علي سفر: "ليس مطلوباً من النقد العربي تأسيس مشروع"
حوار أشرف الحساني
لكتاب “سينما على قارعة الرصيف: متعة وتفكير” (2019)، للسوري علي سفر، ميزة معرفية تتمثّل في المُقاربة التي يتلمّسها القارئ في كتاباته، خاصة أنّ الكاتب يُحرّر كتابته من أيّ قيد أو فعل أكاديمي، ومن أية نظرية سينمائية أو جمالية معمَّمة، يحاول إسقاطها في تحليلاته. وحتّى إنْ وجدت أحياناً، فهو يجعلها مجرّد أداة معرفية يتوسّل بها لتفكيك الفيلم وإضاءة بعض عوالمه الفنية والتخييلية. لذا، فإنّ للكتاب قيمته وراهنيته بسبب ما يطرح من أسئلة حول الصورة السينمائية، ومدى تشكّلها في الفيلموغرافيا العالمية، انطلاقاً من أفلام وتجارب سينمائية غربية، لها ميزتها وتفرّدها في جغرافيات السينما.
يُشار إلى أنْ علي سفر إعلامي سوري، درس الفنون المسرحية في “المعهد العالي للفنون المسرحية” في دمشق، وساهم في إخراج عدد كبير من البرامج والأعمال المسرحية في “المسرح القومي” في العاصمة السورية. بالإضافة إلى إصداره دواوين شعرية عديدة، منذ نهاية تسعينيات القرن الـ20. حاصلٌ على جوائز عديدة، أهمّها “جائزة الإبداع الذهبية” لأفضل إخراج، عن فيلمه التسجيلي “مطموراً تحت غبار الآخرين”، في “مهرجان القاهرة للإعلام العربي” عام 2008.
بمناسبة صدور كتابه الأخير هذا، التقته “العربي الجديد” في هذا الحوار:
أنت إعلامي وشاعر له دواوين شعرية. كيف وجدت نفسك في عالم السينما والنقد السينمائي خاصة؟
الأصل في الموضوع أنّي درست النقد وأصوله في “المعهد العالي للفنون المسرحية” في دمشق، ومارست الكتابة النقدية في المسرح والسينما في التسعينيات الماضية، وذهبت إلى ضفة الأهواء، حين صرت مخرجاً تلفزيونياً، بالتوازي مع العمل الصحافي والاهتمام الشعري. حالياً، حين أفكّر بهذه التركيبة، أجد أنّ الهاجس السينمائي وجّه مساراتي، منذ البداية وبشكلٍ خفي. لم أنجح في أنْ أكون مخرجاً سينمائياً لأسباب شتى، يتعلّق معظمها بحالة السينما السورية نفسها. لكن دأبي على مشاهدة السينما والتفكير بالفيلم جعلني شغوفاً بها. هنا، تصبح الكتابة عن الأفلام أوسع من العمل الصحافي، وأقرب إلى الغوص في المضامين والأساليب. أظنّ أنّ هذا هو دور النقد.
أية علاقة يمكن أن تُربط بين الشعر والسينما، على مستوى الكتابة أولاََ، ثم التخييل ثانياً؟
الاثنان يقفان على عتبة واحدة لجهة الخيال والمجاز. إدراك هذا يجعل الناقد والمُشاهد في آن معاً يقفان على عتبة مقابلة، يستطيعان فيها ومنها تمييز الأفضل. الترابط بين الشعر والسينما يخلق معيارية ملزمة كما أظّن، تمنح الفيلم جودته وديمومة حضوره لدى الجمهور.
قبل أشهر، أصدرت كتاباً نقدياً، “سينما على قارعة الرصيف: متعة وتفكير”. ماذا عنه، وعن عوالمه وموضوعه؟
انطلق الكتاب من ظرفٍ خاص يتعلّق بغياب صالات السينما في دمشق، حيث لم تعد هناك سوى 3 فقط تحترم طقوس المُشاهدة السينمائية. بالإضافة إلى تلاشي حضور السينما في الفضاء العام السوري، وطبعاً لهذا أسبابه التي لا تُخفى على أحد، لا سيما سيطرة النظام على الحياة العامة، ومصادرته أدوات التعبير كلّها. حتّى “المؤسّسة العامة للسينما” التابعة له لا تُنتج إلا ما يُرضي أصحابها، ولا تقوم بما هو مطلوب منها لجعل السينما حاضرة في حياة السوريين. لهذا، بات السوري يُشاهد الأفلام عبر الأقراص الرقمية المباعة على الأرصفة. في مثل هذه الحالة، ومع غياب الشرط السينمائي وواقعة الحضور إلى دار السينما، ومع طغيان الدراما على شاشات التلفزة، ما الذي يُبقي السوريّ مهتمّاً بالسينما سوى شغفه بها؟
الكتاب هو شغفي الذي دوّنته عن الأفلام التي تمرّ مع القارئ في صفحاته.
يتميّز الكتاب بانسيابية مطلقة للمواضيع والآراء المُشكّلة لجوهره، من دون أن يخضع فهرسها لنظام الأقسام والفصول. ما هي المنطلقات المنهجية والمعرفية التي أسّست مسار الكتاب، قبل الشروع في إنجازه؟
الكتاب مبنيّ على القراءة كفعل يربط بين الفيلم والفضاء الذي تمّ خلقه فيه. هذا الفعل يتوازى مع المنهجيات النقدية، لكنّه لا يدّعي أنّه ينتمي إليها بكامل دقّتها ورصانتها. ربما يُلاحظ القارئ أنّ هناك اشتغالاً على ثيمات فيلمية محدّدة، كالحرب والتفكير بالمستقبل وبحث الإنسان عن خلاصه، وغيرها. هذا جوهر ما يجب على اهتماماتنا النقدية أن تفعله. ففي الصحافة، يدعو الكاتبُ القارئَ إلى المُشاهدة، لكنه في الكتابة النقدية يدعوه إلى التفكير بما يُشاهده. النقد يريده أن يستمتع، وأن يزيد على ذلك بالمعرفة. لهذا، العنوان الفرعي للكتاب هو: “متعة ومعرفة.
في المقدّمة، تتحدّث عن علاقتك الخاصة بالسينما، وعشقها وإدمانها. إلى أيّ حدّ يمكنك الحديث عن الكتابة النقدية كعشق، خاصة أنّ أسلوبك الكتابي متحرّر من الرطانة الأكاديمية، ويُعانق أفق الصورة فكرياً وتخييلياً؟
دعني أستبدل كلمة عشق “الشاعرية” بكلمة بديلة هي الهاجس، التي تؤدّي ما تؤدّيه الكلمة الأولى لكن بشكل آخر. نعم، المسألة هي هاجس يجعلك تترقّب كلّ شيء في الموضوع الذي غرقت فيه، وفي الوقت نفسه تراقب وتتحرّى كيف قرأه الآخرون، فيستدعي الأمر منك أنْ تساهم في تلقّيه المُنتَج، فتقدّم وجهة نظر فيها بعض الإضافة إن تمكّنت من ذلك. هذا يتطلّب منك أنْ تقرأ كثيراً، وأنْ تشاهد كثيراً، وأنْ تتكلم قليلاً. بمعنى ألا تبذل جهداً في الثرثرة الدعائية عن الأفلام، بل أن تضع الجهد في سبيل التفكير، ودفع المُشاهد/ القارئ نحوه أكثر فأكثر.
في الكتاب، قاربْتَ أفلاماً غربية عديدة، لوالتر سالس وجوان تشين وغاسبار نوي وستيفن شونبرغ وغيرهم. كيف اخترت هذه الأفلام المُشكِّلة جوهر الكتاب، والبناء المنهجي والنقدي الذي يحكمه؟
هذه الأفلام، وكذلك الأسماء، فرضت نفسها عليّ كمُشاهدٍ/ قارئ. قبل ذلك، تصدّرَتْ شبّاك التذاكر بشكل أو بآخر. لكن، من الكَمّ السينمائي المُنتج في العالم (نحو 4000 فيلم سنوياً)، يلتقط المهتمّ ما يتقاطع مع هواجسه وثقافته، فيغرق في تمعّنه. الهواجس الشخصية الملحّة على مستوى التفكير تحسم الخيارات، ومع التراكم يكتشف كل واحد منّا أنّ لديه مدوّنته السينمائية الخاصة.
ماذا عن النقد السينمائي العربي؟ كيف تنظر إلى تجاربه؟ وهل استطاع برأيك، بعد هذه الأعوام كلّها من الممارسة والمواكبة الحصيفة للفيلموغرافيا العالمية، أن يؤسّس مشروعاً نقدياً عربيا؟
ليس مطلوباً من النقد السينمائيّ العربيّ أنّ يؤسّس مشروعاً نقدياً عربياً. أظنّ أنّ هذا أحد الأوهام الكبيرة. على النقد السينمائي أن يتأسّس في فضاءات المناهج النقدية، وأن يتمّ الفصل بين النقد الدعائي، الذي يُمهّد لحضور الأفلام على الشاشات، والنقد الذي يغوص في قراءة الأفلام والأساليب والتجارب المتراكمة للمخرجين، وربط الفعل السينمائي كعملية تبدأ من السيناريو وتنتهي عند المُشاهد بالفضاء العام الذي تُنتج فيه. الحديث عن مهام النقد وجوهر المفهوم لا يزال شائكاً حتّى اللحظة. هذا تجد همومه في كتابات النقّاد الروّاد، إذْ لا يزال السؤال عن فعالية النقد السينمائي حاضراً في كتاباتهم، فضلاً عن أسئلة جوهرية أخرى لا تقلّ أهمية عن هذا كالسؤال عن ديمومة الإنتاج السينمائي في الظروف الحالية للمنطقة، وهل رسّخت السينما العربية نفسها، بتعدّدها القطري والإقليمي، في المشهد الوطني والعالمي، والحديث عن السينما المستقلّة، وغيرها من الأسئلة الملحّة دائماً.
العربي الجديد