من خط أحمر إلى آخر/ ميشيل كيلو
بالأمس، كان يقال عن الذي يعارك مشكلاتٍ مستعصية إنه يمشي في حقل ألغام. أما اليوم، فيتخبّط من يزجّ نفسه في صراعاتٍ تتحدّى قدراته بين خطوط حمراء لا تقل خطرا عن الألغام.
.. وقفت تركيا طوال شهر قرب مدينة الباب في شمال سورية، تنتظر الإذن بتجاوز خطٍّ أحمر روسي، وعندما أزيل، اقتحمتها خلال ساعات. وها هي تنتظر، منذ نيف وعامين، إزالة خط أحمر أميركي حال دون طرد مسلحي حزب العمال الكردستاني من منبج، وهذه ما أن ابتعدت واشنطن عنها، حتى أعلن الرئيس التركي أردوغان عزوف جيش بلاده عن دخولها، بسبب خطٍّ أحمر روسي يشمل بلدة عين العرب إلى جانبها، لأن بوتين منحهما للأسد الذي أبقى قوات ذلك الحزب فيهما، في دليلٍ على ما بلغه تحكّم روسيا بخطط أنقرة، العسكرية والسياسية، وما تمارسه من إضرارٍ بمصالحها، بمنعها من احتلال البلدتين، اللتين تفصلان منطقة غصن الزيتون ودرع الفرات عن منطقة شرق الفرات التي أسقط خروج واشنطن من بعضها خطا أحمر، فدخلها جيشها واحتل بالتفاهم مع البيت الأبيض المنطقة بين رأس العين وتل أبيض، وحين قرّر الانتقال إلى شرقها وغربها، وجد خطا أحمر روسيا/ أسديا أمامه.
.. بإعادة نشر قوات واشنطن شرق الفرات، ورثت موسكو بعض خطوطها الحمراء، أو حدّدت خطوطا جديدة، كخط منبج/ عين العرب، والخط الذي منع جيش أنقرة من التقدّم إلى أعمق من عشرة كيلومترات فيها، على ألّا يرابط مسلحو حزب العمال الكردستاني، أو يخزنوا أسلحة ثقيلة فيهما، ويحتل جيش الأسد العشرين كيلومترا التالية للكيلومترات العشرة، رفضا لمطالبة أردوغان بـ”منطقة آمنة”، عرضُها ثلاثون كيلومترا.
.. بذلك، رسمت روسيا خطوطا حمراء تحمي الأسدية شرق الفرات، وتمكّنها من إدلب، بينما أفضى التزام تركيا بالخطوط الحمراء الأميركية/ الروسية العديدة شرق الفرات، والروسية / الإيرانية في مناطق خفض التصعيد الأستانية، إلى انكشاف المعارضة والفصائل العسكرية، ونزع ما كان باقيا وقابلا للتطوير من قرارهما، وعجز تركيا عن توفير غطاءٍ يحمي دوريهما ممثلين للشعب السوري، لتنشأ بذلك، تدريجا، علاقةٌ جديدةٌ وخطيرة النتائج بين تركيا والمعارضة، وتركيا والأسدية، أعلن وزير خارجية النظام في دمشق، وليد المعلم، عن وجودها رسميا خلال زيارته قبل أيام إلى موسكو، وإنْ طالب بتغيير صيغتها غير المناسبة لنظامه.
.. وصلت العلاقة التركية مع المعارضة السورية إلى نقطةٍ صارت تتطلب مكاشفةً صريحة، بسبب تحوّل أنقرة من ضامن لدورها إلى طرفٍ يشل حركتها، ويصادر القليل الباقي من قرارها، ويسند إليها مهامّ تخالف واجباتها الوطنية، ومن غير الجائز أن تقوم بها، إن أرادت البقاء في موقعها طرفا ملتزما بمن يمثله: الشعب السوري. حدث ذلك، لأن تركيا صارت ترى المسألة السورية بدلالة أمنها القومي، وتتبعها بسياساتٍ لم تعد تأخذ بالحسبان استقلاليتها، وطابع ثورتها الوطني الذي يقوّض تلاشيه، أو القفز عنه، الثورة، وينقل السياسات التركية من التحالف معها والرهان عليها إلى استغلالها وظيفيا، والرهان على عائد التخلّي عنها، بالتفاهم مع الذين يفرضون عليها خطوطا حمراء تدفع ثمنها من رصيد “حلفائها”، كي لا تدفعه من رصيدها الخاص.
.. عند هذا الحد من علاقتها مع القضية السورية، قرّرت تركيا أن تزجّ نفسها في الصراع العسكري على ليبيا، الذي لن يلبث أن يصير بدوره مسألة أمن قومي بالنسبة لها، من المستبعد أن تديرها بطريقةٍ أفضل من إدارتها للمسألة السورية التي شهدت، خلال العامين المنصرمين، سلسلة تراجعات طاولت اللاجئين، وعلاقتها بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة وهيئة التفاوض التي أخضعت لتفاهمات أستانة البديلة لمسار جنيف، وأخيرا الفصائل التي تنقطع أكثر فأكثر شعرة معاوية بينها وبين الثورة وسورية.
لندرك ثورتنا، قبل أن يُزهق ما بقي من روحها قفز تركيا من أزمة إلى أخرى، ومن خطٍّ أحمر إلى آخر، وتغرق مع الذاهبين إلى حتفهم.
العربي الجديد