الناس

صحيح أسباب الرقص في الانتخابات العربية/ أحمد عمر

أسباب بعيدة، وأخرى قريبة، للرقص في الانتخابات العربية، والأسباب البعيدة والقريبة توصيفات معاصرة مقتبسة من تحليلات الغزو والاستعمار في الكتب المدرسية.

قبل ذكر الأسباب البعيدة، لا بد بدايةً من الإقرار بأنَّ جسد العربي وقور، لا يرقص، إن رقَصَ العربي فهو يرقص من الأعلى بهزِّ جذعه ورأسه، كما في الخليج، نصفه الأسفل ساكن أو مدّخر للشأن الأعظم، حذراً من إثارة الغبار والنقع، أي أنَّ بيئته توجب عليه الوقار. اليمنيون يرقصون بالخناجر، ورقصات أهل الخليج جماعية، رقصات أهل الشام وافدة أو مستعربة، العضو الوحيد الذي يتحدّى الوقار ويرقص هو لسانه! رقصة العربي في بيانه.

لا يذكر التاريخ العربي الإسلامي الرقص إلا نادراً، أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني ذكر أخباراً جعلت بعض السنّة يهاجمونه بشدة بسبب مذهبه، ولم تكن شيعةُ أيام الأصفهاني مثل شيعة هذا الزمان، وأنّ غرضه كان تشويه التاريخ الإسلامي. الجسد العربي لم يكن يرقص، رقصته الوحيدة كانت ثنائيةً مع جواده فاتحاً أو غازياً، وشريكه في الرقص لم تكن المرأة كما في الغرب، الفرنجي لا يكون فارساً إلا إذا رقص مع المرأة. ويذكر أسامة بن منقذ في كتاب “الاعتبار” دهشته من قلة نخوة الفرنجي. كان العربي وجواده يرقصان سوياً، ويفتحان البلدان والأمصار، يمكن تسمية رقصته برقصة الشهادة، وفي مدح هذه الرقصة قيلت أشعارٌ كثيرة، وأشهرها قول امرئ القيس: “مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدْبِرٍ معًا كجُلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من علِ”.

حديثاً، بعدما أحيل الجواد إلى الحجر في سباقات الخيل وقصور الملوك، وأقفاص الحيوانات المفترسة، رأينا أفلاماً كثيرة تدعو إلى الرقص، مثل فيلم إيناس الدغيدي “ما تيجي نرقص” كخلاص إلى “النهضة”، المقتبس عن فيلم أميركي لريتشارد جير له العنوان نفسه. أما الأفلام الأميركية والأجنبية عموماً فكثيرة، أشهرها “ارقص معي” لأنطونيو بانديراس، و”المعالجة بالسعادة”، ولا علاقة لفيلم “الرقص مع الذئاب” بفن الرقص، وفيلم “ليتل مس سن شاين”، وهذه الأفلام تدعو إلى الرقص مع الأنثى، وصفة نفسية للخلاص من التوتر الحداثي، وتغيير الواقع، واستنبات الأجنحة.

غنيّ عن القول إن الدكتاتورية في بلاد العرب قد بلغت أقصاها في البلدان الراقصة على أنغام الهزيمة والخذلان في توابيت الانتخاب. تذكّر الرقصات الانتخابية بشعر المتنبي عن الرقص: “لا تحسبوا أنّ رقصي بينكم طربا/ فالطير يرقص مذبوحا من الألم”.

أغلب الظن أن المتنبي قاله في مصر، ولو كان قاصداً بلاد الأسكيمو، لقلنا إنه يرقص لبثّ الحرارة في جسمه، لكن الوقائع تثبت أن أهل خط الاستواء يرقصون في الأعياد تصديراً للطاقة الفائضة، وأن أهل الأسكيمو ساكنون حفظاً للطاقة الثمينة.

ثاني الأسباب البعيدة أن الركض مكروه في البلاد العربية، والركض رقص وقور مباح من غير موسيقى، لا عيب كثير فيه، يعقد فيه الراكض قران السرعة على المسافة، وحصيلة القران مولود اسمه التسارع، يجلو به عوارض ذي ظلم، لأن الجسد العربي وقور، فلا يجري في الشوارع إلا اثنان، سارق هارب أو مسروق طالب، وليس في بلادنا حدائق للجري، وليس فيها نحل، والنحل لغته الرقص، يرقص وينتج العسل، وقد واظبت سائحةٌ وافدةٌ في تونس على الرقص المباح، وهو الجري كل صباح بثياب واصفة فصيحة، لها بلاغة وبيان، وإن من البيان لسحرا، فلحقت بها دبابير المدينة، مع أنها بريئة من تهمة النشل، لعلهم لحقوا بها، لأنها نشلت قلوبهم من غيابة الجب والكسل، وقلوب العرب سريعة النشل.

ثالث الأسباب إن العربي الذي نشلت دولته منه حقوقه كلها يجد في الانتخابات التي يُسرق فيها مصيره أربع سنوات، أو إلى الأبد، من غير أن يجرؤ على مطاردة اللص فيرقص كمداً، فيغدو مبحوح الصوت مكتوماً، صموتاً، ويجدها فرصةً فضيّةً ليلحق باللص الكبير، وهو يراوح في مكانه، وهي فرصةٌ ذهبيةٌ لإهانة الدولة ومؤسساتها ودوائرها وقصورها بالرقص من الوقار نفسه، ويذكر الجمع ممن ضم مجلسنا أنّ الأولاد عندما ينتصرون في حروبهم يرقصون سخريةً من المهزوم.

الأسباب القريبة للرقص صراحة هي: أنَّ اللحن راقص يجعل قاضي البصرة عبد الله بن سوار الذي التقط الجاحظ له صورة مهيبة بكاميرا كلماته يرقص طرباً. خذ مثلاً لحن “بشرة خير” الذي أكرمت به الإمارات مصراً، ويبثُّ كأنه نشيد مصر الوطني، وكانت مصر دائماً تصدّر الألحان والدساتير، فقد كتب رجالها دساتير دول الخليج، والأناشيد الوطنية لدولها التي ظهر أقدمها منذ أقل من قرن، بينما مصر دولة تمتد سبعة آلاف عام، وها هي ذا تستورد الأناشيد والأغاني والملوك! اللحن راقص أيها السادة.

اعزف لحناً للبهائم العجماء ستجدها ترقص، فكيف بالحيوان الناطق الذي وجد فرصة يتيمة للرقص المباح، في الوطن المستباح، وبعض القبائل أو أكثرها يندب الميت رقصاً، الرقص تعبيرٌ للحاقنين أيضاً، فليست بلادنا مراحيض للعموم، والجوامع تحت الأسر.

ومن الأسباب القريبة أن الرقص يجعل الخائف يشعر بالأمان المؤقت كهتاف المذعور في مقبرة. وله تفسير مجاور أنَّ المواطن يستطيع أن يحوّل دوائر الدولة الرصينة إلى ملاهٍ. ومنها أنّ الرقص في مواسم الانتخابات يشبه عيد “المساخر” اليهودي، فيوم الانتخابات هو يوم السنة الكبيسة التي تأكل فيها الرعية الحلوى التي يقدّمها رجال الأعمال والمافيا، وينال بعض الشعب هباتٍ غذائية ورشى، ويقبل المنتخبون على التزوير بصراحة، بل وقاحة تشبه المساخر.

يمكن إضافة سبب مباشر للرقص العنيف على الصفيح الساخن، أو “رقص السماح” على حبل كما في السيرك، في هذه الأقفاص الشاسعة، هو أنَّ الهمس له عقاب والرقص له ثواب. الكلام المحبوس يغلي في الجسد رقصاً.

أهم شخصية في هذه البلاد المباركة ليست العالم، ولا الداعية والأديب: إنها الراقصة.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى