يعد خروج السوريين من مجال التأثير في ثورتهم من أهم الخسائر التي تعرضوا لها منذ بداية التدخل الروسي في سورية عام 2015. مقدمات هذه الخسارة كانت كثيرة، منها تزايد تدخل فصائل مدعومة من أيران وحزب الله قي الوضع السوري، ناهيك عن استيلاء داعش، جبهة النصرة، أحرار الشام وجيش الإسلام، وفصائل إسلامية أخرى على أكثر من نصف سورية. ما يجمع بين كل هؤلاء أن صراعهم على السلطة كان ينطلق من ضرورة تحييد السوريين بالقوة لتثبيت وضع الثورة شيئاً فشيئاً من مظاهرات مليونيه وحراك شعبي واسع إلى مجرد صراع مسلح على السلطة. ولكن كيف أُخرج السوريون من ثورتهم؟ وهل يمكن أن يعودوا؟
بدأت الثورة السورية، مثلها مثل باقي ثورات الربيع العربي كحراك شعبي قام به “الناس العاديون”, والمصطلح لآصف بيات، أو ثورة ناس غير منظمين في أحزاب وجمعيات، وليست لديهم بنية تحتية أو تنظيمية لجهودهم وما إلى ذلك، ولكنهم على أية حال تجمعهم أهداف وقيم ومطالب مشتركة، تشكل الحريات والحقوق والتخلص من ظلم وفساد النظام الأسدي القاسم المشترك بينهم. لم يشغل هاجس الوصول للسلطة أي حيز في تفكير السوريين المنتفضين، فالناس العاديين، يتظاهرون من أجل التغيير ويحتجون ضد من يتعدى على حقوقهم والشروط الإنسانية لوجودهم، ولكن ليس لديهم خطط للوصول للسلطة. هم يريدون الضغط على السلطة لتستجيب لمطالبهم، ولكن كيف؟ وماذا لو قرر النظام قتلهم في الشوارع؟ لم تكن هناك خطط واضحة سوى النزول للشوارع والساحات بأعداد كبيرة حتى لو كان الموت ينتظرهم هناك.
أول مفاجأة واجهها السوريون في ثورتهم هي العنف غير المسبوق الذي تعرضوا له. غير أن فائض العنف هذا لم يبدو أنه سيؤثر كثيراً على خيارات من قرر النزول للشوارع بشكل يومي، الأمر الذي جعل النظام يفكر بتعميم العنف بين الجميع، وفسح المجال لنوع من الفوضى، وتكوين ميلشيات عابرة للقانون والدولة تقتل وتمارس توحشا، اعتقد العالم أنه يعود لأزمان غابرة. لقد كشر النظام الأسدي عن انيابه حتى آخر ناب، بوصفه ” عصابة” أو جنرالات يمتهنون الحروب والعنف من حيث هو شكل من أشكال وجودهم، فالدولة الاستبدادية –بحسب تشارلز تيلي- ليست ممن يفكر بحماية المواطنين من العنف بل ممن يحكم مواطنيه بالعنف الفائض.
المفاجأة الثانية كانت عدم تفاعل المجتمع الدولي مع السوريين وتركهم يخوضون في بحور من الدماء. حتى باراك أوباما تراجع عن خطوطه الحمراء. هذه المفاجأة أربكت السوريين كثيراً لأنهم كانوا يعرفون جيداً أن دخول الثورة في نفق الصراع المسلح سيكون في صالح النظام إذا لم تتدخل أمريكا. التدخل الاقوى أتى من إيران ثم من روسيا.
عدم وجود بينة تحتية تنظيمية تجمع السوريين في مواجهتهم للنظام جعلهم أكبر الخاسرين أمام من يمتلك خبرات طولها أكثر من خمسين سنة في العمل، بوصفه عصابة منظمة تعمل كدولة باطنية يمكنها التحكم من الخلف بالدولة الشكلية، التي نُخرت حتى العظم.
مع تحول فعاليات الثورة من مظاهرات ضخمة واعتصامات وانشقاقات إلى تشكيل كتائب مسلحة وبدء مهاجمة مراكز النظام وحواجزه العسكرية ومقراته الأمنية بدا السوريون مقتنعين بهذا الخيار، أولاً لأن الأعداد الكبيرة التي كانت تقنص في المظاهرات لم تعد تحتمل، وثانياً لأنه بات من الواضح أن النظام كان على استعداد لأن يبيد الشعب السوري طالما أنه ليس هناك رادع يردعه. طبعاً قلق الناس الذين ” تحرروا ” من سيطرة النظام أخذ يكبر يوماً بعد يوم بسبب ممارسات كتائب ” الجيش الحر” والفصائل الإسلامية. تلك الفصائل والكتائب التي بدا أنها غير معنية بأهداف الثورة ومطالب السوريين المنتفضين، ولا تعتقد أن حقوق الناس وحرياتهم أمر ذو شان بالنسبة لها.
مع مرور الوقت أدرك السوريون أن تلك الفصائل المسلحة جزء من ثورة مضادة تريد الدخول قي صراع مع النظام من أجل السلطة بتمويل بعض الدول، لا سيما دول الخليج. أما الثورة فهي مجرد فرصة جيدة يمكن استغلاها لأخذ السلطة من النظام، لا أكثر ولا أقل.
أما بعض دول الخليج فقد دعمت الكتائب الإسلامية المسلحة لتحقيق هدف أساسي وهو تحضير” بديل إسلامي سلفي ” عن النظام في حال سقوطه، هذا أمر مقبول بالنسبة للداعمين على اعتبار أن تنظيمات الإسلاميين تحمل تصورات مشتركة مع عموم الأنظمة العربية حول الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني، وبالتالي يمكن إعادة إنتاج الثورة السورية بوصفها ثورة تريد العودة بسورية إلى جادة الإسلام السلفي الصحيح.
لجأت الفصائل الإسلامية أيضاً للعنف الفائض لأنها تملك القوة للقيام بذلك، ولأنه أسهل طريق لفرض سيطرتها وجبروتها على ناس تعرّفوا على السياسة، التي منعوا عنها لمدة نصف قرن، عن طريق المظاهرات والاعتصامات والاعتقالات في الفروع الأمنية والقتل في الشوارع. هكذا أنتجت تلك الفصائل نفسها بطريقة مخابراتية مستنسخة من تجربة النظام مع اختلاف في شكل الخطاب الأيديولوجي.
وفق هذه المعادلات أصبح السوريون هم ” الشر ” بحد ذاته. هذا بات واضحاً في خطابات الجميع عن السوريين. فهم ” فاسقون ” و ” يسبون الله ” على حد تعبير المحيسني، وهم يتهاونون كثيراً في حدود الله بحسب شرعيي أحرار الشام، وهم أيضاً ” حاضنة للإرهاب” بحسب النظام، وبحسب ” حدس ” الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولي. مثلما هم من ” قتل الحسين ” بحسب تقديرات حسن نصر الله وملالي إيران. حتى العلامة محمد راتب النابلسي برر بعض مواقف الحكومة التركية إزاء اللاجئين السوريين في تركيا بوصفه إياهم بـ ” أدب يوك “, أي ” قليلي الأدب “. أما جماعة اليسار العربي فقد كان يفضل أن تبقى الثورة مجرد فكرة نظرية يتغنون بها لإشباع مراهقتهم السياسية.
هكذا أصبح الجميع يريد إلباس السوريين كل أنواع الباطل حتى يتنسى له تجاهل حقوقهم ومطالبهم اولاً قبل الشروع بمشروعه، وهذا يعني أنه يريد تجريدهم من حقوقهم وأحلامهم السياسية: فبشار الأسد يعتقد اليوم أن العدو الحقيقي له هو ” السوريون الخونة” وليس أمريكا أو إسرائيل لأن هؤلاء هم من سّهل قدوم الأعداء، وداعش كانت تقول لأهل الرقة إن الفاسقين (السوريين) أكثر ضرراً من النظام الكافر لأن الثاني عدو واضح أما الأول فأشبه بأفعى تختبئ في الثياب. حتى أدونيس لم يعد يثق بالسوريين لأنهم خرجوا بمظاهراتهم من الجوامع وليس من دور الأوبرا.
هذا الوضع سمح بظهور خطاب ” المظلومية ” لدى السوريين، الذي بدأ يأخذ طريقه شيئاً فشيئاً كنوع من أنواع التعايش مع خيبات الأمل المتلاحقة. الركن الأساسي للمظلومية هي نظرية المؤامرة. خمسة قوى عالمية كبرى دخلت سورية بكل عتادها، ناهيك عن الفصائل المسلحة السنية والشيعية والكردية والعشائرية، والفصائل المشكلة من قبل عائلة الأسد وأقربائه. مؤامرة كونية مضادة للمؤامرة الكونية التي يكررها مؤيدو النظام دون كلل أو ملل.
هكذا خرج قسم كبير من السوريين من عالم السياسة عن طريق المظلومية. المظلومية مريحة لأنها تجعلهم أصحاب حق مطلق والآخرين أشرارا بالمطلق، كما تُرجع الصراع لمئات وربما آلاف السنين. مشكلة المظلومية أنها نظرية تؤسس لليأس وأحياناً للاستسلام طالما العالم كله يتآمر علينا. المشكلة الثانية في المظلومية أنها تعفي صاحبها من القيام بأي ردة فعل، فالنواح والشكوى تكفي في هذا الحالة.
قسم آخر من السوريين طلّق السياسة وهجرها إلى غير رجعة وفضّل التفرغ للحياة الشخصية والعائلية. ترك السياسة لا يمكن تبريره بدون إلباسها كل أنواع الشرور بحيث أصبحت مجرد أكاذيب، والسياسيين أقذر الناس ومجرد نصابين، والأجدى الابتعاد عنها. بقي النظام الأسدي لخمسين عاماً يعمل جاهداً على إبعاد السوريين عن السياسة. إبعاد الناس عن السياسة كان الركن الثاني للنظام الأسدي في الحكم، طبعاً الركن الأول كان الفروع الأمنية والجيش من ورائها. ولذلك كان تشكيل الأحزاب والجمعيات والمنتديات يعد من أكبر المحرمات.
مثلما يدفع السوريون ثمن شعورهم بالمظلومية هم أيضاً يدفعون ثمن لا مبالاتهم بالسياسة وتركهم لمشاغلها. بهجرهم للسياسة يتخلون عن ثورتهم، الثورة التي أعادتهم للسياسة وأعادت السياسة إليهم.
ما زاد من ضعف السوريين هو التنوع الطائفي والديني والعرقي الذي غالباً ما يتم اللعب به في زمن الثورات والحروب. غالبية السوريين تراجع إلى طائفته أو جماعته العرقية بسبب تدني مستوى الأمان في سورية وعدم وضوح مستقبل الوضع العام. ما ساعد على ذلك التراجع سياسات النظام القديمة التي أفقدت التكوينات السورية الثقة ببعضها البعض. التكوينات القابعة خلف الدولة كثيراً ما تظهر عند تراجع الدولة. هذا ما تقوله السوسيولوجيا.
النظام هو من علّم السورين عدم الوثوق بالدولة لأنه هو نفسه لم يكن يثق بها. كانت الدولة مجرد واجهة شكلية والكل يعرف ذلك. النظام وليس الدولة هو مصدر السلم الاجتماعي. هذا يعني في النهاية أن على الأقلية والأكثرية التمسك بالنظام أكثر من الدولة. من يهتم بالشكليات في زمن الموت.
الفساد السوري، كما يشرحه طيب تيزيني، جعل الكل في حالة شبه انتظار لـ ” متى ستسقط الدولة “, وكيف؟ طالما الفساد وصل لحدود غير مسبوقة تنذر بالانهيار العام. الكل كان يضع في حسابه الرجوع لطائفته أو جماعته أو عشيرته في حال انهارت سورية. وما شعار ” سورية الله حاميها ” الذي انتشر قبل الثورة بسنوات قليلة سوى بقصد التخفيف من مخاوف السوريين الخفية من توقع حدوث الانهيار.
أما نجاح النظام في تقديم نفسه بأنه ” حامي الأقليات ” فيعود لسرعة انتشار الكتائب الإسلامية، وهي في غالبهاً تعتبر الأقليات الطائفية والدينية مجرد موضوع للسلب والنهب وليس لها حتى حق الوجود في سورية. هكذا تكونت قناعة عند غالبية الأقليات مفادها: أنه طالما هياكل المعارضة السياسية ليس لها أي قوة على أرض الواقع، فإن خياراتهم الواقعية الممكنة ستكون على الأغلب إما بين جبهة النصرة وداعش وجيش الإسلام ومن لف لفيفهم من جهة أو النظام على علاته من جهة ثانية.
هذا يعني أن النظام فاز في ملف الأقليات بفضل غيره. وأن تهاون المعارضة السياسية مع الكتائب الإسلامية كان خطأ لم يكن ليمر دون ثمن.
الحديث عن مؤسسات المعارضة وأخطائها يشبه المسلسلات المكسيكية. مئات الحلقات ولكن النهاية معروفة من أول حلقة. فسادهم يشبه فساد النظام، أما بعدهم عن السوريين فكان بمسافة لا تقل عن بعد النظام، حتى أنهم أجبن من بشار الأسد الذي اعتاد على الذهاب خلسة لأداء صلاة العيد. يخافون من النظام، ولكنهم يخافون من السوريين أكثر، حتى أن دخول كبار مسؤولي المعارضة للداخل السوري لا يستغرق أكثر من ساعات.
المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية محمد حكمت وليد، التنظيم السياسي الذي كان يُعتقد قبيل الثورة أنه الغريم الصنديد للنظام السوري، منشغل هذه الأيام بالتأسيس” للسياسة الشرعية “. وهذا نوع من الدراسات الفقهية ابتدعه ” فقهاء البلاط ” في العصور العباسية لكي يضمنوا من خلاله ولاء الناس للخليفة، وطاعة الزوجة لزوجها وما إلى ذلك. بين السطور التي يكتبها الرجل نجد أنه أقرب لجماعة ” ليتها لم تكن” لأن ثقة الناس بالإخوان المسلمين في سورية تراجعت كثيراً بعد الثورة، حتى زملاؤه تحولوا إلى مجرد موظفين من الدرجة الثانية في إطار السياسة التركية، ولعل هذا ما يفسر تنمّر السيد ملهم الدروبي على اللاجئين السوريين في تركيا قبل أشهر.
يحاول النظام أن يدعم إمكانية استمراره بالحكم بكل الوسائل. المفتاح الذي يفتح به كل الأبواب هو: الأرض مقابل البقاء. بشار الأسد قبل الثورة ليس هو بعد الثورة. هو اليوم يؤجر قواعد عسكرية ومطارات لروسيا، كما أنه يعتبر القواعد الأمريكية في شمال وشرق وجنوب سورية أمر واقع والوقوف ضدها نوع من “العنتريات”. وطبعاً زمن العنتريات اليوم انتهى. كما أنه لا يخفي إعجابه بترامب ” أفضل رئيس أمريكي” على الرغم من أن حبر الوثيقة التي أقر بموجبها الرئيس الأمريكي لإسرائيل بالجولان لم يجف بعد.
هو معجب أيضاً بصراحة ترامب علماً أن ترامب يقول إنه صريح مع حكام منطقة الشرق الأوسط لأنهم أضعف مما كان يعتقد رؤساء أمريكا السابقين، ولا ضير من وصف أحدهم بـ ” الحيوان”. بشار الأسد الجديد يثق بشكل مطلق بالروس، ويحترم الاتفاقات الروسية التركية التي يبدو أنها ستعطي للأتراك منطقتي تل ابيض ورأس العين.
تتصارع اليوم أمريكا وروسيا وتركية وإيران وإسرائيل على الأرض السورية غير أن ما يقلق بشار الأسد ليس الأراضي السورية بل مصيره الشخصي فقط. خوفه من أن يتخلى الروس عنه كان واضحاً في حديثه قبل أسبوعين للتلفزيون السوري. لقد اكتفى بأن يكون مجرد ناطق باسم السياسة الخارجية الروسية. أما الصراع الإيراني الإسرائيلي في سورية فهو أمر خارج اهتمامات الرئيس السوري بنسخته الجديدة.مصدر قلق بشار الأسد معرفته أن لروسيا مصالح مع تركيا وإسرائيل أهم بكثير من بقائه في قصر الأمويين.
الدروس المستفادة من الثورات العربية تقول إن من لم ينظم نفسه لن يفلح في ترجمة تضحياته في عالم السياسة. الإخوان المسلمون (المنظمون) تسلموا السلطة في مصر بعد أول انتخابات على الرغم من أن الثورة المصرية ليست ثورتهم. في ليبيا واليمن أيضاً خرج الناس العاديين من دائرة السياسة لأنهم غير منظمين. في تونس الأمر مقبول لأن (الناس العاديين) منظمون إلى حد ما.
الطرق المتاحة اليوم أمام السوريين حتى ينظموا أنفسهم وعرة وتواجهها صعوبات جمة. مؤسسات المعارضة السياسية لا يعول عليها ويأكلها الترهل والفساد بل وقلة الوطنية، وهي تنتظر رصاصة الرحمة. المراكز البحثية ومعاهد الدراسات والمواقع الإعلامية تعمل بشكل منفرد. الناس العاديون اليوم يميلون إلى اللامبالاة بالسياسة. ولكن لا بد مما لا بد منه.
بروكار برس
