الناس

ثلاثة آلاف دولار كادت تنقذ مخيم لاجئين …/ ملكة العائد


وقعت عيناي على عبارة “مبلغ بقيمة ثلاثة آلاف دولار”. هذه الكلمات الثلاث كانت ضمن دائرة ضوء جعلتني أهمل قراءة بقية الرسالة، فبدأت أنا والصغيرتان، ابنتا أخي، حفلة صراخ تشبه صراخ جماهير كرة القدم حين يُدخِل فريقهم هدف المعجزة غير المتوقع. كان صراخ الطفلتين مجرد عدوى مباشرة ورد فعل من دون فهم أو اهتمام بالسبب.

وزّعتُ المبلغ على عجل لفلان وفلان، لأكثر من عشرة أشخاص خطروا في بالي، ثمناً لبرميلي مازوت لكل عائلة من الأقارب أو المعارف. وبدأت العطايا تتلاحق؛ فلان له مبلغ كذا، لآخر ثمن سترة، ووجبة لذيذة لشخص يقدس الكباب والكبب أكثر من أي شيء آخر. سأشتري أيضاً للصغيرتين اللتين شاركتاني الفرحة والصراخ هداياهما. وسأرسلُ إلى الذين صرخوا معي على “الموبايل”، طالبين هداياهم على عجل من المبلغ العظيم الذي سنربحه؛ فنحن هنا افترضنا الربح وأزحنا المرشحين الآخرين من حساباتنا ولم نضع احتمالاً للخسارة. بالطبع دللت نفسي كثيراً ووضعت خططاً لذلك بجزء من المبلغ.

بعد قليل من الوقت وكثير من الخيال المجتهد وعندما خفت وتيرة حماسة الاحتفال، شعرت بأنني فكرت بأنانية وجشع وكان الأولى بي أن أتبرع بالمبلغ لسكان المخيمات على الحدود الشمالية لسوريا. أولئك الذين أغرقت الأمطار خيامهم، وسار أثاثها مع الماء وانتشرت صور أطفالهم الحُفاة بأقدامهم الغائصة في الوحل. فأعدت حساباتي من جديد، بمبلغ ثلاثة آلاف دولار… كم خيمة يمكن أشتري… وكم معطفاً… وكم من الأحذية… وكم وكم… للصغار، الحُفاة العُراة؟

تشتت ذهني وتوزع وجداني من جديد بين أهل الرقة وأهل مخيمات إدلب. أهل الرقة لا أحد يتحمل مسؤوليتهم، لا يحصلون على حصص تموينية من أجل الشتاء، وها هو شهر يمر من دون صرف قسائم المازوت مُخفَّضة السعر، وأصبح تأمين ثمن المازوت على حساب الطعام؛ تقشف في الطعام وفي كل الاحتياجات لتأمين ثمن المازوت، الذي جاءهم حملاً إضافياً فوق مصروف الأمبيرات، ليصبح وضع معادلة الطعام مقابل الدفء الحديث اليومي لسهرات الشتاء.

في الجانب الآخر من عقلي أهل المخيمات؛ في العراء وتحت المطر. أصبح توزيع المبلغ أيضاً معادلة صعبة، فتساءلت: ألم تصل معاناتهم، وقد نُشرتْ على وسائل التواصل وفي الإعلام، إلى العالم؟ حتماً، سيلتفت إليهم العالم أو المنظمات، لكنّني أعود وأقول: إذا كانت صور آلاف القتلى لم تحدث فرقاً، فهل موجة برد وأمطار ستفعل؟ هذه المخيمات موجودة منذ بضع سنين، وفي كل سنة يفعل الشتاء بأهلها ما يفعله الصيف والجوع والخوف والعبث. يومياتهم انتظار عابث للساعة التي يتركون فيها عيشة الخيام التي ليست حتى حياة ترحال؛ فهم ثابتون في المكان وفي المأساة، راحلون في خيال يحمل أحلاماً مؤجلة وأملاً غريب الملامح، لا يستطيعون تحديده بكلمات؛ هل هو العودة إلى البيت إن وُجد، إلى المدينة، إلى القرية، إلى الحي، إلى وجوه من بقي من الأقارب والأصحاب وما بقي من رائحة الهواء؟ إن عادوا لكل ذلك الذي يسمى وطناً، فهل لهم أن لا يُحسبوا على أحد ممن توازعوا هذا الوطن؟ أم أن أملهم الغامض هو عبور هذه الحدود حيث تشكل خيامهم نقطة الفصل بين عالم الحروب، سوريا، والعالم الآخر، المتخيل، البعيد؟

بعد أن جال عقلي ذهاباً وإياباً-على طول الثلاثة آلاف دولار- من وحل المخيمات إلى أكوام البيوت المدمرة في الرقة وشوارعها الموحلة المختلطة بنظرات أهلها، المتناسية بؤسها والمتفادية أكوام أنقاض البيوت وحفر الصواريخ، انقطع تفكيري الذي وصل إلى منطقة عقدة صعبة الحل، لأعيد قراءة الرسالة وهنا تحولت بقعة الضوء من عبارة ثلاثة آلاف دولار إلى 35 سنة، أحد شروط الترشح للجائزة.

شعرت بخيبة أمل كبيرة وانضم إليَّ في خيبتي هذه أهلُ الرقة وساكنو مخيمات الشمال وأطفالهم الحُفاة المقرورين، فقد تجاوزتُ هذا العمر، على رغم أن عمري الصحافي لم يجتز بعد عامين اثنين. فكرت أن أكتب هذا الكلام للدكتور هاني الحسيني، القيّم على جائزة “مصطفى الحسيني” في الصحافة، الذي كان أرسل لي رسالة إلكترونية يُبلغني فيها أنّ موقع “الجمهورية” قد رشَّحَ مقالاً لي للمشاركة في المسابقة، طالباً موافقتي على الترشح وتعبئة استمارة تسألني عن بعض المعلومات.

المسابقة تشترط أن يكون سني دون عمري هذا. أمر فاتني لبعض الوقت واكتشفته لاحقاً لأُعيد معه اكتشاف أن خيبتنا، نحن السوريين، لا يمكن تجاوزها بثلاثة آلاف دولار.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى