بشار بين صدام والمالكي/ عمر قدور
في جلسة إحاطة لمجلس الأمن، تراجع المبعوث الدولي إلى سوريا “غير بيدرسن” عن تفاؤله السابق في ما خص بدء أعمال اللجنة الدستورية، التفاؤل الذي لم يكن في محله أصلاً إذا لم نصفه بالكاذب. المجلس انفضّ من دون أن يبني موقفاً على المعطيات الجديدة، وكأن البحث فيها كان محض عمل روتيني، وكذلك كان الأمر مع مشروع القرار الذي يمدد تقديم المساعدات الأممية الإنسانية إلى السوريين، بعد استخدام الفيتو الروسي والصيني، إذ تم الاكتفاء بتسجيل المواقف الإعلامية، مع التسليم بأن الكارثة الإنسانية ستتفاقم بعد أيام، حتى إذا لم نلحظ ما يُضاف إليها يومياً جراء الهجوم على إدلب.
كان تقديم الملف الدستوري على غيره من المسارات المفترضة للتفاوض فكرةً روسية، أصبحت لاحقاً جزءاً من مسار أستانة، ومهّد الغرب الطريق جيداً أمام الوعود الروسية. بحسب ما كانت توصله الدوائر الغربية لأوساط المعارضة السورية، تنجز اللجنة عملها تمهيداً لانتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة تُجرى مع انتهاء ولاية بشار عام 2021 تحت إشراف دولي، ويُربط ملف إعادة الإعمار بذلك الإشراف وبتمكين سوريي الخارج من المشاركة. تعطيل وفد الأسد أعمال اللجنة الدستورية، مع عدم تحديد موعد جديد لانعقادها، يُنبئان بأن ولاية بشار ستنتهي وهو يماطل مدعوماً من موسكو، وسيعمد إلى إجراء انتخاباته بطريقته المعهودة، ليصبح انتهاء ولايته القادمة بمثابة موعد آخر تُبنى عليه مناورات وأكاذيب جديدة.
الدلالة غير الخافية لما سبق أن التسوية الدولية لم تنضج، ومن المرجح أن تكون المفاوضات في شأنها قد توقفت منذ زمن طويل عند النقطة ذاتها. المطلوب غربياً، وهذا هو موقف أوروبا وإلى حد كبير واشنطن، أن تتولى موسكو السيطرة وإعادة تأهيل النظام ليصبح تبديل رأسه سهلاً. تتميز واشنطن وتل أبيب عن أوروبا بمطلب إبعاد طهران عن حدود الثانية، وتخفيض نفوذها على النظام لصالح موسكو. ما يقدّمه الغرب مقابل مطالبه أن تكسب موسكو كافة الميزات كقوة إنتداب معترف بها، من دون تكريس هذا قانونياً في الأمم المتحدة على منوال ما حدث إثر الاحتلال الأمريكي للعراق.
كافة الأطراف المنخرطة في الملف السوري ترى في النموذج العراقي معياراً، سواء لجهة الاستفادة منه أو لجهة تحاشي عثراته. يضع النموذج العراقي في هذا الموقع ما يُنظر إليه كتطابق بين الصدامية والأسدية، والتركيبة الحاكمة المبنية حول رأس الهرم بحيث تنهار بانهياره. كلفة عدم الانهيار على السوريين، وهي لغاية الآن أعلى جداً من كلفة الانهيار، لا تعني تلك القوى بشيء ما دامت لا تدفع شيئاً، أو لا تتحلى بأدنى درجات المسؤولية المباشرة كما يسوّق الغرب سياسته بإلقاء التبعات كاملة على موسكو.
في جانب منها، بنى أوباما سياسته في الملف السوري على مبدأ عدم تكرار أخطاء الجمهوريين أيام جورج بوش الابن، لأن قسطاً من صعوده وصعود الديموقراطيين حينذاك أتى على نقد حقبة بوش وأهم ما فيها كان التدخل العسكري في العراق. ترامب من جهته لا يريد استعادة إرث بوش، ومهما حاول إظهار نفسه متمايزاً عن سلفه فهو يستأنف سياسة أوباما وانكفاءه عن التدخل العسكري الخارجي، مع استعراضٍ لما يوفّره الانكفاء من فوائد اقتصادية وإعلاء من قيمة العقوبات الاقتصادية كسلاح لا يود استخدام غيره. وفق أوباما وترامب، الملف السوري هو فرع صغير من ملف العلاقات مع طهران، والتدخل العسكري الروسي يأخذ من الحصة الإيرانية بينما يخوض الحرب القذرة المرغوب فيها.
ترى الإدارة الأمريكية، وأوروبا أيضاً، في بشار صداماً آخر، إنما بعد المرور بالندم على إزاحة صدام بتلك الطريقة. في الخلاصة، سيكون المطلوب هو العبور من مرحلة صدام حسين إلى مرحلة نوري المالكي بواسطة موسكو. الأخيرة تساوم حتى الآن على مبدأ تحويل بشار نفسه من صدام إلى المالكي الخاص بها، وبحيث لا لزوم للحد الأدنى من التغيير الذي يريده الغرب ويربط به مساهمته في إعادة الأعمار، أو سماحه لقوى أخرى بتولي المهمة. كانت موسكو قد استبقت تشكيل اللجنة الدستورية بطرح مشروع دستور جديد لسوريا، يجمع بين شيء من المبادئ الدستورية للاتحاد الروسي وشيء من دستور بريمر في العراق، لكنها لن تذهب في هذا الاتجاه إلا بموجب سلة مقايضات كبرى لا يقبل بها الغرب حتى الآن.
منذ التدخل العسكري الروسي، بات المشترك بين القوى الدولية والإقليمية هو التفاهم على الشروع في مرحلة “ما بعد صدام” السوري قبل إسقاطه، رغم بدء هذه المرحلة عملياً بذلك التواطؤ على دخول منظمات جهادية. طهران وحدها خارج التفاهم كلياً، لأن طموحها متوقف عند إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل انطلاق الثورة السورية، واضطرارها إلى التساكن مع الحليف الروسي قد يخفّض من الطموح بشرط الحفاظ على طريقها مفتوحاً إلى حزب الله واسترداد الكلفة الاقتصادية التي تحملتها للإبقاء على بشار. ولعل النقطة التي تلتقي فيها طهران مع جميع خصومها هي مناوأتها الطموحات التركية، حيث كانت الأخيرة مشابهة لوضعية نظيرتها الإيرانية في العراق إثر إسقاط صدام، وذلك كان مكمن قوتها وإضعافها في الوقت نفسه.
لقد استُخدم النموذج العراقي بوفرة لتبرير سياسة الغرب في الملف السوري، مع الإشارة إلى رأي عام غربي ينظر سلباً إلى تلك الحقبة، واستُخدم أيضاً للإعلاء من شأن “النظام”، أي نظام كان، باعتبار الفوضى أو التطرف أو الاثنين معاً بديلاً حتمياً له. تحت هذه السياسة تم تمرير التوجه الذي ينص على اعتبار بشار في حكم الساقط في انتظار الاتفاق على المرحلة اللاحقة، أو ربط رحيله بإنجاز الاتفاق عليها، وهي لعبة سوّق لها الغرب وموسكو وأنقرة منذ مضت في مسار أستانة. الوقائع على الأرض تم تغييرها لتتلاءم مع التوجه ذاته، فلم يعد هناك من سلاح خارج سيطرة القوى التي بشّرت بالحل. لكن كل المؤشرات تقول أن التسوية ليست قريبة، وكل ما أفضت إليه هو ذلك الطموح الأسدي الروسي الإيراني إلى أن يكون بشار هو صدام والمالكي معاً.
المدن