مراجعات كتب

طارق العريس.. من ألف ليلة وليلة إلى ويكيليكس/ عثمان كباشي


في السنوات الأخيرة، واجَه ناشطون الأنظمةَ الاستبدادية في أكثر من بلدٍ عربي مطالبِين بالتغيير. ولم تقتصر المواجهات على الشوارع وفضاءات النضال التقليدية، بل لعبت صفحات الإنترنت دوراً بارزاً فيها؛ حيث شهدت تسريباتٍ كثيرةً لصورٍ وفيديوهات ومقاطع صوتية تفضح الفظائع التي ترتكبها تلك الأنظمة بحقّ من يعارضها من ناشطي الإنترنت وغيرهم.

في كتابه “تسريبات، قرصنة وفضائح: الثقافة العربية في ظلّ العصر الرقمي”، الصادر حديثاً عن “منشورات جامعة برينستون” الأميركية، يُضيء الأكاديمي والباحث اللبناني طارق العريس على التغييرات التي أحدثَتها وسائل الإعلام الرقمية في مجالات الأدب والسياسة والثقافة في البلاد العربية، مركّزاً على الانتقادات التي باتت تُوجَّه إلى الأنظمة السياسية العربية في ظلّ ما يسمّه “سيادة ثقافة التسريبات والفضائح”.

ويَعتبر صاحب “تجارب الحداثة العربية: التأثير الأدبي والسياسات الجديدة” (2013) أن الإنتاج الثقافي والتغيير السياسي في البلاد العربية، اليوم، أصبحا محتكمَين إلى التكنولوجيا الرقمية التي استفادت من النماذج الثقافية التقليدية في العالم العربي.

ومن خلال تركيزه على أنشطة الجيل الجديد من النشطاء والمؤلّفين في كلٍّ من مصر وعددٍ من بلدان الخليج العربي، يربط العريس في كتابه الجديد بين تسريبات منصّة “ويكيليكس” لصاحبها الأسترالي جوليان أسانج وقصص “ألف ليلة وليلة” المعروفة في التراث العربي، وبين تغريدات “تويتر” والقصص والحكايات الغامضة، وبين الهجمات الإلكترونية وغارات القبائل العربية ما قبل الإسلام.

وينقل الأستاذ المشارك في قسم دراسات الشرق الأوسط بـ “كلية دارتموث” الأميركية الأُطُر المعرفية والتاريخية من حالةِ ما بعد الاستعمار إلى الحالة الرقمية، موضّحاً كيف تتحدّى وسائل الإعلام الجديد الروايةَ الرسمية التي تُستَخدم منذ وقت طويل كأداة تقليدية في مجال الوعي السياسي والنقاش الفكري في البلدان العربية.

ومن خلال التنظير لبروز “موضوع التسريبات”، التي تُمارَس من خلال “وسائل فوضوية، ومع ذلك مسيّسة إلى حدّ بعيد”، يبحث العريس في الوعي الرقمي والأفكار وأشكال المعرفة العاطفية التي تهزّ قناعات الجمهور وتجذب القرّاء إلى رواية الفضيحة التي تتزايد يوماً بعد يوم.

ويرسم صاحب “النهضة العربية: أنطولوجيا ثنائية اللغة” (2018) في عمله صورةً لمشهد الحداثة العربية المتغيّر، أو النهضة في العصر الرقمي، متتبّعاً كيف يتم اختراق مفاهيم مثل الأمة، والمجتمع، والسلطة، والمثقّف، والمؤلّف، والرواية، من خلال طرق المواجهة الجديدة.

وبحسب تقييم الأكاديمي في جامعة بنسلفانيا الأميركية، روجرز ألان، فإن العريس يقدّم للقرّاء، في كتابه “الرائد والهام”، واقعاً رقمياً جديداً تتعرّض فيه معايير التلقّي والتقييم المتعارَف عليها للتحدّي أو السخرية أو التخلّي عنها، مضيفاً أن آثار استنتاجاته تمتد إلى ما هو أبعد من سياق العالم الناطق بالعربية.

أمّا إلين آن مكلارني، مؤلّفة كتاب “القوّة الناعمة: المرأة في الصحوة الإسلامية بمصر”، فتصف العمل بأنه “مهمّ، ويجمع بين أحدث الأبحاث حول الوسائط الرقمية في العالم العربي والاتكاء على الأدب العربي الكلاسيكي”.

ويرى برايان إدواردز، مؤلّف كتاب “ما بعد القرن الأميركي: نهاية الثقافة الأميركية في الشرق الأوسط”، أن العريس يُقدّم في كتابه هذا وجهة نظر مقنعة عن العلاقة التي تربط بين الإنتاج الأدبي المعاصر وثقافة الفضيحة. يستشهد إدواردز بالعديد من الأمثلة التي تضمّنها الكتاب؛ مثل استهداف قراصنةٍ الحكومة اللبنانية في 2012 في ما عُرف بحملة “ارفع صوتك”، وأيضاً استخدام المعارضين السعوديّين موقع تويتر، مُضيفاً أنّ “قراءة هذا الكتاب مهمّة جدّاً لكل من يسعى إلى فهم الثقافة العربية المعاصرة في ظلّ العصر الرقمي”.

يستهلّ المؤلّف كتابه بمقدّمة وافية يشرح فيها ثيمته الرئيسية، موضّحاً أنَّ أفعال الرفض السياسي في العصر الرقمي، بمختلف أنواعها، تُعيد تعريف معنى الثقافة العربية، مضيفاً أن العمل يبحث في التحوُّلات الجذرية التي تُؤثّر في طريقة سرد الحكايات والتعبير عن الرفض وتشريع القوانين في الألفية الجديدة، وذلك بالاعتماد على الدراسات الأدبية والإعلامية ودراسات العلوم الإنسانية الرقمية، والتركيز على العالم العربي في سياق عابرٍ للحدود الوطنية.

يُقدّم الفصل الأول، الذي يحمل عنوان “في معنى التسريب: من ألف ليلة وليلة إلى ويكيليكس”، قراءةً نظريةً في موضوع التسريب، ويشرح كيف أن الشخص الذي يتولّى عملية التسريب، وبما ينتجه من حكايات وروايات، يُنظَر إليه باعتباره عنصراً مهدّداً وفاسداً، وبالتالي يجب عزله ووضعه في حبس انفرادي.

يسوق المؤلّفُ مجموعةً من الأمثلة عن مسرّبين نُظر إليهم باعتبارهم خطراً على المجتمع، منذ عصر ألف ليلة وليلة، ووصولاً إلى التسريبات المعاصرة، مثل أسانج، وسنودن، وعلياء المهدي.

وفي الفصل الثاني، وعنوانه “أفكاري مطروحة على تويتر”، يُطلّ المؤلّف على تجربة الناشط والمدوّن المصري وائل عباس، مركّزاً على عملية إنتاج الجمهور، بدءاً بالعامّة في الشوارع إلى المتابعين عبر الإنترنت.

ومعروف أن عبّاس هو أول من وضع فيديو تعذيب على الإنترنت في مصر. كان ذلك عام 2006، أثناء وقفةٍ تضامنية مع سكّان ضاحية أمبابة في القاهرة، ويُصوّر الشريط قيام ضابط شرطة بتعذيب أحد سكّان المنطقة.

وبحسب المؤلّف، فإن عبّاس يزعم أنه ظلّ منذ عام 2006 يُنظّم احتجاجات فعليةً ضد الحكومة، ويقرن ذلك بممارسة أنشطة مماثلة على الإنترنت بهدف تحقيق الحرية الحقيقية التي تعني له في نهاية المطاف ديمقراطيةً حقيقيةً.

أما الفصل الثالث، “التصفُّح اللانهائي”، فيُواصل فيه المؤّلف الحديث عن تويتر باعتباره منصّةً للتسريبات والفضائح، كما يعمد إلى تحليل التقاطعات بين كشف الأخبار السياسية والفضائح، وبين الأنواع الأدبية الأخرى مثل الحكايات القديمة، وأخبار المشاهير في عصرنا الحالي، مركّزاً على تجربة “مجتهد”، المدوّن السعودي المتخصّص في نشر أخبار العائلة الحاكمة في السعودية، والذي يُتابع حسابه على تويتر مليونا شخص.

وفي “رواية من خيال الفضيحة”، وهو عنوان الفصل الرابع، يقرأ المؤلّف الكتابات العربية الحديثة من منظور القرصنة والفضيحة؛ حيث يرى أن التسريبات والقرصنة حوّلت النص الأدبي إلى “منصّة فضائحية” تُعيد إنتاج مشاهد وممارسات الشارع وفضاء الإنترنت، وهو ما كان له تأثير كبير على القارئ، لافتاً إلى أن “رواية الفضيحة” ترتبط بنسب عالية من التصفُّح والتفاعل على الإنترنت، كما يُعدّ هذا النوع من الأعمال الأكثر مبيعاً. ويخلص إلى أن التكنولوجيا الحديثة سيطرت تماماً على الرواية، بحيث أعادت ترميز إمكاناتها السياسية وقيمتها الأدبية.

وفي الفصل الخامس والأخير، “غارة سبرانية”، يستمرّ الكتاب في استكشاف معنى الأدب في العصر الرقمي؛ حيث يضيء على الحملة التي تعرّضت لها الكاتبة السعودية بدرية البشر على تويتر، حين هاجمها ناشطون بسبب ما ورد في روايتها “هند والعسكر” من أفكار اعتبروها نوعاً من الردّة، وطالبوا بمنعها من الظهور في المنابر العامة. ويعتبر العريس أن إعادة ترميز الرواية ووظيفة الكاتب يمكن ربطها بنوع من الحرب القبلية ساحتها الفضاء السبراني.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى