الجيش.. من السياسة إلى الثكنة/ أحمد مأمون
“لا يمكن ترسيخ الديمقراطية من دون نخب عسكرية ملتزمة بالحكم الديمقراطي، ومطيعة للنخب السياسية المنتخبة”
ينطلق زولتان باراني من هذه القناعة في كتابه: “الجندي والدولة المتغيرة” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2018)، ليستكشف المهمات الرئيسية التي قامت بها النخب السياسية والجهات الخارجية لإعادة تشكيل العلاقات المدنية – العسكرية، وبناء قوات مسلحة تدعم الديمقراطية، في سبعة وعشرين دولة مختلفة، ليقدّم في نهاية كتابه وصاياه لحاملي الهم الديمقراطي حيال التعامل مع المؤسسة العسكرية.
وتزداد أهمية الكتاب مع تصاعد الأحلام بحياة سياسية لا تخضع للقوة، عقب اهتزاز الحكم العسكري في بلدان الربيع العربي، الذي نفض الغبار عن الكليشيهات الثقافوية “ما قبل الثورية”، واكتشاف الباحثين العرب أن “العلاقات المدنية العسكرية” علمٌ ليس لدينا فيه دراسات معمّقة وجادة، لأنّها كانت علاقات قائمة على الخوف والسيطرة، فضلًا عن ندرة هذه الدراسات عالميًا، كما يشير مؤلف الكتاب وآخرون.
وزولتان باراني: هو أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس، متخصص منذ سنوات في ملف العلاقات المدنية العسكرية، إذ صدرت أول دراسة له في هذا المجال بعنوان: “الجنود والسياسية في أوروبا الشرقية” عام 1993، كما أنَّه مؤلف الكتاب الشهير: “كيف تستجيب الجيوش للثورات؟ ولماذا؟” الذي شكَّلَ نموذجه النظري مرجعًا للمهتمين والباحثين، واستخدمه بعض الشبان العرب إطارًا لتفسير ردة فعل الجيشين الجزائري والسوداني على الحراك الثوري في البلدين.
وتمتاز أبحاث باراني بالتنوّع في المصادر، حيث شملت إضافة إلى الكتب النظرية والتاريخية، التقارير الرسمية الصادرة عن الدول، ومعلومات قيّمة حصل عليها من خلال مقابلات شخصية مع عشرات الشخصيات العسكرية والأمنية والسياسية حول العالم، حيث قدّم شكره في مقدمة كتابه إلى السفارات الأمريكية التي ساعدته في رحلاته البحثية، وعدد من الشخصيات التي قابلها، مبتدئًا بـ”جون أبي زيد” وهو قائد القيادة المركزية في بدايات الحرب على العراق 2003-2007.
ويمتلك زولتان باراني إضافة إلى مصادره الخاصة وأبحاثه المعمّقة ميزتين أساسيتين كباحث: الأولى: هي أنَّه خدم الجيش الأمريكي في ألمانيا الغربية إبّان نهايات الحرب الباردة. والثانية: أنَّه على ما يبدو قد عمل أستاذًا في كلية الناتو الدفاعية، على حد وصف إحدى الرسائل الالكترونية التي سربها “ويكيليكس” من مؤسسة “ستراتفور” الاستخباراتية، عدا عن علاقاته مع الأكاديميات العسكرية الأمريكية التي ذكرها في كتابه، وهو ما يعطي لدراساته بعدًا إضافيًا على مستوى الدقّة، والمصداقية.
المنطلقات الأساسية
يوضح الكاتب أنَّ دافعه لتأليف الكتاب كانَ تدميرَ الجيش العراقي على يد جيش بلاده، فبدأ البحثَ عن الأوضاع الضرورية لبناء -أو إعادة بناء- قوات مسلحة لتصبح الخادم الأمين للديمقراطية، مُستنكرًا تدميرَ “الغزو” الأمريكي للمؤسسة الوطنية الوحيدة -من وجهة نظره- في مجتمع منقسم بعمق، مؤكّدًا أن قرار حلَّ القوات المسلحة العراقية كان “أحد أكبر الأخطاء في التاريخ الحربي الأمريكي”.
وينطلق باراني من سؤالين مركزيين:
أ- كيف نتعامل مع هذه المؤسسات –العسكرية- في بيئة اجتماعية/سياسية تدفع إلى الديمقراطية؟
ب- وكيف نبني جيشًا ديمقراطيًا؟ أي جيشًا يدعم الحوكمة الديمقراطية، وليس هذا الحزب أو ذاك؟
وللإجابة على هذين السؤالين، فقد درس باراني سبعة وعشرين دولة، وصنّفها في ست نماذج مختلفة، بحسب الأوضاع التي عاشتها الدولة أثناء مرحلة بناء العلاقات المدنية العسكرية، فكانت على النحو الآتي:
– إعادة البناء بعد الخروج من الحرب، ودرسها في سياقين: ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما بعد الحروب الأهلية.
– إعادة البناء بعد تحوّلات الأنظمة، ودرسها في سياقين كذلك: تغيير النظام بعد الحكم العسكري، وتغيّره بعد اشتراكية الدولة في أوروبا.
– إعادة البناء بعد تحوّلات الدولة: بعد الحكم الاستعماري، وبعد إعادة التوحيد للبلدان المنقسمة، وعقب إذابة الفصل العنصري.
الجيش والديمقراطية، كيف يجتمعان؟
يقول باراني: إنّه يدرك أن عبارة “جيش ديمقراطي” ربما تبدو “مثل جمع لفظين متناقضين”، لأن القوات المسلحة بطبيعتها مؤسسة تراتبية وغير ديمقراطية، لكنّه يشدد أنه يعنى بها جيشًا يؤيد الحكم الديمقراطي، ولا يتطلع للإمساك بالسلطة.
الفصل الأول: ما هي مظاهر الجيش الديمقراطي:
يمثّل هذا الفصل التأسيس المنهجي للكتاب، وهو أهم فصوله جميعًا، إذ أوضح المؤلف فيه مكانة الجيش في هيكل الدولة التنظيمي، ومسؤولياته تجاه الدولة والمجتمع؟ ومميزات الجيش الديمقراطي، كما استعرض بإيجاز التطورات التاريخية والنظرية التي شهدتها العلاقات المدنية-العسكرية، من الشاعر الروماني جوفنال إلى صمويل هنتنغتون.
وحاول باراني تحديد المعايير الأساسية التي تحكم العلاقات المدنية- العسكرية وكيفية الحد من صلاحيات القوات المسلحة ونشاطها السياسي متناولًا البعد الاجتماعي من خلال قضية التجنيد، والانقسامات العرقية-الدينية، والجنس والهوية الجنسية، والإعلام، والمنظمات غير الحكومية.
كثيرًا ما كرّر الكاتب “أن التهديدات العالية تؤدي إلى وجود جيش متمتع بنفود سياسي، بينما تؤدي التهديدات المتدنية إلى وجود جيش غير مهم سياسيًا”، وهي ملاحظة يمكننا قراءة الحالة العربية استنادًا إليها، فقد برّرت المؤسسة العسكرية العربية وجودها في السلطة -وليس تدخلها فحسب- إما بتقديم “أسباب قومية (محاربة الاستعمار أو مواجهة التهديد الأجنبي)، أو الحاجة إلى الوحدة الوطنية التي تتجاوز الخطوط الاثنية والقبلية، أو الحاجة إلى النظام والضبط والتنظيم، أو الحاجة إلى اصلاح اجتماعي-اقتصادي عاجل” (نزيه الأيوبي، تضخيم الدولة العربية، ص: 514).
وينتهي هذا الفصل المهم والممتع بسؤالٍ مُحيِّر: “لماذا يطيع حملة البنادق أناسًا لا يحملون البنادق؟”، مقدّمًا مفاتيحه الأربعة –غير الكافية – لحل هذه “الأحجية” التي توضح أنَّ السؤال ربما كان أهم من إجابته في بعض الأحيان.
دراسة النماذج والحالات التاريخية
اعتمد باراني نمطًا ثابتًا في عرض مادة الفصول التسعة (الثاني إلى العاشر) التي استغرقت دراسة الحالات التي تناولها، يتمثّل في:
– اعتماد حالتين رئيستين في كل فصل، وحالة ثانوية لإكمال الصورة وتوضيح الشذوذات.
– العرض التاريخي والتحليل: يستعرض فيها تاريخ العلاقات المدنية العسكرية، والعوامل المؤثرة بحسب كل دولة وسياقها، ويحلّل أهميّة هذه العوامل في كل حالة.
– تحديد المهمّات الأساسية التي قامت بها النخب السياسية لإعادة بناء العلاقات المدنية العسكرية، وهو عرض تاريخي وصفي، لكنّه ربما يكون انتقائيًا في بعض الأحيان.
– استخلاص التعميمات العامة: أوضح باراني أنَّ التنوّع الشديد لهذه الحالات، واختلاف السياقات في كل بلد؛ يجبر الباحث على الاقتصار على صياغة “تعميمات عامة” للمساعدة على فهم السياسة العسكرية في بيئات مختلفة، وعدم تقديم “نظرية كبرى” تقدم تفسيرات جوهرية للأمر، مستذكرًا قول العالم السياسي آلان روكييه “سيكون من القسوة تذكر عدد النظريات الموثقة بعناية، والأحكام النهائية التي دحضها التاريخ فجأة وأسقطها”.
وسأقتصر على عرض أبرز العوامل والمهمّات الأساسية في كل فصل، تاركًا استعراض التعميمات للقارئ تجنّبًا للإطالة، خصوصًا وقد أعاد المؤلف سردها في نهاية الكتاب.
الفصل الثاني: بعد الحرب العالمية الثانية (ألمانيا واليابان وهنغاريا)
حدّد باراني في هذه الحالة التدخلات الخارجية ودور النخب العسكرية في إرساء حكم ديمقراطي كعوامل مؤثّرة في النتائج، مع دور أكبر للتدخلات الخارجية، كما أوضح الأسباب التي لم تقد هنغاريا في النهاية إلى حكم ديمقراطي بل إلى دكتاتورية شيوعية.
وكانت المهمات الأساسية من أجل بناء قوات مسلحة ديمقراطية في هذا السياق هي: تجريد العسكر من السلاح، وتطهيره من العناصر المشبوهة، ثم تجنيد أفراد جدد، وإعادة تسليح الجيش من جديد، والبدء بعملية تشريبه للقيم الديمقراطية.
ونظرًا لكون هذه “المهمّات” قد تم تطبيقها في الحالة العراقية – التي كانت سبب تأليف الكتاب- وأثبتت فشلها، فقد حاول باراني تبرير ذلك بالقول إنَّ العوامل التي أدت إلى النجاح في ألمانيا واليابان هي: (أ- القوة البشرية ب- الالتزام على المدى الطويل ج- المال) لم تكن متوافرة للدور الأمريكي في العراق.
وهو تبرير غير مقنع البتة، فالقوة البشرية التي وظّفها الأمريكان في اليابان كانت 39 ألف جندي، وفي ألمانيا 60 ألف جندي أي ما مجموعه 99 ألف جندي للبلدين، أما في العراق فقد بلغ حجم القوات الأمريكية ما بين 100 إلى 150 ألف عسكري، مع استثناءً فترة 2007 التي مثلت صعود موجة المسلحين وتضاعف عدد الجنود الأمريكان.
وفي الجانب المالي: فقد بلغت ميزانية مشروع مارشال -والذي يشمل تلك الدول- 13 مليار دولار في حينه (يعادل 143 مليار دولار في 2017م) وهذا رقم بسيط مقابل تكلفة حرب العراق التي بلغت 802 مليار دولار مع نهاية 2011 وفق وحدة البحوث في الكونغرس الأمريكي، بينما قدّرها الاقتصادي الامريكي جوزيف ستيغليتز -الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد-بثلاثة تريليونات دولار.
ويمكننا التذكير هنا بإجابة نوح فيلدمان على سؤال وجّه إليه على موقع جامعة هارفرد حول ما حصل في العراق: “كانت الخطيئة الأصلية للغزو هي تدمير الدولة العراقية والسماح لها بالانهيار ومن ثم التطلع إلى إنشاء مؤسسات جديدة تمامًا من الصفر”، إضافة إلى ما يقوله باحثون عرب حول عدم رغبة الولايات المتحدة بناء دولة ديمقراطية في الشرق الأوسط أصلًا.
ثالثًا: بعد الحرب الأهلية (البوسنة والهرسك والسلفادور ولبنان)
ركّز باراني على دور المنظمات الدولية والوساطات الخارجية كعامل حيوي في معظم حالات الحرب الأهلية من أجل الأخذ بأيدي الأطراف المتصارعة نحو اتفاق السلام، وإعادة بناء القوات المسلحة، أما المهمات الرئيسة بعد الحرب الأهلية فكانت:
– تسريح المذنبين بانتهاكات حقوق الانسان وتجريدهم من السلاح، وإقالتهم.
– دمج المقاتلين السابقين الذين تواجهوا أثناء الحرب في الجيش الديمقراطي الجديد، وكان توخي الحذر في هذه الحالات لتحقيق التوازن بين المجموعات المختلفة أمرًا حساسًا للغاية، ما أدّى إلى طول مدّة هذا الدمج، وذلك بسبب اتساع هوة انعدام الثقة بين الأعداء السابقين، وهي المعضلة الأساسية في هذه الحالة.
رابعًا: التغيّر في الجيش بعد حكم عسكري:
في الفصول الرابع والخامس والسادس، تناول باراني بالتحليل تسعة دول من ثلاث قارات مختلفة، حصل فيها التغيّر بعد حكم عسكري، وسنتناولها في فقرة واحدة (أ- أوروبا: إسبانيا والبرتغال واليونان. ب- أمريكا اللاتينية: الأرجنتين وتشيلي وغواتيمالا. ج- آسيا: كوريا الجنوبية وتايلاند وإندونيسيا).
وتكون المهمّات الأساسية عقب إنهاء الحكم العسكري هي إبعاد الجنرالات عن السلطة السياسية، وإبعادهم عن القطاع الاقتصادي في حال كانوا منخرطين فيه، كما قدّم رؤية براغماتية لطريقة التعاطي مع الجنرالات في سياق تقديم حصانات قضائية لبعضهم أو لفترة محددة، في سبيل إبعادهم عن السلطة، وتقليل نفوذهم تدريجيًا في القوات المسلحة.
وأشار إلى فكرة “إعطائهم ألعابًا” بتخصيص ميزانيات من أجل شراء المعدّات العسكرية، وإرسال الجنود في مهمات حفظ السلام خارج الحدود لتقديم بديل عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد.
أمّا في جانب العوامل المؤثّرة، فكانت المفاجأة أنَّ باراني اعتبر أنَّ العوامل الداخلية في سياق ما بعد الحكم العسكري أهم بكثير من العوامل الخارجية، وأنَّ المنظمات الدولية لا تتمتع بموقع نافذ في هذا السياق.
يستذكر المرء هنا النخبة العربية التي تقيم في أوروبا من عقود ولم تتمكن من استخلاص العبر من التجارب الأوروبية العديدة التي عرضها الكاتب، حيث تقدّم الديمقراطية الأوروبية كصيرورة ثقافية سياسية، بعيدًا عن صراعات القوة والعسكر، فخلاصة كهذه ربما جنّبتهم السعي الحثيث إلى طلب المساندة من المنظمات الدولية ضد الحكم العسكري، فيما لم تقم هذه المنظمات بهذا الدور في سياقها الأوربي أصلًا!
خامسًا: بعد اشتراكية الدولة في أوروبا (سلوفينيا وروسيا ورومانيا)
لم يقدّم باراني جديدًا في هذا الفصل بما يتصل بالمهمات أو بالعوامل المؤثّرة، لكنّ الجانب التحليلي كان هو الأبرز، إذ رأى أنَّ بنية هذه الدول التي تخضع لرقابة منظومة كبيرة من الضباط السياسيين كانت وظيفتها الأساس الحفاظ على النقاء الأيديولوجي داخل القوات المسلحة جعلتها أشبه بالدولة العسكرية، إضافة إلى أدوات سيطرة الحزب الأخرى، المتمثلة في البوليس السري وأجهزة الاستخبارات العسكرية والامتيازات الممنوحة لسلك الضباط، وهو ما يذكرنا كعرب بنظام صدام حسين وحافظ الأسد التي كانت مؤسساتهم العسكرية مبنية على هذه الشاكلة.
سادسًا: ما بعد الحكم الاستعماري
استعرض باراني في الفصلين الثامن والتاسع نماذج من آسيا وأفريقيا، لست حالات مختلفة شهدت تحرّر الدول من الاستعمار، وهي: (في آسيا: الهند وباكستان وبنغلادش، وفي أفريقيا: غانا وتنزانيا وبوتسوانا).
وبطبيعة الحال فقد كانت المهمّات التي قامت بها النخب هي تأسيس القوات المسلحة للدولة الوليدة، والعمل على تدريب سلك ضباط جديد لإنهاء الوجود الاستعماري ضمن هيكل الجيش “بما يشبه قرار تعريب قيادة الجيش في الأردن مثلًا”.
وفي جانب العوامل فقد برز عامل جديد هو الإرث الاستعماري البريطاني الذين كان تأثيره في الدول الآسيوية أوضح منه في الدول الأفريقية.
سابعًا: بعد إعادة التوحيد والفصل العنصري (ألمانيا وجنوب أفريقيا واليمن)
تمثّل حالة إعادة التوحيد وإنهاء الفصل العنصري نموذجًا جديدًا في تحوّلات الدولة، وتفرِض مهمة جديدة هي الدمج بين مؤسستين عسكريتين قائمتين، وهي مهمّة حساسة جدًا، يوضّح باراني أنّها لم تتم بين طرفين متساويين، كما توحي الصيغة اللغوية للعبارة، بل قام أحد الطرفين باحتواء الآخر، وتمت العملية ضمن شروطه (ألمانيا الغربية، حكومة البيض، واليمن الشمالي).
كما أشار إلى حساسية تحديد الرتب العسكرية في القوات المسلحة الجديدة، كإحدى المهام التي نفذتها النخب آنذاك.
ويجدر الإشارة إلى أنَّ باراني لم يقدم إضافة متميّزة في دراسته للحالة اليمنية التي مثّلت لغزًا بالنسبة له “لأنَّ معرفة الحقائق عن اليمن هي الأكثر تحديًا من بين سبعة وعشرين بلدًا في هذا الكتاب” كما يقول، وينقل عن روبرت كابلان قولَه: “في مكان مثل اليمن تظهر الحقيقة بمحض المصادفة”.
التوصيات
ختم باراني كتابه بفصل متميّز عنوانه: “التوصيات السياسية: ما يجب عمله، وما يجب تحاشيه” وهي ميزةً يندر العثور عليها في أي دراسة تتصل بقضية عمليّة شائكة كهذه، وأدعو القارئ إلى التمعّن أثناء قراءة وصايا باراني هذه وتحذيراته للنخب السياسية، التي ختمها بقوله: “يجب أن نعترف مهما كان هذا مخيّبًا للآمال، بعدم وجود خريطة طريق آمنة من النيران تقود إلى التحوّل الديمقراطي”.
ملاحظات عامة
1- بينما يؤكد باراني أهمية الدور الأمريكي في دعم الدول لبناء جيوش ديمقراطية، فإنّ باحثين أوربيين يرون أنَّ هذا التدخل الأمريكي كان سلبيًا على المدى الطويل، إذ تقف هذه الدول محتاجة إلى القوة العسكرية الأمريكية لحماية نفسها، ما يؤثّر على استقلالية قراراتها الخارجية، فقد عنون جيديون راتشمان إحدى مقالاته: أوروبا منزوعة السلاح قد تواجه العالم وحدها، أي بدون الدعم الأمريكي!
2- لم يكن ولن يكون الهم الأمريكي في العالم بناء ديمقراطيات في الخارج، فقد تحدث باراني نفسه عن تدمير الاستخبارات الأمريكية لتجربة الديمقراطية في غواتيمالا عام 1954م، وتبع ذلك أطول حكم عسكري كان الأكثر دموية في أمريكا اللاتينية، بإزهاقه أرواح (200) مئتي ألف مدني. إذ يبدو أن الولايات المتحدة لا زالت تتبع تنظير هنري كيسنجر: ديمقراطية في الداخل لا الخارج.
3- كما يمثل الكتاب تحديًا معرفيًا للباحثين والقرّاء على حد سواء، نظرًا لتناوله سبعة وعشرين حالة تصعب الإحاطة بمسيرتها التاريخية مع توزّعها الجغرافي والزماني، ما يجعل القارئ أقل قدرة على توجيه النقد إلى خلاصات باراني وأطروحاته.
4- يعتبر الكتاب تأسيسًا في علم العلاقات المدنية-العسكرية، ويمكن لباحث كباراني أن ينزع المركزية عن صمويل هنتنغتون، فتنظيرات صمويل تأتي في سياق الحرب الباردة، وهذا الكتاب يأتي في سياق انهيار المعسكرات المضادة في العالم، وفي ذات الوقت في سياق عربي بحاجة ماسة لهذا النوع من التنظير.
5- على طول الكتاب، كان باراني يركّز على أهمية التغيير الدستوري في الحد من صلاحيات القوات المسلحة، وأثره في بناء العلاقات المدنية العسكرية المتوازنة، إلاّ أنَّ التجربة العربية تؤكّد أنَّ الانقلاب العسكري يحوّل الدستور إلى مجرد حبر على ورق، وعلى الرغم من أهمية توصيات باراني، إلّا أنَّه لم يتطرق إلى كيفية حماية الدستور من الجنرالات.
ختامًا: أقول -وبكثير من الحذر- إن إخراج الجيش من حيز السلطة السياسية يتطلب سياسيًا ميكافيليًا يمتلك الشجاعة والقوة الكافيتين لبناء أجهزة استخبارات وقوات خاصة تخضع لسلطة المدنيين، لتقف في وجه أي محاولة عسكرية لقلب نظام الحكم الديمقراطي، أقول ذلك مدركًا “أن الجيش لا يسيطر عليه إلا بأدوات عسكرية وأمنية”، وعلى السياسي أن يكون قادرًا على تنفيذ مذبحة القلعة -بأدوات سياسية- عند اللزوم.
الترا صوت