مقالات

هل يستطيع الاشتراكي الشعور بالسعادة؟/ جورج أورويل

ترجمة: عدي الزعبي

————————-

اشتهر أورويل برواياته التي تهاجم اليوتوبيا، ولكنه، أيضاً، كان ملتزماً بشدة بالسعي إلى المُثُل الاشتراكية. ليس في هذا أي تناقض، كما سنرى في هذا المقال.

يعالج أورويل هنا فكرة اليوتوبيا بتنويعاتها المختلفة، ولا يقتصر على نقد السجن الستاليني. ففكر أورويل أكبر بكثير وأوسع من حصره في نقده الرائع الصادق الهدّام للاتحاد السوفييتي: كان أورويل فوضويا يسارياً، يعادي بشدة نموذج الرأسمالية الليبرالية، ودولة ستالين الهمجية. نقده المزدوج للنموذجين يتجلى في مقالاته أكثر مما يتجلى في روايتيه الشهيرتين، وطبعاً، في حياته الشخصية، حين حمل السلاح مع الفوضويين في إسبانيا، في وجه الفاشيين، فاصطدم باليسار السوفييتي وبالرأسماليين الذين دعموا الفاشية.

يميّز اورويل بين الرغبة بالوصول إلى عالم مثالي خيالي، وبين الرغبة بتحسين العالم الذي نعيش فيه: بين اليوتوبيا وبين الأمل العادي في عالم أفضل. ويبني هذا التمييز، شديد الأهمية فلسفياً وسياسياً، على فهم عميق للطبيعة البشرية، التي لا تستطيع فهم السعادة الخالية من الألم، وبالتالي ستفشل كل محاولات رسم عالم مثالي او فردوس سماوي، سواء كانت دينية أو علمانية أو اشتراكية، بشكل ذريع وفاقع. في المقابل، بشكل مباشر وبسيط، يتعرّف الإنسان على الألم والبؤس، ويسعى إلى التغيير لرفعهما عن كاهل البشر. ما يحركنا، برأي أورويل، هو محاولة التغلب على البؤس، وليس السعي نحو السعادة.

على الأدباء الذين يندفعون إلى كتابة روايات سوداوية، عن الحاضر والمستقبل، في العالم الثالث أو الأول، منتقدين اليوتوبيا والثورات والثوريين، أن يتفكروا كثيراً في حكمة أستاذ الرواية المضادة لليوتوبيا. حتى الرواية المضادة لليوتوبيا، عند أورويل، هي محاولة جادة وسياسية لفهم آلية عمل الديكتاتورية، من أجل بناء عالم أفضل. لذا، هذا المقال يجب أن يُقرأ كفصل إضافي، لا غنى عنه، لفهم مزرعة الحيوان و1984.

قد يكون لمقالنا هذا صلة مباشرة بواقعنا اليوم. في بدايات الربيع العربي، سُؤلنا كثيراً عمّا نسعى إليه، وعن التصور المنشود لحياتنا بعد الثورات: فقد شكك فيما نفعله ليبراليون ويساريون، عرب وأجانب، قائلين بأننا لا نملك تصوراً واضحاً عن المستقبل: مقال أورويل هنا يجيب بدقة عن هذا الأمر: «على الفكر الاشتراكي التكهن بما سيحدث، ولكن فقط بخطوط عامة». أي أن الثورة والمُثُل العليا التي مات من أجلها مئات الآلاف في السنوات الأخيرة، لا تعني السعي نحو يوتوبيا واضحة مكتملة. أعتقد أن ما قام به الشباب العربي في البدايات، وعلى العكس مما يُقال عادةً، هو بالضبط التصرف الصحيح: محاولة التغيير عن طريق التوافق على خطوط عامة، بدون تفاصيل وبدون أحكام نهائية. أسباب الفشل اللاحق متعددة، منها استعانة العدو بالمحتل الخارجي وتخبط الثوار في تنظيم أنفسهم؛ ولكن غياب مشروع مكتمل محدد منذ البداية، ليس أحد أسباب الفشل.

على أية حال، هذا المقال، بالإضافة إلى كل ما سبق، مسلّ جداً ومرح، ولئيم؛ مكتوب بلغة سهلة، وبطريقة استعراضية تسعى إلى إثارة الخصوم والحلفاء.

نترككم مع مقال أورويل الآن، آملين بأنكم قادرون على الشعور بالسعادة، أكثر من أورويل ومن الاشتراكيين.

(نُشر هذا المقال سنة 1943 في جريدة تريبيون تحت اسم مستعار هو «جون فريمان»)

*****

التفكير في عيد الميلاد يثير في الذهن تلقائياً التفكير في تشارلز ديكنز، ولسببين جيدين جداً. بدايةً، ديكنز واحد من الكتاب الإنكليز القلائل الذين كتبوا عن عيد الميلاد فعلياً. عيد الميلاد أكثر الاحتفالات الإنكليزية شعبيةً، وعلى الرغم من ذلك، وبشكل مفاجئ، لم يُنتَج إلا القليل من الأدب. هناك التراتيل، ومعظمها يعود إلى القرون الوسطى، وهناك بضعة قصائد كتبها روبرت بريدجز و ت. س. إليوت، وآخرون، وهناك ديكنز؛ ولا نكاد نعثر على شيء آخر. السبب الثاني هو أن ديكنز مميز بين الكتاب المعاصرين، بل في الحقيقة فريدٌ تقريباً، في قدرته على تقديم صورة مقنعة للسعادة.

عالج ديكنز بنجاح عيد الميلاد مرتين، مرة في أحد فصول رواية أوراق بيكويك، ومرة أخرى في رواية ترنيمة عيد الميلاد. قُرئت الرواية الثانية على لينين على سرير الموت، وبحسب زوجته، فقد وجد «عاطفيتها البرجوازية» لا تُحتمل على الإطلاق. بمعنى ما، كان لينين محقاً: ولكن، لو كان بصحة أفضل لرأى في القصة مضامين اجتماعية مثيرة. بدايةً، مهما يكن ثقل الدم واضحاً في عمل ديكنز، والرثاء الذي يثيره «تيم الصغير» مقرفاً، إلا أن عائلة كراتشيت ستشعرك بأنهم سعداء. تبدو العائلة سعيدة، كما لا يبدو، على سبيل المثال، أبطال رواية أخبار من العدم لويليام موريس1. أكثر من ذلك، وفي فهم ديكنز لهذه النقطة نجد أحد أسرار قوّته، تنبع سعادتهم بشكل رئيس من التباين. هم سعداء لأنهم، على سبيل المثال، لمرّة يملكون ما يكفي من الطعام. الذئب واقف على باب الدار، ولكنه يهزّ ذيله فقط. تفوح رائحة حلوى الميلاد على خلفية من أعمال بدنية شاقة، ومكاتب تُقرِضُ المال بالفائدة. وبمعنى مزدوج، يقف شبح سكرودج بجانب المائدة. بل إن بوب كراتشيت يريد أن يشرب نخب سكرودج، الأمر الذي ترفضه السيدة كراتشيت محقةً. تستطيع عائلة كراتشيت الاستمتاع بعيد الميلاد لأنه يأتي مرة واحدة في السنة فقط. سعادتهم مُقنعة بالضبط لأن الميلاد يأتي مرة واحدة في السنة. سعادتهم مقنعة فقط لأنها تُقدَّم بوصفها غير مكتملة.

1. يليام موريس كاتب إنكليزي شهير (1834-1896). معظم المؤلفين والكتّاب المُشار إليهم في المقال كانوا يتمتعون بشهرة كبيرة في ذلك الزمن. بعضهم سقط في النسيان. لن أرهق القارئ بهوامش كثيرة عن كل كتاب أو مؤلف يناقشه أورويل. (م)

من جهة أخرى، كل المحاولات لوصف السعادة الدائمة كانت فاشلة. كانت اليوتوبيات (بالمصادفة، لا تعني الكلمة المنحوتة هذه «المكان الجيد»، بل تعني في الأصل فقط «المكان غير الموجود») دارجة في الأدب لمدة ثلاثمائة أو أربعمائة سنة، ولكن «المفضّلة» منها لم تكن مغرية، بل كانت غير حيوية أيضاً.

أحد مصادر الفاشية يكمن في الرغبة في تفادي عالم مريح جداً ومُعقلَن جداً.أشهر اليوتوبيات في العصر الحديث تعود لإتش. جي. ويلز2. رؤية ويلز للمستقبل مشروحة بشكل كامل في كتابين نُشرا في بداية العشرينيات، الحلم ورجال كالآلهة. هنا تجد صورة العالم كما يحبّ ويلز رؤيته أو كما يعتقد أنه يحب رؤيته. إنه عالم قائم على مذهب اللذة المتنوّر والفضول العلمي. سيختفي كل البؤس والشرور التي نعاني منها الآن. الجهل، الحرب، الفقر، القذارة، المرض، الإحباط، الجوع، الخوف، العمل المرهق، والخرافات ستختفي جميعاً. من المستحيل أن ننكر أننا جميعاً نصبو إلى هذا العالم المقدّم بهذه الطريقة. نريد أن نتخلص من الأشياء نفسها التي يريد ويلز التخلص منها. ولكن هل يوجد حقّاً من يريد أن يعيش في عالم ويلز؟ على النقيض من ويلز، اليوم أصبح عدم العيش في عالم كهذا، وألا نستيقظ في حدائق نظيفة موبوءة بمربّيات عاريات في الضواحي، دافعاً سياسياً بشكل واع. كتاب مثل عالم جديد شجاع يشكل تعبيراً عن الخوف الحقيقي الذي يشعر به الناس من مجتمع اللذة المُعقلَن الذي باستطاعتنا فعلياً الوصول إليه.قال كاتب كاثوليكي مؤخراً إنه من الناحية التقنية بإمكاننا الوصول إلى اليوتوبيات، وبالتالي كيفية تفاديها أصبح مشكلة جدية. لا يمكننا تجاهل هذا القول كملاحظة سخيفة، لأن أحد مصادر الفاشية يكمن في الرغبة في تفادي عالم مريح جداً ومُعقلَن جداً.

2. إتش. جي. ويلز (1866-1964) كاتب إنكليزي تمتع بشهرة هائلة في بدايات القرن العشرين، وأثّرَ بالأدباء والفلاسفة المعاصرين له. (م)

تتشابه كل اليوتوبيات «المفضلة» في طرحها للكمال، ولكنها لا تستطيع أن توحي بالسعادة. أخبار من العدم تبدو كنسخة منقّحة من يوتوبيا ويلز. كل الناس لطفاء ومنطقيون، كل الحسنات تأتي من الحرية، ولكن الشعور الذي يتركه الكتاب هو نوع من الكآبة الرقيقة. على الرغم من هذا، فهو أكثر تأثيراً من جوناثان سويفت، أحد أعظم الكتّاب الخياليين على الإطلاق، والذي، مع ذلك، لم يتفوق على غيره في وصف يوتوبيا «مفضلة».

قد تكون الأجزاء الأولى من رحلات جليفر أكثر الهجمات شراسة فيما كُتب عن المجتمع البشري في كل العصور، كل كلمة فيها وثيقة الصلة بعالمنا اليوم؛ في بعض الأماكن نجد نبوءات مفصلة للأهوال السياسية في زمننا هذا. ولكن سويفت يفشل في تقديم العِرق البشري الذي يحوز على رضاه. في الجزء الأخير، وبالتناقض مع الياهوات المقززين، يرينا الكاتب الهويهانمات النبلاء، الأحصنة الذكية الخالية من العيوب البشرية3. هذه الأحصنة، بكل شخصيتها المميزة وحسّها السليم الذي لا يخطئ، كائنات مُوحشة بشكل لافت. مثل سكان اليوتوبيات الأخرى المتنوعة، همهم الرئيس تفادي الإزعاج. يعيشون حياة «عقلانية»، فارغة، مطيعة، وتخلو ليس فقط من الصراع والفوضى والقلق، بل ومن أية «عاطفة»، بما فيها الحب الجسدي. يختارون شركاءهم بناءً على مبادئ تحسين النسل، ويتجنبون المبالغة في المشاعر، ويبدو أنهم سعداء بالموت إلى حد ما عندما يحين أجلهم. يرينا سويفت في الأجزاء الأولى من الكتاب إلامَ تقود حماقة الإنسان وسفالته: ولكن إن أخذت الحماقة والسفالة، لن يبقى، على ما يبدو، إلا شكلٌ فاترٌ من الوجود، بالكاد يستحق أن يُعاش.

3. الياهوات جنس شبه بشري يصور فيه سويفت حماقات البشر. أما الهويهانمنات فتصور حسنات الحياة العقلانية السعيدة. (م)

لم تكن محاولات رسم معالم سعادة غير أرضية أكثر نجاحاً. الفردوس فاشل تماماً بالضبط كاليوتوبيا، على الرغم من أن الجحيم يحتل مكاناً محترماً في الأدب، وغالباً ما وُصف بشكل دقيق ومقنع إلى درجة كبيرة.

من المعروف أن الفردوس المسيحي، كما يُصوَّر عادةً، لن يجذب أحداً. يكاد معظم الكتاب المسيحيين الذين يكتبون حول الفردوس، إمّا يعترفون بأنه لا يمكن وصفه صراحة، أو يخلطون في وصفه بين صورة غامضة للحجارة الذهبية الثمينة مع غناء أبدي للتراتيل. من الصحيح أن هذا الخليط ألهمَ إحدى أجمل القصائد في العالم:

حيطانه من العقيق،

أسوار حصونه من الألماس،

بواباته من لؤلؤ شرقي حقيقي

يتجاوز الغني والاستثنائي!

ولكن لم يكن باستطاعتهم وصف وضع سيعمل الإنسان العادي بشكل فعال ليعيش في ظله. أرعبَ كثيرٌ من القسس الإحيائيين والرهبان اليسوعيين (راجع، على سبيل المثال، العظة المهيبة في صورة الفنان في شبابه لجيمس جويس) رعيتَهُم بالصورة التي رسموها بكلماتهم للجحيم. ولكن ما أن نصل للفردوس، حتى نعود فوراً إلى كلمات مثل «البهجة» و«النعمة»، مع محاولات بسيطة لشرح مضمونهما. ربما أكثر المقاطع حيوية حول هذا الموضوع هو المقطع الشهير الذي يشرح فيه تيرتليان أن أحد المتع الأساسية في الفردوس تكمن في مراقبة عذابات الأشرار في الجحيم.

نسخ الفردوس التي قدمها الكفار ليست أفضل بكثير. يشعر المرء أننا دائماً في الغسق، في حقول الأبطال الإغريقية، على الأولمب، حيث تعيش الآلهة، مع شرابهم وطعامهم الإلهي، وحورياتهم وحاملي الأقداح، و«الحلوى الخالدة»، كما أطلق عليها د. إتش. لورنس، ربما يشعر المرء أنه في منزله أكثر من الفردوس المسيحي، ولكن لا يريد أحد أن يمضي وقتاً طويلاً هناك. أما فردوس المسلمين، بحورياته السبعة والسبعين لكل رجل، وجميعهنَّ يحاولنَ لفت انتباهه في الوقت نفسه، فهو مجرد كابوس. ولا حتى الروحانيون، الذين يؤكدون لنا باستمرار أن كل شيء «جميل وساطع»، يستطيعون وصف أي نشاط في العالم الآخر سيجده الشخص المفكر مقبولاً، دع عنك أن يكون جذاباً.

الأمر نفسه يحدث في محاولات وصف السعادة الكاملة التي ليست يوتوبيا ولا تنتمي إلى العالم الآخر، بل هي حسية فقط. دائماً ينتابك الشعور بأنها فارغة أو سوقية. على سبيل المثال، في بداية خادمة أورلينز يصف فولتير حياة شارل التاسع مع عشيقته أنجس سوريل. كانا «سعيدين دائماً»، كما قال. ومم تتألف سعادتهما؟ من دورات لا متناهية من الأكل والشرب والصيد وممارسة الحب. من هو الإنسان الذي لن يشعر بالملل من هكذا حياة بعد عدة أسابيع؟ يصف رابليه الأرواح المحظوظة التي ستحظى بوقت طيب في العالم الآخر ليعوّضهم عن الأوقات السيئة في عالمنا هذا، ويغنون أغنية نستطيع ترجمتها بشكل تقريبي كما يلي: «نقفز، ونرقص، ونمرح، ونشرب نبيذاً أحمر وأبيض، ولا نفعل شيئاً طيلة اليوم إلا أن نعدّ الأبقار الذهبية». كم هذا ممل، في النهاية! يظهر الخواء في كل فكرة «الوقت الطيب» الأبدي في لوحة بيرغلز «أرض الكسالى»، حيث يستلقي الموظفون الثلاثة البدينون، برؤوس متقاربة، بينما البيض المسلوق وأفخاذ الخنزير المشوية تأتي إليهم بنفسها لتؤكل.

يبدو أن البشر عاجزون عن وصف، بل ربما حتى تخيل، السعادة إلا عن طريق نقيضها. لهذا السبب يختلف وصف الفردوس أو اليوتوبيا من عصر لآخر. في العصر ما قبل الصناعي وُصف الفردوس كمكان للراحة الأبدية، مرصوف بالذهب، لأن تجربة الإنسان العادي اقتصرت على الفقر والإجهاد. حوريات الفردوس عند المسلمين تعكس مجتمعاً يشرّع تعدد الزوجات، ولا تظهر فيه معظم النساء إلا في حريم الأغنياء. ولكن صور «النعمة الأبدية» هذه تفشل لأن هذه النعمة تصبح أبدية (الأبدية هنا زمن لا نهاية له)، فيصبح التناقض غير فعّال. بعض التقاليد في كتاباتنا هذه نشأت بسبب الظروف الفيزيائية، التي لم تعد موجودة الآن. طائفة الربيع على سبيل المثال. في العصور الوسطى لم يكن الربيع يعني بشكل رئيس السنونو والأزهار البرية. بل كان يعني خضاراً شهية، وحليباً ولحماً طازجاً بعد أشهر اقتصرت على لحم الخنزير المملّح في أكواخ بلا نوافذ ومليئة بالدخان. كانت أغاني الربيع مرحة: «لا تفعل شيئاً إلا الأكل والانشراح، واشكر السماء على السنة الجميلة وعلى النساء العزيزات؛ والرجال الشهوانيون يعبثون هنا وهناك، وبكل الفرحة الممكنة!» لأنه كان هناك سبب للمرح. لقد مضى الشتاء، وهذا أمر عظيم. عيد الميلاد نفسه، وهو احتفال يعود إلى ما قبل الحقبة المسيحية، غالباً بدأ في الظهور لأنه يجب أن يكون هناك احتفال كبير من الشره والشرب لكسر برودة الشتاء الشمالي الطويل غير المُحتمَل.

عجْزُ البشرية عن تصور السعادة إلا كنوع من الانعتاق، إما من الألم أو من العمل، يشكل مشكلة جدية للاشتراكيين. باستطاعة ديكنز وصف عائلة فقيرة جداً تلتهم إوزاً مشوياً، وباستطاعته تصويرهم سعداء؛ من جهة ثانية، يبدو أن سكان الأرض المثالية لا يملكون مرحاً عفوياً، بالإضافة لكونهم بغيضين بشكل ما. ولكننا بالطبع لا نطمح إلى العالم الذي وصفه ديكنز، وربما، أي عالم كان باستطاعته وصفه. ليس هدف الاشتراكي مجتمعاً يخلو من كل المشاكل، حيث السادة العجائز المهذبون يتبرعون بالديك الرومي للفقراء. ما الذي نسعى إليه، إن لم يكن مجتمعاً تصبح فيه «الأعمال الخيرية» غير ضرورية؟ نريد عالماً لا يمكن فيه حتى التفكير بوجود سكروج وإيراداته وتيم النحيل ورجله الكسيحة. ولكن هل يعني هذا أننا نطمح إلى نوع من اليوتوبيا بلا ألم ولا عمل؟ سأخاطر بقول شيء ربما لن يوافق عليه محررو «التريبيون»4، لأقترح أن غاية الاشتراكيين الحقيقية ليست السعادة. السعادة كانت حتى يومنا هذا نتيجة ثانوية، وربما ستبقى كذلك. الغاية الحقيقة للاشتراكية هي الأخوّة بين البشر. شعر كثيرون بهذا، ولكنهم لم يقولوه، أو لم يقولوه بصوت عال كفاية. لا ينفق الناس حيواتهم في صراع سياسي مرير، أو يقتلون أنفسهم في حروب أهلية، أو يُعذَّبون في سجون الغستابو السرية، من أجل بناء فردوس بتدفئة مركزية، ومكيفات حديثة، وإضاءة إلكترونية، بل لأنهم يطمحون إلى عالم يحب البشر فيه بعضهم بعضاً بدلاً من خداع وقتل بعضهم بعضاً. ويريدون هذا العالم كخطوة أولى. وجهتهم بعد ذلك غير مؤكدة، ومحاولة التنبؤ بها بالتفصيل ستشوّش الأمور كثيراً.

4. المجلة اليسارية التي نشر فيها أورويل مقاله هذا باسم مستعار، والتي عمل فيها كمحرر أدبي لفترة قصيرة. كان أورويل يخشى أن تكون انتقاداته الكثيرة والقاسية للماركسيين واليساريين غير مقبولة. (م)

على الفكر الاشتراكي التكهن بما سيحدث، ولكن فقط بخطوط عامة. غالباً ما يطمح المرء إلى أمور لا يراها إلا بشكل غائم. في أيامنا هذه، على سبيل المثال، العالم في حالة حرب ويريد السلام5. ولكن البشر لا يعرفون حالة السلم، ولم يعرفوها يوماً، إلا إن كان الهمجي النبيل قد وُجِدَ حقاً6. يريد الناس شيئاً يعتقدون أنه موجود بشكل غامض، ولكنهم لا يستطيعون تحديده بدقة. في عيد الميلاد هذا، سينزف الآلاف حتى الموت في الثلوج الروسية، أو سيغرقون في مياه متجمدة، أو سيقطّعون بعضهم بعضاً إلى أجزاء في مستنقعات على جزر المحيط الأطلسي؛ سيبحث الأطفال عن بقايا الطعام في خرائب المدن الألمانية. التخلص من مثل هذه الأمور غاية حسنة. ولكن تفصيل ما سيكون عليه عالم مسالم أمر مختلف.

5. كُتب هذا النص أثناء الحرب العالمية الثانية. (م)

6. يشير أورويل إلى كتابات جان جاك روسو الذي يرى أن الإنسان البدائي لم يكن عدوانياً بل مسالماً تماماً، وأن الحضارة أفسدت البشر؛ وهو ما يرفضه الكثير من الفلاسفة والكتاب، بما فيهم أورويل. (م)

تقريباً، يشبه كل صنّاع اليوتوبيا رجلاً يعاني من وجع الأسنان، ويعتقد أن السعادة تكمن في غياب هذا الوجع. لقد أرادوا خلق مجتمع مثالي عن طريق تأبيد شيء ما اكتسب أهمية فائقة لأنه كان عابراً ومؤقتاً. الرؤية الأوسع تقتضي القول بأنه يجب على الإنسانية اتباع دروب محددة، وبمقدورنا ايضاً رسم استراتيجية عامة، أما التنبؤ بالتفاصيل فليس مهمتنا. وحتى في حالة كاتب عظيم مثل جوناثان سويفت، الذي باستطاعته سلخ جلد القسيس أو السياسي بنظافة كاملة وبدون أن يتسخ هو نفسه، نجده عندما يحاول خلق الإنسان الخارق، يترك انطباعاً بأن أفضل ما يمكن تقديمه هو أن الياهوات المقززين يملكون إمكانية أكبر للتطور من الهويهانمنات المتنورين.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى