبيوتر”، ينتابني فرحٌ طفولي. ارتضيتُ، طوعاً، أن أشاركك هذا المعترك القاسي في عالم الإبداع. إنه شقاءُ المحاربين بسلاح الكلمات “سفكاً للمعاني”. إنه لمكسب رحب لي أن أكون أول القرَّاء لكل عمل جديد لك. دهشة لا تُوصف وأنا أرقِّص أصابعي العشر على مربعات الحروف ناقلاً نكبات حِبْرك: “إشْراقُ الحرف على شكله”، من جلال البياض إلى يقين حروف الضوء المعجزة التي وصفْتَها على أنها “سديمٌ لا يقترب به صوتُ حاكيه ملفوظاً، من قِوام”. لم أعُد أعرف متى ابتدأت معك هذا الشقاء، لكنني كلما أنظرُ إلى رفوف مكتبتي، في الجزء المخصص لكتبك أُدْهشُ، وأفرح، وأفكر باستضافة رفوف جديدة لتستقبل رحابة هيجان جنونك الذي ينتظر دوره. كتابان في كل عام. بين شعر ورواية. إلى أين أنت ذاهب تتزحلق على سكة هذا المعترك في “استعراض جسارتك” يا قيَّاف الخَيال؟
“لا أحد في حياتي سوى زوجتي، وابني، والكتابة”
ـ منذ خمس عشرة سنة أدخلتُك معي في متاهة، يا وليد. لا شهرَ تستريح فيه مني. أنا محظوظ بصبرك. ممتنٌّ لصبرك. لا أعرف كيف أردُّ بعضَ هذا الجميل السخيِّ بإفراط. لم أتعلم مهنةَ اقتفاء الحروف، وصيدها، على الكومبيوتر. قَدَري في الكتابة بات متعلِّقاً بحروف الآلة، وأنت المؤتمَن على هذا القَدَر.
“إلى أين أتزحلق؟”. أتزلَّج على الورق الذي أرسله إليك بالبريد، من قريتي “سكوغوس” إلى مدينتك “غوتنبرغ”، في غرب السويد، لأسقطَ في الآلة، حيث تستعيدني أنت “أنيقاً”، مصفوفاً تنضيداً.
الأشعار. الروايات. المقالات. كلها فِراخٌ نَمَتْ في أعشاش آلتك، بغذاءٍ وسقاية من أنامل يديك. عوفيتَ.
(*) أعرفُ، بقليل من الدِّقَّة، التزامك “العسكري” يومياً في الكتابة، تبدأها بقُصاصات صغيرة متناثرة ثم تنقلها إلى موئل آخر لمصائر علوم المجهول إلى يقين المعلوم لتتماهى مع الواقع الذي تخلقه على سكة يقينك أنت وحسب، لا أحد غيرك. أعلمُ أنك لا تكلَّ ولا تمَل. هل راودك، يوماً، شعور في الكف عن ملاحقة أولئك الشخوص، “وتلك الوقائع اللاحادثة لتصيِّرها موجودة في كتاباتك”؟
ـ بل تعرف بكثير من الدِّقة التزامي الذي لا أخرج عنه، يومياًّ، بالكتابة. أنا هو الكتابة. وجودي هو الكتابة. الكلمات أنفاسي. السطورُ عنايةُ العافية بجسدي. أنا والكتابةُ ـ سطوراً، وقُصاصاتِ ورقٍ، وملاحظاتٍ، وتدويناتٍ تسويداً ـ مشيئةُ كل يوم في النهوض من النوم حتى الخلودِ إلى النوم. بين الكتابة على الورقة، والكتابةِ تخيُّلاً للمصائر شعراً ونثراً قبل تدوينها، روائحُ طبخٍ لا أكثر. كل عملي في المطبخ، بعد التسوُّق باكراً في الصباح. لا أغادر المطبخ إلاَّ مساءً لتبييضاتٍ، ثم للجلوس في “كهفيَ” الذي يخصني من البيت، قيَّافاً لِسِيَرِ الحياة الواقعية، والمتخيَّلة، في الأفلام.
لا أحد في حياتي سوى زوجتي، وابني، والكتابة. إن توقفتُ عن الكتابة أكُنْ كمن أضاعَ ذاكرته، وأضاعَ الطريقَ إلى البيت.
لن أتعرَّف عليَّ بلا إقامة في المعضلات أرمي بنفسي فيها، عبرَ كل كتاب، لأجدَ مَخْرَجاً منِّيَ إليَّ.
أنا بغلاصمَ في الماءِ ـ الكتابة. إن خرجتُ اختنقتُ.
أحذر من أن “يستعبدني” بياضٌ غيرُ بياض الورقة
(*) بالرغم من أننا نعيش عصر الازدهار التكنولوجي المدهش، إلاَّ أنك ما زلت تخشى التعامل مع مبتكرات العصر كالكومبيوتر، الذي أسميته بـ “النشيد الخُرافي”، وكذلك الهاتف النقال، “الموبايل”. ما الخطيئة المتجسدة، برأيك، التي ارتكبها الإنسان في اختراعاته الجهنمية هذه؟ ما الهاجس الذي ينتابك إزاءها؟
ـ لا خطيئة على الإطلاق. الأمرُ أنني ضائعٌ بعدُ، بقَدَمٍ في الماضي الذي استحوذت عليَّ بساطتُه “الحبريَّة”، وبقَدَمٍ في التسارع الذي يأخذه أهلُ عصري على البداهة مستحوذةً عليهم “ببساطتها” الغامضة “المروَّضة”.
“كل شيء للنشر بات منكوباً بمواقع “التواصل الهذياني””
لستُ من “المتحفظيْنَ” في شيء عن تغيُّر القِيَم، والأعراف، والأفكار، والعلائق. لكنْ هنالك حَذَرٌ غير مفهوم ـ يلزمه تخطيطٌ من الدَّرس النفسي ـ من أن “يستعبدني” بياضٌ غيرُ بياض الورقة، وأن أستبدل القلم بأصابعي، وأن أجلس على قُرْبٍ في متناول يدِ مَن يريدُ إن حملتُ هاتفاً نقَّالاً.
ولائي للورقة، والقلم الرصاص تخطيطاً، آسِرٌ ونهائي. إنه عَقْدُ “الحياة” “الصارم لا تبديل في بنوده، أو نقْضَ، أو إعادة نظر. كتبتُ الكثير قبل بلوغ عصري آلةَ الكتابة ـ الشاشةَ ذاتَ العمق الكونيِّ منذ عقدين. قبل ذلك كانتِ المخطوطاتُ مخطوطاتٍ ورقاً؛ كان الحبرُ سليلَ الحبر. كلُّ ما حولي أوراقٌ لم أعرف غيرها، وأقلامٌ شتَّى جافةٌ، وسائلة، ورصاصٌ، لم أستبدلها بنقر الأنامل على مفاتيح “الكهوف الرقمية”.
أما الهاتف، الذي كان أداةَ تواصلٍ للضرورات، أو لبعض الثرثرات العذبة أحياناً، فقد بات وسيلةَ غزوٍ واقتحام، ونهبٍ أيضاً: دلَّالون ببضائعهم السمعية. متطفلون. أصوات غير مرغوب فيها. بدَّلتُ رقمَ الهاتف الأرضيِّ برقمٍ سرِّيٍّ لا يعرفه إلاَّ خمسة.
أما البريد الألكتروني فلا تستطلع منه زوجتي إلاَّ على الضروري لإبلاغي به. حنيني إلى الرسائل في مغلَّفات. لكن الرسائل المكتوبة بخط اليد، أو الآلة، باتت، في أيامنا هذه، تُزَجُّ من فورها في معتقلات الـ Facebook. انتهت الحميمية. انتهت المُسارراتُ، والتناجي. كل شيء للنشر بات منكوباً بمواقع “التواصل الهذياني”.
(*) دأبت، في سنوات مضت، على كتابة المقالة الصحافية، بين حين وآخر. مقالات تحمل أنفاس المشقة حسب عناوينها الآنية. ما الذي استدعاك عن عدم الاستمرار في هذا “التمرين” الذي أحسبُ أن كل مقالة كتبتها هي عبارة عن قطعة نثرية لها حُسْنُ البلاغة الأدبية ومن العُمق في الإشتغال تستحق أن تكون مرجعاً لا ينضب لأنك لم تخُنها “حتى في أكثر برهاتها خضوعاً للآنية”.
ـ كتبتُ مقالات أملتْها عليَّ ضرورات الرغبة في كتابتها. وكتبتُ مقالات أُخريات أملتْها عليَّ ضرورات العيش. توقفت منذ أكثر من واحد وعشرين عاماً عن “التكسُّب” بها كما فعلتُ في النصف الثاني من العام 1995 حتى هجرتي إلى السويد. غير أن مقالاتي التي كتبتها كانت لصحيفة الحياة خمس سنين، آنئذٍ، بمقدارٍ لم يتعدَّ مقالتين شهرياً (كانت تلك حدود طاقتي، مع أنني خُيِّرت على أربع مقالات لمُرَتَّبٍ أعلى).
“الرغبة في ذبحِ أحدٍ، أو إحراقِ مدينة، أو محوِ دولةٍ عن بِكْرة أرضها وسمائها، لا تُكْتب”
وأنا، يعرف من اطَّلع على كتابيَّ “الأقرباذين ـ مقالات في علوم النظر”، و”التعجيل في قروض النثر”، وهما مُصَنَّفان من جَمْعِ المقالات، لم أتنازل لكتابةٍ آنيةٍ من لزوم تحصيل معاشٍ، بل بذلتُ فيها ما يجعلها نصوصاً تُحْفظ وتُدَّخَر. وقد وضعت لكتاب “التعجيل في قروض النثر” تقديماً موجزاً عن تخصيصي تلك المقالات بعناية “الأدبيِّ” الصارمة: “ما استجمَعْتُه هنا، من بقايا أثرٍ في الوقت، أخذتُه على محمل الوقت اختباراً حقيقياً بلا ادِّعاء. شذراتٌ هي ما كلمتُ نفسي به، في برهات مَّا، بقليلٍ من عافية الكتابة، أو بكثير، لكنْ بلا خِفَّةٍ قط. نصوصٌ، ومقالاتٌ مُتَحَيَّنُها الجامعُ أنها لم تخنِّي مذ كتبتُها، لأنني لم أخُنها حتى في أكثر برهاتها خضوعاً للآنيَّة”.
طبعي، برمَّته، ليس ميَّالاً إلى كتابة المقالات، وقد ازداد ذلك منذ أدركتُ “بعبقرية” الشيخوخة أن الوقت بات ضيقاً. لا متَّسع الآن، ربما، إلاَّ لخوض “التمرين” الأعظم نبْشاً عمَّا تبقَّى فيَّ من شعرٍ قيَّافٍ، ومن نثرٍ كشَّاف.
لا أستطيع كتابة جزء جديد من سيرتي
(*) كتبت سيرة حياتك، سيرة الصِّبا، وأنت في العشرينات من عمرك، تحت عنوان “الجندب الحديدي” و”هاته عالياً؛ هات النَّفير على آخره”. ألا تعتقد أن هذه السيرة ما زالت ناقصة؟ لقد مضى عليها أكثر من أربعين عاماً. ألا تُفكر في استكمال هذا النقص؟
ـ كل سيرة سيرةٌ ناقصة. تفوتُنا أشياء، أو نقصي أشياء “لا تُكتب”: الرغبة في ذبحِ أحدٍ، أو إحراقِ مدينة، أو محوِ دولةٍ عن بِكْرة أرضها وسمائها، لا تُكْتب. من الفكاهات، مثلاً، حين صدرت “السيرتان” بالسويدية (نال الكتاب جائزة أفضل مُؤلَّفٍ أجنبي تُرجم إلى اللغة السويدية)، توالَت عليَّ اتصالات هاتفية من بَشَر “الرفق بالحيوان”، مندِّدة بالسلوك “الهمجي”، لِمَا في الكتاب من “إهانة” للكلاب، وللقطط، ومن تعنيفٍ أيضاً حتى القتل تعذيباً.
“لا أعرف إن كان عليَّ التعلُّق بوهم جائزة نوبل”
حاولت، من دون جدوى، الشرحَ للمتصلين أننا لم نكن نملك برَّاداتٍ، ومُجلِّداتٍ لحفظ الأطعمة. عندنا دجاج سارح، وأرانب أحياناً، وخُمم ظاهرةُ البيوض فوق قشِّها. أهلنا يحفظون الأطعمة على أرض ساحة البيت، في ليالي الصيف، مغطاة بسلالٍ مقلوبة، مثلاً. الكلاب الوقحة الشاردة، ومثلها القطط اللصوص المحشوة الأوبار بالبراغيث، تتصيد كلَّ شيء: فراخَ الدجاج، والأطعمة، والأرانب. وقد تختطف طفلاً لو قَدَرت.
شرحتُ، على ضربٍ من التظارف، أن الكلاب الشاردة، العقور، المكلوبة، ومثلها القطط، ليست متعلِّمة ككلابهم؛ لم تدخل معاهدَ ككلابهم؛ لا أطباء لها مذ لا أطباء للبشر عندنا أحياناً. لا أطعمة معلَّبة لكلابنا كالأطعمة لكلابهم؛ وطعام كلابهم أفضل، أحياناً، من أطعمة البشر عندنا. بل لا يملك بعضُ البشر في جهات أقاليمنا المشؤومة، الملعونة، أطعمةً تكفيهم.
إنها شروح قد تبدو غامضة لمرَفِّهِيْ الحيوان في سُوَيْدِ”نا”، خذوا هذا المثل من أقوال المغني الأميركي بوب ديلان (حاز نوبلَ للأدب على أشعار أغانيه الأقل قيمةً من أشعار بعض الشعراء المتواضعين في عالمنا). يقول (ببعض التصرف): “بيتٌ لا كلبَ فيه ليس بيتاً”.
ألم يفطن هذا “العبقري” إلى وجود بشَر في عالمه لا طعامَ في بيوتهم ليأكلوا، فكيف يطعمون الكلاب، يا ابن الجرادة؟
لا بأس. أعود، بعد الاستطراد، إلى السيرة. أنت فاتحتني برغبتك أن ترى ذات يوم، جزءاً جديداً من سيرتي. لا أستطيع حتى لو رغبتُ. هناك الكثير مما سأثيره، والكثير من قَلْبِ الأشياء على رؤوس الأشياء، والكثير من الطحنِ إن صَدَقتُ في التدوين، والكثير من الإحراج، وبعض الحرائق العنيفة، وبعض العواصف الرملية، والثلجية. لا أستطيع.
(*) أنت وأنا وُلدنا في نفس العام. في كل مكالمة، تقريباً، بيننا، تقول لي: أخافُ أن تموت قبلي، يا وليد. بعدها سأتيتَّم، من سينضّد كُتبي؟ كيف تتخيل الأمر؟ من منا سيسبق الآخر إلى العَدَم؟
ـ لا أستطيع تخيُّل أن أجلس أمام الورقة لأكتب حرفاً. من سينضِّد الحروفَ لي إن رحلتَ قبلي، يا وليد؟ مَن سيحتمل هذا العِراكَ الضاري في السطور الكُثر، وهذا الهياجَ بضبط الحروف مقيَّدةً بحركات النحو؟
لا ترحلْ قبلي، أرجوك. سأتبعثر. إغرائي لك بالبقاء بعدي هو أنني إن رحلتُ قبلك أرحْتُك بإحالتكَ إلى “تقاعد” عن ملاحقة التنضيدات، والتصحيحات، حتى آخر رمق من كل كتاب.
(*) إنْ حصلتَ على جائزة نوبل أراك ستحتار في ارتداء بدلة “السموكنغ” الرسمية التي يفرضها العُرف في حفل تسليم الجائزة؟ هل خطر لك هذا الأمر، سيما أنك ترتدي دائماً فانيلا بلا أكمام؟
“ما معنى أن يُعَادَلَ تكريمُ الشعر بحضور الشاعر جسدياً؟”
ـ لا أعرف إن كان عليَّ التعلُّق بوهم جائزة نوبل، بالرغم من توقُّعات متكررة في الصحافة السويدية إدراجاً لإسمي المتواضع بين أسماء “أباطرة” في الشهرة. لكنْ لو حدثتِ “المعجزة”، المشكوك جداًّ في أمرها (لستُ ممن تُرْجِموا إلى عشرين أو أربعين لغة)، فلن أمضي إلى الحفل بذلك الثوب الأسود المشقوق الذيل، كسنونوة ترتدي ربطة عنق فَرَاشية. عندي خيار طريف، مُستحَبٌّ.
لهذا السبب رفضتُ جائزة “الأركانة” المغربية للشعر
(*) أنت المقيم الأبدي في بيت خشبي بسطحه القرميدي مُحاطاً بغابة وبُحيرة، في ضاحية من أطراف ستوكهولم، مُحاصرٌ بشجر القيقب والسرو، أشجارٌ تسفُّها رياح الهذيان الباردة، منذ أعوام طويلة، ولم تغادر هذا المكان إلا للتبضع من أسواق قريبة لقرية “سكوغوس”، مُتجانساً، طوعاً، أو قسْراً، معها. وتطويعاً مع هذا “التجانُس” الذي لا يُهادِن أعلنتَ “الحرْبَ” على السفر، لدرجة أنك رفضتَ العديدَ من الجوائز الأدبية التي رُشِّحتَ لها من خارج السويد، على أن لا تغادر مكان إقامتك، ما السر في هذا العِناد الذي لا تشفع له أقوى المغريات؟
ـ هناك بضع جوائز “سهلة” عُرِضت عليَّ فاعتذرت. أكبرها غير “السهلة” هي الجائزة المغربية “الأركانة” العالمية للشعر. عُرِضت عليَّ الجائزة قبل سنين. وأنا، مع تقديري للجنتها، واحترامي لقرارها بتكريم شِعري تكريماً لم يُنجَز، لم أستسغ شرطَها: أن أحضر شخصياًّ لاستلامها.
ما معنى أن يُعَادَلَ تكريمُ الشعر بحضور الشاعر جسدياً؟ الموقف صادم: “تعالَ تَنَلِ الجائزة. إن لم تحضر هي لسواك” (!!!). كيف يوزن التكريمُ بميزان الحضور شرطاً لازماً لإحقاق التكريم أو صرْف النظر عنه؟
رفضتُ الجائزة على حزنٍ مِن “قَتْلِ” التكريم بخنجرٍ من شرط الحضور.
مُعضلةٌ الإيمانُ بالأمكنة
(*)وُلِدتَ وترعرعتَ، في الشِّمال السوري، في “مدينة القامشلي”، وكتبتَ كثيراً عن الشمال السوري المُضيَّع، لكنكَ واسيتهُ بشمال آخر: “الشمال القبرصي”، برواية “الريش”، والثلاثية الرائعة: “عبور البشروش”، و”الكون”، و”كبد ميلاؤس”. مع ذلك، لم يهدأ لك بال لفقدك “شمالك الأول”، فأتيت على الشمال الأسوجي بأعمال روائية أخرى: “السلالم الرملية”، و”هياج الأوز”، و”موتى مبتدئون”. أخطَرَ على بالك، يوماً، أن مستقرك النهائي في هذا العالم سيكون في آخر شمالات العالم ـ الشمال الإسكندنافي؟ هل تشعر أنك أنْصفْتَ الشمال الأول ـ شمال الألم ـ أم استعدته، بنجوى اليأس، مُقايضةً، بإقامتك الأخيرة في الشمال السويدي الفاحش؟
إن أغمضتُ عينيَّ، أو فتحتهما، يكُنِ الشمالُ ـ الجهةُ صورتين: السهول من حول مدينتي قامشلو في الشمال السوري، والبياض المترامي في شمال العالم بآثارٍ من قدَميْ إنسان الجليد عليه.
ظننتُ أنني “أروِّض” الشمالَ استحواذاً عليه في مكان واحد، حيث ولدتُ. خصَّصتُه بالكثير من
“أنا متَّجه إلى الشمال كإبرة البوصلة في الفخر الفيزيائيِّ بالجاذبية”
العودة إليه بشبحي: شمالٌ فوضى أرتِّبه. شمالٌ منتظم أبعثره. لا قانونَ إلاَّ الخيال حاصداً ما يقْدِر على حصاده. لكنني فوجئتُ بما يجاوز تقديري: أنا متَّجه إلى الشمال كإبرة البوصلة في الفخر الفيزيائيِّ بالجاذبية.
قبرص الجزيرة لم تكن شمالاً على التحديد، بل خابيةً ملأتُها بنبيذٍ من شمال قلبي السوريِّ، قبل الهجرة من جزيرة النحاس، منذ إحدى وعشرين سنة، إلى شمالٍ آخر على قُرْبِ أشبارٍ من نهاية الأرض، التي إن ظلَّلتُ عينيَّ بيديَّ من الشمس المتقشِّفةِ ضياءً، أو الركيكةِ ضياءً، لاستطعت رؤيةَ الدِّببة البِيْض متزلجةً تلهو على الجليد، بعد شبعٍ من التهامها فراخَ حيوان الفقمة.
الإيمانُ بالأمكنة معضلةٌ. الحنينُ معضلةٌ. نحن بَشَرُ المُعضلات.
(*)تلك العربة بعِجالها الصغيرة، التي تسحبها، مرتين في الأسبوع، من البيت إلى سوق النِعمة، لتتبضَّعَ ما يحلو لك من مغانم البشر وكراماتهم، لتملأها بما تشتهيه أنفاسك. هل حسبتَ الأميال التي ولولت تحت صرير العِجال سحباً طيلة الأعوام، منذ اخترت “سكوغوس” ـ حذاء الوزَّة ـ مقاماً في بيتك القرميدي؟ هل أنصفتَ هذه العربة، في كتاباتك؟
كل سبعة أشهر تلزمني عربة جديدة. لا تصمد واحدة أكثر من ذلك جيئةً وذهاباً من البيت إلى مَتْجَر الضاحية، أربع عشرة دقيقة ذهاباً، ومثلها إياباً. قرب بيتنا الجبليِّ، الواقف على نهدٍ كبير من الصخر بين الشجر، منحدرٌ عنيف. النزول عليه سهل في اتجاه مركز الضاحية ـ السوق،
“لن تستطيع المدائحُ اللحاقَ بالعربات، ولا تستطيع المراثي اللحاقَ بها”
لكن صعوده مرهِقٌ. قماشُ العربة الجاسئُ، وعجلتاها الشاعريتان، لا تحتملان طويلاً ذلك الثقل الذي يُحْدِثُه صعودُ الهضبة، من تراخي الأحمال إلى أسفل.
لن تستطيع المدائحُ اللحاقَ بالعربات، ولا تستطيع المراثي اللحاقَ بها. أحمل واحدة كل بضعة شهور إلى مقبرة الموتى المعدنيين، المرفَّهة بآلات تلفاز مرمية لم تَمُتْ بعد، بل ارتأى أصحابُها شراءَ جُددٍ.
ليتني امتلكت عربة رومانية ـ إغريقية بجوادين، أو حماراً قبرصياً مُمَجَّدَ النَّسل بين حمير البحر المتوسط.
(*)لا تُخالفُ عادتك في عشقك للشواء، حين يأتمنك اعتدال طقس النهار، نهاية كل أسبوع، بشمسه المُخاتلة، فتستدعيك شهواتك إلى جفنة الشواء كي تملأها فحماً طرياً، فتُسلِّم اللحوم لأقدار النار بعد أن تكون قد أعطيتَها حقها من تقطيعٍ وتتبيل مُمرَّغة بكل أفاويه الكون المستطابة ومُنكَّهة بالنبيذ والزيت. ماذا تقولُ للرماد بعد استكمالك الشواء، وهمود سقسقة الفحم؟
أنا مُدْمِنُ شواء. مهووس بالشواء. مؤمن بمذهب الشواء. خرِّيجُ مدرستهِ عِلْماً من مفاخرِ علوم الأطعمة.
لي موعدٌ مع مَوقِدي الطويل السيقان كلَّ جمعةٍ، في حديقة البيت الصغيرة. للجمعة ربما معنى صلاةٍ في الدخان. لا يفوتني هذا الموعدُ صيفاً (كل صيفٍ هنا مُهانٌ، رثٌّ، مُستَلَبٌ ومطعون) وشتاءً. المطرُ وحده يؤجل موعدي مع الموقد. الثلج خفيفاً لا يؤجله. أحمل المظلة عاليةً فوق النار فلا تخذلني النار.
أُتبِّلُ اللحومَ (كفتةً كباباً، وأضلاعاً، ودجاجاً صدوراً وأفخاذاً) أكثر من أربع وعشرين ساعة. دورةُ التوابلِ الشقيقاتِ الزمنيةُ تكتمل في بثِّها اللحومَ غَزَلَ الأفاويه كاكتمالِ دورة الليل والنهار. وأنا أهذي طوال الوقت، بين التَّتبيل وموعد الشواء: مولايَ، أيها اللحم.
(*)في روايتك “الكون”، ثمة غزلٌ شفيف بشحم الضأن يُسيلُ لُعابَ القارئ، وينقله إلى خيالٍ تتطاحنُ فيه ولولة الإلية بعد تقطيعها وشكَّها في السَّفود، وشيِّها لتُعانِد النار تقليباً، مُدغدغة فتنة الشَّميم حتى وصولها موهوبة الطعم لا يُخطئها الفمُ. ما هذه الرغبة الجامحة في عشقك للشحم؟ هل ما زلت تؤمن، كما كتبت يوماً، أن “الشحمَ يُليِّن الطبائع، ويجعل المرءَ بَسْطةً في الإلهام”، فيأخذ الشعراء بقسط الصور الأكثر إعجازاً يا مُصارع الكُولسترول تذويباً بالأثقال الحديد؟
لن يُقنعني أحدٌ من نُظَّار الأطعمة، ومفكِّري أقسام اللحم في جسم الحيوان، وموسيقيِّي الطهو في أفران الغاز، أو على النار الكهربائية، ورسَّامِي الأبخرة الصاعدة من القدور ـ لا أحد يقنعني بكرامةِ مَضْغٍ أجَلَّ قدسيَّةً من مضغ الشحم مشوياً بين الأسنان. ذلك الطلاء الزيتيُّ على باطن
“لا أحد يقنعني بكرامةِ مَضْغٍ أجَلَّ قدسيَّةً من مضغ الشحم مشوياً بين الأسنان”
الفم، وعلى الأسنان، وعلى الشفاه، لا تشبهه إلاَّ قُبْلةٌ طويلة تُصْرَف عن غُلْمةٍ عنيفة.
تلك الصِّمغيَّةُ غيرُ الدَّبقة (مثل صمغ الرَّاتينج في شجر الصنوبر) هي الجوابُ الأحقُّ على جدوى الخَلْق من شحمٍ، لا من شيء آخر.
النُّطفةُ الشحمُ. الرحمُ الشحم. الفردوس بمقاصيرَ من شحم، وحدائق من شحم، وأنهار من شحم. فردوسُ شواء الشحم بلا توقفٍ على فحم اللذة. فردوس بلا كولسترول.
أسمعتم بشيء من الأطعمة الأطايب، اللذائذ، الفاجرةِ إمتاعاً، لم يُدَسُّ فيه سُمٌّ؟
عافيةُ الجسد أسيرةُ كلِّ ما لا طعمَ له، أو لذة فيه. إنها مُفَارقةُ المصادفات المُنتقِمة.
فلْيملأِ الموقدُ رئتيَّ بقَتار الشواء، ولأكُن ديوانَ الفحم.
(*)تقضي، حسب علْمي، نصف نهارك في المطبخ. ما الشيء الأقرب إلى روحك في محتوياته؟
المكان الذي لا ينازعك أحد عليه، متفرِّداً بامتلاك خزائنه، وأدراجه؛ قديراً في إدارة النار، وقيادة التوابل، مطمئناً إلى ولاء السكاكين، بحاشية من الصحون الجليلة فيه تعاقَبَ عليها المذاقُ المفكِّر من أسرار الطهو المُعْلَنة ـ هذا المكان، مطلَقاً، هو إمبراطوريتك.
البلاط ـ المطبخ هذا صغيرٌ، ليس كبلاط الملوك، لكن قد تدفن على المنضدة فيه ألفَ ملك في مقابر السطور.
أكتب في المطبخ ما سيجري التعديلُ فيه مساءً على توزيع المحاربين الفرسان على خيولٍ، وعلى أفيالٍ؛ وترتيب المدافعين بالأسلحة الكبار على أجناب المعاني. أقرأ في المطبخ، لصق النافذة المطلة على الحديقة، وأبعدَ من الحديقة، حيث تزور الغزلان شجرة التفاح المقابلة لدارنا، وتتخاصم العقاعيقُ على كل شيء، وتتبارى السناجب في تلفيق الجَمالِ قفزاً من غصون شجر العفص إلى السياج الخشبي.
أطهو في المطبخ (بالطبع) أصنافاً، مُذ لكل فرد في العائلة ـ نحن الثلاثة ـ ذوقٌ يخصُّه.
عليَّ أن أختصر هذا الجواب، فأستعجلَ: أسمعُ نداءَ الباذنجانة.
(*)تطهو كل يومٍ، تقريباً، لكنك تُمارس سحر طقسٍ لم يتغير يوماً في ما قبل وضعك الطنجرة على عين النار بأن تُلاعب رغوة الجعة مُثلَّجة، مُمرَّغة “بكشتباناتٍ” ملعونة من كحول الأزل الاسكتلندي. ما الذي يوحيه لك هذا الطقس الأزلي؟ وفي المساءِ، أيضاً، بعد قيلولة مباركة تلي وجبة الغداء، تنزل السلم إلى الأسفل لتُبارِكَ المشرحة الخشبية ـ طاولة الكتابة ـ لتبييض ما نسجتَه من كلمات قلقة على برَكة الورق نهاراً. ثمة، بعد الهبوط، “أفُقٌ نبيذٌ في كأسكَ أيها الوجودُ الغاضب”. كؤوس الخمرة الحمراء فقط. ما حظوظ الخمرة في إبداعك الأدبي؟
الجِعة ـ إن تكلمتِ الحروفُ في أمرها ـ استنفدتْ ما استنفدتْهُ العرب من الكِهانة على حرف “حتَّى”. أُحبها مثلجة جداً، لرغوتها كُسَارةُ الجليد المطحون حين سَكْبها في القدح. لكنها تأتي تاليةً على كأس منتصف النهار من الشراب الإسكتلندي ممزوجاً بقليلٍ من “فيرموث”. في الليل. نعم: “أفقٌ نبيذٌ في كأسك، أيها الوجود الغاضب”.
حظُّ الخمرة ليس ما يُكتب عنها، بل أثرُها: في كل سطرٍ عندي شهيقُ زجاجةٍ يسمعه القارئ.
(*)ضع وصفاً، أو شرحاً فيه شيء من الغزل الأفروديتي لبعض التصنيفات من التوابل والخُضار التالية: الكاري ـ إكليل الجبل ـ الفلفل الأسود ـ الحبة السوداء ـ الرند “ورق الغار” ـ نعناع يابس ـ العصفر ـ السمَّاق ـ اليانسون ـ الزعفران ـ القرنفل ـ الملح. الليمون ـ الثوم ـ البصل ـ الجرجير ـ البقدونس ـ الباذنجان ـ البامياء ـ الكوسا ـ الملفوف ـ الكزبرة ـ القريدس ـ الصعتر.
الكاري: غناءٌ هندي. إكليل الجبل: ثغاء معزاة الشاموا. الفلفل الأسود: الميزان. الحبة
“أكتب في المطبخ ما سيجري التعديلُ فيه مساءً على توزيع المحاربين الفرسان على خيولٍ، وعلى أفيال”
السوداء: أسمعُها مترجمةً إلى الكردية: كِشْنِيْشْ. العصفر: خصومة. السماق: طربُ الحُمرة. اليانسون: عَصَبُ المتردِّد. الزعفران: هياجٌ خافت. القرنفل: سُكْرُ الزهر. الملح: الإرادة. الليمون: إغلاق الكتاب. الثوم: السطوة. البصل: مَطْلِعُ العِلْم. الجرجير: دلَّال. البقدونس: عَتَبٌ نباتيٌّ. الباذنجان: قناعُ البياض. الباميا: رحلةٌ ما لم تُكتب. الكوسا: السكون. الملفوف: عناقٌ متلاحق. الكزبرة: وَسَنٌ. القريدس: قيثارة الماء. الصعتر: إشكالٌ ناعم.
ليس للنشر
(*)مضى على تأليفك كتاباً عن الطبخ، خمسة عشر عاماً. كتاب ما زلت أحتفظ بمخطوطته التي كتبت على غلافها “سرِّي جداً”. كتاب روَّضت فيه “المشتهيات” المنذورة للملح وسياسته ومذاهبه، وحيله أيضاً. تعاليم في كيفية إعداد بعض الوجبات الغذائية المعروفة منذ أمد بعيد. أطعمة لم تجترح لها مُخيَّلة شرهة أو مُخترعة حسب مختبر مطبخك. أكلات لم تجتزْ “سُلطة مطبخك التي تديرها توابل استخبارات تعكف على التجسس على الشغب العَذْب للَّحوم والخُضار”. طعامك مُسالم، رغم أنك تنتبه لدقة شفرات سكاكينك التي تجرح الخيال، مع أنك تتميز “ببلاغة خاصة في اختراع الممكنات” مما تشتهيه النفس، وممَّا لا تبخل به الطبيعة. طالما ترى أن “كل شيء قابل لأن يُطبخ: السماءُ ذاتُها، ستؤكل، ذات يوم، مطبوخة أو نيئة، لكن مملحة”. كتاب غريب منحتني الحق في دفعه إلى النشر في حال عبرتَ قبلي إلى الأبدية.
كانت تلك فكرةُ ناشري السويدي. أحبَّ طهوي في زياراته لي ـ هو الذي لم يستطع إخراجي من البيت دعوةً تلوَ دعوة. لم أتحمس للأمر، ثم رأيته مثيراً: أردتُه على نسق غير مسبوق في كتب الطهو. لا أعني وصفات الطعام، التي قد تكون عادية، بل تركيبته. ملأتُ الحواشي، والهوامش، من حول الوصفات بمقتبسات من الأدب القديم، والتاريخ، والأشعار، والطرائف النوادر. حين أنجزتُ ما أنجزتُ فترت حماستي للكتاب: كان يلزمه الكثير من التفرُّغ، فاعتذرتُ للناشر: (لا أريد نشره)، بعدما وزَّعه على مترجِميْنِ مناصفةً. أدركتُ أنني قد أندم على نشره بلا تجهيزٍ قويٍّ مُحْكم. هناك ثلاث نسخ مصوَّرة منه. واحدة عندك، واثنتان عند المترجميْنِ السويديين. أتلفتُ مخطوطتي. لا تنشره، يا وليد، إن سبقتك إلى الموت.
(*)في السويد، نقتفي، نحن أبناء الشرق، أثر الشمس صيفاً وهي تُخاتل مُحبيها، مثل لاعب الأكروباتيك بين هذيان الغيوم الكثيفة. لا صيفَ بطرانَ في أرخبيل الشمال الأسوجي، فأقول لك: يا سليمو اليوم الطقس مشمسٌ، فتقول لي: أنا حجبتُ شباك المطبخ بستارته كي لا أسمح للشمس أن تغزو مطبخي. أثمة ثأر لديك من شمس السويد نكاية بلجاجة شمس الشرق المعصومة؟
شمس السويد لا تحتاج إلى ثأر. هي مستسلمة. مضطربة عصبياًّ. موهَنة. مسلوبة. في مستطاع أية غيمة نَكِرة أن تنتزع منها إرادتها.
لشمس السويد اسمُ الشمس. لكنَّ الأرجح أنها لا تستفيق من سبات الدِّببة الشتائي: نارُها في سُباتٍ.
(*)ماذا يعني لك مفهوم “التملك”؟ ما هي الأشياء المادية التي تعزُّ عليك وتأسف لفقدانها؟ ماذا تعني لك حالة “الفقدان”، بمفهومه الأعم. من تألمت لفقدانه ورحيله عن عالمنا واعتبرته خسارة بحق؟
لا يعنيني من التملك إلاَّ أمران: تحصين الوقت الذي يخصُّني، والعزلة كي لا “أُقتَحَم”.
فقدتُ محمود درويش. كان “من حولي” أبداً، لا يكفُّ عن عروض سخائه. كان “منزله” يجاور منزلي أنَّى انتقلتُ. كان ينقله حيث أحلُّ. أرى غُرف بيته، وجدرانه، في صوته على الهاتف اتصالاتٍ لا تنقطع. جُرِحْتُ إذ رحل. لم أستمع إلى الموسيقى، التي تصاحبني عادة في العمل مساءً، طوال سنتين.
(*)ما هي الضروريات التي لا تستغني عنها في حياتك، وماهي الأشياء الكمالية التي تعتبرها لا تشكل ضرورة لك؟
شرابي، وورقي، وأقلامي، والوقتُ مرقَّماً كمقياس الحرارة الزئبق. لا ضرورات أُخَر. الوقت من سطورٍ لا من ذهب.
(*)تميل إلى العُزلة بشكل مُفرط. لا تقيم علاقات اجتماعية خارج محيط عائلتك الصغيرة. حتى التواصل عبر الهاتف مع الآخرين مُقنَّن، ومحدود جداً. ترفض المقابلات الصحافية. ترفض إنتاج فيلم وثائقي عن حياتك وعالمك المُعاش. هل تخاف من حالة “تطويق”، مثلاً، من الآخرين وتعتبره فضولا لا لزوم له؟ هل يسلبك هذا التواصل مع الآخرين حريتك الشخصية؟
فلأعترفْ: لا أفهم نفسي أحياناً. لكنني أتقبَّلها هكذا. لستُ سريع البديهة. لستُ بارعاً في
“شمس السويد لا تحتاج إلى ثأر. هي مستسلمة. مضطربة عصبياًّ. موهَنة. مسلوبة. في مستطاع أية غيمة نَكِرة أن تنتزع منها إرادتها”
المخاطبات. بعد نصف ساعة من الأحاديث أحسُّ أنني استنفدتُ نفسي؛ أُفْرغتُ. بدل أن يصير كياني خفيفاً بعد أن “يُفرَّغ” يغدو ثقيلاً عليَّ. محاورة في عشر دقائق، مثلاً، ستظلُّ تطن كذبابة في رأسي شهراً.
ربما هو الخوف من الخطأ في ارتجال المخاطبة. لكنَّ الحياة ارتجالٌ من المخاطَبات. ماذا أفعل؟ تقبَّلتُ نفْسي هكذا. فات الأوان على غير ذلك.
(*)هل استهوتك، يوماً، آلة موسيقية، وتمنيت لو تعلمت العزف عليها؟
لا. تمنيت أن أعزف على الصِّوَر مُخْرجاً سينمائياًّ، أو أعزف على أوتار التوابل طاهياً.
(*)ما الذي يستهويك في عادة تجميع السكاكين؟ هل امتلأ ذاك السطل الخشبي القديم بما تراكم فيه ممَّا جمعته من سكاكين لحد الآن؟
الهوايات تشيخ. عندي سكاكين محتارةٌ لِمَ اقتنيتُها. مُغلقٌ عليها في خزْنة لا أعرف إن كان ظلامُها ظلَّ الحدَّاد الأول معتكفاً على الجمر يشوي الحديد.
تمزيقُ المكان
(*)مضت سنوات طويلة على إصدارك لثلاثة أعمال روائية مهمة دارت أحداثها في مدينة “القامشلي” المتنوعة الأعراق، مدينة ولادتك وصِباك، وهي روايات: “الريش”، “معسكرات الأبد”، و”فقهاء الظلام”، لتعود، من جديد، إلى مدينتك “القامشلي” بأحدث عمل روائي ضخم ألا وهو: “ماذا عن السيدة اليهودية راحيل”، عن الترحيل القسري ليهود سورية ارتباطاً بأحداث حرب 1967. أما زالت فكرة الاقتلاع القسري والمصائر التراجيدية لبشر لا علاقة لهم بتلك الأقدار المُنزَّلة عليهم بالإكراه، تشكل لديك هاجساً كابوسياً يدعوك للاقتصاص من التاريخ، ومن ذلك المكان المُضيَّع؟
بلدان عبقرية في الإغراء بالهجرة منها، والكفر بها. بلدان الإهانة أرضاً وسماءً.
ما الأقدارُ التي صَرَفتْها أمكنةً لعيش بَشَرٍ فيها؟ كتبنا مراراً عمَّا لحق بجميعنا من الإهانة الطاحنة. ولتكتمل الصورةُ بحذافير شقائها أحضرتُ إلى الرواية، هذه المرة، يهوداً مواطنين من مدينتي، سلختهم العصبية الدينية بسكينٍ، والعصبيةُ القومية بسكين، فهاجروا مثلنا هاربين.
(غوتنبرغ ـ السويد)
ضفة ثالثة