ما هي الثورة السورية؟/ ياسين الحاج صالح
بالتفاعل مع الثورتين اللبنانية والعراقية، وما يعرضه سوريون من مزيج من الابتهاج والقلق في متابعتهم لهما، قد يكون مناسباً العودة بالذهن إلى الثورة السورية، في محاولة للتذكر والفهم والتعرّف. أنطلق في هذا التناول من تعريف أولي للثورة السورية بأنها تمرد اجتماعي متسع النطاق، جاء في سياق معلوم: «الربيع العربي»، وابتغى «إسقاط النظام» كمدخل إلى سورية جديدة لا أسدية، يمتلك السكان فيها السياسة والبلد، ويحفز احتجاجهم فكرة الكرامة، التي تستجيب لشعور منتشر في المجتمع السوري بالذل، إن في شكل الإهانة و«كسر العين» على يد النظام وأجهزته المختصة بالخوف، أو في شكل الحاجة والافتقار المتزايد، المتولدين عن نهب الموارد العامة. بهذا المعنى الثورة السورية ثورة من أجل الجمهورية، موجهة ضد الدولة المخصخصة، التي تسمي نفسها «سورية الأسد».
الثائرون السوريون أطلقوا اسم الثورة على الحدث الذي انخرطوا فيه. يتواتر لمن ينكرون هذا الاسم أن ينكروا كذلك أهلية الثائرين أو ولايتهم على أنفسهم، وأن ينسبوا الذاتية والمبادرة والنشاط إلى مذاهب لا يحتاج كمالها الخاص لشيء من تجارب المنخرطين الفعليين في الصراع وتمثيلهم لها. ويصدر إنكار ذاتية الثائرين ونفي قدرتهم على إسباغ المعنى (الثوري) على أفعالهم وعلى تسمية هدفهم (بالثورة) عن بنية فكرية سياسية تستأنف إنكار الأهلية والجدارة على عموم السوريين من طرف النظام. وهناك من يطلقون عبارة الثورة على الثورات الناجحة فقط 1، وبهذا المعنى لا يمكن الكلام على ثورة سورية بحال. ثم هناك من يطلقون عبارة الثورة على مجمل الصراع، فتكون هذه السنوات التسعة كلها الثورة السورية. هناك كذلك من يقصرون الثورة على الطور السلمي فتكون ستة شهور أو سبعة2. يميل هذا التناول إلى تصور ديناميكي وتفاعلي للثورة، يجمع بين توافق أنشطتها مع التقدم نحو الهدف المأمول، سورية جديدة، وبين الوعي الذاتي للثائرين المنخرطين في الصراع. ويبني على ذلك أن الثورة السورية منتهية. قد يتعذر التوافق على وقت الانتهاء، لكن تقرير النهاية مهم للدفاع عن كرامة ثورة الكرامة، بتحديد ما الذي منها وما الذي ليس كذلك، وهو مهم من أجل بدايات جديدة وطرق مغايرة للعمل.
تنهزم ثورات وتتعثر ثورات وتنتصر ثورات، لكن هناك شيئاً عظيماً يتأسس: تقليد ثوري، روح تُستحضر لتلهم نضالاً متجدداً وثورات أخرى قادمة. نسهم في بناء هذا التقليد حين نفكر في الحدث الكبير الذي كان عميق الأثر على حيواتنا، وبصورة مأساوية في حالات كثيرة. تحاول هذه المقالة الإجابة على سؤال: ما هي الثورة السورية؟ من شأن محاولة الإجابة على هذا السؤال أن تساعد في تمييز ما انتهى وما مات من الثورة السورية، وما هو الحي والمستمر الذي لا يموت.
أحاول الإجابة على السؤال من خمسة مداخل: مدخل زمني يتكلم على أطوار ومراحل خلال ما يقترب اليوم من تسع سنوات؛ مدخل عمقي إن جاز التعبير يتكلم على طبقات من الممارسات والتجارب؛ مدخل اجتماعي ديناميكي يحيل إلى تحولات الأفراد في الوعي والسلوك والإبداعية؛ ومدخل ينظر في تحولات الارتكاز الاجتماعي للثورة في صلتها بالقول باستمرارها ونهايتها، وأخيراً من مدخل الثورة كتقليد مُستعاد أو مُستأنف.
1- الثورة كمرحلة
في مقال سابق، نشر في آخر 2015، ميزت بين أطوار ثلاث في الصراع السوري خلال نحو خمس سنوات وقتها: الثورة، السلفية، الامبريالية. يمتد الأول من البداية حتى اكتمال انهيار الإطار الوطني للصراع في ربيع 2013 بظهور داعش والمشاركة العلنية لحزب الله اللبناني- الإيراني في حرب النظام، بدءاً من القصير. يتلوه طور سلفي، سميته في وقت لاحق طور الصراع السني الشيعي 3، يتمثل بصعود السلفية في بيئة الثورة السورية، بما في ذلك السلفية الجهادية المعولمة في صيغة القاعدة وتناسخاتها، لكن منه كذلك سلفية يغلب في تشكيلاتها الطابع المحلي، تجسدت في أمثال أحرار الشام وجيش الإسلام وصقور الشام، ومجموعات أخرى؛ وهو طورُ تدخُّلِ المركز الإيراني للشيعية العالمية بعسكر مباشر من عنده أو بميليشيات شيعية من لبنان والعراق وأفغانستان. ثم ولجنا الطور الامبريالي بالتدخل الأميركي في أيلول 2014، وبعده التدخل الروسي في أيلول 2015 الذي عكس المد من جديد لمصلحة المحمية الأسدية. في كل حال، يندرج الطور السابق في اللاحق دون أن ينحل فيه أو يزول لمصلحته. فلم يُلغِ الصعودُ السلفي أنشطة مدنية متنوعة في نطاق الثورة، ولا حتى أنشطة عسكرية ظلت أقرب إلى روحية الجيش الحر من حيث أنها موجهة حصراً ضد النظام؛ لكن الطور السني الشيعي خسف هذه الأنشطة سواء باحتلال التشكيلات السلفية مساحة الرؤية والتغطية الإعلامية، أو بالاعتداء المباشر على ما يتصل بالجذع الثوري من أنشطة وأفعال، أو بالمنزع الثابت للسيطرة على المجتمعات المحلية بأساليب لا تختلف عن الحكم الأسدي. إسقاط النظام، وهو هدف الثورة المباشر، ضاع في تأكيد الأولويات العقدية للسلفيين، وهي أولويات طائفية ومعادية لأشكال الاستقلال الاجتماعي بقدر معاداة النظام لها. وبالمثل، لم يلغِ الطور الامبريالي القوى السلفية أو يضع حداً للتنازع السني الشيعي، لكن هذا صار مندرجاً في خطط القوى المسيطرة، أميركا ثم روسيا، ولا يخرج عليها. النظام صار آمناً دولياً منذ التدخل الأميركي، بل منذ الصفقة الكيماوية، الروسية الأميركية في أيلول 2013، وأُخرِجَ السوريون، جمهوراً ومعارضة منظّمة، من الصراع بقدر كبير. أعاد الروس زمام المبادرة إلى النظام، وهو ما تجسد في إعادة احتلال حلب قبل نهاية 2016، بتفاهم غير معلن مع الأتراك. وكان ذلك فاتحة لإعادات احتلال شملت درعا وعموم حوران، ودير الزور ومناطقها، ثم الغوطة الشرقية، ثم ريف حماه الشمالي ومواقع في ريف إدلب الجنوبي. وبمساوقة ذلك حل الأميركيون وحليفهم الكردي، الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني، محل داعش في الرقة ومناطق من دير الزور والحسكة. هذا قبل أن تحتل تركيا عفرين، ثم مؤخراً تل أبيض ورأس العين وشريطاً من الحدود بينهما.
قد يُنظر إلى ما بعد حلب بأنه، في آن، طور المحمية الأسدية التي ضمنت البقاء لكن خسرت السيادة، وهو كذلك طور الأفول السلفي، وربما الإخواني كذلك، وإن يكن سبب الأفول الأخير التبعية التطوعية العمياء التي أظهرها الإخوان للحكم التركي، بحيث لم يعد مصيرهم جزءاً من المصير السوري، بل من مصير الحكم التركي الحالي. ولعله من وجه آخر طور أفول المعارضة التقليدية بقضها وقضيضها، وهذا من ضمن الانطواء التاريخي لعالم سورية الأسد ككل. فإن كان ذلك صحيحاً، فإن هذه من المفاعيل الكبيرة للحدث، الثورية بحق.
فهل تكون الثورة هي الطور الباكر، الذي يغطي العامين الأولين تغطية منحسرة؟ هذا وجيه جداً. وإليه أميل عند الكلام على الثورة كطور زمني.
2- الثورة كطبقة ممارسات
لكن هذا الطرح الزمني لا يحيط بالقضية إلا جزئياً، ولا يوفر إجابة شافية على سؤال ما هي الثورة السورية. نحتاج إلى بعد آخر، يحيل إلى أفعال الثائرين وممارساتهم وإبداعيتهم التي استمرت أوجهٌ منها إلى ما بعد «الثورة كمرحلة»، ومنها ما هو مستمرٌ إلى اليوم.
تمثلت الثورة أساساً بـالمظاهرات، تجمعات من أناس يتكلمون في السياسة، ويهتفون بصورة عال في فضاءات عامة لأطول وقت ممكن. كان أطول وقت ممكن قصيراً في الغالب، وحين اعتزم حماصنة أن يصير التجمع اعتصاماً دائماً في ساحة رئيسية، مثلما فعل المصريون في ميدان التحرير، أطلق عليهم الرصاص ويحتمل أن 200 منهم قتلوا بعد منتصف ليل 18 نيسان 2011 في مجزرة ساحة الساعة، ونقلت الجثث بالجرافات. وقع هذا بعد شهر واحد من بداية الثورة.
استمرت المظاهرات التي أمكن لها أن تأخذ طابع فنياً شعبياً في درعا «مهد الثورة»، وفي حمص «عاصمة الثورة»، حتى بدء انهيار الإطار الوطني للصراع في تموز 2013 4. انحسرت بعدها بفعل توسع النظام في الحصار والقصف بالطائرات.
إلى جانب المظاهرات ومعها، برزت كتابة اللافتات، والكتابة على الجدران، وظهور أسماء عدد كبير من الثائرات والثائرين ممن اعتقلوا أو استشهدوا. الثورة كانت عملية ظهور ذوات نشطة بعدد كبير. ليس ذوات الأفراد فقط، ولكن كذلك ذوات جمعية عبر ظهور مدن وأحياء وبلدات من الغمر الأسدي المديد وتحولها إلى بؤر لصنع الحدث.
وظهرت في الحقبة نفسها أنشطة تطوعية وتضامنية متنوعة، بلغت ذروتها في أنشطة الإغاثة الباكرة التي لم تلبث أن تجاوزت قدرة الثائرين السوريين، والمجتمع السوري ككل، على تلبيتها بفعل توسيع الدولة الأسدية مساحة الأذى في الجسم الوطني. أنا شاهد مباشر على استنزاف الإغاثة موارد نادرة والكثير من جهد ووقت الثائرين المنتظمين في لجان التنسيق المحلية طوال عام 2012، وما بعد.
ومن أوجه الثورة وقتها مجالس محلية، الفكرة التي جهد من أجلها واستشهد في النهاية عمر عزيز، والتي تربط الثورة السورية بتراث ثوري عالمي، شوهد في أميركا وفي روسيا وألمانيا، وفي هنغاريا، وفي ثورات عديدة بحسب حنة آرنت.
وواكب ذلك أيضاً أنشطة كتابية وفنية متنوعة، متفاوتة القيمة بطبيعة الحال، لكن قاعدتها متسعة، وشبابية في الغالب.
يجد كل ذلك ارتكازه الاجتماعي في ضرب من الوطنية الشعبية التي قد يكثف فكرها وشعورها شعار اللي بيقتل شعبو خاين، وهذا في مقابل الوطنية الممانعة التي تتواطأ مع قتل الشعب democide، ومع الإبادة عملياً، للدفاع عن سلطة وطبقة مثرية تنتحل شعارات كاذبة.
ومن الثورة أيضاً مقاومة مسلحة استهدفت الدولة الأسدية وحماتها أساساً. وبعد توقف المظاهرات صارت المواجهة المسلحة للحكم الأسدي هي التي تعتبر استمراراً للثورة، بخاصة حين لا تقترن بمحاولة السيطرة على المجتمعات المحلية على ما سيفعل الإسلاميون. وقد يكون من أبرز وأحدث أمثلتها عبد الباسط الساروت الذي استشهد في حزيران 2019، وهو في السابعة والعشرين. تعرج مسار الساروت يتصل بقدر كبير بتعرج مسار الثورة ذاتها5. ضمن المسار ذاته، يمكن ذكر الشهداء حسين الهرموش وأبو فرات وعبد القادر صالح وغيرهم. وممن هم أقل شهرة أحيل إلى ست بورتريهات أنجزتُها في الغوطة الشرقية في أيار 2013، مطلع المرحلة الثانية، مرحلة ما بعد انهيار الإطار الوطني 6. خمسة من البورتريهات تظهر الجذر الوطني الشعبي للمقاتلين ضد النظام، مع تناقضاته. أستبعد منها «الحجي» لأنه في الأصل من شريحة اجتماعية أعلى، ولم تكن مطامحه السلطوية خافية.
ماذا حدث لهذه الطبقة من الأنشطة والممارسات والأدوار؟ انهارت فوقها طبقات من الحرب الأسدية والتعذيب والمجازر والاغتصاب، ومن الركام السلفي المفعم بالكراهية وقد اغتال واغتاب ثائرات وثائرين كثيرين (في حلب والرقة ودير الزور، وفي الغوطة الشرقية)، ومن سيطرات دولية وإقليمية، غريبة وعدائية. الثورة هي الطبقة الأعمق التي يغطيها هذا الخراب، بقدر ما هي الطور الأقدم بين أطوار صراعنا. لكن يحصل أن ينجلي الركام أو تضعف يد المراكمين فنرى من جديد مظاهرات مثلما جرى في معرة النعمان ومواقع من إدلب في عامي 2017 و2018، ضد النظام وجبهة النصرة معاً، فيقال بحق إن هذا من الثورة. مثلما جرى حديثاً في كفر تخاريم ضد جبهة النصرة (أو «هيئة تحرير الشام») أيضاً، ممزوجاً بمقاومة مسلحة كذلك. تبدو هذه الأنشطة التي تدافع عن المجتمع مثل بصيص باق من شعلة الثورة. ولعلّ رسوم كفرنبل تمثل مصير هذه الطبقة العميقة التي اختنقت تحت الركام مثلما أُوقفت تلك الرسوم ذاتها.
وخلاصة تصور الثورة كطبقة من الممارسات أن هذه الطبقة موجودة دوماً، لكنها تكاد تكون مدفونة كلياً تحت طبقات من ممارسات وأوضاع أسدية وسلفية وأجنبية ضد ثورية. على أن هذه الطبقة ستبقى مصدر إلهام لأي أنشطة ثورية في زمن مقبل.
3- الثورة كتجارب شخصية
كانت الثورة فرصة للفاعلية التغييرية لما لا يُعَدُّ من الناس، الشباب بخاصة، كانوا يتغيرون هم أنفسهم بينما يعملون من أجل تغيير الواقع. اندحر النضال من أجل تغيير الواقع، لكن تغيير النفس أو تحقيق ثورة في الحياة الشخصية حاز دافعيته الخاصة واستمر عند كثيرين. هذا بُعدٌ للثورة لم يَجرِ تناوله بصورة منظمة إلى اليوم. عمل كثيرون، وخاصة كثيرات، على امتلاك حياتهم والانفكاك من نظام حياة وسلوك وروابط اجتماعية تقيدهم، وهذا مع تطوير نُظُم أكثر اتساقاً من الالتزامات وأكثر إبداعية وإنتاجية. عند النساء، الشابات بخاصة، أخذ أحياناً شكل خروج من أعراف اجتماعية محافظة، ما يتصل بنزع الحجاب وبالحركة وبالحب والحياة المستقلة، أي بامتلاك الجسد الشخصي متحرراً من سلطة العائلة. وانفصلت نساء عن أزواج عدوانيين في أول فرصة متاحة، أي حيث ضَمِنَّ أنهنّ يحظين بحماية قانونية من هؤلاء الأزواج المعنِّفين. جرى ذلك في تركيا وفي ألمانيا وغيرهما، ولكننا لا نحيط إلآ بجانب محدود مما جرى ويجري دون شك.
وأُتيحت لنساء ورجال، في بلدان اللجوء والمنفى بخاصة، فرص للتعلم وإتقان لغات أجنبية والدخول في الحياة الجامعية، واكتساب تجارب وخبرات في مجتمعات أكثر حرية كان يتعذر اكتسابها. ويتحرر البعض في الوقت نفسه من السحر الأوروبي أو الغربي ومن عقد النقص، يرون مجتمعات الغرب عن كثب في صورة أكثر واقعية، وهذا دون مخاطر وقوع معاكس في سحر الأصل والهوية، مثلما وقع لبعض أفراد موجة سابقة من المنفيين، كانت أصغر بكثير من موجتنا الراهنة.
وتتسع القاعدة البشرية للأنشطة الإبداعية من كتابة وموسيقا وأفلام وتشكيل وغيرها على نحوٍ ما كان ممكناً تيّسره كذلك من قبل. الثورة السورية هنا قوة دفع لثورة شخصية، ليس كحدث أفضى إلى اللجوء فقط، ولا كجهد شخصي لتدارك فشل سياسي أو التعويض عنه فقط، وإنما بانتساب واع في حالات كثيرة. فكأنما نحقق في مجالنا الشخصي الثورة التي تعذّرت في المجال السياسي.
أعلم أن هذه رؤية تفاؤلية، تختار أن تبرز ثورات شخصية صغيرة وتغفل عن تحطمات شخصية وجمعية كبيرة، وعن أن ما تحقق بالذات من ثورات شخصية هو مُغالبة لأوضاع قاسية قد يتعذر الصمود في وجهها طويلاً. لكن هذا اختيار مقصود. الخسارة معلومة، وهي تتحقق بطرق مختلفة، كان ولا يزال من أبرزها إهدار طاقات السوريين جميعاً على يد نظام يريدهم خرافاً مطيعة، مجردين من الأسماء والذاتية والإبداعية، كثرتهم لا تنفع وقلتهم لا تضر. هذا منوال كسرته الثورة لنسبة ممن (وليس لكل من) اضطروا لتغيير البلد لأن تغيير نظام البلد فشل. أما الصعوبات التي يواجهها هؤلاء فما كانت لتختلف جوهرياً في تصوري عما كان ليحدث لو سقط النظام بالفعل، وتمكنت الثورة من تحقيق رهانها الأوليّ. كنا بلا شك سنواجه أوضاعاً بالغة العسر، وصراعات عنيفة، وانتكاسات وضياعاً وفوضى، وحنيناً إلى زمن أقل تحدياً وتقلباً. هذا مُرجَّحٌ بقوة بالنظر إلى الدخول الواسع في السياسة في سورية ما بعد أسدية، مع ما هو معروف من ضيق أو تحجر المؤسسات السياسية، ومن ضعف عريق في إجماعات السوريين فاقمته خمسون سنة أسدية.
هذا الجانب الاجتماعي الخلاّق يلفت النظر إلى أن الثورة ليست مواجهة عسكرية تنكسر أو مواجهة سياسية تفشل. إنها تحرر اجتماعي وثقافي تنخرط في عمليته أعدادٌ غير مسبوقة من السوريات والسوريين 7هذا البعد ليس لم يفشل فقط، بل هو أكبر فرق صُنع بفعل الثورة وكسرها.
ما يمكن أن يؤمل في هذا الشأن، وما يبدو مفتقداً إلى اليوم، هو الإحاطة بمدى هول وعالمية الضربة التي أصابت سورية والمجتمع السوري، وتطوير وعي مناسب. ليس وعياً منسحباً أو مكتئباً أو سينيكياً (ليسوا قلة من يعرضونه بيننا اليوم)، بل تمثيل ما يتصل بالمصير الإنساني في القصة السورية، وما هو سوري في الإنسانية المعاصرة، التي يبدو أنها تدخل في أزمنة وعرة ومتخبطة. العالم مصلحة لنا أكثر من غيرنا.
4- «الثورة الباطنة»
يمكن في المقام الرابع مقاربة الثورة السورية من زاوية مآل النواة الصلبة لقاعدتها الاجتماعية. ثمانية سنوات وثمانية شهور إلى اليوم هي 104 شهور، ونحو 3175 يوماً تقريباً، وخلالها قتل مئات الألوف وعُذب مئات الألوف 8، وعاش مئات الألوف والملايين في انكشاف تام ووقعت مئات المجازر، وتلوع ملايين وتلونت أيامهم ولياليهم بالشؤم… وتداعت بنية المجتمع السوري الذي لم يكن آية من آيات التماسك في أي وقت. سورية كانت مجتمعاً ممسوكاً وليس متماسكاً، منهج الإمساك الأسدي القائم على الخوف (إخافة الجميع وتخويفهم من بعضهم) والخيانة (أن يخون السوريون بعضهم كأرفع شكل للولاء للنظام)، والتمييز الطائفي النشط، منعه من تطوير أي تماسك ذاتي. وما كان بنية من عدم التماسك خلال أربعين عاماً قبل الثورة تحقق كحدث أو مسلسل أحداث أثناء الثورة، وآل خلال هذه السنوات والشهور والأيام الطوال إلى تجريف مشتدّ لبيئة الثورة، حَوَّلها من طيف وطني متعدد وعابر للجماعات الأهلية إلى ارتكاز عميق في البيئات العربية السنية الريفية، وإلى تكثف هذا الارتكاز سياسياً في ما يمكن تسميته السنّية الباطنة. أُقدِّرُ أن هذا أخذ يتحقق في مدار عام 2013، وإن تكن له علامات ونذر سابقة. نقطة الانكسار هنا أيضاً هي تداعي الإطار الوطني للصراع.
لا شيء يجب أن يحول في تصوري دون قول شيئين عن هذه السنية الباطنة. الأول أننا حيال بيئات اجتماعية مقتلعة ومرضوضة بعنف، تعرضت بصورة تمييزية وغالباً دون غيرها من البيئات الأهلية السورية للمجازر الكبيرة، بما فيها بالسلاح الكيماوي، واستهدفت مناطقها حصراً بالبراميل، وبمعظم الاعتقال والتعذيب والاغتصاب، والحصار والتجويع، واتُهمت بالإرهاب، وعوملت عموماً معاملة غير إنسانية وغير وطنية إلى أقصى حد. الشيء الثاني إنه تطورت في هذه البيئات سردية مظلومية بالغة القوة، وصار يجري التفكير في الثورة كثروة باطنة هي ذاتها، على صورة المظلومين السنيين المتماهين بها؛ أي كانقلاب سني، لا كجهد جمعي من أجل التحرر والعدالة. الانقلاب السني لا يقصي غير السنيين فقط، ولكن كذلك السنيين غير الإسلاميين وغير الطائفيين. وبينما لا تقتصر السنية الباطنة على الإسلاميين، ويندرج ضمنها علمانيون طائفيون، فإنه يُنظر إلى الإسلاميين كالممثل الطبيعي للسنيين. العلماني الطائفي، السني وغيره، لم ينتظر الصراع السوري ليوجد، لكن سنوات الصراع كانت فرصة لظهوره وانتشاره. للطائفيين السنيين نظراء علويون ومسيحيون ودروز واسماعيليون وغيرهم بطبيعة الحال، ممن يجدون أنفسهم عموماً في معسكر النظام. لكنَّ نظيرَ الباطنيين السنيين الفعلي هو الدولة الباطنة الأسدية، متمثلة بالمركب السياسي الأمني الطائفي المسيطر 9.
ولا تجد السنية الباطنة اليوم بأساً في تسليم بقايا الثورة السورية لتركيا مثلما لم تجد الدولة الباطنة الأسدية بأساً في تسليم البلد لإيران وروسيا.
والواقع أنه بهذا المعنى، يحوز القول بأن الثورة انتهت معناه الأكثر إيجابية، بل ثورية. وهذا كي لا يكون المجلس الإسلامي السوري والإخوان المسلمين وجيش الإسلام وأحرار الشرقية و«الجيش الوطني» وأبو عمشة استمراراً لها. وفي هذه الأوساط بالذات، يُسمَعُ الإصرار الأعلى صوتاً على أن الثورة مستمرة. مفهوم جداً، فهم يعيشون منها.
الثورة انتهت مقتولة، وما نراه من استمرار فوقي لها هو تفسّخ الجسد المقتول ممن أسهموا من داخل الثورة بقتلها إلى جانب قتلة من خارجها. أقول استمرار فوقي بغرض تمييزه عن استمراريات تحتية تحيل إلى ما تقدم ذكره من طبقات من ممارسات يحدث أن تنبعث من تحت الركام أو تومض بين وقت وآخر في الذاكرات والأذهان، شذرات من زمن ثوري شجاع. وكذلك عن ثورات شخصية يحققها كثيرات وكثيرون.
5- الثورة كتقليد
أخيراً، قد يمكن الكلام على الثورة كتقليد آخذ في التكوّن من جديد، بدءاً من منطقتنا التي تشكل فضاء استثناء عالمي بأكثر من معنى، يضع سكانها في موقع العبيد السياسيين، قطاع أساسي من البروليتاريا السياسية العالمية؛ تقليدٌ يُرجَّح له أن يمتد لعقود وأجيال في تصوري. عبارة «الربيع العربي» تصلح بالكاد عنواناً صحفياً لهذا التقليد الجديد. مزيّتها أنها تقيم ربطاً بين الثورات في مجالنا، لكن التعبير بالمقابل يحيل إلى الطبيعة وظواهرها التي لا حرية فيها، على نحو يجرد الثائرين وعموم الناس من الأهلية أو الفاعلية.
يحوز الشركاء في هذا التقليد شعوراً بأن كل ثورة تخصّنا ولنا منها نصيب، وبالانحياز إلى الثورات والتضامن معها والانتماء إليها. هذا يظهر من تفاعل الثائرين السوريين مع الثورتين العراقية واللبنانية، وقد سارعنا مثلما سارع الثائرون في البلدين إلى تسميتهما ثورات لأننا نتعرّف فيهما على شيء نعرفه ونعتز به، شيء كنا قد أخذنا وقتاً قبل أن نسميه ثورة حين حدث في بلدنا (بضعة شهور في حالتي الشخصية). هذا لأنه كان جديداً علينا، كنا نخبره لأول مرة. يظهر التقليد الناشيء كذلك من الشعور بوحدة الحال مع الثورات في السودان والجزائر، ومن التضامن التلقائي مع احتجاجات التشيلي وهونغ كونغ، وقبلها فرنسا. حتى حين لا نعرف غير القليل عن هذه البلدان والمجتمعات، نشعر أننا ننتمي إلى ما يجري هناك من احتجاجات وانتفاضات، نتعرف فيها على شيء يكرّم ثورتنا القتيلة، ونشعر أن هذا هو العالم الذي نحن منه وهو منا.
وتقتضي المساهمة في بناء هذا التقليد موقفاً معرفياً يعترف بالثورات لا كحدث خارجي، يمكن أن نستمر في التفكير بعده كما قبله، بل كحدث مُغيّر، حدث «عاقل» وحائز على ذاتية تخصّه، نتغير بالاعتراف به ومعرفته، فتتجدد ذاتيتنا. الثورة تجربة، أو عالم بأكمله من التجارب، التي نتجدد ويتجدد تفكيرنا بتمثيلها، ونسهم في المعرفة وبناء التقليد الثوري عبر هذا التمثيل. ويتقابل هذا الموقف المعرفي مع موقفين يبدوان لي غير ثوريين على حد سواء، ومفقرين فكرياً فوق ذلك. أولهما يرى الثورة نشاطاً والتحاماً بالحدث المستمر، لا يحتاج بصورة خاصة إلى المعرفة. نحن الثورة، وما نعرفه كافٍ لأننا منها وفيها، لأننا هي. هذا شائعٌ في أوساط ثائرين سوريين كثيرين وإن لم يُعبَّر عنه. وهو لسان الحال الضمني لمن يعتبرون الثورة هوية لهم، الثوريين الباطنين. ويصدر موقف آخر عن ذاتية ناجزة مكتملة قبل الحدث، بحيث تعرف كل شيء مهم، وتستطيع أن تستأنف أثناء الحدث وبعده ما كانت تعرفه وتقوله وتعتنقه. هنا رفضٌ لأخذ العلم بذاتية الحدث، وهناك تخلٍ عن طلب الذاتية والتغير لمصلحة الحدث وذاتيته. وفي الحالين رفض للحرية كتغيّر مفتوح النهايات، وامتناع المساهمة في تراث ثوري يتجدد.
الثورة عملية تعلّم وتغيّر، وتعلُّمنا وتغيُّرنا هو تحقيق لها على صعيدنا الشخصي، ومساهمتنا في صنع تراث لها.
ما انتهى وما لا ينتهي
الثورة السورية انتهت كمرحلة في وقت ما من السنوات التسعة الموشكة على الانقضاء، وهي طبقة مخنوقة هناك في الواقع وفي الذاكرات، وهي ثورات شخصية كثيرة وتخيل محرر، وهي باطن يجب أن ينتهي ويُدفن لأنه مات، وهي سندُنا في الانتماء إلى تقليد يبقى حياً ومتجدداً بقدر ما هو ينظر في نفسه وينسلخ مما مات فيه.
هناك ما مات أو دفن عميقاً من الثورة السورية مما كان يجب ألّا يموت، وهناك ما يبقى حياً وكان يجب أن يموت. وهناك معانٍ وأفعال و«ثورات» صغيرة كثيرة، هذه لم تمت ولن تموت. وهناك فكرة الثورة التي تبقى معنى، وتبقى لنا، وتشكل تراثاً جديداً. وبين الشركاء في هذا التراث، وفي بيئة الثورة الظاهرة، يجد المرء الحسَّ العام، والانشغال بأمر سورية كلها، والتفكير الذي يعمل على الإحاطة بمشكلاتنا الاجتماعية والسياسية والوطنية كلها. ليس هناك «أم للصبي» في صورة جماعة أهلية أو طائفة أو دين. الصبي الذي هو الثورة يتيم، وهو رحل يتيماً.
من ميراث هذه السنوات التسع هناك أشياء كثيرة عظيمة باقية، تبرق في الذهن والذاكرة، تلهم المخيلة، رموز ملأى بالحياة؛ لكن هناك مستوى لا يبدو أن لدينا منه ما نحتفظ به، وهو مستوى لطالما تميزنا بضعف شديد ونقص شديد في الإبداعية فيه: التنظيم السياسي والتفكير السياسي. ليس بين تجاربنا السياسية في السنوات الملحمية المأساوية المنقضية ما يمكن أن يلهم ويُستعاد كتراث. الواقع أنها يمكن أن تُضاف إلى تراث هاجٍ للسياسة في العربية، يستحق أن يوصف بأنه تراث سيء، لكنه انعكاس لسياسة سيئة. هجاء السياسة يناسب حكومات الطغيان فوق السياسية، يسهل لها خفض المحكومين إلى مراتب دون سياسية. فإن كان هناك مجال نحتاج إلى الإبداعية والثورة فيه فهو مجال السياسة، النظري والعملي، ما يتصل بالنظرية السياسية والفلسفة السياسية واللغة السياسية، وما يتصل بقضايا التنظيم والقيادة وبناء القوة الفاعلة.
تاريخ تسع سنوات
كيف نفكر في تاريخ سنوات صراعنا؟ ينسب منطق شائع للتفكير في سنوات الصراع السوري ضرباً من الاستمرارية بين الثورة والأوضاع الحالية في البلد، بحيث تكون هذه الأوضاع نتاجاً طبيعياً للثورة. هذا هو منطق التفكير العامي عموماً، يسلم بالاستمرارية وبأن مجيء س بعد ع يعني أن س سبب ع، وأن ع نتيجة س. يقرأ التاريخ بنظرة راجعة، ويحكم على أطواره اللاحقة وفقاً للطور الأخير. لكن هذه ليست مجرد نظرة خاطئة، وإنما فيها الكثير من الهوى السياسي كذلك، بحيث أن النظام ذاته يتبناها، وينسب أسوأ ما وقع أثناء الصراع إلى الثورة، يتبناها كذلك مساندو النظام واعتذاريوه. ولأنها تقوم على هوى النفس، فإن أحداً من معتنقيها لن يقول لماذا لا يكون كل ما جرى استمراراً للحكم الأسدي طوال أكثر من أربعين عام إلى وقت تفجّر الثورة.
ويحدث أن يستند هذا التصور إلى مذهب الحتمية، إن في صيغة هيغلية أو ماركسية، ماركسية عامية في رأيي. هنا يكون ما حدث هو ما كان لا بد أن يحدث بفعل حتمية تسري في التاريخ تسمى ببساطة الحتمية التاريخية. ووفق لفلسفة التاريخ الهيغلية يكون ما يحدث اليوم إنتاشاً لبذرة مسبقة الوجود. تكون داعش وفقاً لهذ التصور تحققاً أو انبساطاً لما كان مطوياً منذ البداية في الثورة السورية. ليس من المفاجئ أن هذا ما يقوله بشار الأسد.
نقيضاً لهذا التصور يمكن التفكير في كل لحظة من تاريخ الثورة، وكل تاريخ، بأنها متعددة ممكنات، يتحقق منها هذا وليس ذاك وفق محصلة القوى الفاعلة في تلك اللحظة. ما يحدث بعد مجرزة ليس ما يحدث بعد مهرجان، وما يحدث بعد حفلة تعذيب ليس ما يحدث بعد حفلة تخرج، وأثر تجمع سلمي في فضاء عام لا يماثل أثر قتل 200 من المتجمعين خلال ساعة في هذا الفضاء نفسه. وفي كل حال كان يمكن لما حدث ألّا يحدث، وأن يحدث غيره، ولمّا لم يحدث أن يحدث، فيتغير الواقع المختبر قليلاً أو كثيراً. فما يحدث لنا، أفراداً أو جماعات، لم يكن مكتوباً سلفاً في أي لوح محفوظ أو غير محفوظ، ولا على أي جبين فردي أو جمعي. ولذلك لا يمكن التنبؤ بما يحدث، وبخاصة في الأزمنة العاصفة كزمننا.
ولذلك أيضاً لا يمكن الكلام على استمرارية، بل هناك انقطاعات وانعطافات حادة، هي عُمدتنا حين نميز بين مراحل. قد نتكلم على استمراريات جزئية أو مرحلية، انقطاع كل منها هو ما يبرر الكلام على نهاية مرحلة وبداية مرحلة. انهيار الإطار الوطني للصراع دشّنَ مرحلة مختلفة تماماً مثلاً. الصفقة الكيماوية أطلقت ديناميكيات مختلفة (كانت تأميناً للنظام وشريكه الإيراني على استمرارهم في القتل بأسلحة أخرى، وهدية سخية للعدميين الإسلاميين)، ظهور داعش وسيطرته على مناطق في سورية والعراق دشّنَ بدوره مرحلة مختلفة. التدخل الأميركي، ثم خاصة الروسي أنهى استمرارية قائمة وفتح الباب لمرحلة مغايرة لها استمراريتها الخاصة. التدخل التركي في مراحله المتعددة يطلق ديناميكيته الخاصة المغايرة التي يتعذّر في تصوري أن تستقر على حال في أي وقت قريب. وفي كل من هذه المراحل يمكن الكلام على مراحل فرعية واستمراريات فرعية. على سبيل المثال، نميز خلال مرحلة الصراع السوري السوري السابق لانهيار الإطار الوطني بين طور سلمي بين البداية وخريف 2011، ثم سلمي ومسلح حتى منتصف صيف 2012، ثم مسلح أساساً حتى ربيع 2013. ولا ريب أنه يمكن إظهار مراحل فرعية في كل من المراحل الأساسية العريضة التي تقدَّمَ التمييز بينها. وفي كل حال، ترتبط الاستمراريات ببدايات أطلقتها، ولم تكن محتمة الجريان على هذه الصورة لا تلك.
أسوق هذه الاعتبارات النظرية بعض الشيء للقول إنه يغلب لوضع كلمة الثورة بين قوسين اليوم أن ينطوي على إرادة وضع حدث الثورة بين قوسين، أي على حذفه أو إنكار فاعليته والانتقاص من جملة التجارب والخبرات التي يشملها. وهو يتوافق مع ما تقدَّمَ قوله عن إنكار ذاتية الثورة. يندرج هذا المسلك المراجع في إنكار الانقطاع وافتراض استمرارية تجعل السابق محكوماً باللاحق، فلا تحتاج إلى التوقف أمام ما يحدث وأمام إنتاجية ما يحدث وخلقه لوقائع وأوضاع جديدة. هذا غير ممكن دون إهمال السياسة والحرب، وهو ذاته إهمال سياسي وحربي.
الثورة السورية والقضية السورية
ماذا يمكن أن يكون استئنافاً للثورة السورية؟
يتعين قبل كل شيء أن نعرف أين نحن اليوم. هناك في تقديري ثلاثة مشكلات يُعرِّف تزامنها وضعنا الراهن، وسبق أن عرفنا صيغاً منها في تاريخنا الحديث «متزمِّنة» أو متعاقبة. أولاها ما يمكن تسميتها المسألة الاجتماعية الجديدة، وفيها يلتقي واقع أن نحو 80% من السوريين تحت خط الفقر؛ وأن نحو 28% من السوريين لاجئون في ملاجئ غير مضيافة غالباً؛ وأن نحو 3% من السوريين قتِلوا؛ وأن مئات ألوف الأطفال لم يعرفوا المدارس طوال سنوات، ما يعني جيلاً ضائعاً وارتفاعاً لنسبة الأمية قد يكون الأعلى منذ استقلال سورية قبل أكثر من سبعين عاماً. هناك تراجع صافٍ لمصلحة عناصر المسألة الاجتماعية التقليدية من جوع وفقر ومرض، لكن في مواجهة أعداء جدد، أبرزهم أرستقراطية جديدة، ضارية وذات منزع إبادي. هناك بُعدٌ آخر للمسألة الاجتماعية، ظهر بقوة في سنوات ما بعد الثورة، ويتصل بأشكال فاشية من النزعة المحافظة البطريركية المعادية للنساء والحريات الاجتماعية وحريات الفكر والتعبير والضمير. أعني بطبيعة الحال الإسلامية المقاتلة التي أفرغت الثورة من مضمونها التحرري، وأعطتها معنى الانقلاب السنّي مثلما تقدَّمَ القول.
في المقام الثاني لدينا خمس احتلالات وتجزؤ فعليٌّ للبلد إلى أربع سوريات، بالنظر إلى أن إيران وروسيا تتشاطران سورية محميهما الأسدي ذاتها. الوضع سائل على هذا الصعيد، لكنه لا يلغي شيئاً صلباً: وجوب جلاء كل الاحتلالات الأجنبية، احتلالات الدول والميليشيات التابعة لها، من أجل بقاء الكيان السوري ذاته كإطار لمصير يُعمَل على حصر تقريره بيد السوريين. هنا مسألة وطنية جديدة، غير تقليدية الطابع، ولا يبدو أنها تشبه شيئاً نعرفه أو يعرفه غيرنا. يمكن أن نتكلم بلغة التحرر من الاستعمار والاستقلال الوطني، لكن يظهر أننا حيال أوضاع أشد تعقيداً بفعل تعدد الاحتلالات، ومشاركة قوات من أربعة من الدول الخمسة المجاورة لسورية (الأردن غير مشارك)، منها منظمات ما دون الدولة من لبنان والعراق. من تركيا لدينا الدولة وما دونها معاً.
وغير المسألة الاجتماعية الجديدة والمسألة الوطنية الجديدة، لدينا المسألة السياسية القديمة الجديدة، دولة طغيان انقلبت إلى دولة إبادة محمية بحراب الأجنبي، بل أجانب متعددين، متخاصمين فيما بينهم (وإن لم يكونوا أعداء). الجديد في المسألة السياسية هو التحول الإبادي للدولة. دول الإبادة ليست حصراً مشكلات داخلية لمحكوميها، بل هي مشكلات للعالم لأنها تجعل من قتل البشر مبدأ سياسياً عادياً، أو تقوم على تبذيل الإبادة. ويرتبط التحول الإبادي ببنية طائفية للنظام منذ خمسين عاماً، تتوافق مع تسعير المنازعات الطائفية كلما تعرضت هي للمنازعة. ولما كانت الطائفية هي التمييز على أساس الهوية، فإنها تؤسس للقتل على الهوية. ما هي الإبادة (الجينوسايد)؟ ليست إلا القتل على الهوية 10. هذا سلاح ينبغي تجريد النظام منه كأساس لسياسة تُحارب البدائل الطائفية الأخرى. وفي مواجهة هذه المسألة السياسية لا بد من تفكير متجدد بقضية الديمقراطية، يربطها بالمسألتين الاجتماعية والوطنية الجديدتين، ويدرجها في أفق عالمي بالنظر إلى أزمة الديمقراطية على الصعيد العالمي.
تشكل هذه الأبعاد الثلاثة ما يمكن أن تسمى القضية السورية، التي هي استمرار للثورة بأدوات مغايرة وإيقاع مختلف ونطاق مختلف، بل لا تعيش الثورة دون تغير الأدوات والإيقاعات والنطاق. الأصرار على الطرق القديمة ليس وفاء للثورة السورية بل هو خيانة لها، نراه اليوم يتصلب في السنّية الباطنة التي سلمت نفسها وقضيتها لتركيا.
بوصفها قضية تحرر وطني من نوع جديد، أشد تعقيداً مما سبق أن عرفنا، القضية السورية تدعونا إلى تفكير وأشكال نضال جديدة لا يبدو أننا نملك منها شيئاً اليوم. وبينما يدعونا هذا إلى عناية أكبر بمعرفة الحدث وما حدث، وبنية وديناميكيات العالم اليوم، فإنه يحيل إلى بعد للقضية السورية، عملي وسياسي، يتعلق بحملة هذه القضية والقوى المناضلة من أجلها، يُكمِّل بعدها «الموضوعي»، المتعلق بمضمونها وأبعادها الثلاثة. لا يقتصر الأمر اليوم على عدم وجود قوى تناضل بالفكر والسياسة والتنظيم من أجل القضية السورية، بل يتعداه إلى أنه لا يمكن بناء قضية سورية إلا ضد القوى التي شغلت مواقع نافذة في الثورة السورية، أعني تشكيلات المعارضة الموروثة من عهد حافظ الأسد. لقد حطم النظام وحُماته الثورة السورية، لكن من يحطمون القضية السورية هم المعارضون الرسميون، الذين انتهوا إلى فقدان كل استقلالية.
المعارضة الموروثة في انقساماتها وخصوماتها ومجمل حساسيتها عبء على القضية السورية، والتقدم نحو بناء هذه القضية رهن بالتخلص من هذا العبء.
1. قريب من ذلك رأي ألبرتو سافيولي، الآثاري الإيطالي الذي صدر له مؤخراً كتاب مساند لـ «الانتفاضة السورية». في مقابلة حديثة معه نشرت في حكاية ما انحكت، يقول سافيولي: «الثورة تعني حراكاً ضد النظام يؤدي إلى سقوط وتغيير النظام الحاكم وهو ما لم يحصل في سوريا، وهذا ما جعلني أستخدم مصطلح الانتفاضة».
2. هذا ما يقوله سافيولي نفسه: «لقد تم القضاء على الثورة منذ دخلت مرحلة التسلح». وهو ما لا أوافقه عليه. كسر الاحتكار غير الشرعي للعنف من قبل دولة مخصخصة هو حدث ثوري.
3. في صيغة محررة للمقالة نفسها، نشرت في كتابي الإمبرياليون المقهورون، في المسألة الإسلامية وظهور طوائف الإسلاميين، رياض الريس للكتب، بيروت 2019
4. تواقتت في تموز مجموعة أحداث انعطافية أستبعد أن يكون تواقتها عارضاً: (1) أول استخدام للبراميل المتفجرة واستهداف طوابير الخبز، (2) صدور قوانين مكافحة الإرهاب وما يعنيه من أن الثورة هي العدو الوجودي للنظام، (3) اغتيال ضباط خلية الأزمة وتحقيق تجانس أكبر في مراتب النظام العليا، (4) الانسحاب من مناطق الكثافة الكردية وتسليمها للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني وانتشار مقاتلين من الحزب، كثير منهم غير سوريين، في سورية. أعتقد أن هذه أوجه حرب مطلقة ضد الثورة، يجمعها أنها استراتيجية الحزب الإيراني القائمة على كل شيء مقابل لا شيء. هذا الحزب، وبشار وماهر أساسيان فيه، انتصر في ذلك الشهر داخل النظام. انهيار الإطار الوطني للصراع هو نتاج هذا الانتصار. المركز الإمبريالي الفرعي في طهران هو من عمل على طي صفحة الثورة كصراع سوري سوري، وتحويلها إلى صراع فوق وتحت سوري، إقليمي وطائفي. وبمحصلة الأحداث الأربعة السابقة وقع: (5) التوقف شبه التام للمظاهرات السلمية المستمرة حتى ذلك الحين في مئات بؤر التظاهر في البلد. التسرب الجهادي السني كان بدأ قبل ذلك، لكنه كان أساساً من العراق ولبنان حتى ذلك الحين، وسيغلب أن يكون من تركيا بعد ذلك. أرجّح أن السلطات التركية تساهلت مع الانتشار الجهادي في تطلّع منها إلى استخدامه في مواجهة حزب العمال الكردستاني في سورية.
6. لم أكن مدركاً وقتها أننا ندخل منحىً جديداً، أشد وحشية بعد. البورتريهات الستة متاحة هنا.
7. أدين بالانتباه لهذا الجانب إلى الصديقة ألمى سالم، أثناء محاضرة لي مونتريال في مطلع تشرين الأول 2019. ذكرت ذلك في سياق الرد على قول من يقول إن الثورة فشلت لأنها هزمت عسكرياً وسياسياً.
8. في تقرير حديث لها، قالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان إن نحو 1,2 مليون سوري تعرضوا للاعتقال في سنوات الثورة، وقدرت أن بينهم 130 ألفاً معتقلين اليوم، وفوق 14 ألفاً قتلوا بالتعذيب.
9. تناولت ثنائية الدولة الظاهرة والدولة الباطنة بشيء من التوسع في مقالتي: السلطان الحديث، المنابع الاجتماعية والسياسة للطائفية في سورية، المنشورة في مطلع 2015.
10. العلاقة بين الطائفية والإبادة لم تدرس في الكتابات العربية، وهو نقص أزف وقت تداركه. تناولت القضية تناولاً تخطيطياً في مقالتي: الأبد، الطوائف كأوابد، والإبادة.
موقع الجمهورية