الناس

من داخل سجون التعذيب السورية… كيف سحق بشار الأسد معارضيه/ آن برنارد + مقالات أخرى تناولت المقال

ترجمةأحمد ليثي

يحتجز ضباط الأمن السوريين مهند غباش من معصميه لساعات طويلة، ويضربونه حتى يدمونه، ويصعقونه بالكهرباء ويوجهون المسدس صوب فمه.

غباش طالب قانون من حلب، وقد اعترف بجريمته الحقيقية مرارًا وتكرارًا: تنظيم احتجاجات سلمية مناهضة للحكومة. غير أن التعذيب استمر لمدة 12 يوماً، حتى أدى به ذلك إلى أن يكتب اعترافاً خيالياً بأنه يخطط لعمليات تفجير.

وهذا، بحسب قوله، مجرد البداية.

وعندما نُقل إلى سجن مكتظ في قاعدة المزة العسكرية في العاصمة السورية، قال إن الحراس كانوا يقتادونه مع معتقلين آخرين عاريين في سياج، ويرشونهم بالمياه في الليالي الباردة. وقدم غباش شهادته، مع عدد من المعتقلين الآخرين، والتي تفضي إلى أن هنالك ضابط يدعو نفسه هتلر، كان يجبر المعتقلين، على سبيل التسلية، أن يقوموا بأدوار الكلاب والحمير والقطط، ويؤذي هؤلاء الذين يفشلون في تقليد أصوات النباح أو النهيق.

وفي مستشفى عسكري، شاهد ممرضة تسحق وجه أحد المبتورين الذي كان يطلب بعض المساعدات. وفي سجن آخر، أحصى غباش 19 من رفقاء السجن الذين ماتوا من المرض والتعذيب والإهمال في شهر واحد فقط.

يقول غباش الذي يبلغ من العمر 31 عامًا: “كنت من بين المحظوظين الذين نجوا بعد 19 شهرًا من الاحتجاز حتى تمكنت من رشوة أحد القضاة الذي أفرج عني.”

وإن كان الرئيس السوري بشار الأسد يقترب من نصر كامل على ثورة استمرت 8 سنوات، فإن نظاماً تعسفياً من الاعتقالات العشوائية وتعذيب المسجونين كان فيما يبدو له دور محوري في هذا النصر. وبينما الجيش السوري المدعوم من روسيا وإيران، يقاتل المتمردين على المناطق المغتصبة، فإن الحكومة تشن حرباً قاسية على المواطنين، وترمي مئات الآلاف في الزنازين القذرة، حيث عُذب وقُتل الآلاف.

لم يظهر قرابة 128 ألف مواطن سوري، وطبقًا لمنظمة حقوق الإنسان السورية، وهي مجموعة مراقبة مستقلة، فإن من المفترض أن يكون هذا العدد قد أُبيد أو ما يزال في عهدة الحكومة السورية. وقرابة 14 ألف قُتلوا تحت التعذيب. والكثير منهم قد مات تحت ظروف بالغة القسوة، وقد أطلقت الأمم المتحدة على هذه العملية اسم “إبادة”.

والآن، حتى مع هدوء رياح الحرب، فإن انتباه العالم يتلاشى، وتتجه العديد من الدول إلى تطبيع علاقاتها مع سوريا مرة أخرى، على الرغم من أن ثمة اعتقالات جديدة، وتزايد حالات التعذيب والإبادة. صحيح أن الأعداد قد بلغت ذروتها في الصراع الدموي في الأعوام المبكرة، غير أن الشبكة السورية سجلت 5607 حالة اعتقال جديدة، صُنفت عشوائية، وهذا يعني أن هناك 100 حالة اعتقال أسبوعيًا، بما يمثل 25% زيادة عن العام السابق.

من جهتهم، أطلق عدد من المعتقلين رسائل تحذيرية بأن المئات منهم قد نُقلوا إلى موقع الإبادة الشهير، سجن صيدنايا، وقد صدر تقرير المساجين مؤخراً بأن وتيرة عمليات القتل تتسارع.

تجذب عمليات الخطف والقتل التي تتم بواسطة الدولة الإسلامية الانتباه في الغرب، وذلك على الرغم من أن النظام السوري اعتقل أضعاف العدد الذي اعتقلته الدولة الإسلامية في سوريا. وتبعاً للشبكة السورية، فقد أحصت أن ما يقرب من 90% من عمليات الاختفاء يتم عبر الاحتجازات الحكومية.

من جهتها، تنكر الحكومة السورية وجود سوء المعاملة المنهجي.

ورغم ذلك، اكتُشف تقرير عرض حكومي بأن الضباط السوريين الذين يرفعون تقاريرهم مباشرة إلى الرئيس الأسد، أنه قد أمر باعتقالات جماعية، وعلى علم بكل الفظائع التي أرتُكبت.

بالإضافة إلى أن محققي جرائم الحرب التابعين للجنة العدالة والمساءلة الدولية قد اكتشفوا تقرير عرض حكومي يأمر بحملات القمع ويناقش حالات الوفاة في المعتقلات. ويذكر أن تلك المذكرة قد حملت توقيع كبار ضباط الأمن، والتي تضم فيما بينها أعضاء لجنة إدارة الأزمات التي تعرض تقاريرها مباشرة للرئيس الأسد.

تعترف مذكرة استخبارات عسكرية بحالات الوفاة الناجمة عن الظروف القاسية. وثمة مذكرات عرض أخرى تناقش حالات وفاة المعتقلين، وقد تم التعرف على بعضهم فيما بعد عن طريق صور لآلاف الجثث التي هربها أحد منشقي الشرطة العسكرية، ولوحظ أن المذكرة تسمح معاملة قاسية لمعتقلين محددين.

وتشير مذكرة عرض من رئيس الاستخبارات العسكرية، رفيق شحادة، إلى أن المسؤولين يخشون الملاحقة القضائية في المستقبل، ونتيجة لهذا فإنه أمر الضباط برفع تقارير بجميع الوفيات إليه لاتخاذ خطوات مناسبة لضمان الحصانة القضائية لمسؤولي الأمن.

في مقابلة معه في قصر عثماني يقع في دمشق، عام 2016، شكك الرئيس الأسد في مصداقية أعداد الناجين، وعائلات المفقودين، وعند سؤاله عن حالات محددة، رد: “هل تتحدث عن مزاعم مطلقة أم حقائق ملموسة؟” وأشار إلى أن أقارب المعتقلين قد كذبوا عندما قالوا إنهم شاهدوا رجال الأمن يجرون ذويهم.

وأشار إلى أن أى انتهاكات حدثت كانت أخطاء فردية لا مفر منها في حالة الحرب، وقال: “لقد حدثت هنا، وتحدث في جميع أنحاء العالم، في أى مكان، لكنها ليست سياسة متبعة.”

على مدار سبع سنوات، أجرت صحيفة نيويورك تايمز حوارات مع عشرات الناجين وأقارب المعتقلين والمفقودين في السجون السورية، واستعرضت الوثائق الحكومية التي تظهر بالتفصيل حالات الوفاة في السجون وقمع المعارضين، وفحصت مئات الصفحات من شهادات الشهود في تقارير حقوق الإنسان والملفات الصادرة عن المحاكم.

والحال أن أعداد الناجين التي أُبلغ عنها تتوافق مع روايات السجناء المحتجزين في السجون السورية، وتدعم ذلك المذكرات الحكومية والصور المهربة من السجون السورية.

كان نظام السجون جزءاً لا ينفصل عن المجهود الحربي الذي قام به الرئيس الأسد، بالإضافة إلى سحق حركة الاحتجاج المدني ودفع المعارضة إلى صراع مسلح لم تستطع الفوز به.

وهكذا، اعترفت الحكومة السورية ضمنيًا في الأشهر الأخيرة بأن مئات الأشخاص قد ماتوا في الحجز. وتحت ضغط موسكو، أكدت دمشق مقتل ما لا يقل عن مئات من الأشخاص المحتجزين من خلال إصدار شهادات وفاة لهم أو إدراجهم في عداد الوفيات في ملفات الأسرة. وقال مؤسس الشبكة السورية، فضل عبد الغني، إن تلك الخطوة أرسلت رسالة واضحة للمواطنين: “لقد انتصرنا، لقد فعلناها، ولن يعاقبنا أحد.”

لا يوجد أمل كبير في مساءلة كبار المسؤولين في الأفق القريب، لكن ثمة حركة متنامية تسعى إلى تحقيق العدالة من خلال المحاكم الأوروبية. وقد ألقت النيابة العامة الفرنسية والألمانية القبض على ثلاثة مسؤولين أمنيين سابقين في النظام السوري، وأصدرت أوامر اعتقال دولية بحق رئيس الأمن القومي السوري، علي مملوك، ومدير المخابرات الجوية جميل الحسن. وغيرها من المذكرات بسبب تعذيب وقتل مواطني تلك البلاد.

ومع ذلك، يظل الأسد ومساعدوه في السلطة في مأمن من الاعتقال، في حماية روسيا بقواتها العسكرية وحق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه، تستعيد الدول العربية علاقاتها مع دمشق، وتدرس الدول الأوربية أن تحذو حذوها، وظهر ذلك على إثر قرار الرئيس ترامب بسحب معظم القوات الأمريكية البالغ عددها 2000 جندي في شرق سوريا، وهو ما يقلل من النفوذ الأمريكي هناك، والذي كان في حده الأدني بالفعل في الصراع الدائر، الذي دخل عامه التاسع.

يبدو الإفلات من العقاب ليس مشكلة سوريّة داخلية فقط، ذلك أنه من دون إصلاحات أمنية، سيكون من غير المحتمل أن يعود اللاجئون السوريون الذي يبلغ عددهم خمسة ملايين متفرقين في أنحاء الشرق الأوسط وأوروبا إلى ديارهم خوفًا من خطر الاعتقال التعسفي. وفي عصر الاستبداد الفج من أقصي اليمين الأوروبي إلى السعودية، أظهر للرئيس الأسد أن أقصى درجة من العنف ضد المعارضة المدنية يمكن أن تكون استراتيجية رابحة.

من جهته، قال مازن درويش، المحامي السوري في مجال حقوق الإنسان في برلين حيث يقطن هناك لمساعدة المدعين العامين: أن هذا لن يستمر في سوريا، ذلك أن الناس ينسون ما هي الديكتاتورية، لأننا نعيش 70 سنة من السلام بعد الحرب العالمية الثانية، لكن حقوق الإنسان لا شأن لها بالحمض النووي للدول أو السياسيين.”

وأكمل: “إن العدالة ليست ترفًا للسوريين، إنها مشكلة العالم.”

التوسع في المعتقلات

يعد نظام الاعتقال السوري نسخة بسيطة من تلك التي بناها والد الرئيس الأسد، الرئيس حافظ الأسد. ففي عام 1982، سحق انتفاضة مسلحة للإخوان المسلمين في حماة، وقام بتسوية جزء كبير من المدينة بالأرض، واعتقل عشرات الآلاف من المواطنين، إسلاميين ومعارضين يساريين وسوريين عشوائيين.

وعلى مدى عقدين من الزمان اختفى حوالي 17 ألف محتجزًا في نظام يملك ذخيرة تعذيب استعارها من المستعمرين الفرنسيين والديكتاتوريين الإقليميين بل والنازيين، وكان من بين مستشاريه الأمنيين ألويس برونر مساعد هتلر الهارب.

وعندما خلف بشار الأسد والده عام 2000، أبقى نظام الاعتقال كما هو.

غير أن كل وكالة من وكالات الاستخبارات الأربع السورية، العسكرية والسياسية والجوية وأمن الدولة، وهي فروع محلية في جميع أنحاء سوريا، معظمها لديها سجونها الخاصة، وقد وثقت لجنة العدالة والمساءلة الدولية المئات منهم.

لقد كان احتجاز وتعذيب العديد من المراهقين في مارس 2011 بسبب رسم جرافيتي ينتقدون فيها نظام الرئيس الأسد هو السبب الذي دفع السوريين للانضمام إلى الانتفاضات التي اجتاحت الدول العربية. وانتشرت المظاهرات من درعا، مسقط رأسهم، احتجاجاً على معاملتهم، الأمر الذي أدى إلى مزيد من الاعتقالات، وحفّز بدوره المزيد من الاحتجاجات.

وانضم عدد كبير من المعتقلين من جميع أنحاء سوريا إلى المعارضين الحاليين في سجن صيدنايا. ومن جهته، قال رياض أفلار، مواطن تركي أُحتجز لمدة عشرين عامًا بعد اعتقاله عام 1996، وهو طالب يبلغ من العمر 19 عامًا لأنه كان يجري مقابلة مع سوريين حول مذبحة الحرب: “إن المعتقلين الجدد يتراوحون من عامل القمامة إلى الفلاح إلى المهندس إلى الطبيب، وجميع فئات السوريين.”

وأكمل رياض: “إن التعذيب قد زاد، وتعرض الوافدون الجدد للاعتداء الجنسي، وضُربوا على أعضائهم التناسلية، وأُجبروا على ضرب بعضهم البعض، حتى وصل الأمر إلى أن قتلوا بعضهم البعض”.

لا أحد يعرف على وجه الدقة عدد السوريين الذين مرّوا عبر ذلك النظام المرعب، غير أن جماعات حقوق الإنسان تقدر عددهم بمئات الآلاف إلى مليون، ومن جهتها، لا تنشر دمشق أي بيانات بخصوص المعتقلين.

وضرب النظام بعرض الحائط كل المعايير، ونزل بعض المعتقلين السياسيين إلى السجون العادية، وقامت قوات الأمن والميلشيات الموالية للحكومة بإنشاء زنازين مؤقتة بأعداد لا تُحصى في المدارس والملاعب والمكاتب والقواعد العسكرية ونقاط التفتيش.

من المحتمل أن تكون حصيلة الشبكة السورية التي تضم  127.916 شخصًا من الذين حوصروا أقل من الحقيقة، ذلك أن هذا العدد أُحصي من الاعتقالات التي أبلغ عنها أُسر المحتجزين وشهود آخرين، ولا يشمل هذا العدد من أُفرج عنه أو تأكد موته.

وبسبب السرية التي تفرضها الحكومة السورية، لا يعرف أحد عدد الذين ماتوا في الحجز، لكن سُجل الآلاف من القتلى في المذكرات والصور.

ضابط سابق في الشرطة العسكرية، يعرف باسم قيصر حفاظًا على سلامته، كانت مهمته تصوير الجثث، فرّ من سوريا بحوذته صور ما لا يقل عن 6700 جثة، رقيقة العظام ومضروبة، وقد صدمت هذه الصور العالم عام 2014.

غير أنه قد قام أيضاً بتصوير مذكرات العرض من مكتب رئيسه المباشر والتي تظهر فيها أنه يبلغ عدد الوفيات لرؤسائه.

ومثل شهادات الوفاة الصادرة مؤخرًا، تدرج المذكرات سبب الوفاة على أنه “سكتة قلبية”، وتشير المذكرة إلى أحد المحتجزين الذي ظهر في إحدى الصور التي جاء بها قيصر بينما عينه مخلوعة من مكانها.

وردًا على ذلك، قال السيد درويش، وهو محامي في مجال حقوق الإنسان، إنه يبدو أن السجون قد أُصيبت بوباء غريب من أمراض القلب، لكن بالطبع عندما يموتون، يتوقف قلبهم.

جولة تعذيب

غباش، منظم الاحتجاج في حلب، نجا من التعذيب في 12 منشأة على الأقل في سوريا، مما جعله، كما يقول هو ذلك، “مرشداً سياحياً للنظام”. وقد بدأت رحلته عام 2011، عندما كان في الثانية والعشرين من عمره. وهو ابن أكبر لمقاول بناء يعمل مع الحكومة، وقد استلهم الاحتجاجات السلمية من ضاحية داريا بدمشق لتنظيم مظاهرات في حلب.

وقُبض عليه في يونيو 2011، وأُفرج عنه بعد تعهده بوقف الاحتجاج.

لكنه يتذكر مبتسمًا: “لم أتوقف”.

وفي أغسطس قُبض عليه مرة أخرى، في نفس الأسبوع الذي أمر فيه الرئيس الأسد مسؤوليه، كما يظهر ذلك مذكرة من “لجنة العدالة والمساءلة الدولية”، بشن حملة قمع أكثر صرامة، منتقدًا تساهل سلطات المقاطعة مع المعارضين، والدعوة إلى مزيد من الاعتقالات لأولئك الذين يحرّضون الناس على التظاهر.

وكان قد تم تعليق غباش وضربه وجلده في سلسلة من مرافق المخابرات العامة والعسكرية، وفي نهاية المطاف، سمح مختطفوه بأن يوجه توصية صارمة للعديد من الشباب الذين يشبهونه بـ “مغادرة البلاد”.

حتى عندما أطلقوا سراح سجناء سجن صيدنايا الأكثر تطرفًا وهم إسلاميون أفادوا فيما بعد جماعات المتمردين، كانوا يهدفون إلى التخلص من المعارضة المدنية. ويقول منتقدو النظام إنه يبدو أن كلتا الحركتين كانتا جزءاً من استراتيجية لتحويل الانتفاضة إلى ساحة معركة، حيث يتمتع الأسد وحلفاؤه بميزة عسكرية.

مع فرار المدنيين أو ذوي العقول المتقاربة، وبدء إطلاق النار من قبل قوات الأمن على المواطنين، كافح غباش لإثناء حلفائه عن حمل السلاح حتى لا يكونوا لعبة في أيدي الحكومة.

وسرعان ما قبضت المخابرات الجوية في حلب على غباش مرة أخرى، على أن أكثر ما أثار دهشته، إصرار المحققين السريالي على بعض مظاهر الإجراءات القضائية. ذلك أنهم اتهموه بتدبير تفجير خيالي في وقت لم يكن قد وصلت فيه أى قنابل مسلحة إلى حلب بعد، وعلى الرغم من أن لديهم القدرة على توجيه الاتهام له كما يحلو لهم، إلا أنهم أصروا على أن يحصلوا على اعترافه.

في بعض الأحيان كان يُضرب إلى أن ينهار، حتى أنه كاد يموت، ثم يستيقظ عاريًا في ردهة متجمدة، ويبدأون الضرب من جديد. وفي إحدى المرات، وضع ضابط بندقية في فمه، وأصر آخر على أن المرأة التي تصرخ بعيدًا عن الأنظار كانت والدته.

تتطابق روايته تلك مع روايات الآخرين المحتجزين، بل كان وصف بعضهم أسوأ من ذلك، فقد شاهد أحد الناجين، الذي طلب عدم الكشف عن هويته وطلب تعريفه بخليل خليل لحماية عائلته التي لا تزال في سوريا، شاهد مراهقاً قضى 21 يومًا حتى الموت بعدما غمره المحققون بالوقود وأضرموا النار فيه.

يتذكر غباش: “بيني وبين ضميري، لا أريد الاعتراف بشيء لم أفعله”، “هناك خمسة أشخاص يسألون الأسئلة في وقت واحد، أحدهم يقول أنت بردان، والأخر يقول أنت عطشان، شفاهك ممتلئة بالدم، لا يمكنك التركيز. الكل يصرخ ويضرب.”

أخفى أظافر قدميه، كانوا قد خلعوها عنه عنوة، وشرائط من الجلد تقشرت من باطن قدمه، ووضعهم في جيبه، على أمل أن يريها للقاضي، لكنهم أخذوا سرواله في أحد الأيام.

وفي اليوم الثاني عشر، كتب اعترافًا.

أخبره النقيب ماهر أن يجعل اعترافاته مقنعة، “ثمة شخص قادك، تخيل كيف يبدو، طويل أم قصير القامة، سمين أم نحيف.”

واستقر غباش على سيارة فضية، ورجل طويل القامة، يرتدي نظارات وله شعر خفيف.

يقول غباش: “حينها بدأت أشعر بموهبتي في الكتابة.”

عقوبات سريالية

في مارس 2012، نُقل غباش إلى قاعدة المزة الجوية العسكرية، وهي تقع في أحد أحياء دمشق الغنية.

بحلول ذلك الوقت، قال غباش مع العديد من الناجين، إن النظام قد صمم نظام نقل بين السجون. وتعرض المعتقلون للتعذيب في كل محطة من محطات رحلتهم، في طائرات هليكوبتر، وحافلات وطائرات شحن. يتذكر البعض أنهم قد ركبوا لساعات في شاحنات تستخدم عادة لنقل جثث الحيوانات، معلقين بذراع واحد ومقيدون بالسلاسل في خطافات اللحم، وقد كانت زنزانة غباش الجديدة نموذجية، بطول 12 قدمًا وعرض 9 أقدام، وعادة ما تكون مزدحمة لدرجة أن السجناء يضطرون إلى تنظيم نوبات فيما بينهم للنوم.

أما خارج الزنزانة، في الممر، فقد وقف رجل معصوب العينين، ومكبل اليدين. كان السيد درويش، محامي حقوق الإنسان، وقد اختير لإلقاء محاضرة على قاضٍ حول القوانين السورية التي تضمن المحاكمات العادلة.

وقال في وقت لاحق بعد قضاء عقوبته: “كنت عاريًا، لا يمدوني بالماء، ولا يتركوني أنام، وفي بعض الأحيان كنت أُجبر على أن أشرب بولي.”

ازداد التعذيب وحشية وبربرية عندما حقق المتمردون في الخارج تقدمًا وقصفت الطائرات الحربية الحكومية الأحياء المضطربة. ويصف الناجون المعاملة السادية التي كانوا يتلقونها، أو الإعدام بدون محاكمة، أو المعتقلين الذين تُركوا حتى الموت بسبب الجروح والأمراض التي لم يعالجها أحد.

لكن سرعان ما حصل غباش على عقوبة خاصة به. فقد استجوبه رجل يطلق على نفسه سهيل حسن، ربما كان سهيل حسن الذي كان يرأس سجون القوات الجوية، وفقًا لقاعدة بيانات حكومية مسربة، وسأل عن كيفية قيام غباش بحل النزاع.

“انتخابات حقيقية”، يتذكر غباش الرد. لقد أراد الناس بعض الإصلاحات فقط، لكنك استخدمت القوة. المشكلة هي أنك إما أن نكون معك أو تقتلنا.”

وما حصل إلا على شهر من التعذيب الإضافي، وهو الأكثر غرابة في محنته.

يقوم الضابط الذي أطلق على نفسه اسم هتلر بتنظيم عشاء سادي للترفيه عن زملائه. قال غباش إن الضابط قد أحضر معه مشروب العرق والمياه لتهيئة الأجواء، وجعل بعض السجناء يركعون أو يصبحون طاولات أو كراسي. بينما لعب آخرون لعبة الحيوانات، ومن جهته عزّز هتلر إخراج المسرحية بالضرب.

يكمل غباش: “على الكلب أن ينبح، وعلى القطة أن تموء، ويصيح الديك”. يحاول هتلر أن يروضهم، وعندما يرعى كلبًا واحدًا، كان على كلب آخر أن يشعر بالغيرة.

وكان من بين الحضور أيضاً سجناء في زنازين مجاورة، أو معلقين للشنق معصوبي الأعين على أسوار قريبة، وقد أكد غباش الرواية، وقال إن بعض الحراس جعلوا المعتقلين معلقين كالخنازير، وعندما يطلبون المياه، يتم رشهم بالخراطيم.

وبعد أسابيع أو أشهر، حصل العديد من السجناء على ما يسمى بمحاكمات تستغرق دقائق دون محامين دفاع. وقد كان غباش نموذجًا لذلك، فقد حوكم في محكمة عسكرية عام 2012، واستمع إلى قاضٍ أدانه، وقال في حيثيات إدانته أنه متهم بالإرهاب الذي دمر الممتلكات العامة والذي يصل عقوبته للموت.

وقال غباش: “إن كل المحاكمات كانت تستغرق دقيقة ونصف فقط.”

وتوقع أن يذهب إلى سجن صيدنايا الذي كان آنذاك مركز إعدام جماعي، حيث أُعدم الآلاف هناك بعد محاكمات موجزة، وذلك وفقًا لتقرير منظمة العفو الدولية.

“جيد، لقد انتهى التعذيب”، يتذكر. لكنه لم ينته، فقد تحمل عامًا آخر من الضرب اليومي.

وكانت آخر فترة قضاها في سجن مؤقت تحت الأرض بالقرب من دمشق، وهو مخبأ عسكري للفرقة الرابعة، وهي إقطاعية السيد ماهر الأسد، شقيق الرئيس، يتذكر الناجون الضباط الذين يحملون شارات الوحدة وهم يزورون السجون ويرون الظروف. لكن المخابرات الجوية أجرت عمليات هناك بعد أن فاض سجن المزة، وذلك وفقًا لشهادات الناجين، وملفات لجنة العدالة والمساءلة الدولية (CIJA).

ولم يكن هناك المزيد من الاستجوابات.

قال السيد درويش، الذي نُقل إلى هناك أيضًا: “إن التعذيب كان لمجرد التعذيب، من أجل الانتقام، والقتل، وكسر الناس.”

يروي الناجون هذه القصص بفكاهة سوداء، فقط لأن الآخرين قد عانوا الأسوأ

قال غباش:” حسنًا، تعرضت للضرب، ومثلت دور الكلب، لكن بعض الناس قُتلوا وبعضهم أغتُصب.”

الاغتصاب والاعتداء

ذكرت لجنة تابعة للأمم المتحدة لحقوق الإنسان العام الماضي، أن بعض النساء والفتيات تعرضن للاغتصاب والاعتداء الجنسي في ما لا يقل عن 20 فرعاً من أجهزة المخابرات، ومن قبل رجال وصبيان في 15 فرعاً.

الاعتداء الجنسي سلاح مزدوج في المجتمعات الإسلامية التقليدية، حيث يُوصم الناجين في أغلب الأحيان، ويقتل الأقارب المحتجزات السابقات فيما يعرف بجرائم الشرف، وأحيانًا يقتلونهم على افتراض أنهم تعرضن للاغتصاب بحسب تقارير حقوق الإنسان والناجين.

مريم خليف، أم لخمسة أطفال، تبلغ من العمر 32 عامًا، تعرضت للاغتصاب مراراً وتكراراً أثناء احتجازها. قالت السيدة مريم إنها ساعدت المحتجين المصابين وأرسلت الإمدادات الطبية إلى المتمردين، وهي أعمال وصفتها الحكومة بالإرهابية.

وتابعت مريم، في سبتمبر، جروها رجال الأمن من منزلها إلى فرع 320 أمن الدولة، وقالت إن رئيس التحقيق قدم نفسه على أنه العقيد سليمان، وتدل أرشيفات CIJA على أن السيدة مريم قد احتُجزت وأن العقيد سليمان جمعة هو من ترأس فرع حماة.

وتتذكر بعد ذلك في شقتها المتناثرة في الريحانية بتركيا: “لقد كان يأكل الفستق، ويبصق علينا، ولم يترك أى كلمة قذرة إلا واستخدمها.”

احتجزوها في زنزانة مساحتها 3 أقدام مربعة مع ست نساء أخريات. وعلقها الحراس على الجدران وضربوها، وضربوها في أسنانها. ورأتهم يجرون سجينًا يشكو من الجوع إلى المرحاض ويجبرونه على أكل البراز، وهو ما يذكره ناجون آخرون أيضًا.

وأكملت: “في منتصف الليل، كانوا يأخذون الفتيات الجميلات إلى العقيد سليمان لاغتصابهن، أتذكر العقيد سليمان بعينيه الخضراء”.

تعرفت السيدة مريم بعد ذلك على العقيد في صور جنازة ضابط أمن، ثم انهارت.

وقالت إن العقيد وأصدقاؤه – وهم رجال يرتدون ملابس رياضية – اعتدوا على النساء في سرير في غرفة مكتب مجاورة لمكتبه، عُلقت على أحد حوائطها صورة الرئيس الأسد، ورشوا مشروب العرق على الضحايا، وهي إهانة أخرى للمسلمين الذين يمتنعون عن تعاطي الكحول.

لم يكن هناك مرحاض بزنزانة النساء، والتي كانت ملطخة بالدماء الناتجة عن الاغتصاب العنيف، وقد أجهضت زميلة لها. وفي الوقت الذي عقد فيه ابن عم السيدة مريم صفقة لإطلاق سراحها بعد شهر، بعدما فقدت ثلث وزنها، هربت فيما بعد إلى أراضي المتمردين كطبيبة.

أخبرت امرأة ناجية بشكل منفصل محققي CIJA أنها تعرضت للاغتصاب على يد العقيد جمعة في نفس الشهر وفي السجن نفسه، وهي تتبع نفس التفاصيل التي روتها السيدة مريم.

حتى النساء اللواتي لم يتعرضن للاغتصاب أفدن بأنهم تعرّضوا للإساءات والإهانات الجنسية، والتهديدات بالاغتصاب لانتزاع الاعترافات والبحث.

في أحد مرافق دمشق، قال العديد من الناجين بشكل منفصل، إن كبير المحققين خصص لنفسه مهمة اختراقهم رقميًا. وأطلقوا عليه اسم شرشبيل، الاسم العربي للساحر الشرير في مسلسل “السنافر”، وقالت إحداهن التي تغطي شعرها، إنه جرها من شعرها وجردها من ملابسها أثناء الاستجواب، وهي تفاصيل تخفيها عن عائلتها.

وقالت إن عائلة السيدة مريم رفضتها بسبب ما اعتبروه أنها فقدت شرفها، وقالت إن أخيها الموالي للحكومة تلقى تهديدات بالقتل، فيما طلقها زوجها.

وبالنسبة لبعض الرجال المحافظين، غيّر الصراع مواقفهم، ذلك أن العديد من الناجين والأقارب الذكور تكرّم عوائلهم الآن الناجيات من الاعتداء الجنسي كجرحى حرب، أما عن السيدة مريم فهي لا تخفي شيئاً عن زوجها الجديد، وهو متمرد سابق.

تتذكره وهو يخبرها: أنتِ نيشان على صدرى، أنتِ تاج على رأسي، إنه يطهو لي ويمسد وجهي بالزيت، لقد أعاد لي نفسي القديمة.”

عدوى متفشية، وطعام فاسد

بغض النظر عن التعذيب، فإن ظروف الاحتجاز غير الصحية صعبة للغاية، ومنهجية إلى حد أن تقرير الأمم المتحدة قال أنها ترقى إلى حد الإبادة، وهي جريمة ضد الإنسانية.

وقال سجناء سابقون، إن العديد من الزنازين تفتقر إلى دورات المياه، وإن السجناء لا يحصلون إلا على ثوان في اليوم للمرحاض. ومع الإسهال المتفشي والتهابات المسالك البولية، فإن ذلك يتسرب بين الخلايا المزدحمة. كما أن معظم الوجبات عبارة عن بضع قطع من الطعام الفاسد المتسخ. ويموت بعض السجناء من انهيار نفسي محض، بل وتم منع معظم الأدوية، وتُركت الإصابات دون علاج.

منير فقير، يبلغ من العمر 39 عامًا، لكن بعد محنته التي قضاها في المزة وصيدنايا وأماكن أخرى، يبدو عمره أكثر من ذلك بعشر سنوات. قال المنشق المخضرم، إنه قد أعتُقل وهو في طريقه إلى اجتماع للمعارضة السلمية، تظهره الصور قبل الاعتقال وبعده، وبعدما كان رجلاً ضخم الجثة، صار هزيلًا عندما أُطلق سراحه لدرجة أن زوجته لم تتعرف عليه.

في صيدنايا، كان البرد عقابًا عند الحديث أو عند النوم دون إذن، يتذكر السيد فقير وهو يشرب الشاي في مقهى باسطنبول. فجأة ولأكثر من شهر، صودرت جميع بطانيات وملابس زملائه، كانوا ينامون عراة في درجات حرارة متجمدة، وفي بعض الأحيان كانوا يُحرمون من الماء، لدرجة أنهم حاولوا غسل أنفسهم عن طريق غسل بشرتهم بالرمل الذي كشف عنه النمل بين شقوق الأرض.

في اليوم الذي التقيناه فيه، كان السيد فقير يحيي الذكرى السنوية لوفاة أحد زملائه الذين سقطوا بسبب عدوى في الأسنان لم تُعالج، وتورّم فكه بحيث وصل حجمه إلى حجم رأس آخر.

ومع ذلك، يقول السيد فقير، إن العلاج يمكن أن يكون قاتلًا، ذلك أن ناجين ومنشقين آخرين، شاهدوا التعذيب والقتل الذي يقع في المستشفيات التي يزور فيها شخصيات بارزة الضباط المصابين.

نُقل السيد فقير مرتين إلى المستشفى العسكري 601، وهو مبنى من الحقبة الاستعمارية بسقوف عالية ومناظر مطلة على دمشق، وقد تم ربط ستة سجناء عاريين، كلٌّ إلى سريره.

وقال: “في بعض الأحيان يموت شخص، وأحيان أخرى لا يموت أحد، لكننا في بعض الأحيان كنا نريد لشخص أن يموت حتى نأخذ ملابسه.”

وفي إحدى المرات – يقول السيد فقير – شاهد موظفين يحجبون الأنسولين عن مريض بالسكر – نادل يبلغ من العمر 20 عامًا – حتى وفاته.

في كثير من الليالي، كان الرجل الذي يعمل كممرض وحارس ويدعو نفسه عزرائيل، يأخذ المريض وراء باب زجاجي متجمد.

وقال فقير: “لقد رأينا ظل شخص ما يضرب، وسمعنا صراخًا، ثم سكوتًا، فصمت خانق، في الصباح رأينا الجثة في الرواق المؤدي إلى الحمام، ترى الجثث مكدسة، وقد دسنا على جثث رفاقنا حافين الأقدام.”

يتذكر غباش عزرائيل أيضًا، فقد تم نقله إلى المستشفى بعد إصابة خلفت ندبة عميقة على ساقه، وسمع أنينًا بسبب مسكنات الألم، فأجابه رجل، “سأجعلك تشعر بالراحة”.

تظاهر غباش بالنوم بينما كان الرجل يرفع عصاه المعدنية معلنًا “أنا عزرائيل”، وحطم وجه المريض، وقال السيد غباش إنه قد أُجبر على حمل الجثة إلى حمام الردهة، الذي كان بالفعل مليئاً بالجثث في الداخل.

وقال السيد فقير إن زملاءه السجناء أخبروه أن حمل الجثث يتم عبر المرحاض ثم إلى منطقة وقوف السيارات في المستشفى، حيث الموقع الذي يصور فيه قيصر الجثث.

وقال: “لم يصدقني الناس، ثم ظهرت صور قيصر.”

بينما قال أحد الناجين من سجن آخر، عمر الشغري، أنه أُمر بكتابة أرقام على جباه الجثث، كما يظهر ذلك من الصور التي سربها قيصر. وقال إنه بينما كانت تتراكم الجثث وتتحلل، كان عليه أن يكتب على الورق ويصنف الجثث.

تشير المذكرات الحكومية التي حصلت عليها CIJA إلى أن رئيس المخابرات العسكرية، وهو عضو في مكتب الأمن القومي يرفع تقاريره إلى الرئيس الأسد، كان على علم بارتفاع عدد الوفيات في السجون.

ولاحظت إحدى المذكرات أنه اعتباراً من ديسمبر 2012، حدثت زيادة في وفيات المحتجزين وتراكمت الجثث في المستشفيات، وقد أمر المسؤولين بإبلاغ رئيس الوكالة بكيفية وفاتهم، وما اعترفوا به، وإعادة صياغة تلك الاعترافات لحماية المسؤولين من المسؤولية الجنائية التي قد تطبقها عليهم أي سلطة قضائية في المستقبل.

وأظهرت مذكرة أخرى بعد عام أن الوفيات لا زالت في ارتفاع، وقالت المذكرة: “إنه من الضروري الاهتمام بالنظافة وصحة المحتجزين، للحفاظ على الأرواح والحد من الوفيات التي ارتفعت إلى حد كبير في الآونة الأخيرة.”

واشتكت مذكرة من نقص المحققين، فضلًا عن ذكرها لقائمة طويلة من الأخطاء، التي تضم الأوراق المتأخرة، وضرب المحتجزين وتعذيبهم.

وقالت نيرما جيلاجيتش، المتحدثة باسم لجنة العدالة والمساءلة الدولية: “يبدو أنهم يقولون لتابعيهم أن يتصرفوا بشكل جيد، لكننا نعرف ما يدور.”

وقالت إن وثائق اللجنة، تبين أن الضباط عوقبوا على جرائم مثل “عدم اتباع الأوامر”، لكن لا أحد يذكر ضابطًا عوقب بسبب ارتكابه للتعذيب.

أسماء كُتبت بالدم

خاطر المحتجزون والمنشقون بحياتهم لإخبار عائلاتهم والعالم عن محنتهم.

وفي زنزانة الفرقة الرابعة، قرر العديد من المحتجزين تهريب أسماء كل سجين يمكنهم التعرف عليه.

يتذكر أحدهم، منصور العمري الذي قُبض عليه أثناء عمله في منظمة محلية لحقوق الإنسان: “على الرغم من أننا ثلاث قصص تحت الأرض إلا أنه بالإمكان مواصلة عملنا.”

وحاول معتقل آخر، نبيل شربجي، صحفي، كان أول من ألهم غباش بالنضال بالصدفة عام 2011، وبعد ذلك شاركه الزنزانة في المزة، وحاول الكتابة على قصاصات قماش معجون الطماطم، والتي كانت باهتة للغاية، واستخدم شربجي أخيرًا دماء المحتجزين، من لثتهم التي تعاني من سوء التغذية ممزوجة بالصدأ ليخيط قصاصات من قميص العمري، وقام بتهريبهم بعد ذلك.

وصلت الرسالة بالدم إلى العواصم الغربية، وعُرضت قصاصات القميص في متحف المحرقة بواشنطن، لكن السيد شربجي كان ما يزال بالداخل.

كتب شربجي إلى خطيبته خلال فترة راحة قصيرة في السجن سمحوا لهم فيها بكتابة الرسائل: “تناثر التعب على مسام وجهي، أحاول أن أضحك لكن الضحكة تمتزج بالحسرة، لكني متمسك بالصبر، وبكِ.”

بعد ذلك بعامين، أفاد معتقل أُفرج عنه أن شربجي قد تعرض للضرب حتى الموت.

لا تنسونا

في سوريا ولبنان وتركيا والأردن وألمانيا وفرنسا والسويد، وغير تلك البلاد، يواصل عائلات الناجون الضغط.

بعد إطلاق سراحه عام 2013، سافر غباش إلى تركيا، حيث يدير مركزاً لحقوق المرأة وبرامج لمساعدات اللاجئين في آخر قطعة من سوريا يسيطر عليها المتمردون.

وتعمل السيدة مريم في مدرسة للاجئين، وتمكين الناجيات الأخريات. وانضم السيد فقير، الذي أعاد له طهي زوجته خديه السمينين، إلى نوع من رابطة من أجل الناجين من سجن صيدنايا، الذين يساعدون بعضهم البعض في توثيق تجاربهم والخروج من الصدمات ومحاولة إيجاد عمل.

ويصارع السيد درويش الأرق والخوف، لكنه يواصل عمله من أجل المسائلة، وقد شهد مؤخراً في جلسة محكمة فرنسية عن أب وابنين سوريين، ابن في الجامعة وابن يعمل في مدرسة فرنسية، قد توفيا هناك، وقد ساعد ذلك المدعين العامين الفرنسيين في الحصول على أوامر اعتقال للسيد مملوك، المسؤول الأمني الأعلى، والسيد حسن، رئيس المخابرات الجوية، ورئيس سجن المزة، والآن يمكن إلقاء القبض على السيد مملوك إذا سافر إلى أوروبا.

وقال السيد درويش إن تهديد الملاحقة القضائية هو الاداة الوحيدة المتبقية لإنقاذ المحتجزين.

وتابع: “إنها تمنحك الطاقة، لكنها مسؤولية كبيرة، هذا يمكن أن ينقذ أرواح بعض أصدقائي، الذين قالوا عندما أُفرج عني، رجاء، لا تنسونا.”

في العام الماضي، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة لإنشاء وتمويل هيئة جديدة، هي اللجنة الدولية المستقلة والنزيهة، من أجل إعداد قضايا جرائم الحرب، لكن الجسم ليس لديه عضلات لفرض هذه اللجنة أو توجيه الاتهام أو الاعتقال.

تبقى حرب سوريا حتى الآن دون حل سياسي، مع توقف محادثات السلام، تحث روسيا الغرب على تطبيع وتمويل إعادة الإعمار على أى حال، وتأجيل الإصلاحات.

وقال سوري اطلعَ على مستويات عالية حول المجهود الحربي الذي قامت به الحكومة، والذي لم يحدده حفاظًا على سلامته، إنه لا توجد أي فرصة لإجراء إصلاحات تجعل الأجهزة الأمنية تحترم حقوق الإنسان، ويبدو أن روسيا قد تجعل جهاز الاحتجاز أكثر كفاءة وحسب.

الملايين من أقارب المعتقلين المفقودين صاروا في مأزق اجتماعي ونفسي، ذلك أنه بدون شهادات وفاة، لا يمكن للأرامل المفترضين الزواج من جديد، ولا يمكن أن يرث الأطفال.

فدوى محمود، تعيش الآن في برلين، وليس لديها أية فكرة عما إذا كان زوجها عبدالعزيز على قيد الحياة أم لا.

وقبل ست سنوات، سافر السيد محمود الخير، المنشق البارز، إلى دمشق من الخارج، مع ضمانات أمنية، لإجراء محادثات بين الحكومة والمعارضة السلمية. وعندما ذهب ابن السيدة محمود لاصطحابه، لم يخرجوا أبدًا من المطار الذي تسيطر عليه المخابرات الجوية، ولم يسمع عنهم أحد شيئًا منذ ذلك الحين.

تقول السيدة محمود وهي ترتدي بطانية في غرفة المعيشة الخاصة بها: “ليس لدينا الحق في الاكتئاب، علينا المواصلة.”

وفي الزاوية، تقف كومة من البطانيات: الأرجوانية والصفراء والزرقاء، تتخيل زوجها متجمدًا في السجن، وتحتفظ بهم من أجله.

رمان

نيويورك تايمز

آن برنارد.. شهادة صحفية أمريكية عن بطش الأسد في السجون/ عصام حمزة

في النص التالي، المترجم عن صحيفة نيويورك تايمز، تروي الصحفية الأمريكية آن بارنارد، تجربة شخصية ومهنية صادمة، في التوثيق للانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري في السنوات الثماني الماضية، خاصة بالنسبة لملف التعذيب داخل السجون، الذي راح ضحيته عشرات آلاف السوريين على الأقل، كما تبين المديرة السابقة لمكتب بيروت في نيويورك تايمز، أهمية الشروع في هذا التوثيق، وجمع شهادات الضحايا، نتيجة السياسات التي يتبعها نظام الأسد للتحايل على الحقائق.

عندما بدأت في تغطية الصراع الداخلي في سوريا عام 2012، حين كنت مديرة مكتب التايمز في بيروت، توارى نظام سجون التعذيب الضخم مترامي الأطراف لنظام الرئيس بشار الأسد في خلفية المشهد. بالطبع نقلنا أنباء اعتقال المتظاهرين وقصص التعذيب. لكنها لم تكن جديدة، بل كانت شيئًا يعرف الجميع أن الحكومة لم تتوقف يومًا عن ممارسته.

الجديد كان عنف الدولة الذي طال الجميع بلا تمييز، والمتصاعد على مد البصر، وكذا كان أول هجوم بالمدفعية، وأول غارة جوية، وأول استخدام للأسلحة الكيميائية. ركزنا على جرائم الحرب المرئية للعيان، وتلك التي شاهدناها في السجون أو تحققنا منها سريعًا عبر شهود عيان ومقاطع الفيديو. رأينا جثة طفل رضيع عالق على دراجة ثلاثية العجلات، وبركًا من الدماء في مقصف جامعة دمشق، ويد طفل تمسك حقيبة كتب، لم تعد متصلة بجسده.

في المقابل، كان الاعتقال والتعذيب والإعدام غير ظاهر ومختفيًا في أقبية سرية، لا دليل عليه إلا ما تحفظه عقول الناجين. كثير منهم أعجزتهم الصدمة أو الخوف عن الحديث. لكن مع مرور السنوات وتزايد الاعتقالات، تكشفت الأدلة، كطبقات من أوراق الشجر الميتة تتحول إلى تربة خصبة.

أصبح من الواضح أن نظام السجون توسع توسعًا مهولًا. وبالحديث مع مئات السوريين، لاحظت مع فريقي أن كل شخص تقريبًا، تجمعه صلة ولو طفيفة بنشاطات المعارضة، وكثير ممن لا تجمعهم هذه الصلة كذلك، لديهم قريب أخفته قوات الأمن قسريًا.

وبدأنا في سماع شهادات مفصلة حول التعذيب والإهمال، شهادات فظيعة وسادية تكاد لا تصدق، حتى من قبل الناجين أنفسهم، في بعض الأحيان.

شيئًا فشيئًا، وجدنا أشخاصًا راغبين في إخبارنا بقصصهم كاملة. سمعنا كل التفاصيل العملية الدقيقة لعمليات الاعتقال والضرب وأساليب التعذيب وانتزاع الاعترافات. كانت هناك ساحات كبيرة امتلأت بالمعتقلين، “كما لو أن كل سوريا قد اعتقلت” على حد قول أحد الناجين. بعض هذه الصور تظل تراودني، كصورة السجين الذي حُبس منفردًا مع جثث متحللة لوقت طويل حتى بدأ يتوهم بأن هذه الجثث تتحدث إليه؛ ومعتقلون علقوا من أياديهم بخطاطيف في شاحنة لنقل اللحوم أثناء سفرها بهم على طرق وعرة. وضابط يتوقف في منتصف عملية التعذيب ليتحدث بحميمية إلى طفله الصغير عبر الهاتف المحمول؛ ومراهق يموت ببطء، بفعل الألم والعدوى، بعد أن دهن الحراس جسده بالوقود وأشعلوا فيه النار؛ ومحام أجبر على تناول فضلاته.

كانت رؤية نظام السجون بأنفسنا أمرًا أقرب للمستحيل، فلم تمنح الحكومة سوى تأشيرات سفر محدودة لزيارات محكمة الضبط والتنسيق. لكن في 2013، حصلنا على لمحة جزئية عن حقيقة الوضع من الداخل. فقد اصطحبني رجل أعمال مقرب من الأسد مع فريقي، إلى منشأة أمنية للقاء سجناء يقول عنهم إنهم جهاديون أجانب، ليثبت لنا أن الثورة لم تقم على حركة احتجاجات محلية، بل أشعلها جهاديون إسلاميون متطرفون.

كانت تلك أكثر اللحظات التي وضعت فيها أخلاقيات عملي كصحفية على المحك. اقتيد صف من السجناء محدبي الظهور مقيدين ببعضهم البعض، يعرج بعضهم (ضرب باطن القدم من أساليب التعذيب الشائعة) إلى فناء مقفر كئيب، وأجلسوا واحدًا تلو الآخر أمامي في مكتب. خلفي علقت صورة لرئيس سوريا السابق حافظ الأسد؛ وبجانبي وقف السجانون.

أخبرت أنا وزميلتي كل سجين عُرض علينا، أننا صحفيون مستقلون وأن بإمكانهم إخبارنا أي شيء أو لا شيء على الإطلاق. لكن في الحقيقة لم يكن بإمكانهم التحدث بحرية أو اختيار الرفض.

واتضح أن معظم السجناء سوريون. العديد منهم قدموا لنا شهادات متشابهة وغير قابلة للتصديق قالوا فيها إنهم لم يحملوا أي توجهات سياسية وأن رجال دين ظهروا من العدم وقدموا لهم المال والمخدرات مقابل تنفيذ أعمال عنف عشوائية.

أحدهم لم يلتزم بالنص المطلوب منه. بائع جوز من أحد أحياء الطبقة العاملة، فقد خرج في مظاهرة على حد قوله “لأجل الحرية”. وحين سئل ما الذي تعنيه هذه الحرية بالنسبة له؟ قال إنه أراد التصويت في انتخابات ذات معنى. أنا قلق حتى اليوم، على مصيره بعد هذه المقابلة.

غادرنا ونحن نشعر برجفة في أجسادنا. وسخر منا مرافقونا “لشعورنا بالأسف عليهم”. ضاعفنا بعدها جهودنا لتغطية القصة، في حين تراكمت البيانات التي جمعتها مجموعات حقوق الإنسان، والتي تحكي عن عشرات من منشآت التعذيب وعشرات الآلاف من المختفين قسريًا وآلاف من المعارضين المدنيين أعدموا بعد محاكمات صورية. هرب أحد المنشقين الذي يحمل الاسم الحركي “القيصر”، ومع صور لآلاف من جثث المعتقلين نحلها الجوع وأدمتها الجروح والكدمات.

لكن في 2014، احتل الجهاديون الأجانب المنتمون لتنظيم الدولة الإسلامية دائرة الضوء. فقد استعبدوا واغتصبوا الأقلية الإيزيدية وأعدموا صحفيين أجانب أمام الكاميرات، وهي أفعال صممت وخصصت للاستهلاك العام، وحسبت بدقة لبث الرعب والخوف.

لكن الأسد انتهج نهجًا مغايرًا، فقد أبقى نظام التعذيب الخاص به خلف الأبواب المغلقة، مصرًا على أنه شيد حكمه على أساس من نظام قضائي عادي ملتزم بالقانون، وأنه يمثل خط الدفاع الأخير والحصن الحصين ضد بربرية تنظيم الدولة الإسلامية.

لكن وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن رقم السوريين الذين أخفاهم تنظيم الدولة الإسلامية، وفقًا لبثه العلني لمذابحه (حوالي 5000) يتقازم أمام عدد المختفين في معتقلات الحكومة (127 ألف) حيث يشيع الاعتداء الجنسي كذلك. (وكلا الرقمين على الأرجح أقل من الواقع).

في 2016، أتيحت لي فرصة طرح سؤال حول قضية المعتقلين على الأسد مباشرة، خصوصًا أولئك الذين لم تتم إدانتهم بارتكاب العنف. كرر قوله بأن أي شخص في السجن قد ارتكب جريمة، وأن هناك نظامًا قضائيًا فعالًا يحكم البلاد. ثم سألته عن سجناء معينين اختفوا بكل بساطة بعد اعتقالهم من قبل قوات الأمن، مثل عادل برازي، أخو صديق قديم لي، يسأل أهله السلطات عن مكانه منذ سنوات. توتر الأسد وقال إنهم يكذبون أو عليهم أن يستمروا في السؤال، رغم أن أهالي المعتقلين تعرضوا في بعض الأحيان للاعتقال فقط لسؤالهم عن ذويهم.

قررت أن علينا أن نجمع أدلة أكثر قطعية، لتحريك القضية بعيدًا عن أسلوب الأسد “فلان قال وفلان نفى”. وبمرور الوقت، اختفى المزيد والمزيد من المعتقلين، لكن في نفس الوقت أصبح التوثق من صحة قصص الناجين ممكناً أكثر. وتدريجيًا تمكن أشخاص كثر من إخراج عائلاتهم بأكملها من سوريا، وأصبحوا راغبين في تسجيل شهاداتهم بأسمائهم الكاملة. شجعت قصص الناجين من الاغتصاب والتعذيب السادي التي وردت في تحقيقنا، عشرات آخرين ممن تحدثوا علانية أو خفية.

قضيت مع زملائي أسابيع منهكة في تركيا وألمانيا ولبنان، للاستماع لساعات من شهادات الناجين وربطها ببعضها البعض. كان أحد الناجين في مدينة دوسلدورف الألمانية، وكان الخوف والتوتر لا يزالان يملآن عينيه، راغبًا بشدة في إخبارنا قصته ومساعدة الآخرين، إلى درجة أنه ظل يروي لنا التفاصيل حتى تحرك قطارنا من المحطة.

وقد اكتسبت مهارات جديدة في التغطية الصحفية للناجين من الصدمات عبر زمالة حضرتها في مركز دارت للصحافة والصدمات عن كيفية إجراء مقابلات حساسة دون التضحية بالدقة والمصداقية.

ومع الوقت أصبحت القضية أكثر إلحاحًا بسبب صعود السلطوية وتزايد معدلات الاعتقالات الجماعية على مستوى العالم. ركز الكثير من السوريين الذين يريدون دولة مدنية علمانية، ومن بينهم من خاطروا بحياتهم سابقًا لتوثيق القصف، جهودهم أكثر فأكثر على توثيق الاعتقالات.

لذا بدأت المنظمات السورية والدولية في دمج جهود التوثيق. إحدى هذه المجموعات، وهي مفوضية العدالة الدولية والمساءلة، فحصت ما يقرب من 800 ألف وثيقة للحكومة السورية. من بينها وثائق تعرض أوامر باعتقالات جماعية للمتظاهرين وكذلك نقاشات بين مسؤولي الأجهزة الأمنية حول التعذيب المميت والإهمال داخل النظام، وهي الوثائق التي تمكنت أخيرًا من إقناعهم بعرضها علي.

من بين أهم اكتشافاتي في ملفاتهم كانت وثائق تدعم شهادة مريم خليف، التي أخبرتنا أنها تعرضت لاغتصاب ممنهج من قبل رئيس المحققين في منشأة اعتقال. وقد ذكرتها إحدى الوثائق الحكومية بالاسم كمعتقلة. ووثائق أخرى تظهر أن الرجل الذي ذكرت اسمه هو قائد في ذلك المكان بالفعل. وقد أخبر شاهد آخر المفوضية عن تعرضه لنفس المعاملة من قبل نفس الرجل في نفس المنشأة خلال نفس الفترة.

كنت واحدة من صحفيين قلائل تحدثوا مباشرة مع قيصر، عبر سكايب، وعلمت بشأن المزيد من الوثائق التي هربها والتي توثق موت معتقلين عرفت هوياتهم بعد أن تعرف عليهم أهلوهم في الصور.

اخترنا أن نورد في تحقيقنا شهادات الناجين التي تعضدها شهادات مماثلة من قبل ناجين من نفس منشآت الاعتقال، وتعززها وثائق بحوزتهم أو وثائق مهربة من الحكومة السورية. وفي النهاية لا تمثل قصصهم هذه إلا قمة جبل الجليد.

وما زال عادل برازي مفقودًا. فيما ماتت أمه مؤخرًا قبل أن تسمع عنه أي خبر.

الترا صوت

نظرة من داخل المخابرات السورية

ليست أجهزة الأمن والمخابرات في سوريا خفية عن الأنظار، بل إنها كانت ولا تزال حاضرة في كل تفصيل يعيشه السوريون، لكن هذه الاستباحة العلنية تترافق دوماً مع غموض تام في آليات عمل هذه الأجهزة وعالمها الداخلي؛ ما هي طبيعة العلاقة التي تجمع هذه الأجهزة ببعضها بعضاً؟ كيف تصدر الأوامر وكيف يتم تنفيذها؟ ومن هم المسؤولون فعلياً عن رسم السياسات وتقرير الأساليب؟ وما هي الحدود الفاصلة بين ما هو منظم وما هو عشوائي؟

لدينا تخمينات عن كل ذلك بالطبع، وكلنا نعرف أسماء مثل علي دوبا ومحمد ناصيف وعلي مملوك وجميل الحسن، وكلنا نعرف أن هذه الأجهزة تتعاون حيناً وتتنافس حيناً آخر، وأنها تعتمد في الأساس على بث الخوف والرعب وزرع المخبرين والمراقبة والتنصت، وأنها تمارس أعمالها دون أي ضوابط قانونية من أي نوع، لكن لطالما افتقرت هذه السرديات التي يعرفها كثيرٌ من السوريين إلى الأدلة الملموسة، التي عمل نظام الأسد على إخفائها بحذر شديد طوال فترة حكمه.

ينشر المركز السوري للعدالة والمساءلة اليوم تقريراً هو الأول من نوعه، من حيث أنه مبنيٌ على تحليل آلاف الوثائق المستخرجة من مقرات أمنية تابعة للنظام، مُقدِّماً من خلالها تصوراً عن آلية عمل وتفكير الأجهزة الأمنية في سوريا، وعن كيفية تعاطيها على عدة مستويات مع الثورة السورية، والأساليب التي اتبعتها في مراقبة السوريين وقمعهم.

يحمل التقرير عنوان «للجدران آذان: تحليل وثائق سرية من أجهزة الأمن السورية»، وقد جاء نتيجة عمل استمر خمسة عشر شهراً، تم خلالها ترتيب وحفظ وتحليل وثائق استطاع فريق المركز السوري للعدالة والمساءلة تهريبها من مقرات أمنية خرجت عن سيطرة النظام في مدن الرقة والطبقة وإدلب، بالإضافة إلى وثائق جمعتها اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة من داخل مقرات الأجهزة الأمنية، بحيث باتت العينة التي يستند إليها التقرير تتضمن آلاف الصفحات من وثائق جمعت من محافظات الرقة وإدلب والحسكة ودير الزور ودرعا، ما قاد إلى تركيب جزء مهم من الأحجية التي تشكل الصورة الكبيرة لمنظومة المخابرات في ظل نظام الأسد.

تتناول وثائق العينة التي اعتمد عليها التقرير عدة أجهزة أمنية وأجهزة عسكرية ذات طبيعة أمنية، هي شعبة المخابرات العسكرية، ومكتب الأمن القومي الذي بات يحمل اليوم اسم مكتب الأمن الوطني، والإدارة العامة للمخابرات المعروفة باسم أمن الدولة، وإدارة المخابرات الجوية، وجهاز الشرطة، وشعبة الأمن السياسي، والهيئة العامة للأركان.

وتتعلق هذه الوثائق بعمليات اعتقال وتنصت ومراقبة خارج إطار القانون، وتوجيهات حول كيفية التعامل مع المتظاهرين أو كيفية مواجهة نشاطات متنوعة مناهضة للنظام، وتشرح جوانب من عمل هذه الأجهزة على التحكم بمجالات عدة من حياة السوريين من بينها المجال الاقتصادي، وتقدم تصوراً أولياً عن كيفية إصدار الأوامر والقرارات وتعميمها.

وإذا كان التقرير يقول إنه لا يتضمن افتراضات حول الهيكلية والتسلسل القيادي، إلا أن الوثائق التي يستند إليها تشرح بوضوح كيف أن الأجهزة الأمنية لا تلتزم بأي قانون أو تسلسل هرمي واضح، ذلك أنها لا تشير إلى أي مذكرات أو أنظمة أو أسس قانونية تبرر الأوامر، كما أنها تتضمن أوامر بتنفيذ أعمال عسكرية، صادرة عن أجهزة يفترض أنها تابعة إدارياً لوزارة الدفاع، لكن دون الرجوع إلى الوزارة.

ويتضمن التقرير ما يمكن اعتباره دليلاً على محاولة صياغة الأوامر والتعليمات بطريقة تفتح الباب أمام التنصل من المسؤولية في أي محاكمات مستقبلية، من خلال عدم وضوح الأوامر وترك المجال مفتوحاً لتطبيقها بشكل استنسابي، وهو ما يعتبره التقرير أحد التفسيرات الممكنة لتفاوت التعامل مع التظاهرات والاحتجاجات من منطقة إلى أخرى. ويتم شرح المسائل في كثير من الوثائق مع توجيه أمر بـ «إجراء اللازم»، دون تحديد مضمون الإجراء «اللازم» اتخاذه، حتى أن ثمة وثائق ممهورة بأختام وتواقيع عديدة، وفيها عبارة واحدة فقط هي «إجراء اللازم» دون تحديد فحوى المسألة.

ولكن رغم هذا، فإن ثمة وثائق تدين الضباط والقياديين الموقعين عليها بوضوح لا يقبل اللبس في أي محاكمات مستقبلية، من بينها وثائق تتضمن توجيهات باستخدام القوة المميتة بشكل عشوائي ضد أهداف مدنية، أو تتضمن أوامر بالكف عن استخدام القوة المميتة ضد متظاهرين في منطقة معينة أو بالكف عن سرقة قوافل الإغاثة الإنسانية، ما يعني أن هذه الممارسات كان مسموحاً بها في الأحوال الاعتيادية.

يقول محمد العبد الله، مدير المركز السوري للعدالة والمسائلة، للجمهورية: «إن الأدلة الواردة في الوثائق هامة جداً لمقاضاة مسؤولي النظام أمام المحاكم الأوروبية أو أمام محكمة دولية في المستقبل، لذلك سنعمل على نقل البيانات إلى الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التابعة للأمم المتحدة، على أمل تفعيل استخدامها في محاكمات المستقبل».

كذلك يُتيح حفظ هذه الوثائق مادة كبيرة للبحث في بنية الأجهزة التي حكمت سوريا طوال خمسة عقود، والمدى الذي وصلت إليه في التدخل بحياة السوريين، ويُظهر بوضوح أهمية تفكيك تلك البنية للوصول إلى حل سياسي مقبول في سوريا، وفي هذا الخصوص يقول العبد الله: «أعتقد أنها (الوثائق) تعطي الصورة الأوضح على الإطلاق عن تركيبة أجهزة الأمن، طريقة عملها، علاقتها مع بعضها بعضاً ومع الشعب السوري»، مؤكداً أن مزيداً من الوثائق سيقدم صورة أفضل، لكن هذا ليس متاحاً اليوم.

ربما لا تكون التصورات التي خلص إليها التقرير غريبة على السوريين، لكن الجديد فيها هو توثيق هذه التصورات وتأكيدها بالأدلة الورقية، وتقديم رؤية دقيقة مبنية على دراسة مستفيضة لأسرار ووثائق أدوات التوحش التي تحكم السوريين، وإتاحة مزيد من معرفة الجزء الغارق من جبل الجليد الأمني الذي مكث على صدورنا طويلاً، والذي لن نتمكن من إزاحته سوى بتفكيك معاقل قوته الرئيسية التي يجب أن نعرف عنها أكثر.

موقع الجمهورية

للجدران آذان: وثائق أمنيّة سوريّة بقبضة الشعب/ مايا العمّار

عندما انسحب ضبّاط الأمن السوريّون من مرافق المخابرات والفروع الأمنيّة في الرقّة والطبقة وإدلب، كان الخوف على الوثائق الأمنية، ربّما، آخر ما يراودهم. حينها، نفضوا غبار الملفّات عنهم. فإمّا لم يكترثوا بما خلّفوا وراءهم، أو فاتهم حتّى التفكير بآلاف السجلّات الأمنيّة التي استلموها أو وقّعوها ووثّقوا فيها قرارات رصد مجموعات وأفراد واعتقالهم وقمعهم و”إجراء اللّازم” بحقّهم. تلك السجلّات نفسها التي يُرتقب تُستخدم، يوماً ما، كأدلّةٍ دامغةٍ على انتهاك المسؤولين السوريّين لحقوق الإنسان وارتكابهم جرائم ضد الإنسانيّة وجرائم حرب بحقّ الشعب السوري الذي لا يزال ينتظر خبراً من رُسُل العدالة.

منذ عام 2013، سعى “المركز السوري للعدالة والمساءلة” و”لجنة العدالة والمساءلة الدوليّة” إلى سحب الآلاف من الصفحات والملفّات من مراكز أمنيّة تركها عناصرها، وعملا على إنقاذها وحفظها، لتُستثمر في خدمة آليّات العدالة القائمة وأقسام الادّعاء العام التي تُمسك بقضايا ضبّاط سوريّين كبار متّهمين بجملةٍ من الانتهاكات وجرائم الحرب، كما هو حاصل في فرنسا وألمانيا بموجب مبدأ “الولاية القضائية العالميّة”.

استطاع المركز السوري الاحتفاظ بحوالي 438،000 صفحة ممسوحة ضوئياً من وثائق أُخذت من مرافق حكوميّة. وشمل تحليله الذي وردت نتائجه في تقريره الجديد “للجدران آذان: تحليل وثائق سريّة من أجهزة الأمن السوريّة“، عيّنة تتألّف من أكثر من 5000 صفحة يعود معظمها لما بعد عام 2011، ويتبيّن أنّها صادرة بشكل أساسي عن 8 فروع تابعة لجهازَين رئيسَين، هما: الهيئة العامة للأركان وشعبة المخابرات العسكريّة. تُشكّل تلك الوثائق أرضيّةً ثمينة لعمل آليّات العدالة الدوليّة، بما فيها “الآليّة الدوليّة والمحايِدة والمستقلّة” التي تنادي منظّمات حقوقيّة بإنعاشها وتفعيل دورها.

ومن أهمّ النتائج التي كشفها التقرير، تورّط “أعلى مستويات الحكومة السوريّة” في جرائم حرب وارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وثبوت اطّلاع شخصيّات رفيعة المستوى “على الاحتجاز غير المبرَّر للنساء والأطفال”، وأوامرها التي قضت “باستخدام القوّة المميتة ضد المدنيّين”، واضطهاد الأقليّات ومراقبتها وترهيبها، خاصّة الكرديّة منها، وتأخير الشحنات الإغاثيّة أو تحويلها عن مسارها.

في هذا الإطار، قال محمّد العبدالله، المدير التنفيذي “للمركز السوري للعدالة والمساءلة” إنّها “المرّة الأولى في تاريخ سوريا التي يتمّ فيها الكشف عن أدلّة متعلّقة بأعلى مستويات الحكومة السوريّة”، مشدّداً على وجوب تعامل الدول مع بند إصلاح القطاع الأمني كشرطٍ مُسبَق لتقديم أموال إعادة الإعمار. كما لفت العبدالله إلى وجوب أن يعطي مبعوث الأمم المتّحدة الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، الأولويّة إلى الإصلاح الفعلي لقطاع الأمن من خلال “دمج السيطرة المدنيّة على مؤسّسات القطاع المدني وإبعاد القطاع الأمني عن الجوانب اليوميّة للحياة المدنيّة”.

يأمل الباحثون والحقوقيّون أن تشكّل الوثائق المجموعة مرجعاً يخدم الإصلاح المؤسَّسي، لما توفّره من معطياتٍ ومؤشّراتٍ دقيقة ترسم صورةً لطريقة عمل شبكة الأمن السوري المعقّدة بمختلف أجهزتها المخابراتيّة ومكوّناتها المُتنافِسة. أمّا الأهميّة الكبرى لهذه الصفحات، فتكمن في مساهمتها القيّمة والضروريّة في عمليّة حفظ الذاكرة السوريّة والسجلّات التاريخيّة، وفي تشكيلها أساساً صلباً للمحاكمات الدوليّة، على غرار محاكمات نورنبرغ التي استندت إلى آلاف الأوراق التي خلّفها الضبّاط النازيّون، ومحاكمة سلوبودان ميلوسيفيتش في المحكمة الجنائيّة الدوليّة الخاصّة بيوغوسلافيا السابقة، ومحاكمات الخمير الحمر في كمبوديا، وغيرها من المحاكمات والآليّات الدوليّة للمحاسبة.

شملت الوثائق التي تناولها وحلّلها تقرير المركز السوري ممارسات ومواضيع عديدة قامت بها الدولة السوريّة، ينضوي معظمها تحت عناوين مثل “عمليّات الرصد والمراقبة، المعتقلون وقوائم المطلوبين، قواعد الاشتباك، الاعترافات بارتكاب جرائم محتلمة، قمع الأكراد والأقليات الأخرى، والتنبّؤات المستقبليّة والمؤامرات”.

في ما يتعلّق بالصفحات المُصنّفة تحت عنوان “قمع الأكراد”، فقد حدّد المركز السوري 349 صفحة ذُكر فيها الأكراد أو أنشطة خاصّة بهم، ممّا يدلّ إلى تدخّل حكومي قوي في حياة الأكراد، ورغبة رسميّة بقمعهم وتطويعهم. ويعزو التقرير عدم وضع اليد على وثائق تتعلّق بأقليّات أخرى إلى طبيعة المواقع التي أُخذ منها العدد الأكبر من الوثائق والتي تتضمّن أعداداً أكبر من الأكراد؛ بالإضافة إلى كون المجتمع الكردي أكثر تنظيماً، مقارنةً بالأقليّات الأخرى، وله تاريخ أطول في تنظيم الأنشطة من خارج جناح منظومة البعث السوريّة.

أمّا بالنسبة إلى قوائم المطلوبين والمعتقلين، فقد شكّلت الصفحات الأمنيّة ذات الصلة بهذه المسألة 11% من العيّنة المدروسة، ودلّت محتوياتها إلى الانتشار الكثيف للمُخبرين وشيوع ممارسات الوشاية والاعتقال الجماعي وأوامر توقيف ضبّاط منشقّين، وبالطبع، متظاهرين وصحافيّين وحقوقيّين ومواطنين مارسوا حقّهم البديهي بالتنظيم أو الدعوة أو التعبير، أو ضغط نقرة “أتيندينغ” على فيسبوك… وإذا كان بعضُ هؤلاء اعتُقلوا بتهمة “شتم الرئيس خلال دعوة عشاء”، فجميعهم وُضعوا في الخانة نفسها مع أفراد الجماعات المسلّحة، والجماعات المتطرّفة، بوصفهم “عناصر تحريضيّة”.

فضلاً عن ذلك، أثبتت الوثائق حالات اعتقال طالت عدداً من الأطفال، حيث يظهر في إحدى الأوراق طلبٌ صادر عن رئيس شعبة الأمن السياسي في دمشق بالحصول على أسماء النساء والأطفال المحتجزين في الفرع المحلّي:

تضمّنت الصفحات الخاصّة بالمعتقلين بعض الأسماء الواردة في القوائم الحكوميّة، اتّضح أنّها غير واردة في القوائم التي بحوزة المنظّمات غير الحكوميّة، الأمر الذي يعكس، مرّةً أخرى، ضرورة إحراز تقدّم في هذا الملفّ ومسؤوليّة النظام في الكشف عن اللّوائح بأسماء المعتقلين في مراكزه ومواقعهم وحالاتهم الراهنة، وإعلام ذويهم بمصائرهم.

بين آذار 2011 وآذار 2019، وصل عدد المعتقلين تعسّفاً والمخفيّين قسراً الذي وثّقته بعض الجهات المدنيّة، وفق موقع الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان، إلى 143176 شخص، 90% منهم يتحمّل النظام السوري مسؤولية اعتقالهم أو اختفائهم. وقد جاء اعتقال عدد من هؤلاء كوسيلة لردعهم عن المشاركة في التحرّكات الشعبيّة وتخويف كلّ من تخطر له المشاركة، وتقليل عدد المتظاهرين تجمّعاً تلو الآخر، وبالتالي، توهين الثورة برمّتها.

حين اجتاحت التظاهرات الشعبيّة العالم العربي بدءاً من تونس ومصر واليمن، هزأ الكثيرون ممّن فكّر حتّى باحتمال وصول موجة الاحتجاجات إلى سوريا، لأنها، ببساطة، سوريا الأسد. وحين قرّر حقوقيّون وباحثون توثيق ما أمكنهم من مستندات تُثبت ارتكاب نظام الأسد بأخطبوطه الأمني انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان وقوانين الحرب، لم يخلُ الأمر من ردود متهكّمة ومشكِّكة بفائدة هذا العمل في ظلّ عدالة دوليّة شبه معطّلة ودولٍ تترقّب من تحت الطاولة فرصتها الذهبيّة لحجز مقعد لها في حفلة إعادة الإعمار. لكنّ الاحتجاجات حصلت بالفعل، وبكثافة، والتوثيق آخذٌ مجراه، وبانتظام.

محاكمات نورنبرغ التي نجم عنها سنة 1946 محاكمة 24 مسؤولاً ألمانيّاً نازيّاً، درّب فيما بعد زملاءٌ لهم عناصرَ وأجهزةً في القوّات المسلّحة السوريّة في عهد حافظ الأسد، ليست بالذكرى البعيدة. الصيغ والمبادئ وآليّات المحاكمة اختلفت طبعاً. أمّا علّة الوجود، فما زالت قائمة، ولازمة، ومُمكنة… ولو تُرجمت بعد حين.

درج

كان نظام السجون جزءاً لا يتجزأ من المجهود الحربي الذي قام به (الأسد)، لسحق حركة الاحتجاج المدني ودفع المعارضة إلى صراع مسلح لم تستطع الفوز به
*مع العدالة
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز_ The New York Times” الأمريكية اليوم تحقيقاً حول السجون السرية في سورية، ومنها سجن صيدنايا العسكري، الذي ذاع صيته السيئ خلال سنوات الثورة السورية؛ حيث وصفته منظمة العفو الدولية بــ”المسلخ البشري”. وقد وثّقت منظمات حقوقية وغيرها من منظمات دولية وإقليمية تعنى بالشأن الإنساني العديد من الشهادات التي تؤكد عمليات التصفية الجسدية والقتل الممنهج التي ترتكبها قوات النظام في هذا السجن بحق الآلاف من السوريين الذين خرجوا منذ عام 2011 ضمن الحراك السلمي ضد الطاغية بشار الأسد ورموز سلطته الأمنيين والعسكريين.
يذكر التحقيق أن ضبّاط الأمن السوريين قد علّقوا المعتقل “مهند غباش” من معصميه لساعات طويلة، وقاموا بضربه بطريقة دموية، وصدموه بالكهرباء ووضعوا مسدساً في فمه لترهيبه.
السيد غباش، طالب قانون من حلب، اعترف مراراً وتكراراً بجريمته تحت التعذيب: تنظيم احتجاجات سلمية مناهضة للحكومة. لكن التعذيب استمر لمدة 12 يوماً، حتى لفقت له تهمة التخطيط لتفجير. وقد قال إن ذلك مجرد بداية.
ويذكر المعتقل بحسب التحقيق أن تم نقله إلى سجن مزدحم في قاعدة المزة الجوية ضمن العاصمة السورية دمشق، حيث قال إن الحراس قاموا بتعليقه هو وغيره من المعتقلين على سياج حديدي وهم عراة، ورشهم بالماء في الليالي الباردة. وللترفيه عن زملائه في وقت العشاء، قال هو وغيره من الناجين، إن ضابطاً يطلق على نفسه اسم “هتلر” أجبر السجناء على التصرف في أدوار الكلاب والحمير والقطط، وضرب أولئك الذين فشلوا في النباح أو التقليد بشكل صحيح.
ويقول “غباش” في شهادته لـ”نيويوك تايمز – The New York Times” إنه في مستشفى عسكري، شاهد ممرضة تضرب وجه شخص مبتورة أطرافه وهو يتوسل إليها من أجل مسكنات الألم. وفي سجن آخر، قام بإحصاء 19 من زملائه الذين ماتوا بسبب المرض والتعذيب والإهمال في شهر واحد.
قال السيد غباش، 31 سنة، الذي نجا بعد 19 شهراً من الاعتقال حيث قام برشوة أحد القضاة لإطلاق سراحه: “كنت محظوظًا”.
وبحسب التحقيق أنه مع اقتراب (الرئيس السوري بشار الأسد) من الانتصار على انتفاضة دامت ثمانية أعوام ، كانت الاعتقالات التعسفية وسجون التعذيب من الأمور المحورية في نجاحه. بينما قاتل (الجيش السوري)، المدعوم من روسيا وإيران، المعارضة المسلحة من أجل استعادة الأراضي المحررة؛ حيث شنت الحكومة حرباً قاسية على المدنيين، وزجّت بمئات الآلاف في زنزانات قذرة تعرض داخلها آلاف السوريين للتعذيب والقتل.
ويشير التحقيق إلى إحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان بأن ما يقرب من 128.000 سوري لم يخرجوا، ويفترض إما ماتوا أو مازالوا رهن الاعتقال. حيث قتل ما يقرب من 14000 “تحت التعذيب”.
يموت الكثير من السجناء في ظروف مزرية لدرجة أن تحقيقاً للأمم المتحدة وصف ذلك بعملية “إبادة”.
ويذكر تحقيق “نيويوك تايمز- The New York Times” أن مع مشارفة الحرب على الانتهاء، يتلاشى انتباه العالم وتبدأ البلدان في تطبيع العلاقات مع حكومة النظام السوري، ووتيرة الاعتقالات والتعذيب والإعدام الجديدة في ازدياد. وصلت الأرقام إلى ذروتها في أكثر السنوات الأولى دموية للنزاع، لكن في العام الماضي سجلت الشبكة السورية 5،607 عملية اعتقال جديدة تصنفها على أنها تعسفية – أكثر من 100 أسبوعياً وحوالي 25٪ أكثر من العام السابق.
وقد قام المعتقلون مؤخراً بتسريب تحذيرات من إرسال المئات إلى مواقع الإعدام في سجن صيدنايا، وأفاد السجناء المفرج عنهم حديثاً بأن عمليات القتل هناك تتسارع.
ويؤكد التحقيق بأن عمليات الاختطاف والقتل التي ارتكبتها (الدولة الإسلامية) جذبت مزيداً من الاهتمام في الغرب، لكن الذي يحصل في السجون السورية يفوق عدد الارتكابات والجرائم التي قام بها تنظيم “داعش” في سورية. يمثل الاحتجاز الحكومي حوالي 90 بالمائة من حالات الاختفاء التي سجلتها الشبكة السورية.
أنكرت الحكومة السورية وجود سوء معاملة منهجي.
ومع ذلك، فإن المذكرات الحكومية المكتشفة حديثاً تظهر أن المسؤولين السوريين الذين يقدمون تقارير مباشرة إلى (الأسد) أمروا بالاحتجاز الجماعي وهم على علم بالفظائع.
ويحمل التحقيق المسؤولية المباشرة للصف الأول من قيادات النظام السوري الأمنيين والعسكريين حيث يقول” وجد محققو جرائم الحرب لدى لجنة العدالة والمساءلة الدولية غير الربحية مذكرات حكومية تأمر بقمع ومناقشة حالات الوفاة في الحجز. تم توقيع المذكرات من قبل كبار المسؤولين الأمنيين، بمن فيهم أعضاء اللجنة المركزية لإدارة الأزمات، والتي تقدم تقاريرها مباشرة إلى بشار الأسد.
تعترف مذكرة استخبارات عسكرية بحالات الوفاة الناجمة عن التعذيب والظروف القذرة. وتشير مذكرات أخرى إلى وفاة معتقلين، تم تحديد بعضهم فيما بعد في صور لآلاف الجثث التي تم تهريبها من قبل منشق من الشرطة العسكرية. تسمح المذكرتان بمعاملة “قاسية” لمعتقلين محددين.
وتشير مذكرة من رئيس الاستخبارات العسكرية، رفيق شحادة، إلى أن المسؤولين يخشون الملاحقة القضائية في المستقبل: إنه يأمر الضباط بإبلاغه عن جميع الوفيات واتخاذ خطوات لضمان “الحصانة القضائية” لمسؤولي الأمن.
وفي السياق ذاته، يشير التحقيق إلى مقابلة تلفزيونية لــ “بشار الأسد” خلال عام 2016، أن الأخير شكك في صحة الناجين وإفادات عائلات المفقودين. ولدى سؤاله عن حالات محددة، قال: “هل تتحدث عن مزاعم أم أدلّة ملموسة؟”، وأشار إلى أن الذين قالوا إن رجال الأمن يعتقلون أبناءهم، هم كاذبون.
وقال أيضاً إن أي انتهاكات كانت أخطاء فردية لا مفرّ منها في الحرب.”الذي حدث هنا، يحدث في جميع أنحاء العالم، في أي مكان، لكنها ليست سياسة”.
وبحسب “نيويورك تايمز _ The New York Times” أنها أجرت على مدار سبع سنوات مقابلات مع عشرات الناجين وأقارب المعتقلين والمفقودين، واستعرضت الوثائق الحكومية التي تبين بالتفصيل حالات الوفاة في السجون والقمع على المعارضين، وفحصت مئات الصفحات من شهادات الشهود في تقارير حقوق الإنسان والملفات الصادرة عن المحاكم.
وتفيد روايات الناجيين الواردة هنا بأنها تتوافق مع روايات السجناء الآخرين المعتقلين في نفس السجون، وتدعمها المذكرات الحكومية والصور المهربة من السجون السورية.
كان نظام السجون جزءاً لا يتجزأ من المجهود الحربي الذي قام به (الأسد)، لسحق حركة الاحتجاج المدني ودفع المعارضة إلى صراع مسلح لم تستطع الفوز به.
وفيما يخص شهادات الوفاة التي أصدرها نظام الأسد لذوي المعتقلين أن الحكومة السورية اعترفت ضمنياً في الأشهر الأخيرة بأن مئات الأشخاص قد ماتوا في الحجز. وتحت ضغط من موسكو، أكدت دمشق مقتل ما لا يقل عن عدة مئات من الأشخاص المعتقلين من خلال إصدار شهادات الوفاة أو إدراجهم في عداد الوفيات في ملفات تسجيل الأسرة. وقال مؤسس الشبكة السورية، “فاضل عبد الغني”، إن الخطوة بعثت برسالة واضحة للمواطنين: “لقد فزنا، لقد فعلنا هذا، ولن يعاقبنا أحد”.
وكما ينقل التحقيق، أنه لا يوجد أمل كبير في مساءلة كبار المسؤولين في أي وقت قريب. ولكن هناك حركة متنامية تسعى إلى تحقيق العدالة من خلال المحاكم الأوروبية. ألقت النيابة العامة الفرنسية والألمانية القبض على ثلاثة مسؤولين أمنيين سابقين وأصدرت أوامر اعتقال دولية لمدير الأمن القومي السوري، “علي مملوك”؛ ومدير المخابرات الجوية “جميل حسن”. وغيرها للتعذيب وقتل المواطنين السوريين أو سكان تلك البلدان.
مع ذلك يبقى (الأسد) ومعاونوه في السلطة، في مأمن من الاعتقال، تحميه روسيا بقوتها العسكرية وبحق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. في الوقت نفسه، تستعيد الدول العربية علاقاتها مع دمشق، وتدرس الدول الأوروبية النهج ذاته.
إن الإفلات من العقاب ليس مشكلة سورية داخلية فقط. من دون إصلاحات أمنية، من غير المحتمل أن يعود اللاجئون السوريون الخمسة ملايين في الشرق الأوسط وأوروبا إلى ديارهم بسبب خطر الاعتقال التعسفي. وفي عصر الاستبداد من أقصى اليمين الأوروبي إلى المملكة العربية السعودية، أظهر “الأسد” أن أقصى درجة من العنف ضد المعارضة المدنية يمكن أن تكون استراتيجية رابحة.
وقال مازن درويش، المحامي السوري في مجال حقوق الإنسان، في برلين، حيث ساعد المدعين العامين: “هذا لن يبقى في سوريا”. ينسى الناس ما هي الديكتاتورية، لأن لدينا 70 سنة من السلام بعد الحرب العالمية الثانية. لكن حقوق الإنسان ليست في الحمض النووي للدول أو السياسيين “.وقال “العدالة ليست ترفاً سورياً “. “إنها مشكلة العالم.”
يشرح التحقيق ماهية النظام السوري وتركيبته الأمنية القديمة منذ الدكتاتور الأب “حافظ الأسد”؛ حيث سحق الأسد الأب في عام 1982 انتفاضة الإخوان المسلمين في حماة، وقام بتسوية جزء كبير من المدينة على الأرض، واعتقل عشرات الآلاف من الناس: الإسلاميين والمعارضين اليساريين والسوريين المدنيين بشكل عشوائي.
وعلى مدى عقدين من الزمن، اختفى حوالي 17000 محتجزاً بسبب نظام اتبع أساليب تعذيب استعارها من المستعمرين الفرنسيين والديكتاتوريين الإقليميين وحتى النازيين: ومن بين مستشاريها الأمنيين ألويس برونر وأدولف إيخمان.
عندما ورث بشار الأسد والده في عام 2000، أبقى على نظام وعمليات الاعتقال والترهيب، ولم يغيّر شيئاً.
أما عن تصنيف الجهات الأمنية والعسكرية التابعة للنظام السوري، يذكر التحقيق أسماء المديريات؛ بأن لكل مديرية من مديريات الاستخبارات الأربع السورية – العسكرية والسياسية والجوية وأمن الدولة – فروع محلية في جميع أنحاء سورية. معظمهم لديهم سجونهم الخاصة. وقد وثقت CIJA المئات منها.
لقد كان اعتقال وتعذيب العديد من المراهقين في مارس 2011، بسبب الكتابة على الجدران التي تنقد بشار الأسد، هو الذي دفع السوريين للانضمام إلى الثورة السلمية. حيث انتشرت المظاهرات احتجاجاً على معاملتهم في درعا ، مما أدى إلى مزيد من الاعتقالات، الأمر الذي حفز المزيد من الاحتجاجات وانتشارها في كافة المدن السورية.
انضم عدد كبير من المعتقلين من جميع أنحاء سورية إلى المعارضين الحاليين في سجن صيدنايا. قال “رياض أولر” ، المواطن التركي الذي اعتقل لمدة 20 عاماً، بعد اعتقاله في عام 1996 بصفته طالباً يبلغ من العمر 19 عاماً، إن المعتقلين الجدد هم “من المراهقين، إلى الفلاح إلى المهندس إلى الطبيب وجميع فئات السوريين”.
يقول رياض، زاد التعذيب، وتعرض الوافدون الجدد للاعتداء الجنسي، وضُربوا على الأعضاء التناسلية، وأجبروا على ضرب بعضهم البعض أو حتى القتل.
لا أحد يعرف بالضبط عدد السوريين الذين اعتقلهم النظام منذ ذلك الحين؛ جماعات حقوق الإنسان يقدرون الأعداد بمئات الآلاف إلى مليون. النظام لا ينشر بيانات السجن.
وبكل المقاييس، تجاوز النظام تدفق المعتقلين. ونقل بعض المعتقلين السياسيين إلى سجون عادية. وأنشأت قوات الأمن والميليشيات الموالية للحكومة زنزانات مؤقتة في المدارس والملاعب والمكاتب والقواعد العسكرية ونقاط التفتيش.
من المحتمل أن تكون حصيلة الشبكة السورية التي تضم 127،916 شخصاً معتقلين لدى النظام حالياً دون حساب. العدد، وهو عدد من الاعتقالات التي أبلغت عنها أسر المعتقلين وشهود آخرين، لا يشمل الأشخاص الذين أُفرج عنهم فيما بعد أو تأكد موتهم. وبسبب سرية النظام السوري، لا أحد يعرف عدد الذين ماتوا في الحجز، ولكن تم تسجيل الآلاف من القتلى في المذكرات والصور.
ضابط سابق في الشرطة العسكرية، يعرف فقط باسم “قيصر” لحماية سلامته، وكانت مهمته تصوير الجثث. لقد فرّ من سورية بصور لما لا يقل عن 6700 جثة، على هيئة هياكل عظمية، والتي صدمت العالم عندما ظهرت في عام 2014.
لكنه قام أيضاً بتصوير المذكرات على مكتب رئيسه وهو يبلغ الوفيات لرؤسائه. مثل شهادات الوفاة الصادرة مؤخراً، تدرج المذكرات سبب الوفاة على أنه “سكتة قلبية”.
قال درويش، يبدو أن السجون أصيبت بوباء غريب من أمراض القلب. وقال “بالطبع، عندما يموتون، تتوقف قلوبهم”.
جولة تعذيب
“غباش”، أحد منظمي المظاهرات من حلب، نجا من التعذيب في 12 فرع أمني على الأقل، مما جعله يصف نفسه بـ “مرشد سياحي” للنظام. بدأت رحلته في عام 2011، عندما كان في الثانية والعشرين من عمره. وهو الابن الأكبر لمقاول بناء حكومي، استلهم من الاحتجاجات السلمية في ضاحية داريا بدمشق لتنظيم مظاهرات في حلب.
قُبض عليه في يونيو 2011، وأُفرج عنه بعد تعهده بوقف الاحتجاج.
يتذكر مبتسماً “لم أتوقف”.
وفي أغسطس/أب، ألقي القبض عليه مره أخرى-وهو نفس الأسبوع الذي تظهر فيه مذكرة من CIJA، أن كبار المسؤولين في نظام الأسد أمروا بقمع أشد صرامة، منتقدين “تراخي” سلطات النظام، ودعوا إلى مزيد من الاعتقالات “لأولئك الذين يحرضون الناس على التظاهر”.
عندما أطلقوا سراح سجناء سجن صيدنايا الأكثر تطرفاً، وهم إسلاميون قادوا فيما بعد جماعات مسلحة، كانوا يهدفون إلى التخلص من المعارضة المدنية. يقول مراقبون إنه يبدو أن كلتا الحركتين كانتا جزءًا من استراتيجية لتحويل الثورة إلى معركة مسلحة ،حيث يتمتّع “الأسد” وحلفاؤه بميزة عسكرية.
تتطابق رواية “غباش” عن كثب مع روايات الآخرين المعتقلين في الأفرع والسجون السورية، ووصف البعض ما هو أسوأ. شاهد أحد الناجين، الذي طلب عدم الكشف عن هويته لحماية عائلته التي ما تزال في سورية، مراهقاً بعد 21 يوماً من التعذيب، سكب المحققون عليه الوقود وأضرموا فيه النار.
واستكمالاً لرواية الغباش يضيف التحقيق، أتذكر “بيني وبين نفسي، لا أريد أن أعترف بشيء لم أفعله”. “خمسة أشخاص يسألون الأسئلة في وقت واحد. أنت بردان، أنت عطشان، شفاه ممتلئة بالدم، لا يمكنك التركيز. الكل يصرخ ويضرب “.
لقد استطاع وضع أظافر قدميه التي سقطت جراء التعذيب، وجلده المقشر بسبب الضرب في جيبه، وكان يحلم أن يرى القاضي. لكنهم في أحد الأيام أخذوا سرواله.
في اليوم الثاني عشر ، كتب اعترافاً. “اجعلها مقنعة”، أخبره النقيب ماهر. “هناك شخص يقودك. تخيل كيف يبدو. طويل القامة، قصير، سمين؟ “
وضع “غباش” في سيارة فضية و “رجل برفقته، طويل القامة، مع النظارات والشعر الخفيف”.
عقوبة سريالية
في مارس 2012، تم نقل غباش جواً إلى قاعدة المزة الجوية العسكرية، تقع جوار حي تم تسميتها به، وهو من أحياء دمشق الثرية.
بحلول ذلك الوقت، قال هو والعديد من الناجين، كان هناك نظام نقل على نطاق ممنهج بين السجون. تعرض المعتقلون للتعذيب في كل محطة من رحلاتهم، في طائرات هليكوبتر وحافلات وطائرات شحن. يتذكر البعض الركوب لساعات في شاحنات تستخدم عادة لنقل الطعام واللحوم، وهو معلق بذراع واحدة ، مقيد بالسلاسل إلى خطافات اللحم. كانت زنزانة غباش الجديدة نموذجية: طولها 12 قدماً وعرضها 9 أقدام ، وعادة ما تكون مزدحمة كثيراً، لدرجة أن السجناء يضطرون إلى النوم في نوبات.
خارج الزنزانة، كان رجل معصوب العينين ومكبل اليدين في الممر.
ازداد تعذيب السجون بوحشية وبربرية حيث حقق المعارضون في الخارج تقدماً وقصفت الطائرات الحربية الحكومية الأحياء الثائرة. يصف الناجون المعاملة السادية أو الاغتصاب أو الإعدام بدون محاكمة أو المعتقلين الذين تُركوا ليموتوا بسبب جروحهم وأمراضهم غير المعالجة.
غباش سرعان ما حصل على عقوبة خاصة به. تم استجوابه من قبل رجل يطلق على نفسه سهيل حسن – ربما سهيل حسن زمام، الذي كان يرأس سجون القوات الجوية، وفقاً لقاعدة بيانات حكومية مسربة – سأل عن كيفية قيام غباش بتنسيق التظاهرات. “انتخابات حقيقية”، يتذكر الرد. لقد أراد الناس فقط بعض الإصلاحات، لكنك استخدمت القوة. المشكلة هي إما أن نكون معك أو تقتلنا “.
وفاز بشهر من التعذيب الإضافي، وهو الأكثر غرابة في تجربة اعتقاله.
يقوم الحارس الذي أطلق على نفسه اسم “هتلر” بتنظيم عروض عشاء سادية لترفيه زملائه. قال السيد غباش إنه يحضر أنابيب المياه، “لإعداد الأجواء”. ويجعل بعض السجناء يركعون ليشكلوا هيئات طاولات أو كراسي. ويبدأ “هتلر” في المسرحية هذه بضرب المعتقلين.
قال غباش: “على المعتقل أن ينبح كالكلب أو يموء كالقط، أو يصيح كالديك”. “يحاول هتلر ترويضهم. عندما يرعى كلباً واحداً، يجب أن يظهر الكلب الآخر الغيرة”.
وكان من بين الحضور أيضاً سجناء، في زنازين مجاورة، بعضهم مشنوقون وهم معصوبو الأعين، وقد تم تعليق آخرين بالسلاسل. قال غباش إن بعض الحراس جعلوا هؤلاء يتوسلون معلقين، “يا سيد، أنا عطشان”، ثم يرشونهم بخراطيم المياه.
بعد أسابيع أو أشهر، حصل العديد من السجناء على ما يسمى بالمحاكمات التي تستغرق دقائق بدون محامين للدفاع. كان غباش في “محكمة ميدانية” عسكرية خلال عام 2012، استمع إلى قاضٍ انتقد إدانته، “الإرهاب الذي دمر الممتلكات العامة”، وعقوبته: الموت. وقال: “كانت المحاكمة بأكملها دقيقة ونصف”.
وتوقع أن يذهب إلى سجن صيدنايا الذي كان آنذاك مركز إعدام جماعي. تم إعدام الآلاف هناك بعد محاكمات موجزة، وفقاً لتقرير منظمة العفو الدولية.
كانت آخر فترة قضاها غباش في سجن مؤقت تحت الأرض بالقرب من دمشق، وهو مخبأ عسكري للفرقة الرابعة، وهي فرقة تعد من النخبة، تابعة لماهر الأسد شقيق رأس النظام. يتذكر الناجون، الضباط الذين يحملون شارات الفرقة الرابعة في وقت زياراتهم للسجن، لكن مخابرات القوات الجوية كانت تدير العمليات هناك بعد أن امتلأ سجن المزة، وفقاً لما ذكره الناجون وملفات CIJA.
ويقول مازن درويش، الذي نُقل أيضاً إلى هناك: “التعذيب لمجرد التعذيب”. “من أجل الانتقام، القتل، كسر الناس”.
يروي الناجون هذه القصص بكوميديا سوداء، فقط لأن الآخرين عانوا أسوأ. وقال غباش: “نعم، تعرضت للضرب ولعبت دور الكلب”. “لكن بعض الناس قتلوا أو اغتصبوا”.
الاغتصاب والاعتداء
لقد تعرضت النساء والفتيات للاغتصاب والاعتداء الجنسي داخل 20 فرعاً من أجهزة المخابرات، ومن رجال وصبيان في 15 من هذه الفروع، حسبما ذكرت لجنة تابعة للأمم المتحدة لحقوق الإنسان العام الماضي.
الاعتداء الجنسي هو سلاح ذو حدين في المجتمعات (الإسلامية التقليدية)، حيث يتم وصم الناجين في أغلب الأحيان بالعار. ولقد قتل بعض من الأقارب نساء محتجزات سابقات بذريعة ما يسمى جرائم الشرف، وأحياناً على افتراض أنهن تعرضن للاغتصاب، بحسب تقارير حقوق الإنسان والناجين.
مريم خليف، أم لخمسة أطفال، تبلغ من العمر 32 عاماً، تعرضت للاغتصاب مراراً وتكراراً أثناء احتجازها. قالت السيدة خليف إنها ساعدت المتظاهرين المصابين وأوصلت الإمدادات الطبية إلى المعارضة، وهي أعمال وصفتها الحكومة بالإرهاب.
في سبتمبر / أيلول 2012، قالت إن رجال الأمن اعتقلوها من منزلها. ضمن فرع أمن الدولة في حماه، قالت إن رئيس التحقيق قدم نفسه على أنه العقيد سليمان. تدل أرشيفات CIJA على أن السيدة خليف قد احتجزت وأن العقيد سليمان جمعة ترأس فرع حماه.
تتذكر فيما بعد داخل شقتها في تركيا: “لقد كان يأكل الفستق”. “ويبصق القشور علينا. لم يترك أي كلمة قذرة إلا واستخدمها بحقنا. “
وتقول”خليف” إنهم احتجزوها في زنزانة مساحتها ثلاثة أقدام مربعة مع ست نساء أخريات. علقها الحراس على الجدران وضربوها، وكسروا أسنانها. رأتهم يسحلون سجيناً يتضور من الجوع إلى المرحاض ويغمرون فمه بالبراز ، وهي طريقة يتذكرها الناجون الآخرون.
قالت “في منتصف الليل، كانوا يأخذون الفتيات الجميلات إلى العقيد سليمان للاغتصاب. أتذكر العقيد سليمان وعينيه الخضراوين”.
وتعرفت السيدة خليف على العقيد في صور جنازة ضابط أمن. ثم انهارت. وقالت إن العقيد وعناصره -رجال يرتدون ملابس رياضية- اعتدوا على النساء فوق سرير في غرفة مجاورة لمكتبه الذي كان مزيناً بصور بشار الأسد. وقاموا برش الضحايا بالمشروبات الكحولية، وهذه إهانة أخرى للمسلمين الذين امتنعوا عن الشرب.
وقالت إحدى الناجيات بشكل منفصل لمحققي الرابطة إنها اغتصبت من قبل العقيد جمعة في نفس الشهر وفي نفس السجن. وقد تتبعت عن كثب تفاصيل رواية السيدة خليف.
وحتى النساء اللواتي لم يغتصبن، فقد أبلغن عن الشتائم، والإهانات الجنسية، والتهديدات بالاغتصاب لانتزاع الاعترافات، و”عمليات التفتيش في المناطق الجنسية الحساسة”.
وفي أحد أفرع دمشق “285”، قال العديد من الناجين بشكل منفصل إن المحقق الذي أطلقوا عليه اسم “شرشبيل”، المسمى العربي لساحر الشر في أفلام الكرتون “السنافر”. كان يغطي رأس المعتقلة، ويشدها من شعرها وجسمها العاري أثناء الاستجواب.
وقالت إن عائلة السيدة خليف رفضتها بسبب ما اعتبروه فقدانها للشرف وتربيتها. شقيقها الموالي للحكومة أرسل إليها تهديدات بالقتل. ولقد طلقها زوجها.
يقول العديد من الناجين والأقارب الذكور إن عائلاتهم تكرّم الآن الناجيات من الاعتداء الجنسي كمصابي حرب. لم تخفِ السيدة خليف شيئاً عن زوجها الجديد، وهو منشق سابق عن النظام.
عدوى متفشية، طعام فاسد
وبغض النظر عن التعذيب، فإن ظروف الاحتجاز غير الصحية شديدة للغاية ومنهجية إلى حد أن تقريراً للأمم المتحدة قال إنها ترقى إلى حد الإبادة، وهي جريمة ضد الإنسانية.
وقال معتقلون سابقون إن العديد من الزنازين تفتقر إلى دورات المياه. وقالوا إن المعتقلين يحصلون على بعض من الثواني في اليوم من أجل المراحيض. مع الإسهال المتفشي والتهابات المسالك البولية. معظم الوجبات عبارة عن القليل من الطعام الفاسد والقذر. يموت بعض السجناء من انهيار نفسي. وقد تم منع معظم الأدوية، وتركت الإصابات دون علاج.
منير فقير يبلغ من العمر 39 عاماً، لكن بعد تجربته القاسية في المزة وصيدنايا وفي أماكن أخرى، يبدو عمره أكثر بعشر سنوات. قال إنه تم اعتقاله وهو في طريقه إلى اجتماع للمعارضة السلمية. الصور قبل وبعد تظهر المحصلة: رجل ضخم، تم إطلاق سراحه هزيلاً لدرجة أن زوجته لم تتعرف عليه.
في صيدنايا، كان البرد عقاباً على الكلام أو “النوم دون إذن”. تمت مصادرة جميع بطانيات وملابس زملائه ؛ ينامون عراة في درجات حرارة متجمدة. وقال إنه في بعض الأحيان محرومون من الماء. حاولوا غسل أنفسهم عن طريق مسح بشراتهم بالرمل الذي استخرجه النمل من شقوق الأرض.
وبحسب التحقيق، في اليوم الذي التقينا فيه، كان السيد فقير يحتفل بالذكرى السنوية لوفاه رفيق الزنزانة الذي كان مصاباً بعدوى في فمه وأسنانه، وقد تورم فكه ليصبح تقريباً بحجم “الرأس”.
ومع ذلك فإن سوء “العلاج” يمكن أن يكون مميتاً أيضاً. وقال السيد فقير وباقي الناجين والمنشقين إن التعذيب والقتل يحدثان في المستشفيات التي تزور فيها الشخصيات البارزة الضباط الجرحى.
ولقد اقتيد “فقير” مرتين إلى المستشفى العسكري 601، وهو مبنى من الحقبة الاستعمارية ذي سقوف عالية ومناظر مطلة على دمشق. وتم ربط ما يصل إلى سته سجناء بالسلاسل عراة إلى كل سرير.
وقال “في بعض الأحيان يموت شخص ونصبح أقل عدداً “. “في بعض الأحيان نريده أن يموت كي نأخذ ملابسه”.
قال إنه في إحدى المرات شاهد الموظفين يحقنون الأنسولين بمرضى السكري – وهو شاب يبلغ من العمر 20 عامًا – حتى وفاته.
في كثير من الليالي، كان رجل يعمل كممرض وحارس ودعا نفسه عزرائيل – ملاك الموت – يأخذ المريض وراء باب زجاجي. “لقد رأينا ظل شخص ما يضربه، وسمعنا الصراخ، ثم السكوت – الصمت الخانق”. “في الصباح، رأينا الجثة في الرواق إلى الحمام. سترى الجثث مكدسة. عبرنا فوق جثث رفاقنا حفاة”.
غباش يتذكر “عزرائيل” أيضاً. تم نقله إلى المستشفى نفسه بعد إصابته بعدوى نتجت عنها ندبة عميقة في ساقه. خلال الليل، سمع أنين رجل يطلب مسكنات للألم، وأجابه آخر، “سأجعلك تشعر بالراحة”.
متظاهراً بالنوم، قام السيد غباش بالتحرك بينما كان الرجل يرفع عصا معدنية، وأعلن: “أنا عزرائيل” ، وحطم وجه المريض بشكل دموي. قال السيد غباش إنه أُجبر على حمل الجثة إلى حمام الردهة. كانت جثتان بالفعل في الداخل.
وقال السيد فقير إن زملاءه السجناء أخبروه بحمل الجثث أولاً إلى المرحاض، ثم إلى منطقة لوقوف السيارات في المستشفى، وهو موقع صور فيه قيصر الجثث.
قال: “الناس لم يصدقوني”. “ثم ظهرت صور قيصر”.
وقال أحد الناجين من سجن آخر، هو عمر الشغري، إنه أُمر بكتابة أرقام على جباه الجثث، كما يظهر في صور قيصر. وقال إنه بينما تتراكم الجثث وتتحلل، كان عليه أن يكتب على الورق وأن يخرج الجثث مقطعة.
تشير المذكرات الحكومية التي حصلت عليها CIJA إلى أن رئيس المخابرات العسكرية، وهو عضو في مكتب الأمن القومي يرفع تقاريره إلى الأسد، كان على علم بارتفاع عدد الوفيات في السجون.
ويضيف التحقيق، أن إحدى المذكرات لاحظت، اعتباراً من ديسمبر 2012، حدوث زيادة في وفيات المعتقلين وتراكم الجثث في المستشفيات. وقد أمر المسؤولون بإبلاغ رئيس المديرية بكيفية وفاتهم وما اعترفوا به – ويفضل صياغة أسباب الوفاة بشكل مقنع لحماية المسؤولين من المسؤولية بموجب “أي سلطة قضائية في المستقبل”.
ولقد أظهرت مذكرة أخرى بعد عام أن الوفيات ما زالت ترتفع. وتقول: “من الضروري الاهتمام بالنظافة، ونظافة وصحة المعتقلين” ، “للحفاظ على الأرواح والحد من الوفيات التي ارتفعت إلى حد كبير في الآونة الأخيرة”.
وقالت “نيرما جلاسيك”، المتحدثة باسم CIJA: “يبدو أنهم يقولون للناس أن يتصرفوا بشكل جيد، لكننا نعرف الأسلوب”.
وتكمل، إن وثائق CIJA تبين أن الضباط عوقبوا على جرائم مثل “عدم اتباع الأوامر”. لا أحد يذكر أي شخص منضبط في عمليات التعذيب.
أسماء مكتوبة بالدم
لقد خاطر المعتقلون والمنشقون بحياتهم لإخبار عائلاتهم والعالم عن محنتهم. ففي زنزانة الفرقة الرابعة، قرر العديد من المعتقلين تهريب أسماء كل سجين يمكنهم التعرف عليه.
يتذكر أحدهم، منصور العمري، الذي قُبض عليه أثناء عمله في منظمة محلية لحقوق الإنسان: “على الرغم من أننا ضمن ثلاثة طوابق تحت الأرض، إلا أنه ما زال بإمكاننا مواصلة عملنا”.
حاول معتقل آخر، نبيل شربجي- وهو صحفي، كان من قبيل الصدفة أول من ألهم “غباش” على النشاط المدني خلال عام 2011 ثم شارك زنزانته في المزة – حاول الكتابة على قصاصات من القماش مع معجون الطماطم. لكنها كانت باهتة للغاية. وقد استخدم شربجي أخيراً دماء المعتقلين، ممزوجة بالصدأ. خياط معتقل قام بخياطة قميص العمري. وتم تهريب الأسماء.
وصلت الرسالة بالدم إلى العواصم الغربية. تم عرض قصاصات القميص داخل متحف الهولوكوست في واشنطن. لكن شربجي مازال في الداخل.
“انتشر التعب على ملامح وجهي” ، كتب لخطيبته خلال فترة راحة قصيرة في السجن ضمن الرسائل المهربة. “أحاول أن أضحك لكن مع حسرة ، لذلك أنا متمسك بالصبر لي ولكم”.
بعد ذلك بعامين، أفاد معتقل أُفرج عنه بأن نبيل شربجي تعرض للضرب حتى الموت.
“لا تنسونا”
في سورية ولبنان وتركيا والأردن وألمانيا وفرنسا والسويد وخارجها، تضغط العائلات والناجين من أجل المعتقلين.
بعد إطلاق سراحه في عام 2013، وصل غباش إلى غازي عنتاب، تركيا، حيث يعمل في حقوق المرأة وبرامج المساعدات للاجئين في آخر منطقة من سورية تسيطر عليها المعارضة في إدلب.
يصارع مازن درويش الأرق والخوف، لكنه يواصل عمله من أجل المساءلة. وقد شهد مؤخراً عن سجن المزة ضمن جلسة محكمة فرنسية في قضية أب وابن سوريين فرنسيين قتلا هناك – طالب جامعي ومدرس في مدرسة فرنسية في دمشق. وقد ساعد ذلك المدعين العامين الفرنسيين في الحصول على أوامر اعتقال علي مملوك، المسؤول الأمني الأعلى، و جميل حسن، رئيس المخابرات الجوية، ورئيس سجن المزة. الآن، يمكن إلقاء القبض على مملوك إذا سافر إلى أوروبا.
وقال درويش إن الملاحقة القضائية هي الأداة الوحيدة المتبقية لإنقاذ المعتقلين.
وقال أيضاً “إنها تمنحك القوة، لكنها مسؤولية كبيرة”. “هذا يمكن أن ينقذ الأرواح. بعض أصدقائي عندما أفرج عني قالوا: “رجاءً لا تنسونا”.
في العام الماضي، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة لإنشاء وتمويل هيئة جديدة، هي الآلية الدولية المستقلة والنزيهة، من أجل مركزية إعداد قضايا جرائم الحرب.
قى الحرب في سورية بدون حل سياسي. مع توقف محادثات السلام ، تحث روسيا الغرب على تطبيع وتمويل إعادة الإعمار بأية حال، وتأجيل الإصلاحات السياسية.
فدوى محمود، التي تعيش الآن في برلين، ليست لديها فكرة عما إذا كان زوجها عبد العزيز الخير على قيد الحياة.
قبل ست سنوات، سافر الخير ، المعارض البارز، إلى دمشق من الخارج ، مع ضمانات أمنية، لإجراء محادثات بين الحكومة والمعارضة السلمية. ذهب ابن السيدة محمود لاصطحابه. لم يخرجوا أبداً من المطار الذي تسيطر عليه المخابرات الجوية. لم يسمع عنهما أي خبر منذ ذلك الحين.
“ليس لدينا الحق في الاكتئاب”، قالت السيدة محمود، وهي تضع بطانية في غرفة المعيشة الخاصة بها. “علينا الاستمرار.”
في الزاوية وقفت كومة من البطانيات: الخزامى والأصفر والأزرق. تتخيل زوجها في برد السجن. إنها تحيكها من أجله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى