الناس

أبي الكيماوي/ محمد فارس

 

 

ما شعورك حين تكتشف أن والدك يعمل في انتاج اسلحة كيماوية تقتل شعبك؟؟

هذه رواية شاب اكتشف أن والده يعمل مراكز البحوث الكيماوية التابعة للنظام السوري وقد تم إخفاء الاسم كون الشاب لا يزال يعيش متخفياً في سوريا..

 

«ما بعرف شو بيشتغل أبي!» أجاب ليث (اسم مستعار) ، على سؤال أستاذه حين كان تلميذاً في الصف الابتدائي الأول. «يروح إلى الوظيفة الصبح ويوم الجمعة نساعده في الحقل، ونصلي الجمعة». ويضيف أنه حين أخبر أمه بما حصل، استدعت إخوته وقالت بعينيها القلقتين: «إذا سألكم أحد عن شغل أبوكم، تقولون: موظف. بس موظّف».

لأكثر من 30 عاماً، جهدت عائلة ليث لتتعايش مع ظروف الوالد الغامضة وشخصيته الكتومة، فقد كان عاملاً في مركز الدراسات والبحوث العلمية في دمشق.

هكذا بدأ ليث، 34 سنة، حديثه في غرفة خافتة الإضاءة في شقة في أحد الأحياء الغربية لدمشق حيث يعيش متخفّياً منذ أكثر من عام هرباً من الخدمة العسكرية الاحتياطية. وبالقرب من مدفأة كهربائية صغيرة، جلست أستمع إلى حديثه وكانت تقطعه أصوات انفجارات كانت لا تزال تدوي من حين إلى آخر، آتية من جهة جوبر شرق العاصمة، على رغم انتهاء المعارك وخروج عناصر المعارضة المسلحة وعائلاتهم ومن يرغب من منطقة الغوطة.

يتابع ليث، وهو الحاصل على إجازة في الحقوق، أنه في الرابعة من عمره، ظن أن والده يعمل في التلفزيون، وأنه الممثل السوري ياسر العَظْمَة. الشبه بينهما كبير كما يزعم: شارب مشذّب، وذقنٌ ناعمة حليقة، وشعر أسود يفرقه باتجاه اليمين، وثياب بسيطة الألوان مكوية بعناية تكفي ليُميّزه من بين مئات الرجال. بيد أن والده، وعلى عكس أدوار العَظمَة الكوميدية، جادٌّ ونمطي إلى درجة الملل، بحسب قوله، إذ لم يكن ليرقص أو يصفق في حفلة أو عرس. وإن تبسّم، بقي محافظاً على كياسته وتحفّظه.

وككل أفراد عائلات العاملين في المركز، لا يزيد ما يعرفه ليث عن طبيعة عمل والده عن المتداول في وسائل الإعلام. وما ذكره أبوه عن عمله أقل مما صرّح به زملاؤه لي وهو لا يعدو كونه مجرد دردشات عابرة. أقصى ما عرفه من موظف سابق كبير هناك سأله عن سبب سرّية عمل المركز. ومن غير أن ينبس المسؤول ببنت شفة، رفع سبابته اليمنى ببطء؛ وثبتها بشكل أفقي أمام أنفه، وأخذ نفساً عميقاً كمن يشمّ مستحضراً مخدّراً. فهم ليث حينها أن المركز يعمل في إنتاج سلاح محرّم دولياً.

وسبب ظنّه هو أن أحد أصدقائه العلويين الموالين للنظام الحاكم، قال له إن «البسطاء» في مجتمعه، وبفعل تحريض ديني له جذور قديمة، يعتقدون أن السلاح الذي يُنتجه المركز هو «سلاح الطائفة» ويهدف إلى «حمايتها من أي خطر».

والده المتديّن التقليدي المتمسّك بالأعراف الاجتماعية ليس حالة فريدة في المركز. فكثيرون من زملائه العاملين على أساس شهادات مهنية أو ما قبل جامعية غير ملمّين بالدراسات ولا هم بخبراء بالبحوث.

بالكاد أنهى والده دراسته الثانوية، والتحق بالخدمة العسكرية الإلزامية أواخر السبعينات. وبعد ثلاثة أعوام أمضاها متنقّلاً بين ألوية سلاح الدفاع الجوي، استدعته وزارة الدفاع ثانيةً إلى الخدمة الاحتياطية. وتكررت الاستدعاءات حتى بلغ مجموع ما خدمه في الجيش السوري بين سوريا ولبنان 9 سنوات. وذكرت أم ليث أن الشرطة العسكرية قَدِمت إلى حفل عرسهما لتسوقَ زوجها العريس إلى الخدمة الاحتياطية. ولولا دفعه رشوة للشرطة، لَسِيْق إلى ميادين القتال.

ومن محيطه الفقير المهمش، وجب على أبي ليث أن يجد عملاً بعيداً من القوات المسلحة ما أمكن. و«ليخلص من وجع الرأس»، تقدّم للتوظيف في دوائر وإدارات الأرصاد الجوية والمساحة والإطفاء، وسلكي الشرطة والجمارك. تلك جهات حكومية يُستبعد العاملون فيها من الخدمة الاحتياطية. وبينما رفضته جميع تلك الجهات، وبمحض المصادفة ربّما، قُبِل في مركز البحوث.

يتذكر ليث أنه وإخوته كانوا ينتظرون والدهم كل مساء بفارغ الصبر كما كل الأطفال. وإلى باب دارهم الأحمر الداكن، كان الأولاد يهرعون عند الخامسة من كل مساء ليشمّوا رائحة الخبز الطازج ويتحسسوا أكياس الخضار والكعك بالسمسم. «دفء طلّته وعرقه المتصبب على جبهته وكفّاه المكوّرتان وساعة أورينت الفضية الأوتوماتيكية على معصمه هي ما أردنا الإحساس به حتى يكتمل يوم العائلة بسلام،» قال ليث متأثراً.

في الخامسة من عمره، رافق والده إلى مقرّ عمله مرّة في مساكن برزة. في ذاكرته صور للمركز فائق الترتيب، بقاعات فيها آلات لم يكن لطفل أن يدرك وظيفتها. ارتدى والده كاشپوسيير (cache-poussière) أزرقَ وشرع وزملاؤه بعمل رآه الطفل مُمِلّاً. أخذ «عروسة الجبن» وخرج إلى حديقة فسيحة راقب منها والده عبر بوابة زجاجية كبيرة. لا يذكر لماذا ارتدى نظارة وأغطية أذنين يستخدمها حرفيو المعادن. وعلى بعد أمتار قليلة، قابل عجوزاً أسمر بنظارة طبّية وثياب بسيطة. وقف الرجل ذو الشعر الرمادي يتحدّث إلى البستاني مشيراً إلى نبتةٍ خضراء ضخمة تسلّقت جداراً مطليّاً باللون العاجي. وحين رأى العجوز ليثاً، تبسّم وسأله عن اسمه وعمره. ثم ربت على شعره وقال: «شو بدك تصير بالمستقبل؟».

“طيار قلتُ له والجبن يهرهر على الأرض من العروسة التي بين يدي،» تابع ليث مستذكراً تسمّر نظره عند رقبة العجوز التي تشبه تجعيداتها تلك التي عند جده.

لا يذكر ليث ما حصل لاحقاً، فقد انصبّ اهتمامه على أن يُحسن التصرف. «لا تدخِل أصابعك في أنفك ولا تتلفّظ بكلمات غير مهذبة!’ هكذا أوصتني والدتي حين ألبستني ثيابي في ذلك الصباح،» أردف ليث.

علم ليث بعد سنوات أن الرجل ذو النظارة هو الباحث في الفيزياء النووية عبد الله واثق شهيد، مؤسس المركز ومدير سابق له. وقد حلمَ أبو ليث بأن يصبح أولاده «مثل د. واثق» ليعملوا في «درة مراكز البحوث في الشرق» . كما رسّخ والده في أذهان أولاده صورة مثالية عن شهيد ليحثّهم على «عبور الجدار الذي لم يتمكن هو من تسلّقه بين عالمي الياقات الزرق والبيض».

وبعد أن تقاعد شهيد عام 1994، تسلّم إدارة المركز اللواء علي ملاحفجي بعد تقاعده هو الآخر من منصبه قائداً للقوات الجوية والدفاع الجوي. وقال ليث نقلاً عن أحد زملاء والده إن أسلوب ملاحفجي كان «أقرب إلى قيادة ثكنة عسكرية منه إلى إدارة مركز علمي» مهمته «تطوير البحث العلمي الوطني». ربما يبرر ذلك كره أبي ليث العسكر والبعثيين بمختلف رتبهم؛ إذ لا يكاد يذكر اسم شخصية عسكرية أو بعثية دون من أن يلحقه بكلمة «الطبل» في إشارة إلى أنهم ظواهر صوتية فقط.

وروى ليث نقلاً عن أحد العاملين في المركز قوله إن ضابطاً أمنياً هناك تبرّم من كثرة أسئلة «خبير ضيف» من كوريا الشمالية كان مع وفد من بلاده في زيارة للمركز في دمشق. فالتفت الضابط نحو المترجم وقال قالباً شفتيه: «قللو لهالبغل، أبقى يسأل! وصلت معي لراس مناخيري.»

وأوضح ليث أن والده وزملاءه لم يكونوا راضين عن العمل بعد رحيل شهيد عن المركز. وزاد السخط مع نشاط حزب البعث الحاكم في الضواحي السكنية المخصصة للعاملين من خلال إبراز صور الرئيس حافظ الأسد وأعلام البعث وشعاراته والاحتفال بمناسباته الدورية. وكان أبو ليث انخرط في صفوف حزب البعث لأنّ رحلته في البحث عن عمل يجنّبه السَّوق إلى الخدمة في الجيش، تطلّبت منه «المُسايرة» واستيفاء «شروط العمل غير المكتوبة» والتي فحواها أن يكون مقدّم الطلب «بعثياً». وذكر ليث أن والده خضع لاختبار حزبي شفهي في السبعينات حيث طلب منه عضو في لجنة الامتحان أن يشرح «كيف تثق سوريا بوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بالرغم من أنّه من أصل يهودي»! وقام كيسنجر بـ28 زيارة إلى دمشق للتعامل مع تداعيات حرب عام 1973 بين العرب وإسرائيل. ووصف أبو ليث السؤال بـ«البعثي الغبي»، خصوصاً أنه طُرح على «مراهق ساذج» مثله. لكنّه لاحقاً، و«زيادة في الحرص» غدا «عضواً عاملاً في الحزب» حين توظّف في المركز. فالعاملون هناك بالضرورة «أُجريت عليهم دراسات أمنية تفوق في صرامتها ما يخضع له البعثي المُقبل على ترقية ما».

وقد نقل ليث عن والده وصف احتفالات البعثيين في المركز بـ «استفتاء» عام 1999 لإعادة انتخاب حافظ الأسد رئيساً للجمهورية بأنها «مهزلة» لم تكن لتحدث «أيام د. واثق».

مع الزمن، تزايد قلق ليث على والده خصوصاً في مرحلة سبقت احتجاجات عام 2011، حين بدأ اسم المركز يبرز في الإعلام مع مقتل شخصيات فاعلة فيه بطرائق وسياقات غامضة. وكشفت تلك الحوادث أبعاد الاختراقات والفساد الكبير في المركز. وإثر اغتيال العميد محمد سليمان، المسؤول الرفيع في المركز وأحد مستشاري الرئيس بشار الأسد، في آب / أغسطس 2008، سرت شائعة بين صفوف العاملين مفادها أن محققين عثروا على 80 مليون دولار أميركي بمنزله في طرطوس. وقِيل إن الأسد أمر بتحويل مجرى التحقيق نحو معرفة كيفية حصول «أبو كامل» على ذلك المبلغ.

وازداد قلق ليث في آب 2010، حين ألقت المخابرات المصرية القبض على شخص يدعى طارق عبد الرازق بتهمة «التجسس لصالح إسرائيل». واعترف عبد الرازق بدوره بعلاقته بمن سمّاه «العقيد صالح النجم» — أو من تناقلت وسائل إعلام أنه أيمن الهبل، مدير معهد الكيمياء التابع للمركز، أو ما يُسمّى المعهد 3000. وقالت وسائل إعلامية إن إسرائيل أطلقت على الهبل لقب صالح النجم بعد تجنيده وتقديمه معلومات عن مركز البحوث. وأعدمت السلطات السورية الهبل بتهمة «الخيانة العظمى» في كانون الأول/ ديسمبر 2010.

ويزعم ليث أن إعدام الهبل تم بالفعل، وأن النجم لم تكن له رتبه عسكرية. وأوضح أنه التقى النجم شخصياً مرات عدة في المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا، المورد البشري الرئيسي لمركز البحوث. وهناك كان النجم مشرفاً في الصالة الرياضية ومنقذاً في المسبح. ويذكر ليث أن زملاء والده في المركز تحدثوا بهلع عن اعتقال المخابرات إياه من منزله وإعدامه لاحقاً بتهمة تقديم معلومات عن موقعي عين الصاحب بريف دمشق والكبر في دير الزور واللذين دمرتهما إسرائيل عامي 2003 و2007 على التوالي. وسرت إشاعة بين صفوف العاملين لا يمكن التأكد من صحتها عن أن النجم لا يزال حياً وقد أُطلِق سراحه عام 2015.

تلك الريبة سكنت عائلة أبي ليث، على رغم أنها كانت تقطن كغيرها من أسر العاملين في المركز، في مساكن حديثة ذات خدمات بمستوى جيد وبسعر الكلفة وبأقساط مريحة. ومع أن رواتب العاملين أعلى من نظرائهم في دوائر الدولة الأخرى، لكن، وبسبب سرّية العمل والرقابة الأمنية ربما، ومع اندلاع التظاهرات، بدأ ليث يلحظ أعراض حالات نفسية لم يتمكن من تفسيرها بين كثر من العاملين الذين عرفهم. فوالده، على سبيل المثال، أصابه شيء من صعوبة النوم وصار يتخيّل أصواتاً مزعجة تصدر من منازل الجيران، وكاد مرات عدة، وبشكل هستيري، يفتعل مشكلات معهم. لم يكن بمقدور ليث على رغم ذلك أن يحدد إن كان مرد تلك الهستيريا إلى ضغوط العمل أم إلى ضغط الوضع الأمني الذي رافق قمع التظاهرات حينها.

وصعُبَ عليه كذلك أن يعرف مصدر ازدياد القلق بين صفوف العاملين، والذي كان يلاحظه في الأحاديث المرمّزة بينهم أثناء الزيارات العائلية. وحثّه فضوله إلى التحدث معهم أكثر، مع أنه كان يعرف أنه لن يصل إلى معرفة ما يعمل المركز عليه.

وأوضح ليث كيف كانت جارتهم في مساكن برزة تبكي كثيراً حين تزور والدته حين كان زوجها العامل في المركز يضربها مدّعياً أنها «عضو في شبكة تجسس» تراقبه. ونقل ليث عن سائق متقاعد عمل في المركز قوله إنه تنقّل 25 عاماً في أنحاء البلاد، من دون أن يعرف يوماً ما تحويه أي من الشحنات التي نقلها، ليلاً في الغالب، بين فروع المركز. وقال ساخراً إنه يشعر بنقص اليوم لأنه يعمل سائق أخرة خاص من دون أن تحرسه سيارات بيجو 505 العائدة إلى المخابرات كما كانت تفعل حين عمل في المركز.

مع بداية التظاهرات ربيع 2011، اعتقلت دورية للمخابرات ليثاً بدمشق أثناء مشاركته في تظاهرة مناهضة للنظام الحاكم. وليعرف مدى «وطنيته»، سأله أحد عناصر الأمن الذين اقتادوه عن مكان سكنه. وحين أجابه بأنه يسكن في «بحوث برزة»، نظر العنصر إلى الضابط الأعلى منه رتبة وقال: «سيدي! هادا باينتو آدمي». وتم إطلاق سراح ليث بعد لقاء مع ضابط كبير في فرع الخطيب. لم يجرؤ ليث على إخبار والده بالأمر حتى بعد مرور هذه السنوات، إذ لا يريد أن يثير بلبلة تجاهه في مكان عمله. كما لم يجرؤ على إخبار أفراد العائلة أو أصدقائه عن الموضوع. فمجرد الاعتقال على يد المخابرات مؤشر غير مريح بالنسبة إلى الموالين. ومجرد الخروج سليماً بعد لقاء ضابط كبير هو مثار ريبة بالنسبة إلى المعارضين. لذلك آثر ليث الصمت.

ومع اشتداد وتيرة التظاهرات، ساءت حالة أبي ليث النفسية وغدا سريع الغضب دائم الشرود. وعند حضوره صلاة الجمعة، وكغيره من المصلين، بات يجلس مرتبكاً متلفّتاً في كل الاتجاهات. كان ليث يشعر بأن الحلقة تضيق من حول والده، خصوصاً بعد اغتيال موظفين في المركز والمعهد العالي والمخبر الوطني للمعايير والمعايرة التابع للمركز، ونجاة آخرين من محاولات اغتيال. لا يملك ليث دليلاً لاتهام جهة ما بأنها تقف خلف تلك الجرائم. فأخبار الاغتيال تلك بقيت أسراراً لم يتحدّث عنها الإعلام السوري، باستثناء اغتيال اللواء المهندس نبيل إبراهيم زغيب، والذي كان مقيماً في مساكن برزة، ومحمود إبراهيم، مدير التخطيط في المركز، بالقرب من مساكن برزة في صيف 2012  وربيع 2015 على التوالي. ولكن الإعلام المحلي لم يتحدث مثلاً عن نجاة وائل خنسا، مدير المعهد العالي، من محاولة اغتيال على يد مجهولين. وحتى اليوم لا يجد ليث مبرراً للتعتيم على تلك الأخبار.

ومع استخدام سلاح كيماوي في أماكن عدة من البلاد، عزم أبو ليث على تقديم استقالته من العمل من دون أن يربط الأمرين بأية طريقة. وحين حذّر ليث والده من الاستقالة خوفاً على حياته، رد مبتسماً: «بدهون بالناقص كلب.» وعزم الرجل على الانتظار حتى يتمّ سنوات الخدمة ويتقاعد بسلام.

لم ينشقّ أحد عن مركز البحوث في حدود معرفة ليث. صحيح أن شخصاً ادعى أنه من العاملين سابقاً في المركز، أدلى بتصريحات على إحدى القنوات المعارضة من دون أن يُظهِر وجهه، إلا أن ذلك الشخص لم يقُل ما يُمكن اعتباره أسراراً ذات قيمة حقيقية عن طبيعة عمل المركز. ومع أنّه جازف بقراره الظهور إعلامياً، إلا أنه لم يُضف على غموض المركز سوى غموضا أكبر. والمجازفة مردّها إلى أن العاملين السابقين في المركز ممنوعون من السفر لمدة 5 سنوات على الأقل، مع استثناءات قليلة في حالة السفر لأداء فريضة الحج. كما لا يتمكن الموظف السابق من التصرّف بسهولة في منزله الذي يمتلكه في مساكن مركز البحوث بيعاً أو تأجيراً. ولذلك يبقى العاملون السابقون صامتين تماماً.

أواخر عام 2013 علم ليث من أحد أقاربه من منتسبي «حركة أحرار الشام الإسلامية» أن التنظيم السلفي وتنظيم «جبهة النصرة» قرّرا «تصفية عواينية (مخبري) النظام وموظفي الدولة الذين لا يزالون على رأس عملهم، وتحديداً ممن يعملون في أجهزة المخابرات والجيش والشرطة والبحوث». وطلب عضو التنظيم المعارض من ليث أن يحذّر والده فهو «على رأس قائمة التصفية». وانتقل أبو ليث للعيش في دمشق. وبعد عام تقريباً، تقاعد من العمل. لكن لعنتي الخوف والقلق لا تزالان تلازمان العائلة حتى هذه اللحظة.

لا يوازي شعور ليث بالحقد على المافيا الحاكمة في سوريا غير شعوره بالمرارة وهو يشاهد صور مركز البحوث في برزة، وقد أصبح أثراً بعد عين جراء الضربات الجوية التي قادتها الولايات المتحدة في نيسان/ أبريل الماضي على المركز. «كم وددت لو أن مافيا الأسد اقتُلِعَت في وقت سابق لا يُكلف البلاد كل هذه الخسائر!» تابع ليث بحسرة.

لا يمتلك ليث دليلاً على أن والده انخرط في تصنيع سلاح كيماوي. كذلك ظل نظام البعث في سوريا ينكر حتى اللحظة الأخيرة أنه يمتلك أسلحة محرمة دولياً ولا يزال يراوغ حتى اليوم في الأمر، بحسب ليث. صحيح أن ظروفاً مفهومة قادت والده للعمل في المركز، لكن ذلك لا يُعفيه من مسؤولية «التطهّر» أمام نفسه وأولاده وأمام التاريخ بالحديث عن القضية بوضوح. ويختم: «أتمنى ألا يأتي يوم أقف فيه خصماً لوالدي أمام محكمة يُشار إليه فيها على أنه أبي الكيماوي».

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى