تطورات الموقف الروسي في سورية -مقالات مختارة-
لو لم تتدخل روسيا في سورية/ محمود الوهب
يرى كثيرون من أنصار الثورة السورية أنه لو لم يتدخل الروس والإيرانيون دعماً للنظام السوري لسقط وانتهى أمره منذ ذلك الوقت، أي منذ العام 2013 أو 2015، ويتصوَّر هؤلاء أن الوضع في سورية كان سيسير على نحو أفضل مما آل إليه بعد ذلك.
ويستند هؤلاء إلى ما ارتكبه الروس من مجازر إذ كانت حربهم على المدنيين، بحق، أكثر مما هي على الإرهاب والإرهابيين. وبذلك تسببوا بقتل عشرات آلاف المدنيين من نساء وأطفال وهدموا آلاف المنازل، وهجروا ملايين البشر، ولم تنج من ضرباتهم المدارس ولا المشافي، ولا حتى الأسواق العامة المكتظة بالناس.. إذ اتبعوا في حربهم مبدأ الأرض المحروقة، والهدم التام، كما فعلوا في غروزني عاصمة جمهورية الشيشان. وبالطبع، حقق الروس لبلدهم استثمارات اقتصادية وفق عقودٍ طويلة الأمد، الخاسر فيها هو الجانب السوري الأضعف، وكذلك الحال بالنسبة لقاعدة حميميم في طرطوس التي استأجرت 49 عاماً، وفق شروط مجحفة بحق السوريين، إذ لا تسمح تلك الشروط بدخول أي مسؤول سياسي أو عسكري إليها إلا بإذنٍ من إدارتها. وأظهرت زيارتا الأسد الاثنتان ذلك الأمر بوضوح تام، إذ هو ضيفٌ لا غير، وهو رأس السلطة السورية.
قبل البدء بمناقشة هذه الفكرة لا بد من القول: إن التاريخ يكتب نفسه، بحسب العوامل الفاعلة في مساره وحركته المستندة إلى ماضٍ قريب، وصيرورة حاضر قائم ووقائع ملموسة! ولا شك في أنَّ للعوامل الذاتية دوراً في ذلك المسار كله. ومن هنا، نرى كلمة “لو” غير ذات جدوى.
وبناءً على ما تكشّف من أحداث، يمكن القول إن ذلك التصوّر في شقه الأول صحيح، وربما بنسب عالية جداً، فالكل يعلم أنَّ النظام، حينذاك، قد كان آيلاً للسقوط فعلاً. بل إنَّ زخم المظاهرات القوي قد أسقطه، خلال الأشهر الأولى، لولا أنه دفع بالجيش إلى الشارع ليبدأ بحصد الناس، وليدبّ فيه التشتت والخراب، فلكل فعل ردة فعل معاكسة، وهذا ما حصل في الجيش، إذ أدرك بعض ضباطه وصف ضباطه وجنوده أن هذه المعركة ليست معركتهم. وهكذا حصل الانشقاق العمودي، ليتلوه توقف الشباب السوريين عن رفده، إما بتخفّيهم أو بهجرتهم خارج البلاد، إضافة إلى هؤلاء الذين هم تحت سنّ الاحتياط الذين فعلوا الشيء نفسه. وما قوَّى هذا الأمر أيضاً ظهور النزعة الطائفية هنا وهناك.. وذهاب الدولة إلى الاعتماد على المليشيات تحت مسمّيات مختلفة “لجان الدفاع الوطني”، أو “اللجان الشعبية… إلخ” (نقل تجربة العراق ما يشير إلى الأصابع الإيرانية منذ البداية). وعلى ذلك، فقد أخذت ترتكب الموبقات المختلفة ما سرَّع بعملية التسليح المضاد، وبدأ التدخل الإقليمي، وسرعان ما امتلأت الأرض السورية بالفصائل العسكرية التي أخذت كلها طابعاً إسلامياً محضاً: أسماء فصائل، ولحى قيادات، وألقاباً تراتبية، ومحاكم شرعية، ودواوين حسبة، وإلى آخر ذلك مما هو نائم في مخازن التاريخ. وسال السلاح على الأرض، وأغدقت الأموال معه بغير حساب.
والسؤال الذي لا بد أن يخطر ببال كل من يتصوَّر هكذا سيناريو هو: هل كان السقوط لصالح الشعب السوري؟ أعني سيؤول إلى الذين يمثّلون جوهر الثورة السورية الديمقراطي المتطلع إلى دولةٍ مدنيةٍ تفسح في المجال للحريات العامة التي تشمل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية.. أم إن سورية كانت ستقع بيد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة وجيش الإسلام، وأمثالهم ممن يتمتع قادته اليوم هنا في تركيا بملايين الدولارات، المنهوبة طبعاً.
العقدة هنا، وهنا يمكن أن يحدث التباين في الرأي، إذ المعركة مع هؤلاء أصعب، وخصوصاً من خلال ما رأينا من تجربتي “داعش” وجبهة النصرة وفصائل أخرى أقل قوة، لكن تتمتع بالعقلية ذاتها، ولا أعني بممارسات الفصائل بالنسبة للناس الذين يقعون تحت حكمهم، بل بتسلط الفصائل بعضها على بعض، وهذا ما حصل بالفعل إذ الكبير أخذ يأكل الصغير، كما السمك في البحر، وكل منها يستند إلى آيات وأحاديث وفقهاء مشهود لهم. ولدى كل منهم سجون ومعتقلات، وأدوات تعذيب أي كل لوازم دولة الاستبداد التي يعرفها حكّام العرب اليوم، ويحاول جيل الشباب التغلب عليها! وكان أول من أقصي عن هذه الفصائل هم الضباط المنشقون الذين كان يمكن أن يلعبوا دوراً في التدريب والتهيئة لحماية المواطنين، بحسب تبرير العسكرة، ودوافعها البريئة التي قدّمت للمتظاهرين.. وخصوصا أنهم سوريون، لا كهؤلاء القادمين من وراء البحار ومن دول عربية وإسلامية. وعلى الرغم من ذلك، فالسؤال الذي يفرض نفسه، في النهاية، هل كان سيجري تدخل دولي وإقليمي أم لا؟ سيحصل كما هو الحال اليوم في ليبيا وفي أفغانستان والصومال سابقاً. وقد حصل التدخل فعلاً، وقبل أن يتدخل الروس بعام، إذ دخل التحالف بقيادة الولايات المتحدة بقرار من أوباما في العاشر من سبتمبر/ أيلول عام 2014. وقد رحبت المعارضة بالتدخل، وطلب النظام مشاركته، لكن طلبه رفض.
قد يكون أصحاب رأي “لو لم تتدخل” صحيحاً لو أن هناك جيشاً وطنياً قوامه الأساسي مجموعة الضباط الذين انشقوا عن النظام، كما أشرت، ولهم القوة والدعم الذي كان للفصائل القوية الأخرى، دونما شروط قاسية، أو لو أن السقوط حصل قبل تدخّل الجيش، أي خلال الأشهر الستة الأولى، واعتقادي أنَّ النظام أخذ في الحسبان تدخّل الإيرانيين والروس أيضاً في حال فشل الجيش.
ارتكب الروس من الجرائم ما يعجز عنه الوصف، وحققوا كما ذكرت منافع متعدّدة على الصعيدين، العسكري والاقتصادي، إذ يقول بوتين إنهم جرّبوا نحو ثلاثمائة نوع من السلاح. وتفيد تقديرات بأنهم باعوا إثر ذلك بما قيمته نحو 35 ملياراً من الدولارات. والأهم من هذا وذاك انهم عادوا إلى المسرح السياسي الدولي، إذ لهم مشاركاتهم في قضايا كثيرة، وها هم أولاء يعودون، عبر سورية، إلى ليبيا التي خُدعوا، كما يقولون، لدى بداية أزمتها، والخلاصة أنهم ككل متدخل في أرض غيره لا اسم له غير محتل أو مستعمر.
وأخيراً، وإذا كانت المفاضلة مرفوضةً في أساس منطقها غير السليم، فإن تجارب الإسلام السياسي في بلداننا العربية لم تحقق أي نجاح، حتى إن حركة النهضة في تونس التي تعدُّ الأكثر تنوراً دفعت أمينها العام، راشد الغنوشي، إلى أن ينتقد نفسه والحركة، لنتائج الانتخابات قبل الأخيرة، علناً بقوله: إننا لم نستطع تلبية مطالب شعبنا، (يذكر أن الوزارة أو أغلبها كانت بيد الحركة). أما من أراد القياس على تركيا وماليزيا، فالفارق كبير، ولعل بعض كلمات رئيس وزراء ماليزيا، مهاتير محمد، في منتدى كوالالمبور للفكر والحضارة عن “التجربة الماليزية في النهوض والتنمية” يضع أفقاً أمام الحركات السياسية الإسلامية، إذ قال: “المجتمعات المسلمة عندما رضخت لبعض الفتاوى والتصورات الفقهية، التي لا تتناسب مع حركة تقدّم التاريخ، أُصيبت بالتخلف والجهل..!” وأضاف: “العديد من الفقهاء حرّموا على الناس استخدام التلفزيون والمذياع، وركوب الدراجات، وشرب القهوة، بل وجرَّموا تجارب عباس بن فرناس للطيران”. وقال: “نحن المسلمين، صرفنا أوقاتًا وجهودًا كبيرة في مصارعة طواحين الهواء عبر الدخول في معارك تاريخية، مثل الصراع بين السنة والشيعة، وغيرها من المعارك القديمة..”. وبعد: إنَّ رائد أي حركة سياسية في عصرنا، وبعيداً عن أية أيديولوجيا، هو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومرتكز الاثنتين التنمية المستمرة والكل مطلب سورية الرئيسيِّ والملحِّ.
العربي الجديد
——————————-
خطة روسيا العسكرية في إدلب/ فاطمة ياسين
مضت أكثر من ستة أشهر على معركة خان شيخون التي خرق فيها النظام السوري وقفاً سابقاً لإطلاق النار، متجاوزاً اتفاقيات خفض التصعيد، حيث شنّ هجوماً بمساندة حلفائه، استولى حينها على بضعة كيلومترات من الطريق الدولي الذي أصبح موضوعاً رئيسياً للإعلام، وبعدها لم يعد النظام يرى من منطقة إدلب ومحيطها إلا رمز M5، وهو الرمز المروري للطريق الدولي شرق إدلب، والذي يصل إلى حلب، وتستميت قوات النظام للسيطرة عليه. ولتحقيق هذا الهدف شُرِّد حوالي نصف مليون شخص، نزحوا شمالاً نحو أماكن أكثر أمناً من منطقةٍ يفترض أن فيها وقفاً للنار، وتقع ضمن حيز خفض التصعيد. وبدل أن تحمل هذه الاتفاقيات بعض الهدوء، كانت مؤشّراً إلى فقدان الأمن والبيوت والممتلكات، ومساحة زمنية لزيادة عدد المهجّرين والمشرّدين. وفي سيناريو يبدو مشابهاً، وُقِّع قبل أيام وقفٌ جديد لإطلاق النار في هذه المنطقة، وكان النظام قد بدأ التحرّش ببلدات خطوط التماس في ريفي إدلب الشرقي وحلب الجنوبي، فجاءت عناوين وقف العنف إشارةً إلى بدء هجوم جوي ومدفعي وصاروخي جديد، حتى وصل عداد المشردين إلى أربعمائة ألف شخص، بدأوا رحلة تيه أخرى، والهدف أيضاً ضم النظام جزءا جديدا من هذا الطريق الدولي.
يركّز جيش النظام والطيران الروسي خريطة هجومهما على أرياف حلب، الغربية والجنوبية، وريف إدلب الشرقي في جبهتين رئيسيتين، أولهما جبهة معرّة النعمان عبر تل منِّس. وبات جيش النظام على بعد سبعة كيلومترات منها، وقد خلت شوارعها من السكان، من أبنائها، أو من لجأ إليها، خلال سني الحرب الطويلة، أو خلال الهجوم على خان شيخون، فبعض هؤلاء قد تكون هذه هجرتهم الثالثة أو الرابعة. وكان التحرّك العسكري قد بدأ مبكّراً على هذه الجبهة منذ بداية شهر يناير/ كانون الثاني الحالي، لكن المعركة الكبرى لن تكون وشيكة. أما جبهة ريف حلب الغربي، فبدأ فيها الهجوم قبل أيام قليلة. ويركز الطيران ضرباته على كل القرى والبلدات التابعة إدارياً لحلب تحديدا، وهي البلدات التي تحيط بالطريق المستهدف من كل هذا الهجوم. تتكشف خطة الهجوم من تموضع الأهداف، فالطريق الدولي مستهدفٌ من جهتين، شمالية وجنوبية، ولكن الهجوم في مراحله الأولى. وعلى عادته، يبدأ بقصفٍ من الطيران والمدفعية، ثم الانتظار قليلاً لاستيعاب الارتدادات السياسية التي يمكن أن تنشأ عنه، قبل المتابعة بالتوغّل البرّي. وقد بدأ هذا بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار الذي يبدو أنه أصبح جزءاً من تقاليد الحرب في هذه الجبهة.
يلعب الروس الدور الرئيسي في هذه المعركة، ويحاولون استغلال الظروف الدولية، وعلاقاتهم بالأتراك للتسلل ببطء، وصولاً إلى السيطرة التامة على ذلك الخط البرّي الذي يصل دمشق بحلب، بما قد يحقّق فائدة اقتصادية كبيرة للنظام في الظروف الراهنة التي تحاصره بقوة. ولكن من غير المتوقع أن يكون هذا الطريق الحل السحري لاقتصاد النظام المتهاوي الذي اعتمد على إيران بشكل أساسي. يتعلق الأمر الآن بروسيا التي تنظر إلى مدى أبعد، وعينها مركّزة على إعادة الإعمار، ولديها تفضيلاتٌ كبيرةٌ في الحصول على عوائد تعوّض وجودها العسكري الطويل في سورية، والمرشح فترات أطول، وهذه المعركة من آخر المعارك في أرض “سورية المفيدة”، ولكنها، في الوقت نفسه، ستكون أطولها، فهناك عوامل كثيرة يجب احترامها وضمان موافقتها، والوجود العسكري على طول الطريق الدولي لا يعني السيطرة عليه كلياً بالنسبة لها، فلا يمكن أن تتلاشى التنظيمات العسكرية الموجودة حالياً بشكل كامل، وقد تحتفظ بجيوبٍ عديدة في المنطقة، وربما تحتفظ بقطاع واسع يُبقي هذا الطريق تحت التهديد المباشر، ويستخدم ورقة ضغط للمساومة لاحقاً، أو لجباية قسم من ريوع الطريق. المنطقة مرشّحة لإنتاج ملايين المهجّرين الذين سيتم جني كل تلك الأرباح على حسابهم بشكل خاص.
العربي الجديد
———————————–
هل وصلت روسيا إلى المأزق؟/ غازي دحمان
ليست المرّة الأولى التي يحصل فيها قتل جنود روس في سورية، لكنها المرّة الأولى التي تجري فيها مثل هذه الواقعة ضمن سياقٍ بات يستهدف الروس أنفسهم، في إطار معركةٍ ستكون نتيجتها، إما انتصار الخط الذي تؤيده روسيا بشكل حاسم ونهائي، أو تؤسس لمرحلة استنزاف طويلة لروسيا وتحالفها الأسدي – الإيراني.
وإذا كانت الترجيحات، حتى اللحظة، تذهب صوب احتمال فوز الطرف الذي تقوده روسيا وتدعمه، انطلاقاً من معطى فارق موازين القوى، فإن الاحتمال الآخر، سقوط روسيا في مأزق الاستنزاف، ينطوي أيضاً على وجاهةٍ يمكن تلمسّها من جملة مؤشراتٍ طفت على السطح في الآونة الأخيرة.
أولاً: لأول مرّة تواجه روسيا طرفاً أو أطرافاً خارجية تُبدي الاستعداد لعرقلة مشروعها السوري، ما لم تأخذ طلباتها ومصالحها بالاعتبار. والمقصود هنا، الولايات المتحدة الأميركية التي يبدو أنها بصدد بلورة استراتيجية مواجهة لروسيا في سورية. ويدلّل على ذلك تعبئة طاقاتها الدبلوماسية والعسكرية في هذا الاتجاه، وثمّة ما يشي باحتمالات تطوير التحرّك الأميركي باتجاه الملف السوري إلى مستوىً يقع خارج التقديرات التي تأسست على فرضية أن واشنطن لم تعد مهتمةً بالمنطقة.
من يراقب تصريحات المسؤولين الأميركيين ولقاءاتهم مع المعارضة السورية في إسطنبول، وتفاصيل المحادثات التي أجروها معهم، لا بد أن يكتشف الفارق في السلوك الأميركي تجاه الملف السوري، والذي وصل إلى حد التلميح بإمكانية تزويد المعارضة السورية بالأسلحة في حال إصرار روسيا ونظام الأسد على خرق الهدنة، حسبما كشف” تلفزيون سوريا” عن محادثات المعارضة والوفد الأميركي برئاسة مبعوث الشأن السوري، جيمس جيفري.
وليس خافياً أن التحرّك الأميركي بهذا الوضوح يأتي في سياق محاربة النفوذ الإيراني، وفي إطار الشعور بالقدرة على الفعل، بعد تصفية قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، حيث تحاول الدوائر العسكرية والاستخباراتية الأميركية الاستفادة من هذه الفرصة لإعادة زخم الدور الأميركي إلى المنطقة.
ثانياً: أضعف التورّط الروسي في ليبيا موقفها الدولي، إذ نبّه دول أوروبا إلى مخاطر السكوت عن التحرّكات الروسية في البحر المتوسط، والأسلوب الذي تتبعه روسيا والقائم على تصدير مرتزقتها لتغيير موازين القوى في البلاد التي تمر بأزمات سياسية من أجل تحقيق مصالح جيوسياسية طالما اتهمت روسيا خصومها بها.
بالإضافة إلى ذلك، باتت أوروبا على دراية بمخاطر عمليات التهجير التي تقودها روسيا في سورية، من دون أدنى إحساس بالمسؤولية عن الأمن الأوروبي وأزمات القارّة السياسية والاجتماعية، بل إنها تفعل ذلك بتقصّد واضح، الهدف منه إضعاف الأنظمة الديمقراطية في أوروبا وإخضاعها للسياسة الروسية.
ومن الواضح أن أوروبا، الواعية للسلوك الروسي، بدأت تقف خلف الولايات المتحدة في سياستها السورية، ويدلل على ذلك دعمها الصريح الموقف التركي من الهدنة، ومطالبتها روسيا ونظام الأسد بالالتزام بالهدنة، والإصرار على أن الموقف الأوروبي لن يتغيّر من نظام الأسد ما لم يجر التغييرات السياسية التي نصت عليها القرارات الدولية، وخصوصا قرار مجلس الأمن 2254 الذي يدعو إلى عملية سياسية بإشراف الأمم المتحدة.
ثالثاً: نهاية فعالية التكتيكات الروسية التي يبدو أنها وصلت إلى ذروتها، ولم تعد قادرةً على تحقيق نتائج مهمة في مرحلة الصراع السوري الحالية، ولعل أهم عطبٍ في هذه التكتيكات، ضعف القدرة على التوقع، فيما سبق كانت روسيا تبني خططها على ظروف الأطراف الداعمة للفصائل في الجنوب والوسط والمشكلات الأمنية التي تواجهها، كذلك كانت على بيّنةٍ ببنية هذه الفصائل وإمكاناتها، ومعرفة أن غالبيتها تتشكل من تشكيلاتٍ محليةٍ قبلية ليست منظمة، على عكس ما تواجهه في إدلب اليوم، حيث يوجد نوعان من التنظيمات:
فصائل على درجةٍ لا بأس بها من التنظيم “الجيش الوطني” لديه حليف بحجم تركيا، وأياً يكن الموقف من تركيا، فإنها متورطة في الصراع في الشمال السوري، وهامش إمكانية تقديم تنازلات لروسيا ونظام الأسد لديها منخفض، ليس حباً بالسوريين وانتصاراً لقضيتهم، بل لأن أي تنازل أو سكوت ستكون له ارتدادات كارثية على الأمن التركي، من خلال تدفق ملايين اللاجئين إلى أراضيها، وهذا الأمر يقع في صلب أمنها القومي الذي تصعب المجاملة فيه.
فصائل متطرّفة: مثل جبهة النصرة وحرّاس الدين والتركستاني، وهي فصائل يصعب اختراقها، كما يصعب تقدير ردّات فعلها في معركةٍ ستمثل نهاية كياناتها، إذا انهزمت فيها، وبالتالي ليس مستبعداً لجوؤها إلى أقصى درجات العنف في مواجهة حربٍ تستهدف وجودها.
رابعاً: وهي النقطة الأهم، الطبيعة الجغرافية للمنطقة التي تنطوي على جبال وتلال ووديان، فليست كل إدلب سهولا، كما أن هذه المناطق تحتوي على كثافة عمرانية تجعل من الصعب على روسيا اختراقها بسهولة، وخصوصا أن أمر حصارها مستحيل، طالما هي مشرّعة على الجغرافية التركية.
ربما وصلت روسيا إلى آخر مناطق المعارضة السورية، وربما ستخوض هناك آخر حرب، لكن كم سيستغرق إنجازها هذه المهمة، ولمصلحة من ستكون النهاية، تلك القضية التي من المبكر الإجابة عنها، خصوصا أن هناك احتمال أن يؤدي استنزاف روسيا في الشمال إلى عودة جنوب سورية وغوطة دمشق الغربية والقلمون إلى الانخراط بالأحداث، خصوصا أن هناك تفلتاً واضحاً في هذه المناطق، للخروج من قبضة نظام الأسد وحلفائه.
العربي الجديد
—————————–
حقائق يؤكدها تسعير المعارك في إدلب!/ أكرم البني
أربع حقائق يعيد تأكيدها تواتر القصف على مدينة إدلب وأريافها، والخروقات المتكررة لقرارات وقف إطلاق النار في منطقة خفض التصعيد الرابعة والأخيرة، المنصوص عليها في اتفاق آستانة عام 2017، بين روسيا وتركيا وإيران.
الحقيقة الأولى، حتمية الخيار العسكري، وانعدام أي فرصة للحل السياسي. والسبب لا يعود فقط لطبيعة نظام ديدنه الفتك والتنكيل للحفاظ على سلطته وامتيازاته، ودأب على إفشال كل المعالجات السياسية، حتى التي رعاها حليفه الروسي، بدءاً من بيان جنيف عام 2012، مروراً باتفاقات آستانة وسوتشي، ومروراً بنقض الهدن والتسويات التي أجريت في بعض المناطق، وانتهاءً بالتنصل من استحقاقات اللجنة الدستورية، وإنما أيضاً بسبب تنامي حاجة حكام طهران لتسعير المعارك هناك، في رهان على تسويق ما يعتبرونه انتصارات في سوريا، لتخفيف التداعيات السلبية على هيبتهم ونفوذهم جراء مقتل قاسم سليماني، وتصاعد التحركات الشعبية في ساحات لبنان والعراق، ربطاً بتقدم رغبة موسكو في طي سريع لصفحة الصراع السوري، متحسبة من أن تغدو – إن بقيت مفتوحة – عرضة للأخذ والرد، ولعودة التنافس العالمي والإقليمي عليها، وربطاً بموقف سلبي وعاجز للمجتمع الدولي ومنظمته الأممية، اللذين – كالعادة – لم ولن يقدما سوى واجب الحد الأدنى تجاه ما يجري في إدلب، إن بتدبيج إدانات لفظية للعنف المفرط، وإن بدعوات باهتة لضبط النفس ووقف القتال.
الحقيقة الثانية، انكشاف المصالح الأنانية لحكومة أنقرة تجاه الشعب السوري وثورته، وجوهرها التدخل والتأثير في مجريات الصراع الدائر، لتعزيز حضورها ونفوذها الإقليميين، بما في ذلك دعم مشروعها الإسلاموي ومد انتشاره. ولا تغير هذه الحقيقة – بل تؤكدها – المواقف المتناقضة للسياسة التركية، وسرعة تبديل خياراتها وتحالفاتها، بحثاً عن فرص المكاسب والأرباح.
فالسلطات التركية التي طالبت بالحسم العسكري وإسقاط النظام السوري، ورفعت شعارات التحدي ضد روسيا، هي ذاتها التي شجعت على ما سُمي الحل التوافقي السياسي، وساهمت في بيانات واجتماعات آستانة وسوتشي، وضغطت على جماعات المعارضة السورية للقبول والمشاركة فيها، كما هي نفسها التي تخلت عن دورها الضامن، وخذلت السوريين في غير مكان، وتركتهم فريسة للفتك والتنكيل، وقايضت ذلك بمنطقة آمنة، غرضها توسيع تمددها العسكري، واستيعاب إعادة اللاجئين السوريين، والأهم تفكيك الحضور الكردي سياسياً واجتماعياً.
كما أن حكومة أنقرة التي آوت عناصر «الجيش الحر» وبدأت في تسليحهم وتدريبهم، هي ذاتها التي حاصرتهم في معسكر خاص، ومنعتهم من بلورة حالة عسكرية واعدة، وفي المقابل شجعت نشوء جماعات مسلحة بوجه إسلاموي، وأمدتهم بالسلاح، بما في ذلك جماعة «النصرة» المحسوبة على تنظيم «القاعدة»، وحولتهم إلى أدوات طيعة بيدها، لتتمكن بهم من خوض حروبها في شمال سوريا وشرقها، ومؤخراً من إرسال بعضهم كمرتزقة للقتال إلى جانب قوات حكومة السراج في ليبيا.
والأسوأ أن السلطات التركية التي فتحت الأبواب لاحتواء أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين، هي نفسها التي فتحت النار وقتلت مئات المدنيين الفارين منهم، ومنعت دخولهم أراضيها. وهي ذاتها التي استخدمت ولا تزال ورقة اللاجئين لابتزاز الغرب مالياً، وخصوصاً الدول الأوروبية، كما تستخدمهم اليوم لمنازعة الوجود المدني الكردي، من خلال التواطؤ مع «جبهة النصرة» لسد المنافذ أمام الهاربين من إدلب، وتوجيههم قسراً نحو مناطق سيطرتها في شرق الفرات.
الحقيقة الثالثة، شدة الخطر الذي مثلته وتمثله جبهة «فتح الشام» وغيرها من المنظمات الإسلاموية المتطرفة على مصالح السوريين وحقوقهم، وتحديداً ما خلفته سيطرتها على إدلب، ليس فقط في تأليب دول العالم ضد هذه المدينة ودفعهم للتواطؤ، أو على الأقل للصمت وغض النظر عن العنف الذي يمارس هناك، وإنما أيضاً في حجب قسم كبير من المعونات الإغاثية عن أهلها، هذا عداكم عن دورها المدمر في إرهاب الناس والاستهتار بحيواتهم ومعاناتهم، فهي لم تتوانَ عن اعتقال أو اغتيال الناشطين والمعارضين الإعلاميين، وإطلاق الرصاص على أي محاولة للمدنيين من سكان إدلب لتجاوز المعابر أو الشريط الحدودي، بغرض دفعهم نحو ما سُميت «منطقة آمنة»، أو قسرهم على البقاء، وتحويلهم إلى دروع بشرية تخوض بهم حرباً لم يعد لهم فيها لا ناقة ولا جمل.
الحقيقة الرابعة، أن الخيار العسكري في إدلب سوف يستمر ويطغى، ويتخذ أشكالاً أكثر حدة نحو الحسم، من دون اهتمام بالتكلفة الباهظة التي سيتكبدها أهل هذه المدينة واللاجئون إليها، بدليل طابع القصف الجوي والمدفعي من النظام وحلفائه، واستخدام مختلف صنوف الأسلحة بما فيها المحرمة دولياً، بغرض قتل المدنيين وإرهابهم ودفعهم للاستسلام والرحيل، وتوسل تدمير منازلهم والبنية التحتية، بما في ذلك استهداف المدارس والمنشآت الطبية ودور العبادة والأسواق الشعبية، وحتى تجمعات النازحين في مخيماتهم البائسة، كما قوافل النساء والأطفال والشيوخ الهاربين من أتون العنف.
والحال، تستعر المعارك في إدلب، ويبقى الجرح السوري مفتوحاً ضمن لعبة تنازع دولي وإقليمي على النفوذ والهيمنة، من دون اكتراث بأحوال هذا الشعب المنكوب وتضحياته ومصيره. وإذ تعترف الأمم المتحدة بأن ما يحصل في سوريا هو من أكبر الكوارث التي واجهتها خلال تاريخها، تفيد إحصاءاتها بأن عدد النازحين من إدلب وأريافها وصل إلى نحو 284 ألف شخص، خلال أسابيع التصعيد والقصف الأخيرة، بمن في ذلك 140 ألف طفل على الأقل، يعيشون الآن في مخيمات متواضعة أنشئت على عجل، أو في الحقول والبساتين المفتوحة على ما تحمله الطائرات من براميل متفجرة، بينما تفيد تقاريرها بأنه ليس من صراع دامٍ عرف هذا القدر من العنف المنفلت المثقل بالضحايا والخراب والمشردين كالصراع السوري، فإلى جانب مئات آلاف القتلى، ومثلهم من المعتقلين والمغيبين قسرياً، وأضعافهم من الجرحى والمشوهين، وأكثر من عشرة ملايين نازح ومهجر ولاجئ، ثمة إمعان في تخريب حيوات السوريين وانتهاك حقوقهم، ليغدو في مهب الريح كل ما أنجزوه خلال العقود الماضية: الدولة ومؤسساتها، واجتماعهم الوطني، والبنية الاقتصادية، والتعايش ونبذ الاحتقانات الأهلية والطائفية، والأمن، وشروط العيش والحياة. ولتخلص هذه التقارير إلى أنه ليس من لحظة مفصلية تلح فيها حاجة السوريين للدعم والمساندة ولإنقاذ أرواحهم واجتماعهم ومستقبلهم، أكثر من اللحظة الراهنة.
الشرق الأوسط
——————————
روسيا تحاصر الإغاثة الأممية في سوريا
وافق مجلس الأمن يوم الجمعة الفائت على تمرير قرار يُجدّدُ السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا عبر الحدود من دون موافقة النظام السوري، إلا أن النسخة الأخيرة من القرار تضمنت كثيراً من التعديلات التي تحمل بصمات موسكو، التي كانت قد استخدمت مع الصين حق النقض «الفيتو» على نسخة سابقة من القرار خلال الشهر الفائت، ما هدَّدَ بتوقف جزء كبير من العملية الإنسانية في سوريا نتيجة ذلك.
تضمَّنَ قرار مجلس الأمن رقم 2504 لعام 2020، تجديداً للبندين الثاني والثالث من القرار 2165 لعام 2014، واللذين يسمحان لوكالات الأمم المتحدة الإنسانية باستخدام معابر حدودية مع سوريا لتنفيذ برامجها بالتعاون مع شركاء محليين ودوليين، بمجرد إخطار حكومة النظام السوري دون أخذ إذنها، إلا أن القرار الجديد استثنى معبري اليعربية والرمثا الحدوديين مع كل من العراق والأردن، من هذه العملية، وأبقى على العمل من خلال معبري باب السلامة وباب الهوى مع تركيا.
وشهدت جلسة التصويت على القرار الجديد جدلاً كبيراً، واعتراضاً من الولايات المتحدة على هذه النسخة الضعيفة من القرار، التي تستثني السوريين في شمال شرقي البلاد من العملية الإنسانية، وعلى مدته القصيرة التي تمتد لستة أشهر فقط، بعد أن كان القرار يُجدَّدُ بشكل سنوي، وقالت الممثلة الدائمة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة السفيرة كيلي كرافت في كلمتها بُعيد التصويت على القرار: «ما رأيناه اليوم من الاتحاد الروسي هو لامبالاة صادمة لمعاناة الإنسان. لقد تُرِكنا أمام قرار مُخفَّف، غير ملائم على الإطلاق لاحتياجات الشعب السوري، بسبب عدم رغبة الروس في الحفاظ على المستويات الحالية لتدفقات المساعدات» مضيفةً أن «عمل اليوم ليس ضربة قوية لمصداقية المجلس فحسب، وإنما لسلطته المعنوية أيضاً».
فيما قال السفير البلجيكي مارك بيكتسين، الذي قدمت بلاده بالتشارك مع ألمانيا مشروع القرار: «بذلت الدولتان اللتان صاغتا المسودة ما بوسعهما للتوصل إلى اتفاق حول قرار لتجديد الآلية (…) وقد اتبعنا الأمور الحتمية للعمل الإنساني وهي مصير أربعة ملايين نسمة، والذي كان حافزنا الوحيد»، وأعرب عن أسفه لعدم تضمين معبر اليعربية ضمن القرار، واعتبره معبراً حيوياً لا يمكن الاستغناء عنه.
من جانبها، فإن موسكو قد دعت عبر سفيرها في الأمم المتحدة إلى إعادة قرار العمل الإنساني إلى دمشق، وقد امتنعت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا والصين عن التصويت على القرار، فيما صوَّت باقي الأعضاء في المجلس لصالحه، ليتم تمريره بالأغلبية بعد جدلٍ استمر لأسابيع حول صيغة القرار، من ناحية عدد المعابر، ومن ناحية مركز القرار الإنساني في سوريا.
«المشكلة الحقيقة تكمن في استمرار الضغط الروسي لإعادة مركز العمل الإنساني في سوريا إلى دمشق»، يقول الدكتور محمد كتوب للجمهورية، مضيفاً «طالما أن تهديد موسكو مستمر باستخدام الفيتو ضد القرارات التي لا تناسبها، فإن ذلك يزيد من إمكانية أن تعيد النسخة المقبلة من قرار عبر الحدود مركز القرار الإنساني في سوريا إلى دمشق، حيث يمكن للنظام ممارسة ضغوط سياسية ليتحكم بآليات توزيع وعمل المنظمات الإنسانية».
ويبدو أن لبّ المشكلة يكمن في حاجة النظام للاستفادة من الدعم الإنساني المقدم لسوريا، سواءً لتغطية العجز الذي لديه، أو لتأمين إعادة إعمار من خلال ما يسمى بـ «عمليات التعافي المبكر» كما يقول الدكتور كتوب، خبير المناصرة للقضايا الإنسانية وحقوق الإنسان في سوريا.
ويمكن القول إن الذعر الذي بثّه التخوف من عدم تجديد القرار قبل أسابيع قليلة، هو أحد أبرز النتائج التي نجمت عن آلية اتخاذ القرار في مجلس الأمن، ويقول هشام ديراني مدير مؤسسة بناء للتنمية للجمهورية: «تعتمد كثيرٌ من المساعدات، مثل الغذاء والمأوى، بنسبة كبيرة على برامج وكالات الأمم المتحدة الإنسانية، التي تنفذها من خلال منظمات سورية، إلا أنّ التهديد بتوقف قرار عبر الحدود أنذرَ باحتمال توقف تلك المساعدات التي يعتمد عليها المجتمع في شمالي سوريا بنسبة كبيرة، وهو ما وضع السكان في حالة ذعر»، أما الانعكاسات على الممولين بحسب ديراني فهي «غير واضحة، وقد أكّد عدد كبير من الممولين على استمرار العمل، لكن سيكون هناك آليات جديدة للعمل إذا ما غابت الأمم المتحدة عن العمل في شمالي سوريا، ما يفرض تشديدات كبيرة جداً على المنظمات الإنسانية في سوريا».
ولا يترك توقف العمل بهذه الآلية عبر معبر الرمثا الأردني أي تأثير، نتيجة توقف العمل عبره منذ سيطرة نظام الأسد على الجانب السوري من المعبر عام 2018، وارتباط إغاثة مخيم الركبان الحدودي أصلاً بوكالات الأمم المتحدة الموجودة في دمشق، إلا أن المفاعيل الأساسية للصيغة الجديدة من الآلية ستترك أثراً كبيراً على الوضع في الجزيرة السورية، إذ يحمل القرار الجديد في طياته استعادة النظام القدرة على الضغط الشديد على المجتمعات المحلية هناك، بعد توقف العمل من معبر اليعربية مع العراق، الذي كان منفذاً لوكالات الأمم المتحدة للعمل وتنفيذ مشاريعها. وعلى الرغم من أن المنظمات الإنسانية تستطيع استخدام معبر آخر هو معبر سيمالكا، إلا أن كثيراً من المساعدات التي كانت تأتي عن طريق الأمم المتحدة، وتحديداً المساعدات الطبية مثل المعدات الجراحية واللقاحات، لا يمكن أن تمر بعد الآن إلى الجزيرة السورية إلّا عبر دمشق، ما يفسح المجال أمام النظام للتحكم بجزء كبير من القطاع الطبي في المنطقة.
من جانب آخر، فإن الصيغة الجديدة للقرار، والتي مددت العمل لستة أشهر فقط، يبدو أنها تركت تأثيراً واضحاً على الداعمين الدوليين خارج إطار منصات الأمم المتحدة، إذ يبدو أن بعض البرامج التي يتم تنفيذها في منطقة الجزيرة قد تمّ إيقافها من قبل الداعمين، على الرغم من عدم ارتباطها قانونياً بقرار عبر الحدود الذي يلزم وكالات الأمم المتحدة فقط.
بالإضافة إلى ما تقدّم، فإن الصيغة الجديدة تهدد بعدم وصول اللقاحات إلى مناطق السيطرة التركية في الجزيرة، إذ لا تستطيع الحكومة التركية استلام لقاحات أطفال إلا لسكانها، فيما قد تُترك المنطقة الممتدة بين تل أبيض ورأس العين من دون لقاحات، وهو ما يهدد بانتشار أمراض وأوبئة خطيرة مثل شلل الأطفال، خاصةً إذا ما علمنا أن هذا المرض عرف انتشاراً في مناطق قريبة خلال أعوام فائتة.
أحد العاملين في المجال الإنساني في شمالي سوريا، والذي فضل عدم الكشف عن اسمه، قال للجمهورية: «يبدو أن التأثيرات ستكون أبعد من حجم عمل وكالات الأمم المتحدة، فالاستعدادات لدى كبار الداعمين للعمل الإنساني في سوريا غير واضحة في حال عدم تجديد القرار بعد ستّة أشهر، كما أن حجم الدعم قد يتأثر. لدينا تطمينات بعدم توقفه، لكنه سيتأثر حتماً في حالة عدم تجديد القرار بعد ستة أشهر، وهو احتمال واردٌ للغاية»، ويضيف: «الاحتمال الآخر هو أن تفاوض روسيا الولايات المتحدة على القرار مقابل إعادة مركزية العمل الإنساني إلى دمشق، حيث يمتلك النظام تأثيراً كبيراً قد يجعل قرار عبر الحدود بلا أي معنى».
مخاوف عديد تواجه السكّان والعاملين في المجال الإنساني في المناطق التي لا تخضع لسيطرة قوات نظام الأسد، وبينما قد لا تكون تأثيرات القرار الجديد واضحةً تماماً اليوم، إلا أنّ صيغة القرار التي تمّ تمريرها في مجلس الأمن تفتح الباب لمزيد من استخدام روسيا والنظام للمساعدات الإنسانية كسلاح حرب ضد المدنيين.
موقع الجمهورية
————————–
لقاء رئيس المخابرات التركية بقادة فصائل المعارضة السورية: هل مات اتفاق سوتشي؟/ منهل باريش
أكدت مصادر عسكرية قيادية في الجبهة الوطنية للتحرير لـ”القدس العربي” اجتماع قادة فصائل المعارضة السورية في منطقتي إدلب وريف حلب الشمالي مع مدير المخابرات الوطنية التركية، حقان فيدان، الخميس، في العاصمة أنقرة.
وحضر اللقاء وزير الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، اللواء سليم إدريس، ونائباه، عن منطقة إدلب، العقيد فضل الحجي القائد للجبهة الوطنية والقائد العسكري لفيلق الشام ونائبه في منطقة ريف حلب الشمالي والرقة العميد عدنان الأحمد. وحضر كذلك جميع قادة الفصائل المشكلة للجبهة الوطنية للتحرير في إدلب وقادة فيالق الجيش الوطني وفصائله الكبرى.
وذكرت المصادر العسكرية، أن الوفد التركي أعرب عن قراره دعم فصائل المعارضة من أجل الصمود في وجه “هجوم النظام”. ويأتي الاجتماع في مسار زيادة الدعم العسكري التركي لفصائل المعارضة إثر خرق النظام وحلفائه لنظام وقف إطلاق النار الذي أعلنه الضامنان في مسار أستانة الروسي والتركي في 10 كانون الثاني (يناير) الجاري.
وترغب تركيا بإرسال إشارات سياسية لروسيا من خلال تكثيف الاجتماعات بقادة الفصائل العسكرية، حيث يدلل لقاء الرجل القوي في تركيا والوعود بدعم الفصائل في وجه النظام على خيارات أنقرة في حال استمرت العملية العسكرية في إدلب. ويأتي توسيع أعداد المدعوين كنوع من أنواع الدعم المعنوي للفصائل جميعا بهدف الثبات على الأرض. ويعتبر اللقاء الموسع هو الثالث من نوعه بين مسؤولي الملف السوري في جهاز المخابرات الوطنية التركية في أقل من عشرة أيام، عدا عن الاجتماعات المغلقة والضيقة والتي تقتصر على المقربين من أنقرة. ورغم إشاراته إلى الدور السلبي الكبير لـ”تحرير الشام” ووصفها بالمنظمة الإرهابية التي تعيق تنفيذ التفاهمات، فإن المسؤول التركي لم يفضل الإغراق بالحديث عنها، ونوه إلى ضرورة القضاء عليها.
ويحدث ذلك بالتزامن مع ارتفاع حدة القصف الجوي الروسي واشتداد المعارك في أقصى شرق محافظة إدلب، حيث فشل النظام السوري في اقتحام محور قرية تلخطرة مرة أخرى فيما استطاعت الجبهة الوطنية للتحرير تثبيت نقاطها في تل مصيطف الاستراتيجي في المنطقة والتقدم في المزارع المجاورة فيما فشلت في إحراز خرق إلى الجنوب من ذلك المحور في قرية حلبان التي تعتبر عقدة الطرق الأهم. فهي تربط الطريق الواصل بين ريف سراقب الشرقي وسنجار (شمال -جنوب) وتقع على الطريق الواصل بين أبو الظهور ومعرة النعمان (غرب – شرق) في الثلث الأقرب إلى الأولى.
واستمرت سرايا (م/د) من تدمير مزيد من العربات والآليات لقوات النظام ولواء القدس الفلسطيني الذي يعتبر الميليشيا الروسية الأبرز التي تقاتل إلى جانب قوات النظام على جبهات ريف إدلب الشرقي، وهي الميليشيات التي سقط منها أكثر من 120 قتيلا خلال الأسبوعين الماضيين عدا عن قتلى قوات النظام السوري.
وشن الطيران التدريبي نوع “لام-29” هجوما مكثفا على الطرق الرئيسية في الشمال السوري، وقام باطلاق صواريخ “C-8” بهدف فرض حظر تجول على المدنيين في المدن والنازحين إلى الشمال السوي، وتعطيل خطوط الإمداد إلى الجبهة وتعطيل حركة سيارات الإسعاف وسيارات الدفاع المدني التي تقوم بإخلاء الجرحى والقتلى من تحت الأنقاض.
وركزت القاذفات الروسية قصفها على ريف حلب الغربي، بينما انحصر عمل الطيران المروحي على قصف ريف إدلب الجنوبي والشرقي بالبراميل المتفجرة حيث قصفت كفر روما واحسم وحاس وكنصفرة، وارتفعت أعداد الضحايا المدنيين بشكل كبير الأسبوع الماضي نتيجة خرق وقف إطلاق النار.
التصعيد الأخير يعني عمليا موت وقف إطلاق النار الذي أعلنته أنقرة وموسكو بشكل نهائي رغم عدم التطرق إلى ذلك علنا بين الجانبين. ولعل إعلان وزارة الدفاع الروسية يوم الخميس عن مقتل 40 عنصرا من قوات النظام وإخلاء بعض مواقعها بسبب هجوم مقاتلي الحزب الإسلامي التركستاني، يعني تحميل فصائل المعارضة مسؤولية انتهاء وقف إطلاق النار وإعلان الحرب من جديد.
تركيز القصف على كامل الأراضي شرق طريق حلب-دمشق بما فيها ريف إدلب الجنوبي ودخول ريف حلب الغربي على بنك أهداف القصف الروسي، مراده الضغط بهدف ازدياد أعداد المهجرين والفارين من القصف باتجاه الشمال وارباك صفوف المقاتلين وإشغالهم بإبعاد أهاليهم عن دائرة الخطر، وهو تكتيك استهدفته القوات الروسية سابقا في معارك ريف حماة الشمالي، إذ اتبعت سياسة تقطيع الطرق واستهدافها وضرب التجمعات السكنية والمدن الكبرى بعد تدمير المستشفيات والنقاط الطبية بهدف الضغط المتكامل على كل مقومات الحياة وجعل اهتمام المدنيين والمقاتلين يتركز على توفر المياه والطعام والحد الأدنى من الشروط الصحية للحياة. ويزيد فصل الشتاء من معاناة المدنيين والمقاتلين على حد سواء.
إن غياب أي إشارة إلى حل سياسي أو تطبيق لاتفاق سوتشي من قبل المسؤولين الأتراك يؤشر إلى المصير الغامض الذي ينتظر منطقة خفض التصعيد الرابعة، ما يعني ان كل الجهود التي بذلتها تركيا لإقناع تحرير الشام بفتح الطرق الدولية قد باءت بالفشل تماما، وهو ما يعني إصرار موسكو على فتح طريق حلب-دمشق (M5).
والغريب في المشهد، أن وزارة الدفاع في حكومة المعارضة وجيشها بفيالقه السبعة، لم تبادر باقتراح أي خريطة طريق من أجل فتح الطرق أو مبادرة من أجل فتح طرق الترانزيت وإجبار “تحرير الشام” وباقي الفصائل المتطرفة للابتعاد خارج المنطقة منزوعة السلاح الثقيل، واكتفى قادة فصائل المعارضة بالاستماع إلى الشرح الذي قدمه رئيس جهاز المخابرات التركي.
يذكر أن أعداد مقاتلي الجبهة الوطنية للتحرير يزيد عن 45 ألف مقاتل في إدلب وحدها وهو ما يقدر بثمانية أضعاف “تحرير الشام” في الحد الأدنى ومع ذلك تهيمن الأخيرة على قرار الحرب والسلم في منطقة خفض التصعيد، في حين تبقى القوة الكبرى والممثلة بـ”الوطنية للتحرير” في حالة غيبوبة تامة.
القدس العربي
—————————-
روسيا من التأثير إلى المبادرة في الشرق الأوسط/ د. نورهان الشيخ
صار الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط هو الأكثر وضوحاً في كل الأزمات. وصار فلاديمير بوتين ضيفاً شبه دائم على المؤتمرات والقمم التي تتعاطى مع هذه الأزمات. القواعد الروسية في سوريا محطة لزياراته، يذهب إليها، يتجول فيها، ثم يستدعي الحاكم المفترض لتلك الأرض، رئيسها بشار الأسد، للقائه في تلك القواعد، كأنها محميات خاصة تابعة للولاية الروسية. وفي الأزمة الليبية يحل بوتين ضيفاً على الحوارات التي تُبذل مساعٍ لترتيبها بين طرفي ذلك الصراع الدامي. هو في برلين إلى جانب ميركل وأردوغان، يتعاطى بيسر مع خليفة حفتر وفايز السراج، مثلما يتعاطى في سوريا مع النظام والمعارضة، وفي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي مع محمود عباس وبنيامين نتنياهو. ولا يتوقف نشاط بوتين عند حدود المنطقة العربية، وهي المنطقة التي كان جوارها الجغرافي لروسيا مصدر انشغال لقيادات موسكو منذ زمن القياصرة. هو حاضر، أو متهم بالحضور، في معارك الانتخابات الغربية. في واشنطن يبحثون عن دور له في دفع دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. وفي لندن يبحثون عن دور له في توفير الانتصار لبوريس جونسون في معركة «بريكست». وفي دول الاتحاد الأوروبي يعيشون قلقاً مزمناً من نظرته المشككة إلى قوة الاتحاد ورغبته في الانقضاض عليه عند أول فرصة. وبوتين، الأطول عمراً في الكرملين منذ زمن جوزيف ستالين، يمهد الآن بهدوء لمرحلة «ما بعد بوتين»، عندما لا يعود رجل «الكا جي بي» السابق قادراً على البقاء في الحكم بعد سنة 2024. وفي موسكو يرى مقربون من الحكم ومعارضون أن الإجراءات الأخيرة التي دفعت بحليف بوتين وغريمه ميدفيديف إلى خارج رئاسة الحكومة، هي إحدى الخطوات التي تمهد لدور بوتين بعد 4 سنوات.
كان التدخل الروسي في سوريا في 30 سبتمبر (أيلول) 2015 إيذاناً بتغير نوعي في الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط، وانتقاله من مجرد التأثير على التطورات والأحداث التي تقودها قوى دولية أخرى، إلى الأخذ بزمام المبادرة والقيادة، لا سيما في الملف السوري. فقد استطاعت موسكو إحداث تغير جذري في المعادلة السورية كان له تأثير واسع النطاق على سوريا والمنطقة بأسرها. وجاءت التطورات الأخيرة في الملف الليبي، لتؤكد هذا التوجه حيث قدمت روسيا، بالتفاهم مع تركيا، مبادرة لوقف إطلاق النار في ليبيا يوم 12 يناير (كانون الثاني)، أعقبها في اليوم التالي استضافة موسكو المحادثات بين رئيس «حكومة الوفاق» الليبية فايز السراج، وقائد «الجيش الوطني» المشير خليفة حفتر لتدخل روسيا بقوة في المعادلة الليبية، ليس كطرف دولي مؤثر فقط ولكن كطرف قائد ومبادر. أكد ذلك دورها المحوري في الإعداد لمؤتمر برلين الذي حضره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في سابقة لم تشهدها المؤتمرات السابقة بشأن ليبيا.
في هذا السياق، تبرز مجموعة من الملاحظات حول أبعاد الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط ودوافعه وحدوده.
أولى الملاحظات، أن اهتمام روسيا بهذه المنطقة طبيعي وتاريخي، فلم تكن روسيا بعيدة أبداً عن منطقة الشرق الأوسط، التي تمثل حزامها الجنوبي الغربي، وجواراً شبه مباشر لها. وقد انطلق تقاربها من المنطقة دوماً، منذ العهد القيصري وعلى مدى قرون، من منظور تعاوني وليس استعمارياً مهيمناً كحال قوى كبرى أخرى. وهناك انفتاح روسي على كل دول المنطقة، وتسعى موسكو إلى تطوير شراكات استراتيجية بعيداً عن المحاور والاستقطابات، ومن دون خلط الأوراق ببعضها. فهناك شراكة استراتيجية بين روسيا وكل من إيران، والمملكة العربية السعودية، ومصر، وتركيا، والجزائر، والمغرب، وهي تؤكد على احترام الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحل الدولتين، مع الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع إسرائيل، ولا ترى موسكو في ذلك تعارضاً باعتبارها تنطلق من التوازن في علاقاتها بالأطراف المختلفة، وضرورة تسوية الخلافات الإقليمية ودعم التفاهمات والاستقرار الإقليمي.
ثانيتها، أن ارتباط الأمن القومي الروسي بمفهومه الشامل وجناحيه الاقتصادي والأمني بالمنطقة أعطى الأخيرة ثقلاً استراتيجياً متزايداً في الأولويات الروسية، فموسكو ترى أن أمنها القومي يرتبط عضوياً بأمن واستقرار المنطقة، وأن القضاء على الإرهاب داخلها يبدأ من سوريا وليبيا والمنطقة بأسرها. كما أن ضمان أسعار مرضية للنفط الذي تمثل عوائده عصب الاقتصاد الروسي، يظل رهناً بصياغة تفاهمات مع المملكة العربية السعودية، باعتبار الدولتين أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم.
ثالثة الملاحظات، أن حالة الارتباك في السياسة الأميركية تجاه المنطقة منذ وصول دونالد ترمب إلى السلطة، وما بدا من تفاهمات بينه وبين الرئيس بوتين، ترفضها المؤسسات الأميركية الأخرى، أتاحت مساحة للتحرك الروسي بقوة في المنطقة، خصوصاً أنها تزامنت مع ارتباك أشد في الدوائر الأوروبية نتيجة «بريكست» البريطاني والخلافات الأوروبية حول سياسات الهجرة واللاجئين وغيرها. الأمر الذي أوجد فراغاً نسبياً نتيجة انشغال القوى صاحبة النفوذ التقليدي في المنطقة، ما سمح لموسكو بالتقاط زمام المبادرة في عدد من ملفات المنطقة. ولا يعني هذا أن روسيا تسعى لمزاحمة الولايات المتحدة أو أي قوة أخرى، لكنها فقط تقتنص الفرص المتاحة لحماية وتحقيق مصالحها برؤية ووفق أجندة وطنية روسية، مع الأخذ في الاعتبار مصالح دول المنطقة.
رابعتها، ستظل سوريا هي محور الارتكاز الاستراتيجي الروسي في المنطقة، حيث القواعد الروسية الوحيدة خارج الفضاء السوفياتي، قاعدتا حميميم الجوية وطرطوس البحرية، وما تتيحه من وجود دائم وقوي لروسيا في البحر المتوسط ذي الأهمية الاستراتيجية لروسيا منذ العهد القيصري. ويعد الدور الروسي هو الأبرز في قيادة مسار التسوية السلمية في سوريا، بعد أن نجحت الضربات العسكرية الروسية في تغيير توازنات القوى على الأرض السورية، إلى جانب التوافقات التي تمت مع أنقرة وما مثلته من تغيير جوهري في معادلة القوى الخاصة بالقضية السورية.
ورغم المصالح الروسية في ليبيا، حيث تعد الأخيرة سوقاً رئيسية للسلاح الروسي منذ العهد السوفياتي، ومثلت الأسلحة روسية الصنع 90 في المائة من إجمالي معدات القوات المسلحة الليبية، وكانت هناك العديد من المشروعات الواعدة بين البلدين في مجال الطاقة تم الاتفاق عليها في زمن القذافي؛ أبرزها مشروع أنبوب الغاز بين ليبيا وإيطاليا بمشاركة الشركات الروسية، إلى جانب مدى آخر واسع من مشروعات البنية الأساسية، فإن الموقف الروسي من ليبيا يظل حذراً.
إن ليبيا ليست سوريا، ولن تغامر موسكو بالتورط العسكري المباشر في ليبيا على غرار سوريا، لعدة عوامل موضوعية. فمن ناحية، سيكون ذلك على حساب قدرتها على التركيز في سوريا، خصوصاً أنها لم تصل بعد إلى حسم نهائي للمعارك فيها، ولم تقضِ تماماً على التنظيمات والعناصر الإرهابية، الذي يظل الأولوية الحاكمة لحركة روسيا في منطقة الشرق الأوسط برمتها، ولما سيمثله ذلك من ضغط وعبء على الاقتصاد الروسي الذي يمر بصعوبات واضحة نتيجة التراجع الحاد في أسعار النفط من ناحية أخرى. فضلاً عن أن خريطة القوى الفاعلة في ليبيا معقدة للغاية، والتورط فيها يمكن أن يعيد شبح المأساة الأفغانية، خصوصاً مع رفض المجتمع القبلي الليبي التدخل الأجنبي بكل صوره، وتربص الغرب بروسيا ورغبته في إنهاكها عسكرياً واقتصادياً. يضاف إلى هذا بعد قانوني، وهو أن روسيا لا تتدخل عسكرياً إلا في إطار مظلة شرعية، وهو الأمر الذي يتحقق في حال طلبت الحكومة الليبية من روسيا التدخل، وهذا أمر غير وارد باعتبار الأخيرة مدعومة وموالية للغرب بالأساس، أو باستصدار قرار أممي من مجلس الأمن يخول روسيا هذا الحق، وهو أيضاً أمر غير وارد، ولا يمكن تصور أن تسمح به الدول الغربية، ومن ثم يعتمد الدور الروسي في ليبيا على دعم المشير حفتر الذي استقبل مرات عدة في موسكو؛ كان آخرها لقاؤه المهم مع الرئيس بوتين في أول يونيو (حزيران) الماضي.
لقد أمسكت روسيا زمام المبادرة في عدد من قضايا المنطقة، ولكنها تتحرك بحسابات دقيقة جداً، ووفق رؤية حاكمة لمصالحها وأولوياتها، وكذلك حدود ما تسمح به قدراتها والتوازنات المختلفة في المنطقة.
————————
تغييرات روسية داخلية لتعزيز الدور الخارجي/ أندريه أونتيكوف
ماذا بعد فلاديمير بوتين؟ بدأ النقاش حول هذه المسألة داخل روسيا وفي الخارج مباشرة بعد انتصار الرئيس الحالي في الانتخابات في عام 2018. الدستور الروسي لا يسمح لفلاديمير بوتين أن يترشح لفترة رئاسية ثالثة. ولا يوجد في روسيا سياسيون آخرون حظوا بمثل هذه الشعبية. هذا ما أدّى إلى تساؤلات عن تطورات الأحداث بعد عام 2024 أي بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة. وكانت سيناريوهات مختلفة على بساط البحث. تنبّأ البعض بتنفيذ ما يسمّى «عملية الخليفة». وهذا عن طريق انتصار شخصية رمزية ومن دون شعبية من أجل وصول فلاديمير بوتين إلى منصب الرئيس بعد 6 سنوات. بحث الآخرون في تعديل الدستور لكي يستطيع الرئيس الروسي أن يترشح من جديد. وأشار بعض المحللين إلى إمكانية مغادرة بوتين منصبه الحالي بعد نهاية الفترة الرئاسية وترؤس مجلس الدولة الذي سيحصل على صلاحيات ضخمة لتحديد السياسة الداخلية والخارجية وهذا مع تقليص صلاحيات الرئيس.
وكما اتضح بعد رسالة بوتين السنوية إلى البرلمان في 15 يناير (كانون الثاني) تقف روسيا أمام سيناريو مختلف تماماً. صلاحيات الرئيس فعلاً ستتقلص. ولكن ما اقترحه بوتين هو توزيع بعض تلك الصلاحيات بين مؤسسات الدولة عن طريق الإصلاحات الدستورية. مثلاً من المفترض أن يقر مجلس الدوما تسمية رئيس الوزراء ونوابه ووزرائه. كذلك سيقوم الرئيس بتعيين رؤساء جميع هيئات القوى المسلحة مثل الجيش والشرطة وغيرها بالتشاور مع مجلس الاتحاد. وسيكون على هذا المجلس وليس على المجالس المحلية أن يشارك في المشاورات حول تعيين مدعين في المحافظات الروسية. وهذا يجب أن يؤدّي إلى مزيد من استقلالية هؤلاء المدعين. ووفقاً لاقتراحات الرئيس بوتين سيزداد دور المحكمة الدستورية. كما سيزداد صوت المحافظين في مجلس الدولة. وينبغي أن يتم تثبيت هذا المجلس في الدستور. وسيحدد مجلس الدولة اتجاهات السياسة الداخلية والخارجية وسينسق أعمال مؤسسات الدولة.
من اللافت أنه بعدما قام فلاديمير بوتين بهذه الاقتراحات أعلن رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف استقالة حكومته. وتم تعيين ميخائيل ميشوستين على هذا منصب وهو كان رئيس هيئة الضرائب الفيدرالية قبل ذلك. ويُعتبر موظفاً ذا خبرة كبيرة. وأصبحت هيئة الضرائب مؤسسة مريحة وملائمة بالنسبة لمواطنين وشركات في روسيا. وأدخل ميشوستين إمكانية حل أكثرية المشاكل والمسائل على الموقع الإلكتروني الرسمي والتطبيق المحمول. ونجح في زيادة جمع الضرائب.
وتجددت الحكومة الروسية. وفيها الآن 6 نواب لرئيس الوزراء و9 وزراء جدد. ولكن تلك التغييرات تتعلق أساساً بأعضاء الحكومة الذين تركزت أعمالهم على القضايا الاجتماعية. وهناك وزراء جدد للتربية والتعليم العالي والصحة والعمل والحماية الاجتماعية والرياضة. وهذه التعديلات مبنية على الجزء الأول من رسالة فلاديمير بوتين إلى البرلمان. فقد تحدث الرئيس الروسي نحو 40 دقيقة عن المشاكل الديموغرافية والاجتماعية وهذا أكثر من نصف خطابه. وسبب ظهور هذه الأولويات مفهوم. فروسيا أصبحت قوية وقادرة على حماية نفسها من التحديات الخارجية وتلعب الآن دوراً مهماً على الساحة الدولية وحان الوقت لتركيز أكثر على المشاكل الداخلية.
والسؤال يطرح نفسه: كيف ستنعكس تلك التغيرات على السياسة الخارجية الروسية؟ من ناحية يبدو أن موسكو ستتمسك باستراتيجيتها الحالية. وحافظ وزير الخارجية سيرغي لافروف ووزير الدفاع سيرغي شويغو على منصبيهما. وهذا دليل واضح على أن فلاديمير بوتين مرتاح لعملهما. ولكن أشار بعض المحللين قبل تشكيل الحكومة الجديدة إلى إمكانية تولي شخصية أخرى منصب وزير الخارجية. وبشكل عام هناك الشائعات المتداولة خلال السنوات الأخيرة أن سيرغي لافروف طلب مراراً من الرئيس فلاديمير بوتين ليسمح له أن يستقيل. ووفقاً لوسائل الإعلام الروسية يمكن أن يكون وزير جديد هو رئيس الإدارة الرئاسية أنتون فاينو أو المتحدث باسم الرئيس الروسي ديمتري بيسكوف أو رئيس لجنة للشؤون الخارجية في مجلس الاتحاد الروسي قسطنطين كوساتشيوف. ولكن لافروف لا يزال في منصبه. ويقول بعض الخبراء إن بوتين لم يوافق على تولي شخص آخر هذا المنصب بسبب اقتراب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. وبعدها تصبح كل الاحتمالات مفتوحة.
وبعيداً عن الشخصيات يجدر التذكير من جديد برسالة فلاديمير بوتين إلى البرلمان حيث اقترح تثبيت أولوية القوانين الروسية في الدستور. بكلمة أخرى لا يمكن أن تخالفها القوانين الدولية والاتفاقات وقرارات المحاكم الدولية. علاوة على ذلك اقترح فلاديمير بوتين فرض المنع الدستوري لرئيس الوزراء ولنوابه ولوزراء ولنواب مجلس الدوما ولأعضاء مجلس الاتحاد والقضاة والمحافظين الحصول على جنسية أجنبية أو أي وثيقة تسمح لهم أن يعيشوا في الخارج بشكل دائم. ومن هنا الاستنتاجات واضحة. ما تريده موسكو هو إزالة أكثرية الأدوات التي قد تسمح للدول الأخرى أن تؤثر على سياستها. لذلك ستكون السياسة الخارجية الروسية مبنية على المبادئ الحالية وهذا من جهة. ومن جهة أخرى من المفترض أن تصبح تصرفات موسكو على الساحة الدولية أكثر استقلالاً وأكثر التزاماً بمصالحها الوطنية.
———————————-
بين زائرنا السوفياتي وزائرنا الروسي/ حازم صاغيّة
الضجيج هو الفارق الأول بين الدور السوفياتي في المنطقة والدور الروسي. فموسكو السوفياتية حين قررت، بعد رحيل جوزيف ستالين عام 1953.
أن تهبط جنوباً، سبقها دوي قوي: تحرير الشعوب، مكافحة الإمبريالية، نصرة الكادحين والمقهورين… وفي أواسط ذاك العقد دخلت إلى سوريا ومصر من بوابة كسر احتكار السلاح الغربي، فبدا الأمر لعباً استفزازياً بالنار.
الضباط العرب كانوا حينذاك يوالون الاستيلاء على السلطات في بلدانهم: عام 1958 في العراق، وقبل ذاك أطاحوا أديب الشيشكلي في سوريا وحكموا كـ«قوميين تقدميين» خلف واجهة مدنية. أما جمال عبد الناصر فكان قد اصطدم ببريطانيا وفرنسا عام 1956 ثم مضى يصادم الأميركيين في باقي المنطقة. السلاح السوفياتي، بسبب الانقلابات وتحولات الانقلابيين، غدا حاكماً.
في هذه الغضون، انضاف إلى المس بمُحرم السلاح المس بمُحرمين آخرين: بناء السد العالي في أسوان الذي وضع التنمية الاقتصادية في يد الدولة، والسياسات الخارجية من خلال «الحياد الإيجابي» و«عدم الانحياز».
إذن تصاحبت وفادة السوفيات إلينا مع انكسارات ضخمة أربعة: في طبيعة الحكام، في سلاحهم، في اقتصادهم، وفي سياستهم الخارجية.
والحال أن السوفيات لم يكونوا وحدهم من يطلب الضجيج. لقد استكمله طلب الحكام العسكريين الجدد عليه: إنهم يحتاجونه للتغطية على نقص شرعيتهم وعلى تعطيلهم كل حياة سياسية ومجتمع مدني. ولأنهم مثلوا فئات اجتماعية بعيدة تقليدياً عن السلطة، بدا ضرورياً أن يرفعوا صوتهم ويصرخوا: نحن هنا.
مع فلاديمير بوتين اختلف الأمر. بوتين صامت لا يحب الضجيج، وأهم من ذلك أن روسياه لا تملك اليوم ما تضج به. إنها لا تدعي أنها محامي الكادحين في العالم، ولا تملك أي رسالة خاصة لمعذبي الأرض. فوق هذا، هي لا تريد أن تنافس الغرب، بل تطمح إلى ملء الفراغات التي يخلفها انسحابه، وهذا عمل يجتمع فيه التنسيق الهادئ والتسلل غير المنظور. لقد كان الأولون أسوأ الشيوعيين وبات الأخيرون أسوأ الرأسماليين.
في المقابل، فالحكام المحليون الذين يسيرون في ركاب موسكو يشبهونها في تفضيل العمل الصامت على العمل الصاخب. إنهم أيضاً ليسوا أصحاب رسالة، وعلى عكس آبائهم الذين وصلوا إلى السلطة للمرة الأولى، فإن السلطة تعبت منهم، وهم يتمنون لو كان في وسعهم أن يمارسوا البطش من دون أن يسمعهم أو يراهم محكوموهم. ولما كان الصراع العربي – الإسرائيلي من محددات السياسة الخارجية، فإن السوفيات وتابعيهم كانوا، هنا أيضاً، أشد صخباً من الروس وتابعيهم. الأولون كانوا يتناقشون في حدود «التحرير»، والآخرون يتناقشون في شروط التكيف.
مع هذا فقواسم مشتركة كثيرة تجمع بين التمددين السوفياتي والروسي، معظمها من آثار الجيوبوليتيك الضارب جذره في القِدَم: توسيع النفوذ الإمبراطوري، واعتماد القوة والسلاح جسراً وحيداً للعلاقة بسبب الافتقار إلى سلع ورساميل يمكن تصديرها، ودوام سوريا «الحاقدة» – كما أسماها صحافي راحل – بوصفها بوابة العبور. ولا ننسى أن دمشق سبقت القاهرة إلى كسر احتكار السلاح الغربي في الخمسينات، وتفردت عربياً في إيصال الأمين العام لحزبها الشيوعي، خالد بكداش، إلى البرلمان.
وفضلاً عن الفوارق والقواسم بين الدورين، هناك التقاطعات: فلئن خرج السوفيات في جامعاتهم أعداداً ضخمة من الطلبة العرب، فهؤلاء غدوا، مع بوتين، أحد «أحزاب» روسيا التي لم تعد شيوعية. وبالمعنى نفسه، بات لها «حزب» آخر يستمد «كوادره» من طائفة الروم الأرثوذكس التي يكثر في أوساطها منظرو «حلف الأقليات»، و«حزب» ثالث هو من بقايا مَن تاجروا مع روسيا في الزمن السوفياتي أو كانوا وسطاء لسلعها القليلة إلى أسواقنا المحلية.
وإذا كانت روسيا اليوم تشارك الاتحاد السوفياتي إمساكه بمفاصل استراتيجية كبرى، كتنظيم العلاقة بين إيران وإسرائيل في الأراضي والسماء السورية، وإحداث توازنين مضبوطين مع إيران وتركيا، وإبرام معاهدات صداقة أو تعاون عسكري مع الزبائن المحليين، فالمؤكد أن بوتين، رجل المخابرات، تفوق على الأمناء العامين الراحلين في التعاطي بالتفاصيل، لا سيما في سوريا. فهو يشارك في «تنظيم عودة» ملايين اللاجئين المُقيمين راهناً في لبنان والأردن وتركيا، وفي تأسيس وحدات عسكرية تابعة لموسكو في الشمال، وتدريب ميليشيات كردية وعربية في الشرق، وتحويل مطار القامشلي قاعدة لها…
وغني عن القول أن الوجود العسكري في طرطوس موقع سياسي بقدر ما هو حربي. ولأنه كذلك، تقاطر على موسكو في العامين الماضيين معظم السياسيين اللبنانيين، وتردد أن موسكو أدلت بدلوها في شؤون لبنانية كتمثيل الطائفة الدرزية في الحكومة.
ولوهلة، يذكر هذا الوجود في طرطوس بسابقة المستشارين العسكريين السوفيات في مصر الناصرية بعد هزيمة 1967. لكن وجود هؤلاء الأخيرين وُصف بمساعدة مصر على «محو آثار العدوان»، فحين دعاهم أنور السادات، خليفة عبد الناصر، إلى المغادرة، غادروا.
ضيوف طرطوس أبلوا بلاءً حسناً في تدمير سوريا، لا سيما مدينة حلب، ومن المشكوك فيه أن يدعوهم بشار الأسد، أو أي وريث له من داخل السلطة نفسها، لأن يغادروا، ومن المشكوك فيه أكثر أن يفعلوا ذلك.
والحال أن بقاء هؤلاء عندنا ليس مرهوناً بقوتهم، ولا بقرارنا أن نناطح الغرب وإسرائيل، كما كان الأمر في العهد السوفياتي. إنه مرهون بغياب الغرب الذي ما إن يحضر، إذا حضر، حتى يتبدد كل شيء.
الشرق الأوسط
————————————
كيف انتقلت كرة يسسخار من “منتدى الكارثة” إلى الملعب السوري؟
“منتدى الكارثة” الذي يضم عشرات الزعماء وكبار القادة من دول العالم الذين اجتمعوا هذا الأسبوع في القدس، حوّل الكارثة إلى موضوع هامشي. لقد غطت عليه قضية نوعاما يسسخار التي تحولت إلى اختبار حاسم لعلاقات نتنياهو الدولية، وبالأساس قوة تأثيره على الرئيس الروسي فلادمير بوتين. هل نجحت جهوده لجعل بوتين يعفو عن يسسخار؟ هل ستثمر سلسلة الزيارات المتقاربة التي أجراها في السنتين الماضيتين في روسيا؟
يبدو أن روسيا لا تحتاج إلى هجوم سايبر في كل ما يتعلق بإسرائيل من أجل أن تؤثر على الانتخابات في إسرائيل؛ يكفي اعتقال وإطلاق سراح مواطنة إسرائيلية لترجيح الكفة لصالح رئيس الحكومة. ولكن بين إسرائيل وروسيا ما زال هناك عدد من الأمور الحاسمة، والحديث لا يدور فقط عن “تحرير” المسكوبية أو تغيير سياسة الفحص في معابر السياح الروس. التنسيق العسكري في الساحة السورية هو موضوع حساس يتم علاجه بلطف شديد ويحتاج إلى صيانة ثابتة. هذا كي تستطيع إسرائيل أن تناور بين عمليات الهجوم في سوريا ولا تزعج طموحات روسيا في استكمال سيطرة الأسد على جميع أراضي الدولة.
للوهلة الأولى يبدو أن التنسيق يعمل بشكل عام دون مشاكل، إذا لم ننظر إلى إسقاط الطائرة الروسية في 2018 بصواريخ سورية كخلل في التنسيق. وبين روسيا وإسرائيل، وبينهما وبين إيران، ثمة توازن متفق عليه تستطيع إسرائيل بحسبه أن تواصل مهاجمة أهداف أُعدت لمساعدة حزب الله، مثل أمر شرعي طالما أوجدت إسرائيل مبرراً بأن الأمر يتعلق بأهداف ترسل إيران منها سلاحاً ومعدات أخرى إلى حزب الله،. بشكل عام، يبدو أن روسيا تفضل أن ترى في الحوار العسكري بين إسرائيل وإيران أمراً لا يمسها، شريطة أن يتم تنسيق هذه الهجمات مع ضباط الارتباط في سلاح الجو الروسي الذين هم في قاعدة حميميم في شمال غرب سوريا. هذا التنسيق يطرح قضية تثير الفضول تمس الثقة بين سلاحي الجو الروسي والإسرائيلي، حيث أن كل هجوم منسق تكتنفه مخاطرة نقل معلومات مسبقة عن نية الهجوم بين القوات الروسية والقيادة الإيرانية وسلاح الجو السوري.
مصدر إسرائيلي كان مقرباً من ترتيبات التنسيق قال للصحيفة بأن خطراً كهذا هو قائم حقاً، ولكن الأسلوب هو “إذا كانت روسيا تريد منع هجوم إسرائيلي في منطقة معينة، أو في وقت معين، ستقول ذلك بصورة صريحة ولا تخفيه”. وأضاف المصدر: “بالإجمال، لقد تولد لدينا انطباع بأن روسيا لا تنوي التدخل في العمليات الإسرائيلية ضد حزب الله، وأن اعتباراتها لا تتعلق فقط بالمواجهة بين إسرائيل وإيران، ولكن ليس هناك أي ضمانة بأن الظروف ستتغير وسيتم إيجاد حل سياسي للحرب في سوريا، وأن لا تكون هناك انعطافة في سياسة روسيا تجاه الهجمات الإسرائيلية”.
تغيير اتجاه تركي
الافتراض الإسرائيلي الأساسي هو أن روسيا نفسها كانت معنية بطرد إيران من الأراضي السورية، ليس فقط مادياً، بل ولكي تقلص هيمنة إيران على نظام الأسد. التدخل العسكري الروسي في سوريا، الذي بدأ في العام 2015، لم يستهدف فقط أن يبقي نظاماً مؤيداً ومتعاوناً في الحكم، بل وأن تستغل الدعم العسكري للحصول على موطئ قدم في الشرق الأوسط. ولكن روسيا ورثت وضعاً قائماً وجدت فيه إيران حليفة للأسد، كما أنها منحته مساعدة ودعم بمليارات الدولارات.
النتيجة هي أن روسيا اضطرت في المجال السياسي إلى أن تناور بين تركيا وإيران، من أجل أن تستكمل سيطرة الأسد في سوريا. وقد استغلت حقاً تفوقها على إيران وتركيا ونجحت في إقناع عدد من الدول العربية، منها دولة الإمارات والبحرين والسودان، في أن تعيد علاقاتها الدبلوماسية مع النظام؛ لكن يبدو أن الإنجاز الأهم لنجاحها يكمن في أن تجمع هذا الشهر في موسكو رئيس المخابرات التركي هكان فيدان، مع نظيره السوري علي مملوك.
التقارير التي خرجت من هذا اللقاء تشير إلى أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق بين تركيا وسوريا في مسألة انسحاب القوات التركية من سوريا، لكن مجرد عقد اللقاء سيشير إلى تغيير في الاتجاه من جانب تركيا تجاه نظام الأسد. استغلال التفوق العسكري الروسي في الساحة السورية، خاصة استخدامها لسلاحها الجوي، من أجل أن تحسم معارك محلية لصالح نظام الأسد، إلى جانب نجاحها في ترسيخ وقف إطلاق النار بين عدد من المليشيات والنظام، منحها رافعة قوية لسيطرة مستقبلية على الموارد الطبيعية مثل النفط والفوسفات، بحيث يعتمد نظام الأسد على موسكو أيضاً حتى بعد انتهاء الحرب. أما في هذا المجال فيبدو بوضوح أن روسيا تنجح في مزاحمة إيران على الوصول إلى مقدمة التأثير، رغم أن موسكو خلافاً لطهران، لا تستثمر مليارات الدولارات لتمويل النشاطات الجارية للنظام السوري.
مراسيم الأسد
سوريا غارقة في أزمة اقتصادية آخذة في التفاقم في الفترة الأخيرة، فثمن رزمة خبز بوزن 800 غم في سوريا يبلغ 39 سنتاً في محافظات الشمال، باستثناء محافظة حلب التي تستخدم فيها الأسعار بالليرة التركية. المخابز والبقالات تجد صعوبة في متابعة وتيرة انخفاض سعر الليرة السورية مقارنة بالعملة الأجنبية، وهي تضطر إلى الاستناد إلى الليرة التركية والدولار كمعيار لسعر هذه السلعة الحيوية.
إن انهيار سعر الليرة السورية يمس أيضاً بالسلع الأساسية الأخرى التي ارتفعت أسعارها في السنة الماضية بنسبة بلغت 20 – 30 في المئة، لا سيما بعد قرار الحكومة بأن تقلص بصورة دراماتيكية عدد السلع المسموح استيرادها من 40 سلعة إلى 10. هذه سلع مسموح لمستورديها الحصول على مخصصات بالدولار بالسعر الرسمي غير الحقيقي – حوالي 470 ليرة للدولار، في حين أن سعر الدولار في السوق السوداء هو 1200 ليرة سورية، بعد أن كان في السنة الماضية 500 ليرة.
مؤخراً، فرض الأسد مرسوماً جديداً: تجار العملة غير المرخصين سيعاقبون بالسجن لفترة تصل إلى سبع سنوات ودفع غرامة مالية كبيرة. هذا الأمر خفض بنسبة قليلة سعر الدولار، لكنه ضيق أكثر على قناة الشراء وأفرغ رفوف البقالات، وأصبحت النتيجة ظاهرة في شوارع دمشق، وفي والضواحي مثل السويداء في جنوب الدولة، التي خرج مواطنوها في مظاهرات ضد النظام وهتفوا: “أبقينا لكم السياسة فابقوا لنا خبزنا” و(نريد أن نعيش”.
وسائل الإعلام الرسمية تكثر الحديث عن عمليات خاصة يديرها النظام ضد من يرفعون الأسعار ويهربون البضائع أو ضد المحتالين الذين يبيعون بضائع فاسدة، لذلك فإن النظام يلزم أصحاب المخابز ومحطات الوقود بوضع كاميرات في دوائر مغلقة من أجل الإشراف على الاحتكار وأعمال التحايل؛ ولكن من المشكوك فيه أن ينجح في إقناع الجمهور بفاعلية النظام. فأمام التصريحات والإعلانات عن عدد الدعاوى التي قدمت ضد المخالفين لنظام التجارة، يرى المواطنون كيف أوجد كبار الضباط المسؤولين عن الأمن والنظام، في المدن التي أصبحت تحت سيطرة النظام، لأنفسهم شبكة متشعبة من السرقة والسطو على البيوت، التي يبيعون غنائمها في الأسواق المفتوحة. هذه سرقة ذات اسم رسمي تقريباً هو “تعفيش” – سرقة الأدوات المنزلية والأثاث.
بالنسبة إلى إسرائيل، فهذه الظروف تسمح لها بحرية عمل أوسع في سماء سوريا وفقاً للتفاهمات مع روسيا. والمشكلة هي أن حرية العمل هذه تخلق ارتباطاً إسرائيلياً بمصالح روسيا، وهذه ليست مقيدة فقط بما يجري في الساحة السورية أو بتعهد إسرائيلي بعدم المس بالأسد ونظامه.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 24/1/2020
القدس العربي
========================