داعش وغيرها: السلطة الساقطة أو الطريدة/ ياسين الحاج صالح
ليس المقصود بكلمة السقوط في عنوان هذه المقالة سقوط دولة داعش التي كانت قد جعلت من البقاء أعلى رهاناتها حتى أنها كثّفته في شعار أساسي لها: باقية وتتمدد (بما يذكر بشعار «وُجِدت لتبقى» الإسرائيلي، وبالأبد الأسدي)، ولا المقصود أنها ساقطة إنسانياً وأخلاقياً، مزيج نادر من الرثاثة والتوحش؛ المقصود بالأحرى هو أن السقوط، بمعنى الطرد والتشريد، هو التجربة المكونة لداعش والمعرّفة لهويتها. إنها سلطة طريدة، طورت نفساً ناقمة، كارهة للعالم ونازعة نحو تدميره. هذه القضية هي ما ستعمل هذه المقالة على توضيحه. يمكن للطريد، من يُنبذ من عائلة أو قبيلة أو أمّة أو عالم، أن يتوحش، يطور استعداداً برياً، معادياً للعالم الذي طُرد منه وساعياً لتقويضه. في الإسلامية المعاصرة استعدادٌ للتوحش، مثلت داعش صيغته القصوى.
1
ظهرت داعش في سورية عام 2013، لكن سلفها المباشر هو دولة العراق الإسلامية التي أسسها أبو مصعب الزرقاي قبل مقتله على يد الأميركيين عام 2006. تكونت داعش من تمازج القاعدة مع قطاعات من فلول نظام صدام حسين وقاعدته الاجتماعية بعد إسقاطه. كان نظام صدام قد وفر تماهياً تفاضلياً للقطاعات العربية السنية من المجتمع العراقي، ومنها كانت قد انحدرت نخبة الحكم المقرِّرة بين نشوء العراق الحديث ونهاية عهده عام 2003. وكان من هذه القاعدة الطريدة من فردوس السلطة ضباط جيش ومخابرات سابقون، طرأ عليهم تحول راديكالي، اغتذى من واقع أن نخبة الحكم الجديد الذي أقامه الأميركيون شيعية متطرفة في طائفيتها، طورت منزعاً إبادياً حيال البيئة الصدّامية السابقة. عنصر السقوط من السلطة هذا جوهري في تكوين القطاع العراقي من السلفية الجهادية.
في السقوط خسارة حظوة وامتيازات وعزّ، يضاعف من جارحيتها في السياق العراقي حلول نخبة حكم ذات نوازع انتقامية قوية، عميقة الغور ومتجددة العزم، ضد السُنّيين بوصفهم كذلك. السلطوي الشريد، الملعون علناً والمُلاحَق، الذي كان ذا منازع حربية قوية في الأصل بحكم حروب صدام المتواترة، يبحث الآن عن سلطة تخصه عبر الحرب. يريد العودة إلى السلطة، لكن كسُنّي محض اليوم في مواجهة حكم يُعرّف نفسه صراحة كشيعي.
كانت القاعدة جلبت معها من أفغانستان خبرة سقوط حكم طالبان وتحطّم البلد على يد الأميركيين إثر 11 أيلول 2001 وتناثر الجهادية المعولمة في العالم. صار القاعديون طريدين في كل مكان بوصفهم إرهابيين، مرضوضين بعنف هجمة الأميركيين في عز غضبهم، وقد لوحق الكثير منهم عبر البلدان، وأُخذ المئات إلى غوانتانامو حيث عوملوا معاملة أشرار مؤذين، لا قضية لهم ولا تحميهم أي عدالة. صارت القاعدة بعد أفغانستان بلا قاعدة، بلا بيئة تنسق منها جهادها الكوكبي. أسامة بن لادن مختف في مكان ما، ومثله أيمن الظواهري. وصار السلفي الجهادي الطريدَ العالمي والملعون العالمي، المُلاحَق من قبل أجهزة مخابرات قوية (والمعرّض لذلك بالذات للتلاعب من قبل الأجهزة نفسها ومثيلات لها). الاحتلال الأميركي للعراق هو ما وفَّرَ بيئة خراب ملائمة لوفود الجهاديين الجوالين ومواجهة الأميركيين. أول ما بناه أبو مصعب الزرقاي في العراق قبل دولته هو تنظيم «قاعدة الجهاد». العراق صار قاعدة بعد خسارة القاعدة الأفغانية. كان أبو مصعب قد مرّ بفترة جنوح وطيش في مطلع شبابه قبل أن يهتدى إلى الإسلام السلفي. الجانح الذي يُصعِّد جنوحه إلى جهاد هو نموذج متواتر بين الجهاديين. هنا ثمة ضربٌ من سقوط أو نبذ اجتماعي سابق للصحو الديني.
كانت القاعدة نتاج تلاقي القطبية المصرية بالوهابية السعودية في الأرض الأفغانية، التلاقي الذي تم برعاية وتنسيق المخابرات المركزية الأميركية، وبمعونة المخابرات الباكستانية والسعودية، وبمال سعودي وخليجي، وكان موجهاً ضد الاتحاد السوفييتي الذي كان احتل أفغانستان عام 1979. لم تظهر القاعدة كتنظيم جهادي مُعولَم إلا بعد انسحاب الاتحاد السوفييتي وانكفاء رعاة «الجهاد» عن أفغانستان المحطمة إثر ذلك، لكن الجهاد ضد السوفييت كان تجربة القاعديين المُكوِّنة. كان البلد قد تحطم إثر نحو عقد من الحرب، فلا تنمية ولا تعليم، ولا محاربة للفقر، ولا المساعدة في بناء سياسي تمثيلي بالحد الأدنى يُقرِّب الإثنيات الأفغانية من بعضها، وهو ما وفر بيئة حياة للجهادي الطريد.
تكوَّنَ تفكير سيد قطب الأكثر راديكالية في سجون جمال عبد الناصر، الوطني المصري والقومي العربي، العلماني والدكتاتور. قطب سُجن مرتين، وأُعدم في سجنه الثاني عام 1966 وهو في الستين. كان مؤلف معالم في الطريق وفي ظلال القرآن من قيادات حركة الإخوان المسلمين التي حظرها وقمعها بقسوة حكم الضباط الأحرار الذي وجدها منافساً على السلطة. هنا أيضاً ثمة تجربة سقوط وقصة طرد، وإن تكن جزئية. الإخوان لم يكونوا في الحكم كي يخسروه، لكنهم عوملوا بقسوة متناهية من حكم كانت توقعاتهم في بواكيره إيجابية. سيد قطب الغاضب طور تصوراً «تفاصلياً» مع مجتمع مصر في عصره ومع العالم: رأى الإثنين غارقين في «الجاهلية». لقد أسقط من الإسلام مجتمعاً أسقطه من حياته العامة.
أما الوهابية فقد نشأت في نجد، القسم الأقل تطوراً من الجزيرة العربية، التي كانت القسم الأقل تطوراً من عوالم المسلمين والعرب. وهي تصدر عن تراث توتر أو أزمة إن جاز التعبير، ترمز لها شخصيتان: ابن حنبل وابن تيمية. كلاهما رجل خبر علاقة متوترة مع السلطة في مراحل من عمره، وكلاهما سجن وضرب وأهين. ثم إن الوهابية التي صُدِّرت إلى أفغانستان هي وهابية ما بعد احتلال الحرم المكي من قبل جماعة جهيمان العتيبي السلفية المتشددة، قبل «تحريره» (الحرم) بقوات نخبة فرنسية. أعني أنها وهابية متوترة، يخامرها شك في نفسها وتعمل على طرد الشك إلى خارجها. وهي قبل ذلك وهابية نفطية وفيرة المال، «بترودين» إن جاز التعبير. لم يفقد البترودين الوهابي سلطة، لكنه حاز مالاً كثيراً دون جهد ودون عناء ودون تغير للمحيط أو للنفس. وبقدر ما إن الوهابية ترعى ضميراً طهرانياً من جهة، ويرجح أن يتولد عند معتنقيها شعور بالذنب بفعل وفرة المال في اليدين، فإن راحة الضمير تُلتمس في فعل الخير وفق المعتقد الإسلامي الطهراني: التزكي للجهاد. هذه الآلية ظلت حية حتى تخريب الثورة السورية. ضمير الثري الخليجي المتعب من وفرة المال الريعي موَّلَ قتلة مجهولين من كل حدب وصوب للجهاد في سورية. العملية بدأت منذ أيام أفغانستان. لدينا سلسلة من مال وفير دون جهد يتسبب في نشوء ضمير مُجهد يدفع إلى تزكية الأموال والنفوس بتمويل الجهاد ضد الكفار المسيطرين (لعله كذلك شكل من أشكال الاعتراض الموارب على سيطرة الأميركيين على حكام الخليج)، فيؤدي إلى حروب عدمية بلا تفكير ولا استراتيجية ولا سياسة ضد مسيطرين أقوياء.
أريد القول إن العناصر الثلاثة للمركب الداعشي، العراقي (فلول أجهزة صدام)، ثم المصري (ورثة سيد قطب)، فالسعودي (وهابية ما بعد جهيمان)، امتصت كثيراً سموم طرد وسقوط، فقدان حظوة وضمائر مجهدة، فضلاً عن غضب وشعور شديد بالمهانة.
ولعل التكوين الطريد بالذات هو ما يفسر اجتذاب داعش لمنبوذين اجتماعيين، رجال ونساء غاضبين، ناقمين، تعرضوا للتمييز ولشعورٍ بالغربة في مجتمعاتهم، الغربية منها والشرق أوسطية. في بناهم النفسية يشابهون بنية داعش، فيجدون فيها بيئة ناقمة مناسبة، هم يعادون المجتمع وهي تعادي العالم ككل. أين يقيم الطريد المنبوذ من قرية أو عشيرة؟ في مغارة أو«خرابة». وجد الجهاديون في بيئات دمرها الاحتلال والحرب بيئات الخراب المناسبة لانتشارهم.
يمهد السقوط من السلطة للسقوط في التوحش. ويبدو أن استبطان داعش لتجارب سقوط متكررة قد مهد لسقوط في التوحش من أجل البقاء والتمدد، أي لتجنب السقوط. الآلية تشبه آلية التوحش الأسدية، لكن على نحو مكثف وبالغ السرعة، أضمر خلال خمس سنوات خمسين سنة من حكم الأبد الأسدي.
وخلال هذه السنوات الخمس لم تكن داعش مجرد قوة استبداد وتسلّط، لم تكن بحال شيئاً يشبه نظاماً عربياً متوسطاً، حتى لو أخذنا علماً بتحولات توحشية للنظام العربي المتوسط. كانت أسوأ بكثير. فرغم ما عرضته الدولة الباطنة الأسدية من استعدادات توحشية مذهلة، إلا أنها حرصت على أن يبقى توحشها محجوباً، أو يجري تسريبه باقتصاد يضمن له مفعولاً ترهيبياً، دون أن يتحول إلى كرنفال مستمر. داعش حوّلَت الوحشية إلى استعراض مثل استعراضات الولاء الأسدية. إنها دولة مضادة ومجتمع مضاد، شرط حياتها انهيار الدولة والمجتمع. وهي في هذا سؤال كبير يطرح نفسه علينا، السوريين والعرب، وعلى عموم المسلمين، سؤال لا يزول بفعل السقوط العاصف لسلطتها العاصفة، وعيش ما بقي منها في شروط سقوط أو طرد مضاعفة. لقد دخل سؤال التوحش الإسلامي التاريخ، تاريخ السياسية وتاريخ الدين وتاريخ الفكر وتاريخ الضمير، ولن يخرج منه قبل أن يجاب عليه، نظرياً وعملياً.
2
في أصولها المعاصرة، ورثت الإسلامية خبرة سقوط الخلافة العثمانية قبل أقل من قرن، ولم تنجح في تطوير رد تاريخي عليها. غلب عليها وفيها مسلك دفاعي متشكك حيال العالم، عززته التجربة الكولونيالية الجارحة. ولم يتطور تفكير فلسفي وأخلاقي جديد يعيد هيكلة الميراث الإسلامي حول ما يفترض أنه عماد الدعوة الإسلامية (التوحيد، العدل، إعمار الأرض…)، فيعقلن هذا الميراث أو يُرشِّده، ويسهل ولوج عالم مختلف بروحية متجددة، شعبية وغير امبراطورية. بالعكس، المنزع الدفاعي قاد إلى تعظيم كل الموروث كيفما اتفق، فصار الإسلام كما قال حسن البنا؛ دين ودنيا، ومصحف وسيف، وميزان وحديد… صار مُقدساً «مُفشكلاً»، عِلماً بلا شكل، ولا يساعد الرسوخ في هذا العلم على الرسوخ في العالم، «يساعد» على شقاء الوعي وفشل العمل فحسب. وتَعزَّزَ كل ذلك بالتكوين الفكري المتواضع للمشايخ و«العلماء» المسلمين، الذي فاقمه بدوره تراكب النزعة الدفاعية مع الحرص على سلطة اجتماعية تخصهم. لا يعرف «العلماء» شيئاً مهماً عن الفكر الحديث والعلم الحديث والعالم الحديث، وهي شرطنا الوجودي اليوم وشرط أي مصلحة ممكنة لنا. وهم لا يتعاملون مع العالم الحديث وعلمه كتحدٍّ فكري وأخلاقي لا بد من استجابة مبدعة له والمساهمة في الرد على أسوأ اختلالاته الكثيرة. بل فاقم المشايخ والعلماء الأزمة بأن ركزوا لواء مقاطعة عالم قائم على التمييز فعلاً في الإسلام، أو هم أنتجوا الإسلام الذي يصلح مرتكزاً أمثل لنفي العالم.
والحال أن العالم الحديث والمعاصر يراكم أوجهاً من التمييز واللاعدالة بالفعل، وفيه غير قليل من الشر والفساد. لكن ليس بين الإسلاميين من يفكرون في العالم كمصلحة عامة، ومعنيون تالياً بإصلاح العالم ليكون أكثر تحرراً ومساواة وعدالة. بالعكس يمكن تعريف الإسلامية بمقاطعة العالم أو بنفيه، وبعدم التعاون مع أيّ كان فيه. ينكر العالم الحديث المعنى علينا ويستخف بنا ويُميّز ضدنا؟ إذن نسحب المعنى منه ونعمل على تدميره. هذا هو الحل العدمي للتمييز. وهو مؤسس على عيش العالم الحديث كتجربة سقوط وطرد، منفى.
يمكن التفكير في اتجاه آخر: ينكر العالم المعنى علينا ويُميّز ضدنا؟ إذن نعمل مع غيرنا من ضحايا التمييز وقلة الاحترام من أجل عالم بلا تمييز يحارب اللامساواة. ما الذي يحول دون ذلك؟ أميلُ إلى نسبة الحائل إلى تلاقي المنزع الامبراطوري الموروث للإسلامية المعاصرة مع النفس الجريحة، الناقمة.
3
يمكن تعريف الإسلامية المعاصرة، السياسية منها والحربية، بالتكوين الناقم. إنها تكوين ديني سياسي جريح النفس، مرير وغاضب. بل هو جريح بصورة مضاعفة: جرح إلغاء الخلافة الذي لا يزال بدون رد غير متكبر وغير سلطوي، ثم جرح الصراع مع الدول المحلية ما بعد الكولونيالية في مجالنا، وقد خرج منها الإسلام الحركي مثخناً بالجراح، دون أن يصير أكثر حكمة ومعرفة من قبل. السلفية الجهادية ثلاثية الجرح إذا جاز التعبير، فإلى ما سبق تحمل جروح «الحرب ضد الإرهاب»، وقد خرجت منها محطمة، وكان لها إسهام ذميم في تحطيم أفغانستان والعراق والثورة السورية.
وتلقى الصفة التي لا تطاق لتجربة السقوط التعزيز، و«التطبيع»، من تصور التاريخ كسقوط في المتخيل الإسلامي، بشهادة حديث «خير القرون» وحديث «بدأ الإسلام غريباً ويعود غريباً». التطبيع يُحوِّل السقوط من حدث إلى بنية كما سيرد أدناه.
وإلى السقوط يضاف عنصر بالغ الأهمية، لم يكد يُدرَس: لا يبدو أن هناك شيء شعبي في تكوين الإسلامية السنّية المعاصرة، وبخاصة التيارات السلفية الجهادية ذات التكوين النخبوي بالأحرى، المتأصل في العقيدة وفكرة الحاكمية الإلهية من جهة، والمخيلة والذاكرة الامبراطوريتين من جهة أخرى. بالعكس، هنا ثمة عداء للإسلام الشعبي ولحاكمية الشعب ولفكرة الأكثرية. لا يؤسس الإسلام السياسي، ومن باب أولى الإسلام الجهادي، شرعيته على تمثيل المسلمين، أو حتى على أكثرية سُنّية، بل على تكوين إسلامي جوهري لمجتمعاتنا، تشغل «الشريعة» موقعاً مركزياً فيه، وعلى أفضلية إسلامية ثابتة في كل حال. بالعكس، ظهر في سنوات الثورة السورية ضرب من عدمية اجتماعية جامعة للإسلاميين، تضاف إلى العدمية التاريخية والنفي العدمي للعالم الحديث. أعني التوطن في العقيدة التي تحمل صلاحها الذاتي أياً ما يقول الناس أو لا يقولون، وأياً يكن حالهم. ليس للناس، كثرة أو قلّة، قول في شأن حاكمية الله. وليس على الإسلاميين أن يبرروا أنفسهم أمام السكان العيانيين، بل على الأخيرين أن يبرروا أنفسهم أمام الإسلاميين. هذا التكوين يُيَسّر التفكير في السياسة كتكنولوجية حكم، وللنخبة الدينية السياسية أن تقيم نظام تجسس ورقابة فاشي على العموم، بما فيهم «عوام المسلمين» بلغة داعش، العبارة التي تنزّ نخبوية و«خاصّوية».
ومثلما استندت الأسدية طوال عقود إلى «الوطنية» لنفي المجتمع، تستند الإسلامية، وتياراتها الجهادية بخاصة، إلى «الإسلام» لنفي المجتمع ذاته.
في تنويعته الإخوانية، يعرض الإسلام السياسي المعاصر تناقضاً عميقاً في هذا الشأن. فهو من جهة أولى وريث التقليد الإمبراطوري، أو ما يمكن وصفه بإسلام المنتصرين أو الإسلام من فوق (تشكل بارتباط مباشر مع تحلل آخر امبراطوريات المسلمين وإلغاء الخلافة)، وليس التقليد الشعبي أو الإسلام من تحت. العنصر الشعبي ضامرٌ بالتالي في تفكير ورثة الإسلام المنتصر هذا أو إشكاليته المكونة. لكن من جهة ثانية تطور للإسلام السياسي في التاريخ المعاصر، وتحديداً بين سبعينات القرن العشرين و«الربيع العربي»، عنصر شعبي بأثر تركز المنازع الاحتجاجية والاستقلالية على «الإسلام»، أي الاعتراض على التمييز، إن على المستوى المحلي أو على مستوى العالم. بيد أن الصلف الموروث للإسلامية السُنّية، إمبراطوريةِ المخيلة والذاكرة، مَنَعها من تطوير إسلام مهزومين، يدافع عن حق المهزومين في العدالة والكرامة. (بالمقابل، الإسلامية الشيعية المنظمة تحمل في تكوينها الأصلي انفتاحاً على المستضعفين، لكنها تطور اليوم عتواً يضعها في مواجهة المستضعفين الشيعة، والولاء بالمقابل لمركز إيراني إمبرياليِّ التطلعات. الصلف الشخصي لحسن نصر الله تجسيد لهذا العتو الامبراطوري المستجد).
يمكن الكلام على تناقض يُعرِّف الإسلام السياسي السنّي بين الإشكالية المكونة، الامبراطورية والفوقية والانتصارية، وبين المكتسب الاحتجاجي الناشئ بفعل تجربة الصراع مع الدول الأوليغاركية القائمة. وبأثر ملاحظة المختبر السوري طوال سنوات، يبدو أن الاستعداد الأعمق عند الإسلاميين السُنّيين هو التخلي عن المكتسب الاحتجاجي التحتي لمصلحة الموروث الامبراطوري الفوقي. ولعلَّ مما عزز ذلك في سورية الفعل المتعاضد لكل من صعود الجهادية، وهي عدمية اجتماعياً في كل مكان، ومن ميل التكوين التوفيقي للإسلام السياسي إلى التلون بلون القوى الصاعدة في كل وقت.
في سنوات الثورة السورية لم يظهر عنصر شعبي في ممارسات المجموعات الإسلامية السنية المنظمة في سورية، حتى لو جرى قصر الشعب على السُنّيين، بينما ظهر بقوة عنصر التأصل في العقيدة، وما يمنحه من استعلاء على العامة، ووضعهم في موضع المحتاجين إلى تبرير أنفسهم وإثبات صحة إسلامهم.
كلمة الشعب ليست كلمة الله هنا، بل تبدو أقرب إلى عدوان على كلمة الله التي يجب أن تكون العليا، أي عملياً كلمة مالكي الله أو أرباب الله من الإسلاميين. وهو ما يقوّضُ من الأساس إمكانية ظهور شعبوية إسلامية سُنّية، متشككة بالنخب ومدافعة عن المقهورين وطالبة للعدالة. وصف الإسلاميين بأنهم شعبويون خاطئ كلياً في تصوري. ففي الإسلام الحربي أو الجهادي الله ضد الشعب، وهو ليس مع الشعب في الإسلام السياسي، هذا بينما هو سند للمظلوم والفقير في الإسلام الشعبي، وخصم لصاحب السلطة والغني المستغل. تقرير أن «الديمقراطية شرك»، وهذه نقطة إجماع بين السلفيين، يجد تربته الفكرية في عقيدة الحاكمية الإلهية أو الله-قراطية.
الإسلامية العدمية على نحو ما أخذنا نراها في سورية في عام الثورة الثاني حتى سقوط خلافة داعش هي تجسيد لما يمكن تسميتها الروح السنّية الناقمة، المنفية من السلطة والنافية للعالم، الرافضة للمساواة والحالمة بالامبراطورية. التدمير فاعليتها النوعية بقدر ما هي ناقمة وعدمية، وصولاً إلى تدمير نفسها.
وهنا أيضاً لم يسجل الإسلام السياسي فرقاً حين كان من المهم جداً تسجيل فرق، أعني طوال سنوات الثورة السورية. عقيدة تطبيق الشريعة، وهي ركن أساسي في تفكير الإسلام السياسي مثلما الحاكمية الإلهية ركن أساسي في تفكير السلفية الجهادية، أسهل انفتاحاً على العدمية الاجتماعية منها على الدفاع عن المجتمع.
ومثلما انتهت وطنية الأسديين العدمية اجتماعياً إلى وضع نظامهم بحماية دولتين تشاركانها العداء للمجتمع السوري، إيران روسيا، مروراً بطائفية بنيوية متأصلة، تنتهي عدمية الإسلاميين الاجتماعية إلى التبعية لتركيا، مروراً بالطائفية أيضاً. بعد أقل من قرن على سقوط الخلافة، وظهور «الإسلام السياسي» بفعل تجربة السقوط تلك، يقوده سجله الوراثي إلى شبح عثماني ميت، يتحملون وحدهم مسؤولية تخيل رؤيته.
4
المؤدى المجمل للتحليل أن السقوط بنية في الإسلامية المعاصرة، وليس حدثاً وقع للأسف أكثر من مرة بينما كان يفترض ألا يقع، أو أن يقع مرة واحدة. السقوط في الإسلامية السنّية يبدو ضرباً من استعداد وراثي، وليس من وقائع التاريخ العارضة. هذه البنية تهدي إلى طلب السقوط إن جاز التعبير، إلى تعذر العيش في العالم دون أعداء أقوياء نطلب عداوتهم مع علمنا بقدرتهم على سحقنا، فيسحقوننا مرة تلو مرة. لعله تتوسط بين السقوطين، كحدث عارض وكبنية تكرر نفسها، مظلومية صارت بدورها قالباً وراثياً. السقوط كحدث في التاريخ يعيد إنتاج المظلومية التي تحتاج بدورها إلى ظلم متجدد كي تدوم، وينتج دوامها السقوط كبُنية. كأنما لا حياة دون نبذ مستمر واستشهاد مستمر.
وما إن نتكلم على بنية سقوط فإنه يمكن أن نتكلم بالوجاهة ذاتها على تكوين انتحاري. وهو ما يعني أن فرص إسلامية غير عدمية، أو غير مدمنة على تدمير الذات (بعد الاجتهاد في إيذاء الغير)، مرهونة جذرياً بتقويض هذا التكوين، أي بضرب من إصلاح ذاتي جذري.
ثم إنه ما إن نتكلم على بنية سقوط حتى نتكلم بوجاهة كافية كذلك على استحالة الدولة، وإن من مدخل مغاير لمدخل وائل حلاق. ليست الدولة الإسلامية مستحيلة بفعل التكوين الأخلاقي المتيافيزيقي للشريعة، ولكن بفعل امتناع إقامة أوضاع مستقرة يمكن أن يقوم عليها اجتماع بشري بالحد الأدنى، بينما غريزة السقوط تعمل في الكائن الإسلامي بهذه القوة. ما يمكن أن يقوم هو دولة مضادة مثل داعش أو طالبان أو القاعدة، تقاطع العالم وتعاديه، ضرب من كوريا الشمالية إسلامية. وما تقوم عليه الدولة المضادة هو تقنين سيادي للشريعة بحيث تصير قانون دولة (وتفصل عن الجماعات المحلية)، أي حين تصير شريعة مضادة عملياً، ينتفي منها المحتوى الأخلاقي وتنقلب أداة إكراه مقدسة. كي يكون لهذه الدولة فرصة في البقاء، ينبغي أن تنجح في بناء مجتمع مضاد، يقبل بقانونها المضاد ويدافع عنها. داعش فعلت الكثير لبناء مجتمعها المضاد المكون من مستوطنين مسلحين مستوردين، وفتكت بمجتمع المحليين من «عوام المسلمين» بالخطف والقتل والمجازر. فعلت كل شيء من أجل الموت، بما في ذلك موتها هي، وموت خليفتها الغث.
5
لعل أقرب شيء إلى العنصر الدولاني المنشأ في تكوين داعش في سورية اليوم هو الشبيحة وأجهزة المخابرات المطيّفة. فلو سقطت دولة الأسديين في أي وقت لكنا حصلنا على داعش علوية، تتكون من الشبيحة وقطاع من العسكر والمخابرات الأسدية، مثلما تشكلت داعش من نظراء عراقيين لهم. عنصر التوحش موجود هنا ومُجرَّب سلفاً، وتطوير عقيدة دينية له ليس بالأمر الصعب. ستكون على الأرجح مزيجاً من الأسدية ومعتقدات علوية وشيعية خاصة. فإذا أخذنا بالاعتبار أن غير قليل من كبار ضباط الأسدية تحولوا إلى مشايخ أو كانوا مشايخ وهم عساكر (علي حيدر، محمد بركات…)، وأن عناصر الحرس الجمهوري فوق مراتب معينة يجب أن يكونوا قد «استلموا دينهم»، وأن تحطيم المؤسسة الدينية التقليدية العلوية المستقلة في سنوات حافظ الأسد قاد إلى علاقة عسكرية دينية منتشرة في تشكيلات النظام العسكرية والأمنية، أمكن تصور تولد سلطة طريدة لو سقط النظام، وبخاصة إذا أعقب سقوطه حكم طائفي سني. ما يغيب من هذا التولد هو السقوط كبنية، لكن المظلومية سهلةَ الإنعاش، التي لا تزال نشطة أصلاً رغم نصف قرن في السلطة، يمكن أن تعوض هذا العنصر. السقوط كبُنية يقتضي المظلومية كما تقدم القول، والسقوط كحدث يوفر ما يلزم من ظلم لإيجاد المظلومية كبُنية.
كان من شأن سقوط النظام أن يحرر العلاقة العسكرية الدينية من مركز سياسي يتحكم بها، فيجعل منها حركة توحش فاشية مثل داعش. واقعياً، ما رأيناه في دولة الأسديين هو المسار المعكوس، امتصاص الشبيحة في الدولة بصيغة «قوات الدفاع الوطني»، وإن نكن هنا حيال دولة مُطيّفة بقوة، وإن يكن توحيد الشبيحة جاء على يد الإيرانيين. هنا ظلت الدولة المضادة مستبطنة في بنية الدولة الأسدية، وهو ما يُبقي الاحتمال قائماً لأن تنفلت منها مثل روح منتقمة شريرة ذات يوم إذا سقط جسمها الحالي جثة هامدة.
هذه المادة جزء من «جريدة سميرة»، القسم الذي تحضر سميرة الخليل في نصوصه حافزاً أو موضوعاً ورمزاً.
موقع الجمهورية