الدولة والديمقراطية لدى النخب السياسية في سوريا/ أحمد عيشة
يمكن إجمال التيارات السياسية في سوريا تحت عناوين ثلاثة، وهي الإسلامية والقومية والماركسية (الشيوعية وتفريعاتها)، وجميعها نشأت كفرقٍ أساسية في النصف الأول من القرن العشرين، مع فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا، وقدّمت رؤى لمختلف القضايا التي واجهتها، كلٌّ من وجهة النظر التي تبناها، لكن ثمة قضايا مشتركة في الجذور بين تلك التيارات، وأهمّها قسر الواقع على النظرية، أي الحقيقي على المُتخيل، والثاني نظرتها تجاه الدولة والديمقراطية، فرغم التباعد والتناقض في مرجعيات تلك التيارات السياسية، فإن ثمة قواسم مشتركة فيما بينها تجاه تلك القضيتين.
فالحركات الإسلامية، إخلاصاً لمرجعيتها الدينية المقدّسة في نظرها، لا بد من أن تجد مرجعاً نصّياً لتقيس إليه، وفي موضوعنا هذا -الديمقراطية- أحالته إلى مفهوم الشورى التي ورد ذكرها في القرآن والسنة النبوية، في محاولة لقسر وبسترة هذا المفهوم والممارسة الحديثة التي ظهرت في أوروبا القرن التاسع عشر بعد نضالات اجتماعية طويلة، وتأصيلات فكرية أهمها استقلالية الفرد وامتلاكه لذاته، وهو الأمر الذي يفتقر إليه الفرد المسلم، لكونه ونفسه ملكاً لخالقه من خلال مفهوم العلاقة القائمة على العبودية لله.
الشيوعيون وتفريعاتهم الماركسية المختلفة، اعتبروا أن الديمقراطية لعبة برجوازية، تهدف الأنظمة الرأسمالية من وراء نشرها إلى خداع الطبقة العاملة وتشويه نضالها في قلب تلك الأنظمة وبناء الأنظمة الاشتراكية، وبمصطلحاتهم أنظمة دكتاتورية البروليتاريا، في سياق تحرير الشعوب الذي ستقوده الطبقة العاملة في مختلف البلدان، والتي بدورها ستجلب الحرية للفرد ضمن الجماعة، أما الحقوق الأساسية من تعبير وتجمع ونشر وانتخابات حرة وتداول للسلطة وما تقتضيه كامل العملية الديمقراطية، فهي من اختصاص طليعة الطبقة العاملة، أي الحزب الطليعي (القائد للبشر والحجر).
القوميون بدورهم، رأوا في مسألة الديمقراطية قصة التحرر من الاستعمار، والتي كانت من صلب شعارهم الأساسي، بغض النظر عن ترتيب مفردات (سواء كانت في الأول أو الوسط أو الأخير) شعاراتهم؛ فعملوا على تأطير الجماهير ككتل، من دون إيلاء أي اعتبار واهتمام لقضية الحريات الأساسية، بهدف التحرر من الاستعمار أولاً وأخيراً، مستمدين الكثير من توجهاتهم الفكرية والتنظيمية من حلفائهم الشيوعيين، ومطورين تلك الصيغ نحو أشكال متعصبة وقهرية، فمقاومة الاستعمار يجب أن تُسخّر لها كل الطاقات، ومن سوء حظ الشعوب أنهم لم ينتصروا في أي معركة مع الاستعمار سوى معركة استمرارهم فوق صدور شعوبهم.
أما قضية الدولة، فقد دمجت بينها التيارات الثلاث وبين مسألة السلطة، فلم تكن إلا مرحلة مؤقتة لدى تلك التيارات نحو الانتقال إلى الهدف المنشود: دولة الخلافة لدى الإسلاميين، والدولة القومية لدى القوميين، والشيوعية لدى الشيوعيين الذين ستضمحل لديهم الدولة وتزول، حيث يمسك العمال والفلاحون -من خلال مجالس يختارونها- بأمور حياتهم وشؤونهم الداخلية والخارجية، أما الدولة ككيان اعتباري قائم على المؤسسات المستقلة عن نظام الحكم الذي تمثله وتديره السلطات، فهي أمرٌ غائب.
مع سقوط الاتحاد السوفياتي، ومن بعده الاحتلال الأميركي لأفغانستان وانتشار موجات الإسلام السياسي الجهادي كبديل عن الإسلام السياسي التقليدي، والعراق وتوجيه الضربة الأخيرة لبقايا الأنظمة “القومية” التقليدية العربية، أجرت معظم هذه التيارات، وخاصة الشيوعية والإسلامية، مراجعات لأيديولوجياتها، بينما لا يزال التيار القومي متمسكاً برموزه وقيمه، وقد أفضت تلك المراجعات لدى الشيوعيين أو جلّهم إلى التخلي التدريجي أو الفوري عن الأيديولوجية الماركسية اللينينية، والانتقال نحو الليبرالية بما تعنيه من تبني قيم الحريات الأساسية للإنسان، واعتماد الخيار الديمقراطي طريقاً في الوصول إلى السلطة، ومنهم من مضى بعيداً في “تحوله” الليبرالي فنقل البندقية من كتف إلى آخر مما جعل من ذاته مسخاً يقلد الغرب، مع احتفاظه بنظرته الاستعلائية على الشعب والمعادية له في بعض الأحيان، وكذلك فعل الإسلاميون في مراجعاتهم الجزئية، وتوصلوا إلى خطاب يجعل الشعب هو المرجعية في الحكم، وهو تبنٍ بشكل ما للعملية الديمقراطية التي تقبل بالتشارك مع الآخرين، لكنهم بقوا مشلولين أمام نقد المرجعية، وأمام قضايا عديدة تقتضيها الديمقراطية من مساواة الجميع في الحقوق، بغض النظر عن عرقهم أو دينهم، وهو ما ترك خطابهم منقوصاً وضعيفاً.
في أول تجربة بعد انتقال تلك التيارات، من ذهنية الأيديولوجيات الشمولية إلى التوجهات الجديدة التي نادت بها، مع انطلاقة الثورة السورية، وفي بداياتها مع محاولات تشكيل الهيئات السياسية لتمثيلها أمام الدول الخارجية، كمعبّر عن مطالبها؛ انكشف زيف تبني تلك التيارات لقيم التحرر والديمقراطية، وتصوّرها لمفهوم الدولة، وبدا أن الديمقراطية لا تعني لها إلا حقها في الوصول إلى الزعامة، إلى الكرسي الأول، وأن أيّ عملية لا تحقق ما تبتغيه في برامجها المعلن والمخفي منها، هي مؤامرة على توجهاتها ومحاولة للنيل من تاريخها ونضالها العتيدين.
تحتاج الدولة -كما الديمقراطية- إلى عمليات تأصيل فكري تقوم بها تلك التيارات، لتجعل منها بنى أساسية في برامجها وسلوكاً يوجهها، أما تبنيها كموجة سائدة بفعل عوامل خارجية أو غيرها، فسيبقى عامل انتكاس لها، ويفوّت الفرص لتحرر الشعوب، وما حصل مع تجربة السوريين واضح للعيان، حيث فوّتت تلك التيارات بناء هيئة سياسية تجعل من مطالب السوريين ومصالحهم برنامجاً لها، وكان لذلك الأمر الأثر السيئ على مسار الثورة حتى يومنا هذا.
تلفزيون سوريا