أبحاث

2020 .. عام التحرّر الصعب من الاستعمار الداخلي/ رهان غليون

(1)

كما لا يمكن أن يغيب عن أحد، اكتسحت الانتفاضات والثورات والاحتجاجات السلمية خلال هذا العقد معظم الأقطار العربية. لكن قليلا جدا منها، تونس والسودان تحديدا، نجحت في الوصول إلى تسويةٍ مع القوى الحاكمة، ساهمت في الانفراج، وفتحت صفحة جديدة في تاريخ التحول السياسي.

ما من شك في أن متابعة هذا التحول، والنجاح في إعادة بناء النظم السياسية على المبادئ الديمقراطية، سوف تتطلب جهودا شاقّة، وستواجه بالتاكيد أيضا مطبات ومخاطر ومقاومات، وربما نكسات من وقت إلى آخر. ولكن مهما كان الحال، أصبح مؤكدا أن النظم القديمة التي حكمت على العالم العربي بالموت البطيء، وكانت قد وصلت إلى طريق مسدود بسبب فسادها متعدّد المستويات والأوجه، قد فقدت مبرّر وجودها، وأصبحت غير قادرة على الاستمرار. ولن ينفع العنف الذي يراهن عليه بعض فرسانها في إعادة الحياة إليها، كما لن تستطيع جهود الدول الأجنبية التي تلعب دور الوصاية الاستعمارية المستجدّة أن تعيد تأهيلها، فقد انهارت توازناتها المادية والسياسية والمعنوية، وفقدت مقوّمات وجودها. وما لم تبادر بعض القوى الأكثر واقعية وبصيرة فيها إلى تفكيك قنبلة الصراع الانتحاري الذي تقودُه نخبٌ انتقاميةٌ فقدت محاكمتها العقلية، فلن يقتصر الانهيار والخراب على النظم السياسية وحدها، ولكنه سينتقل إلى الدولة، ويهدّدها بالانفجار وإلى المجتمع، وربما يعرّض، بأسرع ما نعتقد، غالبية الشعب لمخاطر مجاعة قادمة، في بعض أقطار أصبح اقتصادها على حافّة الهاوية.

والقول إن النظم السياسية القديمة قد انتهت، ووصلت إلى طريق مسدود، يعني ببساطة إن حكم الشعوب، في القرن الواحد والعشرين، لم يعد ممكنا حسب القواعد التي جرى عليها الأمر حتى اليوم، أي بالخضوع والتسليم لسلطةٍ خارجيةٍ مفروضةٍ عليها بالقوة أو بالتحايل والتلاعب بإرادتها، ومهما تنوّعت أساليب هذا التلاعب، طائفية كانت أم مناطقية أم إثنية أم حزبية،

وسواء اتخذ حكم القوة شكل الديكتاتورية العسكرية أو المدنية الأمنية والمخابراتية، ولبس لبوس الملكية أو الجمهورية، واتشح بخطاب العلمانية أو الإسلاموية أو القومية.

لن يقوم نظام ويستقر حكم ويستقيم سلام أهلي بعد الآن ما لم يقتنع جميع من يتسلم مناصب حكومية أو يطمح إلى لعب دور في تقرير المصائر العامة بأن عصر الوصاية السياسية على الشعوب قد انتهى، وأن السلطة لن تحظى بعد الثورات باهظة الثمن بالشرعية، ولن تنال القبول العام، ما لم يدرك الخاضعون لها أنها سلطتهم التي انبثقت عنهم، وهي تعكس إرادتهم الجماعية، أو خلاصتها المعبر عنها في انتخاباتٍ شاركوا فيها بحرية، وليست مفروضة عليهم بأي شكل، ويعرفوا أن بمقدورهم دائما، إذا أدركوا عدم صلاحها، أو أنهم أخطأوا في اختيار مسؤوليها استبدالها وتغييرها بأفضل منها، في انتخاباتٍ دورية تالية. بمعنى آخر، لن يكون من الممكن بعد الآن لأحد أن يطمح إلى سلطةٍ أبدية يرث فيها الابن أباه أو أخاه أو زميله، أو إلى سلطة مطلقة، يحتكر فيها القرار والتحكّم بمصير المجتمع وحده، سواء كانت حوافزه إنسانية تحرّرية أو عدالية أو دينية، أو مصلحية شخصية وفئوية. هذه هي الحقبة التي أنهتها الثورات العربية، ووضعت عليها الختم الأحمر، المخضّب بدماء أبنائها، حتى لا يجرؤ أحد على أن يحلم بالعودة إليها.

لا يعني ذلك أن النظم الجديدة القائمة على احترام إرادة الشعب، والمنبثقة عنها، والتي تضطلع بمهامها قياداتٌ تمثله بصدق، قد قامت أو أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الظهور. ولا أنه لن يكون هناك بعد الآن طامحون للسلطة من النمط القديم، وانقلابيون، وقتلة ومجرمون يريدون القفز إلى السلطة بأي ثمن. بالعكس، سوف يزيد عدد هؤلاء ومحاولاتهم، خصوصاً في ظروف الفوضى التي يولدها الانتقال الصعب في الشروط المادية والقيم والمعايير والشخصيات والهيئات، لاقتناص الفرص وإعادة بناء نظم ديكتاتورية أقسى وأكثر عنفاً وضيق أفق وفساداً واحتكاراً. ولكنهم لن يحظوا بأي شرعية أو استقرار، ولن ينجحوا في حل أيٍّ من المشكلات التاريخية الكبيرة المطروحة على المجتمعات، وسوف يعيشون في أزماتٍ مستمرّة ومتفاقمة، اقتصادية وسياسية وعقدية، وكل ما سوف ينتجونه هو مزيد من المشكلات والاختناقات والتوترات والانفجارات والانهيارات والنزاعات.

هذا يعني أن مجتمعاتنا لن تعرف الاستقرار ما لم تنجح في التحول من مجتمعاتٍ مسيرة، تحكم من خارجها إلى مجتمعاتٍ سيدة تحكم نفسها بنفسها، وتنمّي جماعيا وفي وعي كل فرد روح المسؤولية والمشاركة في تقرير الشؤون العامة، والكف عن الاستهتار بها، وترك أمورها لمن يجهز نفسه للقفز على السلطة أو ينجح في السطو عليها بطريقة أو أخرى. وهذا ما كلف الشعوب، كما تظهره الثورات الأخيرة، طوفانات من الدم والموت والدموع.

ويعني هذا باختصار الاعتراف بالسقوط السياسي والأخلاقي لحكم الوصاية السياسية الداخلية، بعد إسقاط حكم الوصاية الاستعمارية الأجنبية، والتسليم بحق الشعوب في أن تستعيد سيادتها على دولها وأوطانها ومصائرها. وهذا هو الرهان الأول والوحيد للثورات الشعبية العربية الراهنة، والتي ستستمر ربما عقودا طويلة، قبل أن تصل إلى غاياتها. إذ لا يمكن لهذه الغايات أن تتحقق ما لم تتغير النخب الاجتماعية وثقافاتها وعقليتها أولا، وتغيرها يتطلب التجديد الدائم لأفرادها وأخلاقياتها وثقافتها، وهو لا يتحقق إلا على مراحل، وبإسقاطها واحدة تلو الأخرى. لكن، أكثر من ذلك، ما لم تنمُ وتنضج قدرات الشعب ذاته وإمكانات أفراده في حمل المسؤولية الجماعية، وعلى بناء الهيئات السياسية والمدنية التي لا يمكن لمجتمع أن يبلور إرادته وينتج توافقاته، وينظم شؤونه من دونها. هذا هو باختصار معنى الديمقراطية ومضمونها.

(2)

السؤال الذي يطرح نفسه عندئذ: من يخاف من استعادة الشعب سيادته على مصيره واعتلائه السلطة السياسية وبنائه الدولة ومؤسساتها، بما يترجم هذه السيادة ويضمن إعادة إنتاجها وتعزيزها اليوم، أي في هذه الحقبة التاريخية، وفي مجتمعاتنا القائمة؟

الجواب: صنفان من القوى والأفراد، الأول الذين يستفيدون من تحييد الشعب وتهميشه وإبعاده عن الإشراف على شؤونه، والذين يرون في أي تغيير للتوازنات الراهنة إضرارا بمصالحهم، وربما بحياتهم، إذا كانوا من الفاسدين المعروفين. والثاني كل من يرفض مبادئها، سواء كان ذلك بسبب أفكاره الفلسفية أو الدينية أو الاجتماعية أو انتماءاته الحزبية أو الطائفية، أو جهله بالرهانات العميقة للتحولات السياسية.

لم يكن من الصعب على الجماهير التي قادت مسيرات الاحتجاج أن تشير بإصبعها إلى أطراف الصنف الأول وتعرف بهويته. وهذا ما يظهر واضحا في شعارات الانتفاضات التي تكاد تتحوّل إلى مرآةٍ تعكس صورة أولئك الذين يريد الشعب إسقاطهم، وهم بالدرجة الأولى النخب السائدة، السياسية والأمنية والمالية التي تستمدّ قوتها ووحدتها، وتبنّي مصالح أسطورية لا مبرّر شرعيا لها، على إبعاد الشعب عن المشاركة وتجهيله بآليات عمل السلطة، وبتحويلها البلاد إلى مزرعة خاصة بها. والذي يجمع بين أعضاء هذه النخبة هو الفساد الذي لا يقتصر على الغش والسرقة ونهب المال العام، أي على انتزاع أكثر ما يمكن من موارد البلاد وتحويلها إلى حساباتها الشخصية، فالأهم منه هو الفساد السياسي القائم على التواطؤ الجماعي لأطراف هذه النخبة، بمختلف فئاتها وفي جميع مجالات عملها، ضد الشعب وحقوقه وحرّياته، وحرمانه من أي وسيلة للتعبير الحر عن إرادته ومصالحه. وهذا ما تجسّده طبيعة النظام السياسي ذاته، وعقلية الطبقة الحاكمة وقاعدتها الاجتماعية التي تسيطر على الدولة، وتتحكّم بمؤسساتها، وتستخدمها لقمع الشعب وتحييده.

هذه الطبقة/ الدولة/ الطائفة، ولا أقول الطائفية، هي التي يشير إليها المتظاهرون بصراحةٍ عندما يطالبون بحكوماتٍ جديدة، من خارج حقل السياسة، من أصحاب الاختصاص والخبرة، أي من المجتمع المدني الذي لم يتلوّث بالفساد، فليس لهذه الطبقة الفاسدة والمفسدة التي حكمت عقودا طويلة، وقادت البلاد والمجتمع إلى الخراب، أي مقدرة على احترام حقوق الشعب، ومن باب أولى في تحرير إرادته، وتوحيد كلمته، والقبول بمشاركة أبنائه في القرار الذي يشكل احتكاره ضمانة الفساد والنهب والتلاعب بمصير البلاد والعباد. ولا يتخذ الصراع هنا شكل صراع بين عمال رأسماليين، ولا بين بورجوازيين أرستقراطيين، ولا بين بيروقراطية إدارية وعسكرية، وإنما بين طبقة سياسية/ أوليغارشية تجمع بين المنتفعين والمستفيدين، وتوحّد إرادتهم، وشعوب مجرّدة من أي سلطة وإرادة وحق. هكذا يتحوّل الفساد إلى شرط إنتاج طبقةٍ اجتماعيةٍ تحكم بمنطق العلقة التي تعيش على امتصاص دم الشعوب وتعطيل عملها، وقتل روحها وحيويتها المنتجة والمبدعة. وهي تتقدّم وتنمو على حساب تراجع المجتمعات وخرابها، وتدهور شروط وجودها الثقافية والإدارية والاقتصادية معا. وكما لا يوقف هزال الضحية العلقة عن امتصاص ما تبقى فيها من دماء قبل الانتقال إلى ضحيةٍ ثانيةٍ، لا يتخلى أصحاب المصالح عن سيطرتهم على السلطة وبقرتها الحلوب، ما لم يجبروا على ذلك بكل الوسائل، ولا يردعهم عن تحويل السياسة إلى جريمة، والمغامرة بمصير الدولة والمجتمع شيء سوى تكاليف الاستمرار في الصراع، أو سقوط الهيكل بأكمله على الجميع. هذا هو ما يجري اليوم في العراق ولبنان، وما جرى من قبل بصورة كارثية في سورية التي أصبح نظامها نظام المذابح والمجازر الإبادية بامتياز.

هناك أيضا قوى وحكومات أجنبية، إقليمية ودولية، لها مصالح في أن تستبعد شعوب المنطقة من الحسابات السياسية والاستراتيجية، وأن يجري إخضاعها وتحييدها بكل الوسائل الممكنة. وفي أحيان كثيرة، كانت هذه المصالح السبب الرئيسي في الحفاظ على النظم التسلطية، بل وضعها في السلطة وتعزيز مواقعها لضمان الاستمرار في التأثير في سياساتها، أو التحكّم بمصير البلاد المعنية.

ويشكل المشرق والشرق الأوسط، عموما، بما يحتويه من مصالح حيوية، في ميدان الطاقة، والموقع الجيوسياسي، والتهديدات المحتملة من نشوء قوةٍ متماسكةٍ جنوب أوروبا تغير التوازنات الإقليمية وفي الوقت الحاضر من تطور حركة الهجرة واللجوء أو امتداد النشاطات الإرهابية، نموذجا حيا للمناطق التي تبرز فيها بشكل فج مناهضة المصالح الخارجية الاستراتيجية للتحولات الديمقراطية. بل هذه الدول الأجنبية هي غالبا صاحبة المبادرة في التشجيع على سياسة تقييد إرادة الشعوب وإبعادها عن مراكز السلطة والقرار، وتنسيق الجهود الدولية من أجل الحفاظ على طواقم الحكم المحلية التي ترتبط بها وتعمل تحت إشرافها، او على الأقل بارشاداتها وتوجيهها.

بل أكثر من ذلك، هناك دول عديدة وفاعلة في المنظومة الدولية تعتبر أن تعميم الفوضى والخراب المرتبط بالفساد والحكم التعسفي يمكن أن يمثل مصلحة استراتيجية لها، ويمكنها من إيجاد الظروف المناسبة لبسط سيطرتها على البلاد ومد نفوذها العسكري والسياسي والاقتصادي إليها، إن لم يكن التحكّم بقرارها ومستقبلها. هذا ما فعلته وتفعله القوى الكبرى الغربية، وما تعمل على تجديد العمل به حكومة دولة ولاية الفقيه الإيرانية في العراق ولبنان وسورية واليمن. أما إسرائيل فهي تعتبر أن الإبقاء على محيطها العربي في حالة عجز وضياع واضطراب دائمة هو شرط لضمان نجاح استراتيجيتها الأمنية في الاحتفاظ بالهيمنة الإقليمية والتحكم بقرار الحرب والسلام في المنطقة عقودا طويلة مقبلة، والحيلولة دون قيام قوى محلية تتحدّى سيطرتها الإقليمية أو تطمح إلى منازعتها عليها.

(3)

لكن فيما وراء القوى المحلية والإقليمية والدولية التي تعمل على تحييد الشعوب، حفاظا على مصالحها أو طمعا بتوسيع نفوذها، والحصول على مكاسب إضافية، هناك قوى عديدة أخرى، أو بالأحرى قطاعات رأي، محلية ودولية، تمانع تحرّر الشعوب، وتمكّنها من وسائل تقرير مصيرها والتحكّم بمستقبلها. وفي مقدمة هؤلاء اللامبالون الذين يعتقدون أن أمر المجتمع لا يعنيهم، وأن كل جهودهم ينبغي أن تتركز على إنجاح مشاريعهم الخاصة، وأن هناك دائما إمكانية للتكيف مع أي سلطة قائمة، والتعامل مع الفساد والالتفاف على المصاعب والقوانين والقوى القاهرة بثمن أرخص بكثير من ثمن مواجهتها أو الاعتراض عليها. وهم من حذّرهم صاحب كتاب الجمهورية، منذ حوالي 2500 سنة من أن الثمن الذي سيدفعونه لقاء لا مبالاتهم بالشأن العام هو ببساطة أن يحكمهم الأشرار.

وهناك قطاعات رأي أخرى لا تعنيها المصلحة الخاصة، لكنها لا ترى في السياسة سوى حلبة للمتنازعين على السلطة، ومضيعة للوقت، وورطة قد تكون خطيرة العواقب على من ليس له باع فيها، أو ليس على صلة بالمتحكّمين بموارد القوة والسلطة. وفي نظر هؤلاء، يتجسّد الانتماء الحقيقي للجماعة من خلال التعامل الطيب مع أقرانهم وأبناء مجتمعهم القريب والبعيد، ولا ينظرون إلى مسألة بناء المجتمع أو الاجتماعي المدني إلا من زاوية أخلاقية أو أخلاقية دينية. وهناك في كل المجتمعات من يميل إلى المحافظة والتمسّك بالتقاليد، ويرى في الحفاظ على الوضع القائم، مهما كان، أفضل الخيارات الممكنة، بمقدار ما يحمل التغيير عموما مخاطر غير متوقعة. وتشارك في هذا الموقف قطاعات واسعة من أصحاب المراكز المكرّسة في الإدارة المدنية والدينية. ومن هؤلاء أفراد يفتقرون لمعنى السيادة والاستقلال الفكري والحرية، ويشعرون بالعجز عن حمل المسؤولية أو المشاركة فيها، ومنهم من لا يثق بنفسه وأهليته، ويجد الراحة والاطمئنان أكثر على مصيره، عندما يسلم أمره إلى سلطة وصاية خارجية، محلية أو أجنبية، مادية أو فكرية. هذا هو القطاع المحافظ في كل المجتمعات.

وهناك من يعتقد أن الديمقراطية، وما تشير إليه من سلطة منبثقة عن الإرادة الشعبية، فكرة مثالية غير قابلة للتنفيذ، ويصعب عليه تقبل أن من الممكن لملايين الأفراد أن يتشاركوا في تنظيم شؤونهم، وتجاوز أنانياتهم ومصالحهم المختلفة، من دون سلطةٍ خارجة عنهم جميعا، تحدّد لهم ما هو الحق وما هو الباطل وما هو الصحيح وما هو الخاطئ. ولا يقتصر هؤلاء على قطاعات الرأي السياسي السلفية التي تجعل من السيادة الشعبية نقيضا للسيادة/ الحاكمية الإلهية، وترى أن الحكم لا يمكن أن يكون صالحا إلا إذا كانت مرجعيته دينية، ولكنه يشمل أيضا

قطاعات رأي حداثية أو تقدّمية، تعتقد أن الشعب لا يزال جاهلا، ولا يمكن في شروطه الثقافية الراهنة تحمل مسؤوليات المشاركة الحقيقية في السياسة والإشراف على ممارسة السلطة، ولا بد له من طليعة فكرية وسياسية تقوده وتوجهه. ومنهم من يتجاوز ذلك إلى الاعتقاد أن تطبيق مبدأ السيادة الشعبية في الشروط الحالية يعني المخاطرة بتسليم السلطة على طبقٍ من ذهب إلى أغلبيات إسلامية/ إسلاموية، وجمهور معاد بالسليقة والثقافة للقيم الديمقراطية والحداثة والتقدّم معا. وأن الخيار الوحيد الممكن بين سلطة ديكتاتورية فاسدة ونظم تسلطية ذات نزعة دينية هو القبول بالسيئ تجنّبا لما هو أسوأ، وفي أحسن الحالات البقاء على الحياد.

ونجد المقابل ذاته لهذه المواقف على الساحة الدولية، فهناك أيضا قطاعات رأي دولي واسعة طبعت على الاعتقاد بأن ثقافة العرب والمسلمين لا تؤهلهم للانتقال نحو نظم ديمقراطية تستدعي الفصل بين الدين والدولة، وأن نمط النظام الأكثر توافقا مع قيمهم وتطلعاتهم هو نظام الاستبداد أو الأنظمة الشخصية والشعبوية والسطات التابعة للائتلافات عشائرية وطائفية. وعلى هذا الافتراض، بنى الأميركيون وحلفاؤهم نظام المحاصصة الطائفية في العراق، بعد إسقاط الديكتاتورية الصدامية، مثلما فعل الفرنسيون من قبل في لبنان. وهو النظام الذي يسعى الروس والأميركيون والأوروبيون إلى إقناع السوريين بصوابه، للخروج مما يسمونها الحرب الأهلية، في الوقت الذي يطالب فيه العراقيون واللبنانيون، في ثورتين متوهجتين، بإسقاطه لاسترجاع وطنهم المخطوف وتفكيك نظام الفساد الذي عشش فيه، وحوّله إلى فخٍ لاصطياد إرادة الشعب وتسهيل عملية النهب المنظم لموارد الدولة والبلاد وتحويلها إلى ثروات شخصية في المصارف الأجنبية، بينما يفتقد الشعب أبسط الخدمات الاجتماعية، بما في ذلك الكهرباء والماء الصالح للشرب في أغنى بلدان المنطقة بالعمالة النشطة والموارد الطبيعية. لقد اكتشفت الشعوب، بالتجربة الطويلة، أن الهدف الرئيس لهذا النظام الطوائفي هو تجريد الشعوب من سيادتها، ووضع القرار والسلطة في يد زعماء الطوائف والعصبيات، التي تعمل يدا بيد مع سلطات الوصاية الدولية، وتعزيز المصالح المشتركة بينهما.

من هنا، يشكل الانتقال من نظام سلطة الوصاية إلى نظام سيادة الشعب، موضوع صراع شرس وطويل ومعقد، متعدّد الأبعاد النفسية والعقدية والسياسية والجيواستراتيجية. ويرتبط فيه في الوقت ذاته الصراع ضد القوى المعادية، الداخلية والخارجية التي تريد الحفاظ على مصالح مكرّسة وثابتة ومترسخة منذ عقود، والعمل لإحياء روح الحرية ومعنى السيادة ومفهوم السياسة بوصفها إطارا مدنيا حديثا لتنظيم الشؤون العمومية في موازاة ومقابل الأطر التقليدية التي ترسخت في ذهن الجمهور والعامّة، الدينية والعصبوية. لذلك لن تكون معركة التحوّل السياسي المنشود، بما تشمله من استعادة الشعوب سيادتها والتحكّم بمصيرها وانتخاب حكوماتٍ تمثل مصالحها الحقيقية، بسيطة ولا أحادية ولا مضمونة النتائج سلفا. إنها بالضرورة طويلة وشاقّة ومعقدة ومركّبة، تجري في الوقت نفسه، بعلمنا ومن دونه، على مستويات عاطفية وفكرية وسياسية واجتماعية متعدّدة ومتباينة، لكنها سوف تبقى، بعد أن انطلقت، مستمرة، حتى لو تعرّضت هنا وهناك إلى نكسات تاريخية. ولن تتوقف قبل أن تحقق غاياتها، وتعيد للإنسان في العالم العربي هويته، وتعيده إلى التاريخ، وتصالحه مع ذاته والعالم الذي يعيش فيه في الوقت نفسه.العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى