أفول المثل السوري/ خضر الآغا
مثلما نعرف كسوريين النظام الفاشستي السوري يعرفه الآخرون أيضًا. الآخرون، هنا، لا تشمل بالضرورة، أو لا تشمل فقط، شعوب المنطقة والشعوب العربية، بل تشمل أيضًا الأنظمة العربية، وتتسع لتشمل كذلك الدول المتدخلة بالشأن الداخلي في المنطقة، وفي سوريا خاصة، والمتحكمة، بطريقة ما، بسياساتها وتحالفاتها، مثل أمريكا، إسرائيل، إيران، وروسيا.
هذه المعرفة تكفي لتوصيف النظام السوري بأنه أشرس أنظمة المنطقة على الإطلاق. خاصة أن انشغال صدام حسين بحربه مع إيران واحتلال الكويت والحصار الأمريكي وغيرها حرفت الأنظار قليلًا عن المقارنة بينه وبين حافظ الأسد المتمثلة في سؤال: أيهما أشد وحشية؟ ولنا أن نفترض افتراضًا مستندًا إلى تسع سنوات من تعاطي الأنظمة العربية والدول الأخرى التي لها مصلحة في إبقاء الوضع السوري ووضع المنطقة كما هو عليه أن حركة الثورات العربية التي راحت تنتقل من بلد عربي إلى آخر على نحو لم تكن تلك الأنظمة وتلك الدول على الأقل تتوقعه يجب أن تتوقف عند صخرة ما، وهذه الصخرة هي، تمامًا، النظام السوري. إذ لو لم يستطيع هذا النظام المعروف بدمويته إيقاف هذا المد الثوري لوصلت كرة الثلج الملتهبة إلى أحضان الأنظمة العربية جميعها، وذلك لتشابه تلك الأنظمة في القمع والدكتاتورية والفساد والاستفراد بشعوبها، نحن نتحدث عن تشابه جوهري وعن فرق في درجة القمع والفساد لا في نوعه.
كان على الأنظمة العربية وتلك الدول المذكورة، خاصة إيران وروسيا، أن تعمل ما بوسعها لقمع وإنهاء الثورة السورية، لكنها اصطدمت بجدار سلمية الثورة وتعبيراتها الحضارية، كما بامتناع الكثير من أفراد الجيش السوري عن قتل أبناء بلدهم، وانشقاقهم عن نظام الإبادة السوري فدخلت من بوابة تجعل من قمع الثورة أمرًا مقبولًا دوليًا وشعبيًا وهي بوابة خلخلة المجتمع السوري طائفيًا ومحاربة الإرهاب! فقام النظام أولًا بارتكاب مجازر عبر شبيحة طائفيين (الحولة) وأدخلت إيران والعراق ميليشياتهما الطائفية كنوع من إرغام السوريين على الانقسام الطائفي، وقامت دول عربية أخرى أيضًا إما بتشكيل فصائل إسلامية أو بدعم فصائل ناشئة، بعضها أفرج النظام عن قادتها الذين كانوا معتقلين لديه بدايات الثورة، ليتخد الصراع بعدًا إسلاميًا ظهر في بعض المرات على أنه إسلامي متطرف، وهذا بالعرف الدولي والشعبي شكل من أشكال الإرهاب. في هذه المساحة المتفجرة تم تغييب الثورة السورية وإخفاء صوتها، وتحت هذه الذريعة تم تغطية تدمير سوريا وقتل أبنائها وتهجيرهم وتغييبهم إعلاميًا وسياسيًا، وكان هذا التدمير مفيدًا أيما فائدة للأنظمة العربية لتحذير شعوبهم من مصير مماثل للمصير السوري، وتشكيل “مثل سوري” يمكن إشهاره في كل مرة تشعر هذه الأنظمة بدنو أو باحتمال تحرك شعبي ضدها.
عمليًا، منذ اندلاع الثورة السورية ومواجهتها بقمع غير مسبوق، توقفت الثورات العربية. فبعد أن قامت خلال بضعة أشهر في أواخر العام 2010 وبدايات العام 2011 خمس ثورات متتالية: تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا، لم تقم خلال أكثر من ثماني سنوات ولا ثورة واحدة على مساحة الدول العربية، باستثناء حركات احتجاج مختلفة ومهمة في بعض الدول لكنها، وإن كانت تنتمي -وفق ما أرى- إلى سياق الربيع العربي، إلا أنها لم ترق إلى مستوى أن تكون ثورة من حيث مطالباتها الجذرية، واستمراريتها. وفي هذ المعنى تكوّن غالبًا شعور عام لدى الشعوب كما لدى الأنظمة أن المثل السوري الذي جعلوه فزاعة للشعوب قد نجح!
لكن، وحيث أن تلك الأنظمة لم تقم، خلال تلك الفترة الطويلة، بأية خطوات من شأنها أن تحسن الوضع العام ببلدانها على مستوى الحريات كما على المستوى المعيشي والفساد… وصلت الشعوب العربية وشعوب المنطقة إلى مرحلة لم يعد لديها ما تخسره، أو بعبارة أخرى تأكد لديها أن لا شيء لديها تخسره، وانبثقت عبارة هيغل الشهيرة “مكر التاريخ” لتثبت صحتها على نحو لا يضاهى، ومكر التاريخ بالفعل وقام الشعب السوداني بثورته العظيمة ليطيح بنظام البشر، وقام الشعب الجزائري بثورته العظيمة أيضًا ليطيح ببوتفليقة ولم يزل مستمرًا بثورته ليطيح بكافة أركان النظام.
وقد عزا بعض المحللين والباحثين نجاح الثورتين السودانية والجزائرية إلى عدم وجود تعدد طائفي وإثني في البلدين، لاسيما أن الأمازيغيين شاركوا بالثورة الجزائرية دون أن يتمكن النظام أو قوى أخرى من عزلهم وإيقاف ثورتهم (حتى ولا بالقوة) وإحداث شرخ بينهم وبين مواطنيهم الجزائريين الآخرين! هذه الآراء عززت من ارتياح أنظمة قائمة أصلًا على تحاصص طائفي وإثني كما في لبنان والعراق، حيث الناس منقسمون طائفيًا وإثنيًا وحزبيًا ما يعني أنهم لن يتمكنوا من التحرك كـ”شعب” وتحديد مطالب موحدة لهم، وطريق موحد يسلكونه لتحقيق تطلعاتهم! لكن حدثت (المفاجأة) وقام الشعبان العراقي واللبناني بتجاوز الطائفية والإثنية والمحاصصة والحزبية التي تبين أنها كانت مفروضة عليهم وإرغامية، ونزلا إلى الشارع بصفتهما شعبين لا مجموعات طائفية وإثنية.
هكذا وخلال بضعة أشهر تم تجاوز فوبيا المثل السوري، وبدا أن ذلك الساطور المرفوع على رقاب الناس في البلدان العربية الأخرى ساطور من ورق. وقد أعلنت ما تم تسميتها الموجة الثانية من الربيع العربي أفول المثل السوري الترهيبي، وبزوغًا قويًا لوعي الشعوب ذاتها كشعوب وليست مجموعات متناحرة أو قابلة للتناحر خاصة في لبنان والعراق.
الترا صوت