البهجة توقظ التاريخ في شارع الغورية… نجيب محفوظ مَرّ من هُنا/ زيزي شوشة
صورة مبهرة يمكنكم التقاطها، فور وصولكم إلى أحد أهمّ شوارع القاهرة الإسلامية، شارع الغورية بمنطقة الجمالية؛ فالألوان الزاهية، والحركة الدائمة، والروائح المنبعثة من الجدران العتيقة، كلّها تتكاتف معًا، لتصنع بهجة غامرة، توقظ 510 عامًا من التاريخ، هي عمر الشارع الذي يحتفظ بجاذبية خاصة، لا تنطفئ بمرور الزمن، كونه سوقًا رئيسيًا لتجارة الأقمشة، منصوبًا وسط متحف كبير، يضمّ الكثير من آثار العصر الفاطمي، والمملوكي، والأيوبي.
يقع شارع الغورية في قلب القاهرة الفاطمية، ويحدّه شارع الجمالية الذي يحتضن في طرفه الجامع الأزهر، ويفصله عن ضريح مسجد الحسين، ومنطقة خان الخليلي. وتعدّ الغورية، المدخل الشمالي للدرب الأحمر، تبدأ من تقاطع شارع الأزهر مع مسجد الغوري وتنتهي بباب زويلة، وبين المدخل الشمالي والجنوبي للغورية يوجد أكبر متحف مملوكي فى العالم، ويضم: باب زويلة، جامع المؤيد، سبيل وكتاب نفيسه البيضه، السكرية، حمام الغورية، جامع سام ابن نوح، سبيل محمد علي بالعقادين، جامع الأفخر (الفكهاني)، ومجموعة الغوري المعمارية الكبيرة، والتي تتكون من: مسجد، ومدرسة، وقبة، ووكالة، وحمام، ومنزل، وسبيل، وكتاب، وتنسب هذه المجموعة إلى السلطان قانصوة الغوري، مؤسس الشارع.
يُنسب شارع الغورية إلى السلطان أبو النصر قانصوة الغوري (1250-1517)، وهو آخر سلاطين المماليك الشراكسه، عُرف عنه حبّه للطرب، والشّعر، وعشقه للعمارة، والولع بجمع التحف الثمينة، ويصفه الكاتب والروائي جمال الغيطاني في كتابه “ملامح القاهرة في ألف سنة” قائلًا: “السلطان الغوري، طويل القامة، غليظ الجسد، ذو كرش كبير، أبيض اللون، مدور الوجه، جهوري الصوت، مستدير اللحية، واضح من ثيابه أنه يميل إلى الأبهة، في أصابعه خواتم الياقوت الأحمر، والفيروز والزمرد، والماس”.
ويذكر الغيطاني في مؤلفه أن “السلطان الغوري” الذي هُزم واستشهد في معركة “مرج دابق” بين العثمانيين والمماليك، لم يُعثر على جثته، ولم يُدفن في قبر القبة الشهيرة التي بناها في مدخل شارع الغورية، ومات شهيدًا غريبًا في سهول حلب.
للمجموعة المعمارية التي شيدها قانصوة الغوري مكانة هامّة في تاريخ العمارة الإسلامية، وهي قريبة من الروح المصرية، وتتكون من وكالة الغوري، ومسجد، وسبيل وكتاب ومدرسة، وتأخذ شكل كتلة مميزة، حيث تأخذ امتدادًا واحدًا تظهر خطوطه في كلّ أجزاء هذه الكتلة المعمارية، وتعدّ وكالة الغوري، أبرز معالم هذه المجموعة، حيث تحتفظ بطابعها المعماري الأصلي.
ووفقًا لما ورد في كتاب “الغيطاني” السابق ذكره، فالوكالة هي وحده تعتبر سوقًا في حدّ ذاتها، ويمكن أن نعتبرها فندقًا أيضًا، وهي عبارة عن بناء كبير مربع الشكل في معظم الأحيان، أو مستطيل، تتكوّن من عدة طوابق؛ الطابق الأسفل يتكوّن من مخازن متجاورة، تستعمل كدكاكين لعرض البضاعة، وفوق الحوانيت حجرات صغيرة تستخدم كمساكن للتجار الغرباء الذين قطعوا ساعات طويلة عبر بلاد متعددة لعرض بضاعتهم في القاهرة.
وتتبع وكالة الغوري، وزارةَ الثقافة، باعتبارها أثرًا ومركزًا ثقافيًا وفنيًا، حيث تُقام فيها الكثير من العروض الفنية، والتراثية، كما تكوّنت بالوكالة فرقة تراثية تتبع قصور الثقافة المصرية، وتقدّم عروضها بصفة دورية طوال العام في “بيت الغوري”، وتسافر لإحياء حفلات في عدّة دول عربية منها لبنان والأردن واليمن وتونس وسوريا والمغرب، بالإضافة لجولاتها الأوروبية التي شملت حتى الآن إيطاليا والنمسا والمجر والسويد ورومانيا وبريطانيا والتشيك وغيرها من الدول حول العالم.
الشارع الذي تقطعونه في دقائق قليلة، سيرًا على الأقدام، يحتلّ جزءًا أصيلًا من جسد الحضارة؛ كلّ مبنى له حكاية، وأبطال، وبسطاء، وربما قصة مثيرة دوّنها المؤرخون في الماضي، وتوارثتها الأجيال، ليقفوا هنا بفخرٍ مردّدين الحكاية على مسامع الزائرين والعابرين، فثمة حكايات متداولة يحتفي يها سكان الشارع عن نجيب محفوظ الذي ولد على بعد عدة أمتار من الغورية، ومنها استوحى عوالم ثلاثيته الشهيرة “بين القصرين، قصر الشوق، السكرية”.
باب زويلة مدخل القاهرة، الذي شُنق على بوابته “طومان باي”، سبيل وكتاب نفيسة البيضة، عطفة الحمام النسائي، الشاهد على الكثير من قصص وحكايات نساء ذلك الزمن البعيد، ثمّ سبيل محمد علي بالعقادين، وهو أحد الأحياء المتفرعة من الغورية، وقبل نهاية الشارع ستطالعكم مئذنتان رشيقتان لمسجد المؤيد، كحارسين غامضين على الماضي وكنوزه.
هذا الزخم الأثري، الذي يُشكل هوية المكان، يحفظه جيدًا المهندس حسين منصور، نائب رئيس حزب الوفد، وأحد سكان المنطقة، يفاجئنا منصور بأماكن عديدة كانت قصورًا لكبار الأمراء في ذلك العصر، حيث قال لرصيف22: “كانت منطقة الغورية مركزية في حكم مصر، أثناء حكم المماليك الشراكسة، والمماليك البرجية، يتواجد بها عدد من القصور والمساجد الهامة لكبار الأمراء، ومنها قصر “خاير بك”، جامع محمود الأستادار الشهير بالكردي، وهو من كبار أمراء فرح ابن برقوق، جامع الأمير جاني بك الذراع الأيمن للأشرف برسباي، مسجد اليوسفي، وهو من كبار أمراء الناصر قلاوون”.
وذكر منصور أن حي الغورية كان يسمّى بـ”حيّ الشرابشيين” وكانت به دكاكين لصناعة وخياطة الملابس السلطانية، وأضاف: “استمر حضور ومركزية هذه المنطقة حتى انتقل الحكم من القلعة إلى عابدين، حيث غاب دورها المركزي في الحكم، فيما احتفظت بأهمّيتها التجارية، حيث يوجد بها كبار تجار الأقمشة والمفروشات”. وتابع: “لم تستطع حكومات الستين سنة الماضية أن تحقق الدمج الثقافي بين القاهرة التاريخية، والحديثة، وتركت العشوائية تنهش هذه المنطقة، فيما لجأت النخبة للمدن الجديدة على أطراف القاهرة”.
بعيدًا عن الحياة الباردة المعلبة، يبدو “حي الغورية”، كقطعة من الماضي، ملونة بكافة أنواع الأقمشة والملابس والمفروشات المعروضة على واجهات المباني الأثرية، مشتعلة بالحياة ليلًا ونهارًا، حيث الحركة الدائمة للمئات من المصريين الذين يأتون من كافة المناطق لشراء الملابس والهدايا، وكذلك الأجانب الذين يتأملون بشغف في لافتات المباني، ولا يتوقفون عن التقاط الصور بجوارها.
ثمة حميمية تنبعث من البيوت الملتحمة ببعضها البعض، والتواءات الحارات المتفرعة من الشارع، والتي تشتهر أغلبها بالحرف اليدوية مثل الخيامية، والمشغولات اليدوية، والحقائب، ويحتفظ سكان هذه الحارات بحي الغورية، وبالعادات والتقاليد المصرية الأصيلة، ويحتفون بها في المناسبات المختلفة.
هذه الحياة الصاخبة والملونة في الشارع التاريخي، تجسدت في عدد كبير من لوحات المستشرقين، أشهرها: لوحة الفنان رافائيل فون امبروس، الذي يصوّر فيها أحد التجار، عارضًا بضاعته بالقرب من سبيل نفيسة البيضة، ولوحة مستوحاه من منطقة السكرية للفنان الألماني تشارلز وايلدا. وفي متحف اللوفر بباريس، توجد لوحة “شارع ومسجد الغورية 1875” بريشة الفنان جون فردريك لويس.
يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر ديسمبر 2019, في قسم “رود تريب” بـرصيف22، والمعنوَن: “فلنتسكّع معاً في الشّوارع”.
رصيف 22