الثورة السورية بين الصلابة الجذرية والمرونة السياسية/ حسام الدين درويش
مع تزايد المعلنين، بحقٍّ أو بدونه، عن نهاية الثورة أو فشلها أو اغتيالها، تبرز الحاجة إلى القيام بمراجعاتٍ نقديةٍ لهذه الثورة، وللأسباب التي أفضت إلى تلك “النهاية”، الفعلية أو المزعومة، ولفكرة “نهاية الثورة”، بحد ذاتها. وعلى الرغم من أن القيام بهذه المراجعات يستلزم جهدًا نظريًّا كبيرًا، يتخذ صيغة الكتب والأبحاث والنصوص المطوَّلة، ويأخذ في الحسبان العوامل، الداخلية والخارجية، المتعددة والمتشابكة، التي أفضت إلى تلك النهاية الفعلية أو المفترضة، فلا بأس من أن يتم استهلالها بمقالاتٍ، قصيرةٍ ومكثفةٍ، تتناول جانبًا ما، تمهيدًا لتعميق هذا التناول وتوسيعه لاحقًا. ومن الجوانب المهمة التي يمكن القيام بالمراجعة النقدية على أساسها، جانب مدى (عدم) تحليها بالصلابة الجذرية و/ أو المرونة السياسية، وتأثير ذلك في سيرورتها ونتائجها وآفاقها.
الجذرية هي سمة كل فعلٍ ثوريٍّ. فالثورة، بالتعريف (اللغوي)، هي تغيير جذريٌّ أو سعيٌ إلى إحداث تغييرٍ جذريٍّ. فالجذرية أو الثورية تعني التطرف في الغايات، والذهاب إلى أقصاها، بوصفها النقيض الإيجابي للواقع المرفوض. لكن لا يمكن للثورة، في الميدان السياسي، أن تقتصر على الجذرية، بل لا بد أن تتحلى بالمرونة السياسية الضرورية في هذا المجال. فالسياسة مجال الممكن، أما الثورة فهي سعيٌّ إلى ما قد يكون أو يبدو مستحيلًا. السياسة ميدان المفاوضات والتسويات التي قد تقتضي التنازلات المتبادلة للوصول إلى حلولٍ ترضي جميع الفرقاء قدر المستطاع. وعلى العكس من السياسة التي يُفترض أن تكون عقلانيةً، فإن الثورة فعلٌ إرادويٌ، حتى لو لم يكن إراديًّا. وعلى الرغم من التناقض، الظاهري على الأقل، بين الثورة وجذريتها من ناحيةٍ، والسياسة ومرونتها من ناحيةٍ أخرى، إلا أن نتائج الثورات مرهونةٌ جزئيًّا ونسبيًّا، بمدى القدرة على إقامة جدلٍ بنَّاءٍ بين هذين الطرفين المتمايزين. فإلى أي حدٍّ تحلت الثورة السورية بالجذرية و/ أو المرونة السياسية، “المطلوبة” أو المناسبة، في السياقات المختلفة؟ ومتى كان هذا التحلي مناسبًا أو غير مناسبٍ؟ وإلى أي مدى يمكن تفسير نتائج الثورة أو “نهايتها” بهذا التحلي. ليس هناك إجابات جازمة عن مثل هذه الأسئلة، وسأكتفي، فيما يلي، بمناقشة بعض الإجابات الممكنة والشائعة عنها، مع التركيز على “العوامل المحلية والذاتية”، وغض النظر، في السياق الحالي عن دور العوامل الموضوعية والخارجية، على الرغم من أهميتها البالغة وتأثيرها الهائل والحاسم، في كثيرٍ من السياقات.
لقد اتسم الحراك الجماهيري السوري بالجذرية من ناحية اتخاذه “إسقاط النظام” هدفًا له. وسرعان ما أعلنت “نخبٌ” معارضةٌ كثيرةٌ تبنيها لهذا الهدف. فهل كان تبني هذه الجذرية تجاه النظام مناسبًا؟ ألا يتجاهل هذا التبني “موازين القوى” وطبيعة النظام، وهو ما أفضى بالثورة إلى الفشل، كما يحاجج كثيرون؟ وإذا كان تبني المتظاهرين لهذا الشعار/ الهدف مفهومًا ومقبولًا، ألم يكن تبني النخبة السياسية المعارضة لهذا الهدف/ الشعار نوعًا من الشعبوية الممجوجة والسيئة التي انحطت إلى مستوى “انفعالات العامة”، بدلًا من أن ترتقي بالثورة إلى عقلانية السياسة الواعية؟ ألم يكن حريًّا بالثورة أن تقتصر على السعي إلى تحقيق ما هو ممكنٌ، بدلًا من أن تحكم على نفسها بالفشل، بسبب سعيها إلى تحقيق ما هو مستحيلٌ؟
للإجابة عن مثل هذه الأسئلة الخطابية التي يمكن طرحها عمومًا، ويطرحها بعض “معارضي المعارضة” خصوصًا، يطرح رافضو هذا المنطق أسئلةً خطابيةً مضادةً، من نوع: هل يمكن لثورةٍ أن تحصل في ظل الخضوع لموازين القوى؟ هل تحلّى النظام الأسدي بحدٍّ ادنى من المرونة السياسية ليسمح بتحلي الثائرين عليه بتلك المرونة؟ الثورة ثورةٌ، لأنها تتبنى موقفًا يسعى إلى التغيير الجذري ويرفض (الاستمرار) في الخضوع والانصياع للتخييرات المعروضة أمامه. وفي الحالة السورية/ الأسدية، اتخذت التخييرات صيغة “الأسد أو نحرق البلد” أو “الأسد أو لا أحد”. ولم تكن هذه التخييرات مجرد شعاراتٍ، بل جسدت المبدأ الذي وجه أفعال السلطة الأسدية، في مواجهة الرافضين لها والثائرين عليها. لم يكن بإمكان المعارضة الفعلية والسعي إلى التغيير، في سوريا، إلا أن يكونا ثورةً، أو سعيًا إلى قيام هذه الثورة، لأن النظام أقفل كل مجالٍ للسياسة، ولأي مرونةٍ سياسيةٍ. تصلُّب النظام أو تعنته هو الذي أفضى إلى ضرورة الجذرية الثورية.
والأسئلة الأساسية المطروحة، في هذا الخصوص: كيف يمكن السير في طريق التحوُّل الديمقراطي، حين يرفض النظام المستبد السائد كل محاولات الإصلاح، فهل الثورة ومخاطرها الكثيرة على البشر والحجر والمجتمع والبلد هي الخيار الأقل سوءًا؟ وهل هي خيارٌ “أصلًا”، أم إنها انفجارٌ اجتماعيٌّ/ جماعيٌّ لا يخضع للإرادة (الفردية). وهل تحصل الثورة لكونها خيارًا أم نتيجةً لانعدام الخيارات (المناسبة)؟
لم تقتصر الجذرية الثورية على أن تكون رفضًا لتخييرات النظام، وسعيًا لإسقاطه أو التخلص منه، تخلصًا كاملًا، فحسب، بل تجسدت أيضًا في خطابٍ سوريٍّ “وطنيٍّ” يأخذ في حسبانه كل السوريين، بدون استثناءٍ. فعلى الرغم من أن بعض المطالب والشعارات التي رفعها السوريون، في مظاهراتهم الأولى، كانت غالبًا مناطقيةً أو فئويةً (عزل محافظٍ، السماح بحفر آبارٍ، حل مشاكل تتعلق بمنطقةٍ ما … إلخ)، إلا أن هذه المطالب أصبحت تقتصر أو تتركز لاحقًا على ما يخص كل السوريين وكل انحاء سورية (الحرية، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، رفع الأحكام العرفية، إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، … إلخ). لكن هذه الجذرية الثورية تصدعت واختُرِقت وحُجِّمَت لاحقًا، نتيجةً لتقوقع بعض (“نخب”) الجماعات الإثنية أو الطائفية أو الإثنية أو المناطقية …إلخ، وإعطائها الأولوية لمطالب خاصةٍ بها. فانشغلت بعض الأطراف “الكردية” بمطالب تخص الإثنية الكردية، وعزلت نفسها، والمناطق التي تسيطر عليها، عن باقي المطالب والمناطق السورية. كما تزايد بروز الشعارات الدينية التي ترفع شعارات ومطالب تخص المسلمين، أو بالأحرى، الإسلاميين، وتقصي أو تستعدي غير المسلمين/ غير الإسلاميين والرافضين للإسلاموية.
وفي ظل الحرب الشرسة التي أعلنها النظام ضد كل معارضيه المنادين بإسقاطه، لم يجد معارضون كثر بأسًا في الامتناع عن اتخاذ موقفٍ جذريٍّ من التنظيمات ذات الأجندة المناطقية أو القومية الإثنية أو الدينية الإسلاموية. وبدلًا من اتخاذ مثل ذلك الموقف الجذري، خضع كثيرون، بوعيٍّ أو بدونه، و مختارين أو مضطرين، لتخييراتٍ سبق أن رفضوا ما يماثل منطقها، في مواجهة النظام الأسدي. فثمة من روَّج لقبول، أو حتى تقبُّل، جماعات أعلنت عدائها الصريح للديمقراطية وقمعها للحريات واستباحتها للكرامات (الجماعات الإسلاموية خصوصًا)، بحجة أنها حليفٌ مهمٌّ وضروريٌّ في مواجهة النظام الأسدي. وقد بينت الأحداث لاحقًا أن هذه الجماعات هي أقرب إلى الثورة المضادة منها إلى قيم الثورة، وأنها حليفٌ مباشرٌ او غير مباشرٍ للنظام الأسدي وليس للثائرين عليه. وأدت هذه المرونة أو بالأحرى الميوعة السياسية إلى صعوبة التمييز، النظري والعملي، بين “قوى الثورة” وقوى الثورة المضادة”.
ويبدو التخلي عن الجذرية الثورية واضحًا، في الأحداث الراهنة، حيث يؤيد كثيرون عملية “نبع السلام” التركية، في مناطق الجزيرة السورية، على الرغم من الجرائم الكثيرة والكبيرة التي اقترفتها تركيا، والميليشيات التابعة لها، في عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”. في المقابل، رأى سوريون كُثُر (من الكرد خصوصًا) أنفسهم مضطرين إلى دعم قوات “قسد” وتأييدها، لأنها في نظرهم أقل سوءًا من القوات التركية الغازية. وفي كلتا الحالتين، وفي حالاتٍ أخرى كثيرة مماثلة، تم التخلي عن الجذرية الثورية التي تأبى الخضوع للتخييرات المكونة من خيارات ميتةٍ بالغة السوء، وترفض كلها. فالثورة السورية قامت لأنها رفضت استمرار وجود الأسد، ورفضت، في الوقت نفسه، الخضوع للتهديد الابتزازي بحرق البلد.
ومن المسائل التي تستحق المراجعة النقدية المفصَّلة مسألة مدى معقولية أو مقبولية خضوع كثيرين من الثائرين، عمومًا، والنخب المتبنية للثورة خصوصًا، لمنطق التخيير بين السيء والأسوأ، في السياقات المختلفة. هل كان ممكنًا وضروريًّا اتخاذ مواقف أكثر جذريةً من أيديولوجيا القوى الإسلاموية المسلحة وتنظيماتها، ام أنه لم يكن بالإمكان اتخاذ مثل تلك المواقف من النظام ومن تلك القوى، المضادة للثورة، في وقتٍ واحدٍ؟ إلى أي حدٍّ أسهمت “النخب السياسية المعارضة” في البروز المتزايد لهذه القوى، من خلال دعمها ومساندتها، ماديًّا أو معنويًّا، أو من خلال الدعوة إلى التحالف معها او مهادنتها على الأقل؟ قد يكون الاختيار بين السيء والأسوأ من ماهية الفعل السياسي، في سياقات كثيرةٍ، لكن الخضوع المطلق لمثل هذا الاختيار، ينفي كل إمكانيةٍ للفعل الثوري القائم، جزئيًّا ونسبيًّا، على رفض كثيرٍ من الخيارات المفروضة من القوى المستبدة المهيمنة. في المقابل، لا يمكن للثورة إلا أن تأخذ جانبًا من معطيات الواقع وممكناته في الحسبان، إذا أريد لها أن تحقق بعضًا مما تهدف إليه، على الأقل.
ثمة بعدٌ اخلاقيٌّ، واعٍ أو غير واعٍ، في كل جذريةٍ ثوريةٍ. ويمكن للحضور المبالغ فيه، أو غير المناسب، لهذا البعد، أن يؤثر تأثيرًا سلبيًّا في مسارات الثورة وآفاقها ونتائجها. ومن ناحيةٍ أولى، بدا الخطاب الأخلاقوي طاغيًّا، في كثيرٍ من الأحيان، بحيث كان من الصعب حضور الخطاب السياسي العقلاني الذي يأخذ في الحسبان معطيات الواقع، ويتفاعل معها وفقًا لما هو ممكنٌ. وقد أفضت هذه الأخلاقوية إلى تغييب المرونة السياسية الضرورية، في كثيرٍ من السياقات. في المقابل، ظهر، في الثورة السورية، من يقول بضرورة التخلي عن أي بعدٍ أخلاقيٍّ في الأفعال والخطابات النخبوية المجسِّدة لهذه الثورة. فباسم “الواقعية السياسية” تم التخلي، في أحيانٍ كثيرةٍ، عن الجذرية الثورية، وتبني مرونة أو ميوعةٍ سياسية لا أخلاقيةٍ، كما حصل، على سبيل المثال، في التحالف مع جهاتٍ معاديةٍ للثورة، أو تبرير جرائم ارتكبتها جهات “محسوبةٌ” على الثورة. وأفضى ذلك في احيانٍ كثيرةٍ إلى تصاعد التشكيكات في “الأساس أو التفوق الأخلاقي” للثورة على النظام.
لا بد من التفكير في “موقفٍ وسطيٍّ” يتجاوز جدليًّا الموقفين السابقين. فمن ناحيةٍ أولى، يبدو ضروريًّا الإقرار بالانفصال الجزئي والنسبي للسياسة عن الأخلاق، بحيث لا يتم إخضاع الأولى لمعايير الثانية ووصايتها، أو اعتبارها مجرد تطبيقٍ لها، في مجالٍ معينٍ. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، لا ينبغي توهُّم إمكانية الفصل المطلق بين السياسة والأخلاق، لا نظريًّا ولا عمليًّا؛ فثمة بعدٌ اخلاقيٌّ محايثٌ لمبادئ السياسة وغاياتها والأفعال والقرارات التي تنتمي إليها. ومعظم، وربما كل، المفاهيم السياسية هي مفاهيم كثيفة، بمعنى أنها تتضمن، إضافةً إلى جانبها الوصفي، جانبًا معياريًّا/ أخلاقيًّا بالضرورة. فسواء أكانت غايات السياسة تنظيم العيش المشترك لجماعةٍ ما، وخير هذه الجماعة، أو العدالة بين أفرادها أو تحقيق صالحهم العام ومساعدتهم على تحقيق صالحهم الخاص، فإن هذه الغايات أو ما يماثلها معيارية/ أخلاقيةٌ، بالتأكيد.
ويظهر البعد الأخلاقي في السياسة، ظهورًا واضحًا، عند التناول الضروري للمراجعة النقدية لدور ومسؤولية كلٍّ من النخب التي تصدرت الواجهة السياسية والعسكرية والإعلامية للثورة، من جهةٍ، وعموم أفراد الشعب الثائر، من جهةٍ أخرى. فإلى أي مدى بينت الثورات العربية، ومن ضمنها الثورة السورية، (عدم) المعقولية المعرفية والأخلاقية، للنظرة الشائعة القائلة بأن الشعوب العربية تتحمل المسؤولية الأكبر عن وجود الأنظمة الاستبدادية التي تحكمها، لأن هذه الشعوب “خانعة بطبيعتها، وغير قادرة على بذل الجهود والتضحيات اللازمة لنيل حريتها وصيانة كرامتها وبناء أنظمة ديمقراطية في بلدانها؟ لقد بيَّنت مسارات الثورات العربية أن الفشل المرحلي للثورات – والمتمثل في عجزها الحالي عن إسقاط النظام الاستبدادي وبناء نظامٍ ديمقراطيٍّ بديلٍ – لا يمكن تفسيره، بالدرجة الأولى، بثقافة الشعب ومستوى وعيه وتوجهاته الفكرية والأيديولوجية، فالعوامل الحاسمة، في هذا الخصوص، هي، من ناحيةٍ أولى، بنية النظام وقوته ونوعية ردود فعله على الثورة/ الثائرين عليه، ومدى إمكانية تصدع هذه البنية أو حصول انقسام أساسي ومؤثر في مواقف الفاعلين الأساسيين فيها، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، مدى وجود أفراد قادرين على ممارسة الدور الضروري للنخبة، في الميدانين السياسي والإعلامي عمومًا.
وإذا تركنا جانبًا العوامل الخارجية وبنية النظام ورد فعله على الثورة/ الثائرين عليه، فيمكننا القول إن دور النخب السياسية والعسكرية التي تنطعت لتمثيل الثورة وقيادتها والتحدث والتفاوض باسمها، كان غالبًا غايةً في السلبية، وتراوح، عمومًا، وفي سياقاتٍ أساسيةٍ ومهمةٍ، وفي أحيانٍ ليست قليلةً، بين ارتجال الهواة الساذجين وأخطاء/ خطايا المستهترين أو المجرمين. ولعل أكثر أخطاء/ خطايا هذه النخب المعارضة، هو أنها راهنت على القوى الخارجية وعملت على توثيق علاقاتها بها، أكثر من مراهنتها على جماهير الثورة وسعيها إلى توثيق الروابط معها. وقد تحولت مؤسسات المعارضة تدريجيًّا إلى جهاتٍ تمثل القوى الخارجية لدى الشعب الثائر، أكثر من كونها تمثِّل هذا الشعب لدى تلك القوى. ولم تقتصر الكثير من النخب المعارضة على أن تكون تابعةً لهذه القوى الخارجية أو تلك، بل تحول كثيرون من أفراد هذه النخب إلى مجرد مرتزقة خانعين يأتمرون بأمر مموليهم، لدرجة تسمح بالقول حرفيًّا إنهم باعوا ليس الثورة والقضية والقيم التي تمثلها فحسب، بل وباعوا أنفسهم أيضًا.
إن الدراسة النقدية، المفصَّلة والمعمَّقة، للنخبة المؤثرة في المعارضة ولمؤسساتها وخطاباتها وممارساتها ودورها في سيرورة الثورة وتحولاتها ومساراته، أمرٌ بالغ الأهمية، لكن لا ينبغي لهذا النقد أن يتأسس على توجهٍ شعبويٍّ رافض لوجود النخبة ودورها، رفضًا مبدئيًّا، كما لا ينبغي أن تفضي تلك الممارسة النقدية إلى تسويغ مثل هذا الشعبوية. فكما هو الحال في كل الثورات السياسية في العالم الحديث والمعاصر، فإن وجود النخب أمرٌ ضروريٌّ ولا غنىً عنه، من ناحيةٍ، ويمكن أن يلعب أدوارًا بالغة الأهمية في تحديد مسارات الثورة، وفي الإسهام في بعض أهم نتائجها، من ناحيةٍ أخرى.
في “النهاية”، ثمة ضرورة لمراجعة نقديةٍ للمفاهيم والأحكام القائلة ﺑ “نهاية الثورة السورية” أو “موتها” أو “فشلها” … إلخ. فهل انتهت أو فشلت الثورة السورية فعلًا؟ وبأي معنىً؟ وماذا تعني مصطلحات مثل “النهاية” و”الفشل” و”الثورة”، في هذا السياق؟ إن القائلين بهذه النهاية، وذاك الفشل، ينظرون إلى الثورة بوصفها “فعلًا بشريًّا” ويحكمون عليها أو يحاكمونها انطلاقًا من مدى تحقيقها للغايات التي أعلنت سعيها إلى تحقيقها (إسقاط النظام وإقامة نظامٍ ديمقراطيٍّ، مثلًا وخصوصًا). من هذا المنظور “الضيق”، يبدو الحديث عن “نهاية الثورة السورية” و”فشلها” معقولًا ومسوَّغًا. فالنظام الأسدي ما زال في السلطة، ولم تفضِ الثورة إلى إسقاطه وقيام نظامٍ ديمقراطيٍّ في سوريا. ويتعزز هذا الحكم، إذا أخذنا في الحسبان العدد الهائل من الضحايا والنازحين، والأوضاع المأساوية لكثيرٍ من السوريين، فضلًا عن الدمار المادي الهائل الذي أصاب سوريا، والشروخ العميقة التي أصابت بنيانها الاجتماعي.
ثمة منظور آخرٌ يرى أن الأحكام السابقة تتأسس على سوء فهمٍ لمعنى الثورة، وعلى معايير غير مناسبةٍ لفهمها وتقييمها. فالثورة ليست مجرد فعلٍ بشريٍّ لجماعةٍ ما، بل هي “حدثٌ تاريخيٌّ. وبوصفها كذلك، لا يمكن تقييم نجاحها أو فشلها، والحديث عن نهايتها، انطلاقًا من غاياتها المعلنة أو غير المعلنة، بل ينبغي لهذا التقييم وذلك الحديث أن يتأسسا، بالدرجة الأولى، على النتائج المباشرة، و(حتى) غير المباشرة، لهذا الحدث. يمكن للكثيرين الإقرار بأن الثورة، بوصفها حدثًا مؤسِّسًا، قد انتهت فعلًا، إلى حدٍّ بعيدٍ، وبأنه لم يبقِ من المظاهرات إلا بقايا تجمعاتٍ، هنا وهناك، لكنها تفتقر عمومًا للاستمرارية، ولحرية المشاركين فيها، كما تبدو خاليةً من التأثير المهم، ومن كثيرٍ من المعاني الإيجابية التي كانت ملازمةً لها. في المقابل، من المستبعد ألا يقرَّ القائلون ﺑ “نهاية الثورة” بأن نتائج الثورة، بوصفها حدثًّا ، لم تنتهِ بعد. ولا تنتهي الثورة، بوصفها حدثًا تاريخيًّا، إلا بنهاية سلسلة الاحداث المهمة التي أسهمت في خلقها أو في التأثير فيها. ولا يمكن إلا للمتنبئين العارفين بالغيب معرفة النتائج المستقبلية للسلسلة السببية من الأحداث والنتائج التي لعبت الثورة دورًا مهمًّا في خلقها وإطلاقها. ومن هنا ضرورة تحلي “مؤرخي الحاضر” ببعض التواضع في أحكامهم.
للثورة السورية جدوى وقيمة ومعنى، حتى لو لم تتطابق غاياتها، بوصفها فعلًا بشريًّا جمعيًّا، مع نتائجها، بوصفها حدثًا تاريخيًّا. فعلى صعيد الجدوى، لقد خلخلت الثورة السورية بنية النظام الأسدي المستبد، وأفضت إلى جعله بالغ الهشاشة إلى درجة أنه أصبح يعتمد، اعتمادًا مباشرًا وكبيرًا وذليلًا، على قوى خارجية للبقاء والاستمرار. ومن الواضح أن ذلك يعني أن مصيره أصبح مرهونًا بتلك القوى الخارجية أكثر من كونه مرهونًا بعناصر قوةٍ موجودةٍ في بنيته الداخلية، كما كان الحال قبل قيام الثورة. وهشاشة النظام تفتح آفاقًا وممكناتٍ كثيرةً لم يكن بالإمكان التفكير فيها أو حتى تخيلها، لول قيام الثورة. وعلى صعيد القيم والمعاني التي خلقتها الثورة السورية، يمكن التشديد على أن هذه الثورة، أسهمت، مع بقية الثورات العربية، في إبراز مدى أهمية “إرادة الشعب”، وحقه في تقرير مصيره، وقدرته على أن يغير واقعه، ويعترض على حكَّامه الذين كانوا سابقًا أشبه بالقدر الذي لا فكاك منه.
إذا اتفقنا على أن الثورة، في العمق، هي ثورة قيمٍ، وسعيٌ إلى تجسيدها في الواقع، فيمكن القول باستمرارية الثورة عمومًا، وباستمراريتها فينا، بوصفها قيمًا ومعانٍ ومحفزاتٍ للنظر والفعل، حتى لو لم تعد موجودةً، بوصفها حدثًا تاريخيًّا. واستمرار الثورة هنا ليس مجرد استمرارٍ رمزيٍّ لا جدوى منه، بل هو مهمٌ فعليًّا، بقدر أهمية القيم المرتبطة به، ومجدٍ، بقدر كثرة عدد الأشخاص الفاعلين المتبنين لهذه القيم، والمتمسكين بها، في تنظيراتهم وأفعالهم عمومًا، وفي تلك التي تتعلق بالقضية السورية وما يماثلها خصوصًا.
بروكار سوريا