هل انتصر بشار الأسد؟/ علاء الدين الخطيب
انتشرت خلال السنتين الماضيتين مقولة أن نظام الأسد الفاشي قد انتصر في سوريا، وبعد الأحداث الأخيرة في الشمال السوري من إدلب إلى المالكية، سادت هذه الفكرة أكثر؛ فهل فعلا انتصر الطاغية؟
لا يوجد الآن منتصر في سوريا بعد أكثر من نصف مليون ضحية قُتلوا، وأضعافهم أصيبوا، وأكثر من ستة ملايين هُجِّروا خارج سوريا لاجئين يعانون مرارة الفقر والألم والاضطهاد؛ وأكثر من خمسة ملايين نزحوا داخل سوريا، يتشاركون مع بقية من خمسة عشر مليون سوري معاناة الفقر والبرد والفساد وتسلُّط مليشيات التشبيح ومافيات الإجرام تحت حكم نظام مُتخِمٌ بالفساد والعنف؛ كل هذا بدون ذكر الخسائر المادية الهائلة، والبنية التحتية المدّمرة، وتسلّط الجيوش الأجنبية على الأراضي السورية.
قد يُقال بل هناك انتصار، فها هو الغرب ما زال يحتفل بانتصاره على النازيين والفاشيين رغم مقتل عشرات الملايين، وفيتنام تحتفل بانتصارها على الأمريكيين رغم مقتل ملايين الفيتناميين، وغيرهم أيضا.
يتناسى هؤلاء أن ذلك قياسٌ فاسدٌ ومضلِّلٌ، فتلك كانت حروبا بين جيوش جرارة تقتحم أراضي دول أخرى؛ ومع ذلك، وحتى لو قالوا إنها انتصار، إلا أنه كان انتصارا مريرا مؤلما جدا. أما في الحروب، إن جاز أن نسميها حربا، بين أهل الوطن الواحد فلا انتصار هنا لأي فريق، وخاصة يوم يتم توظيف الانتصار المُدّعى في إطار تقديس زعماء وأحزاب. فمن المُخزي على أي سوري مهما كان موقعه، ومهما كان الفريق الذي نال السيطرة العسكرية، الاحتفال بنصر فوق كل هذه الدماء والآلام والقهر.
بكل الأحوال لنفترض، رغم عبثية ذلك، أن نظام الطاغية سيطر عسكريا على غالبية الشمال السوري أو كله، فضمن المعايير الموضوعية والافتراض السابق، هل يكون منتصرا؟
من الثابت والمُسَلِّم به أن النظام ما كان ليبقى قائما لولا مشاركة حليفيه اللذين تعهداه، روسيا وإيران، مشاركة كبيرة وأساسية، تجاوزت الدعم بالمعنى المعروف بين الحلفاء. مع ذلك يمكننا التغاضي عن هذه الحقيقة، ويبقى ادعاء النصر مع الحلفاء ممكنا.
بالإضافة لذلك، لا يمكن لأي دولة وبعد حرب خاضها أبناؤها ضد بعضهم وأدت لمقتل وإصابة 5 بالمئة من سكانها، وتشريد ربعهم خارج الدولة، ونزوح ربعهم داخل أراضيها، أن تدَّعي انتصارا. عندما انتهت حرب رواندا الأهلية، لم يُقال انتصر هذا الفريق أو ذاك، بل انتهت أسوأ حرب أهلية عرفتها إفريقيا في القرن الماضي؛ وعندما وضعت حرب لبنان الأهلية أوزارها لم يقل أحد أنه انتصار لفريق دون فريق أو حتى للبنان، لكنها كانت نهاية أسوء حرب أهلية في الشرق الأوسط خلال القرن الماضي.
أما من الناحية المادية، فبالإضافة لكمية الخسائر الهائلة في البنية التحتية وفي الاقتصاد السوري عموما، والتي تصل لمئات مليارات الدولارات، فإن ما اتضح مؤخرا، وعبر قنوات النظام ذاته وليس مجرد ادعاءات عليه، أن كمية الثروات التي كسبها أغنياء الحرب، ضمن دائرة النظام فقط، ثروات هائلة ما كان لهم أن يمتلكوها في أيام السلم. مما يطرح السؤال الجوهري هل فعلا تم صرّف كل ما راكمه النظام من ديون على سوريا لحساب إيران وروسيا كان فعلا لخدمة ما يسميه هو “دولته السورية وجيشها”؟
يمكن القول إن الضغط العسكري على النظام قد تراجع كثيرا مقارنة بالفترة حتى بدايات 2016، مع ذلك فإن النظام لم يُظهِر أو يقوم بأي محاولة حقيقية خلال أكثر من عامين لإعادة هيكلة الدولة كمؤسسات ووضع تصورات وخطط ودراسات حول كيفية مواجهة المستقبل بحال تخلصه من ضغط المواجهة العسكرية والأمنية؛ لم يكلف أي لجان مختصة بوضع خارطة طريق لإعادة بناء الدولة والاقتصاد، وكل ما فعله كان تقديم بضعة عقود مشاريع بناء لشركات يملكها المحسوبين عليه أو حلفائه الإيرانيين والروس، من خلال بنية الفساد المترسخة التي يقوم عليها في قرارات ارتجالية لا تستند إلى أي خطة متكاملة لإعادة البناء.
لننظر الآن لأهم معيار تقييميٍّ للانتصار. إن أهم الأسس التي تقوم عليها الدولة، وضمن أي تعريف، هو الشعب الموافق على انتمائه لهذه الدولة؛ وبالتالي فإن أهم معايير تحقيق الانتصار هو وحدة هذا الشعب في انتمائه للدولة.
لنقبل، من باب الجدل فقط، بأن ثلاثة أرباع السوريين مع النظام كمتزعم للدولة؛ لكن الحقيقة المرّة تبقى جرحا نازفا في جسد سوريا، إنها حال التشظي الشاقولي الهائل بين مكونات الشعب السوري، الذي لم تواجهه سوريا في تاريخها كله، تحت أي حكم أو سلطة محلية أو خارجية، وضمن أي حدود كانت. الاحتقانات الطائفية والقومية والمناطقية والسياسية وحتى الطبقية، احتقانات لا يمكن لعاقل أن ينكرها، بل حتى أن من ينكرها يشكل إضافة وتعميقا لها.
النظام لم يفعل شيئا لدراسة وتحليل هذه الشروخ بين السوريين، بل استمر في تكرار اسطواناته المشروخة حول “التفاف الشعب حول القائد المعجزة” وحول أوهام نظريات المؤامرة “الكونية”؛ فهو لم يسعى لتشكيل أي لجان علمية اجتماعية ونفسية وسياسية تدرس حال التشظي السوري، وتقترح الحلول والوسائل؛ هو لم يحاول حتى فتح نقاش إعلامي بين الناس، بل اكتفى ضمن دعايته الإعلامية الموجهة للخارج في ادعاء العَلمانية الكاذبة، وادعاء مواجهته للإسلام المتطرف، السّني فقط دون الشيعي فحلفاؤه يتاجرون بالإسلام الشيعي المتطرف مقابل تجار الإسلام السني المتطرف، من خلال نقاشات دائرية حول القاعدة والتكفيريين، وهي التي أصبحت بضاعة تجارة إعلامية، نفهم رواجها ضمن سوق الإعلام التجاري، لكن من المستحيل قبولها عند من يدّعي أنه يمثل شعبا تطحنه الشروخ الدينية والطائفية والقومية.
وما يعلمه الجميع من خبرة عقود طويلة، هو أن النظام سيتجاهل كل المشاكل الاجتماعية والانتمائية والعاطفية والوطنية للناس، بحجة مواجهة المؤامرة “الكونية الكبرى” عليه “كمقاوم ممانع”، وكذبة أولويات “المعركة الكبرى”؛ بالواقع هو من أول مظاهرة احتجاج ضده في 2011 فعل وسيفعل مثلما فعل الطاغية الأب بعد تمرِّد الإخوان المسلمين المسلح في بداية ثمانينات القرن الماضي، استغل وسيستغل هذه الشروخ ويعمّقها أكثر لضمان استمراره وفق مبدأ، فرق تَسُد.
ومرة أخرى، حليفا الأسد نظاميْ روسيا وإيران، المُفترض بهما نظريا مساعدة النظام في تحقيق الانتصار من خلال إعادة بناء وتأسيس الدولة السورية، هما أساسا يديران دولتين فاشلتين تعيشان تحت رحمة أسعار النفط والغاز الطبيعي، متخمتين بالفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.
لا بد أخيرا من توضيح أن كثيرا ممن تسلموا مناصب قيادة المعارضة السورية، وغالبية من قيادات وموجّهي الفصائل المسلحة التي ادعت محاربة النظام، مسؤولة بعد النظام الأسدي عن كل هذه الكوارث، رغم أن مسؤوليتها تبقى أقل بكثير من النظام الأسدي. فللأسف أن كثيرا من قادات المعارضة وإعلامها والإعلام الإقليمي والدولي ساهموا أيضا مع النظام في ترسيخ أكبر تحدٍ ستواجهه أي دولة سورية ناشئة، وهو التشظي العنيف بين مكونات السوريين.
إن كان من انتصار في سوريا، فهو أن يتمكن السوريون من التجمع قدر الإمكان معالجين ومتجاوزين للشروخ التي تفرقهم، في سبيل تأمين مستقبل جيد لأطفالهم دون تقييمات سياسية وطائفية وقومية، وضمن دولة ناضجة واعية تعرف في أي عصر وزمن تعيش وكيف يمكن بناء الدول المستقرة. وهذا ما يستحيل على النظام الأسدي مع حلفائه فعله.
بروكار برس