مقالات

عن الشاعر أمجد ناصر -ملف القدس العربي المتأخر جدا-

أمجد ناصر… الشعرُ تأهيلا للحياة

في هذا الملف الخاص تحتفي «القدس العربي» بتجربة الشاعر الأردني أمجد ناصر، الذي أسس وحرر صفحاتها الثقافية لأزيد من عقدين ونيف.

يحتوي الملف على مقالات وشهادات لشعراء ونقاد عرب تابعوا إنتاجه الأدبي في الشعر والرواية، وأكدوا في مساهماتهم على أهمية أمجد ناصر كواحد من أبرز رموز قصيدة النثر العربية. فهو في عداد الذين «أصّلوها» ونقدوها ورصدوا تحولاتها، حتى بات صوتاً شعرياً ذا خصوصية عالية على خريطة الشعر العربي.

المتتبع لمسيرة أمجد ناصر تدهشه المبدئية والتداخل بين الشخصي والمهني، بين الشعري والنضالي. هو المثقف الملتزم الذي تبنى أفكار اليسار، لا بالمعنى المألوف الذي نعيش خيباته اليوم، بل اليسار بالمعنى الديمقراطي والتقدمي، الذي جعل من كرامة الإنسان وحريته أولوية. وقد تجلى ذلك الالتزام في مسيرته النضالية مع الفصائل الفلسطينية في بيروت وتأييده لـ«الربيع العربي» ونقده لمواقف بعض مجموعات وممثلي اليسار إزاء الانتفاضات التي شهدتها المنطقة العربية، الذين قال عنهم صراحة: «لقد نشأوا في أحضان الطغاة».

ارتبطت حياة أمجد ناصر كما شعره بالقضية الفلسطينية والنضال من أجل الحرية، حتى صار ذلك البدوي الآتي من صحراء الأردن صوتاً من أصوات الشعب الفلسطيني. وكيف لا يكون كذلك، وهو المتفلت من الحدود والعابر لها، حيث يؤكد دائما على أنه سوري الجذور، أردني الولادة والجنسية، وفلسطيني الهوى.

حاولنا في هذا الملف، وقدر المستطاع، تجنّب شهادات «سريعة» أملتها الظروف الصحية العابرة التي يمر بها أمجد، إذ ليس من الإنصاف زعم الإحاطة بمسيرته الأدبية والنضالية في ملف خاص، لكننا جهدنا للاقتراب منه شاعراً وإنساناً أخلص لقضية الشعر ورسالته. هنا بعض المساهمات حول تجربته في اللغة وفي الحياة معًا، وهي آراء تُسُلِّطُ الضوءَ على ميزات حضورِه في مشهدنا الثقافي العربيّ الراهن.

أمجد ناصر: مراس التفعيلة وأصالة قصيدة النثر / صبحي حديدي

يندر أنني تناولت شعر أمجد ناصر إلا وتوقفت، على نحو أو آخر، عند طور أوّل وأبكر في تجربته الشعرية؛ أعني مرحلة شكل التفعيلة، الذي كان خيار قصائد مبكرة ولامعة مثل «الجبل» و«الشافعي» و«عمّال النسيج» و«صحراء عودة أبو تايه» و«الشجر». وتلك نصوص شغلت مجموعة ناصر الأولى، «مديح لمقهى آخر»، 1979، وكانت كاشفة بقوّة عن صوت خاصّ، منفرد لا تخفى نزوعاته نحو التفرّد، ولا تتخفى أدواته المباغتة خلف موالاة منكشفة لهذا الشكل الرائج، أو تلك السلالة المكرّسة؛ خاصة في تلك الأزمنة، الحافلة بالصخب والعنف والتعصب تارة، أو الهدوء والأصالة والاتزان طوراً. وهكذا بدأ ناصر لافتاً بين مجايليه شعراء السبعينيات الشباب، وأرسل إشارات استباقية جلية حول مقدار ما ستنطوي عليه مجموعاته المقبلة من جسارة التجريب، ووعي الحداثة، واستشراف النبرة الشخصية، وتطوير البصمة التي سوف يكون عسيراً خلطها مع سواها أو نسبها إلى غير صاحبها.

ذلك لأنّ عناصر المباغتة في تلك النصوص كانت عديدة من حيث مضامينها، لجهة موضوعات المكان والزمان، والمعطى البيئي والخلفية الشعورية، وحسّ التسجيل وتمويه الموضوع السياسي ــ الاجتماعي الصارخ. وكانت متغايرة، أيضاً، من حيث تحصين تلك المضامين عبر أشكال خادمة وملبيّة وطيّعة، ولكنها، في الآن ذاته، مغامِرة ومجرِّبة وباحثة ولاهية، بذلك فإنها باغتت ــ ولا تزال اليوم أيضاً ــ في مستوى نضجها الفنيّ، وهدوء نبرتها الإيقاعية، وذكاء استكشافها للطاقات الموسيقية الكامنة في عدد من التشكيلات التفعيلية، وبراعة تملُّصها من تبعات الشكل الأخرى (أنظمة التقفية، على سبيل المثال).

وفي «الشافعي»، وهي قصيدة فاتنة، متعددة المقاطع، يقول ناصر:

واحدٌ،

ليس أكثر من رجلٍ واحدٍ،

ولكنه عالياً كان

منتشراً كالجبال التي حدّرته إلى السهلِ،

كان عصيّاً ومحتدماً مثل صخر الجنوب.

جموحاً ومنبسطاً مثل خيل الجنوب.

إنه الشافعيُّ.

«راكين» هبّت على فرعه

مثل غصنٍ من النار

نادته «نسوانها» الحاملاتُ

ملابسَهُ الدامية.

يا عريسْ

أنت زين الشبابٍ،

عُلّية الدار

يا قمرْ ما غابْ عن بير الكرمْ

ولا خلا الحجارْ.

الآن تأتي مثقلاً بالثلج والنوار.

فيتضح، كثيراً في الواقع، ذلك المزيج البارع من الفصحى الحارّة والعامية البدوية، والحسّ الرثائي على خلفية غنائية، واشتباك ضمائر المتكلم والمخاطَب بالمفرد أو بالجمع؛ وسوى هذا أو ذاك من العناصر التي صنعت الفضيلة الإجمالية لتلك البدايات، وما أتاحته من تدرّب مبكّر على خفايا موسيقى الشعر، واكتساب دربة إيقاعية هادئة لكنها لا تفتقد السيولة، وحسّ يقظ بالشكل، وتَنبُّهٍ إلى مواطن القوّة (وهي، أيضاً، مواطن الجمال) في تصميم الأبنية الإيقاعية في القصيدة. وغنيّ عن القول إنّ هذه العوامل، في مجموعها، وفي تكاملها أو حتى تنافرها أحياناً، مكّنت ناصر من أن ينتقل بخطى ثابتة، وبأمان ملموس، نحو شكل قصيدة النثر الذي طبع كتابته الشعرية منذ عام 1979، ذاته وضمن المجموعة إياها أيضاً، وحتى اليوم.

وليس تفصيلاً غير مفهوم، لأنه تطوّر طبيعي في الواقع، أنّ أولى المرجعيات الشعرية التي تحاور ناصر مع تراثها لم تكن تلك التي كرّسها أمثال يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وتوفيق صايغ، كما للمرء أن ينتظر من شاعر شابّ مثله يتطلع إلى حداثة ثائرة فائرة، على غرار ما كانت تفعله قصيدة النثر وتنظيرات مجلة «شعر» في المثال الأبرز؛ بل كانت أعمق حواراته قد توجهت إلى أمثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر ويوسف الصايغ، كما سيسرد بنفسه. كذلك فإنه، بعد رحيله عن عمّان وإقامته في بيروت، موئل الحداثة والتحديث، سوف يلاقي «في شارع واحد أو شارعين نزار قباني وأدونيس ومحمود درويش وخليل حاوي ومعين بسيسو وسعدي يوسف وشوقي أبو شقرا وبول شاؤول وعباس بيضون وكمال خير بك»، كما أوضح في شهادة شعرية؛ فضلاً عن «حضور الشعرية الغربية بصفتها مصدراً أساسياً للكتابة، أو في الأقلّ، شعرية مقارنة»، يقول ناصر، ويعدّد أسماء مثل ت. س. إليوت، سان ــ جون بيرس، رامبو، رينيه شار، ريتسوس، كفافي…

    في يقيني أنّ طور اختيار شكل التفعيلة أسفر عن انحياز ناصر، بحماس وإدراك وقرار واعٍ، إلى تقاليد «القصيدة العراقية»، بصفة عامة، وإذا جاز الحديث هنا عن تقاليد مترابطة متميزة على نحو كافٍ، ثمّ إلى قصيدة سعدي يوسف بصفة خاصة.

وفي يقيني أنّ طور اختيار شكل التفعيلة أسفر عن انحياز ناصر، بحماس وإدراك وقرار واعٍ، إلى تقاليد «القصيدة العراقية»، بصفة عامة، وإذا جاز الحديث هنا عن تقاليد مترابطة متميزة على نحو كافٍ، ثمّ إلى قصيدة سعدي يوسف بصفة خاصة، وفي مستويات شتى لعلّ أبرزها أنّ سعدي كان «أقرب الشعراء العرب الكبار إلى قصيدة النثر، من حيث التخفف من ثقل الإيقاع النظامي وسيولة مادته التعبيرية، وقربها من اليومي»، كما سيكتب ناصر. ولهذا الانحياز أهمية بالغة في يقيني، لأنه من جهة أولى مَدَّ نماذج قصيدة النثر العربية الشابة (جيل أواسط السبعينيات وأواخرها) بروحيّة كتابة أكثر أصالة واقتراباً من موروث التجديد الشعري العربي، منذ العقود الأولى من القرن، مروراً بفصاحة الجواهري وبدوي الجبل، وليس انتهاءً بالشعر الحرّ، كما كتبه أمثال السيّاب وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل؛ كما أكسبها، من جهة ثانية، واستطراداً، حيوية خاصة في العلاقة مع ذائقة القراءة الأوسع، وهي العلاقة التي بدا وكأنّ «القصيدة اللبنانية»، عند أمثال وديع سعادة وبول شاول وعباس بيضون لا تراهن عليها أوّلاً، أو لا تعبأ بها كثيراً.

ومنذ عام 1979، أي منذ أولى قصائد النثر التي أخذ ناصر يكتبها، يمكن العثور على هاتين السمتَين الفارقتَين: الأصالة والحيوية؛ فيدرك المرء، من دون كبير عناء، ولكن ببهجة خاصة، أنّ أبناء ذلك الجيل (والمرء يعدّ سليم بركات، سركون بولص، قاسم حداد، وليد خازندار، زهير أبو شايب، بسام حجار، نوري الجراح، غسان زقطان، حلمي سالم، إبراهيم الجرادي، سيف الرحبي، ميسون صقر، منصف الوهايبي، هاشم شفيق، طاهر رياض، حسن النجمي، باسم المرعبي، فطمة قنديل، وسواهم، على اختلاف انتماءاتهم زمنياً إلى حساسية السبعينيات، وتنوّع أصواتهم)؛ يقبضون لتوّهم على عدد من المفاتيح المختلفة في الكتابة الشعرية، وينشقّون ويجرّبون ويجدّدون؛ ولكن من دون إدارة الظهر تماماً لموروث القصيدة العربية الحديثة، وللمكتسبات التي حققتها على جبهات أخرى غير «الجبهة اللبنانية».

وهكذا فإنّ توليفة ناصر الناجحة جمعت بين التحصين اللغوي والبلاغي والتعبيري والإيقاعي، الذي منحته مهاد التفعيلة والتمكّن من شكلها والتمرّس فيه؛ وبين الرصانة، المبكرة أيضاً وفي مستوى العناصر السالفة إياها، التي اختطها ناصر لشكل قصيدة النثر، كما شاء ناصر الاستقرار عليه، بمنأى عن الشطط والمزاج والتجريب العشوائي والاستهتار بالذائقة العريضة. ورغم أنّ ناصر استهلّ مجموعته الثانية، «منذ جلعاد كان يصعد الجبل»، 1981، باقتباس من أنسي الحاج وآخر من راينر ماريا ريلكه، فإنّ لغة قصائدها كانت في حال مختلفة تماماً عن تلك التي يمكن أن توحي بها لغة هذَين الشاعريَن. كذلك كانت الموضوعات (الأرض بما تضجّ به من تواريخ وعشائر وعناصر، المشهدية البدوية، البورتريهات البشرية، المناخات الكابوسية، الرثاء، البدايات الإيروسية…) تشدّ اللغة إلى نطاق تعبيري آخر، وإلى رؤية شعرية أكثر احتشاداً وملحمية. خذوا هذا المثال من «أيتها الهوادج»، القصيدة القصيرة البديعة التي يندر أن يفرّ من إغواء اقتباسها أيّ دارس لشعر ناصر:

أيتها الهوادجُ

أيتها الهوادجُ

يا أجراس الصحراءِ

من هنا مرّ الأردنيون

حفاةَ السيوفِ والأقدامِ

في أرواحهم يقدح حجر الصوّانِ

وفي لحاهم المغبرّةِ

تعوي الذئابُ.

أيتها الهوادجُ

أيتها الهوادجُ

من هنا مرّ شعبي

عارياً وضامراً يسحب خلفه

نهراً يابساً

وصقوراً كهلة.

وضمن سياقات التوليفة ذاتها، وتحديداً في مجموعته السادسة «مرتقى الأنفاس»، 1979؛ نقل ناصر قصيدة النثر العربية إلى منطقة تحدٍ شاقة، نادرة أو غير شائعة على الأقلّ، هي مقاربة الموضوعة التاريخية، ولكن من موقع ملحمي إنشادي. وهذا خيار كفيل بممارسة أشدّ الضغوط على الشكل أوّلاً، وعلى عمارات الإيقاع ــ التي لا تقوم في قصيدة النثر على أيّ عتاد عروضي يسهّل تحقيق الإنشاد ــ ثمّ على النثر ذاته، وسيط الكتابة الشعرية، بسبب طبيعته العصيّة على الانتظام في وحدات إنشادية.

وكان ممّا يبهج في هذا الصدد أن ناصر نجح في تحقيق درجة رفيعة من امتزاج الملحمي بالغنائي، حتى ليبدو أنّ صوت الشجن العالي، الذي تعكسه اليوم أحدث مجموعاته «مملكة آدم»، 2019، إنما بُحّ واخشوشن وتكثّف بسبب من ارتقاء أنفاس القصيدة درجَين في آن معاً: غناء الذات، وملحمة الجماعة.

حامل الوشم/ حاتم الصكر

لا يمكن الاقتراب من أمجد ناصر في الأحوال كلها، بدون قراءة تذكارية حتى ونحن نلتمُّ هنا لنقول له: قمْ ولا تخذلنا.. وعدْ إلينا راعياً للعزلة ومقتفياً أثر العابر. وها أنا أستمد جزء العنوان الأول من مقالة لأمجد ناصر أواخر عام 2006 حين خطف الإرهابيون ولدي عدي غرب العراق، وهو في طريقه إلى عمّان. كتب أمجد في «القدس العربي» مقاله (محنة حاتم) بعد أن اتصل بي بعد الخطف بأيام قليلة، مستفسراً عن التفاصيل بوده المعروف وعاطفته الغامرة.. وبعد أيام كتب المقالة ظانًّا أن ذلك سيسهم في تحرير عدي. حشدَ أمجد ما يمكن أن يبرر الإفراج عنه، ومسترسلاً في مواساتي بما ترك في نفسي أثراً لا يوصف.. اليوم أستدير لأتأمل محنته.. منذ بدء مرضه حتى اليوم.. كيف لقلب هذا الشاعر الذي يرقى حتى بالنثر لشعرية مميزة تجمع الفكرة بالأسلوب المشرق ببلاغة ليست تنفجاً أو استعراضاً لغوياً، أن يتحمل المحن الكثيرة عبر فضاء الغربة، التي ظللت كيانه الشخصي والفكري والشعري منذ عقود؟ كيف لفتى البوادي والأقاصي أن يسير في بيروت ومنافي أخرى ليقف في لندن مسلحاً بالبراءة ذاتها والصراحة والشاعرية؟ كيف سنبصر الأمكنة التي انصرف لقراءة تاريخها وأزمنتها وناسها وحياته فيها، وهو لا يصلها كغربائه الذين تحدث عنهم في إحدى قصائده؟ كيف؟ بسعادة كبيرة حتماً؛ لأنه يتنفس هواءها شعرياً، ويختزلها إلى إشارات وصوىً وعلامات لن تندثر، وبألم ممضٍّ أيضاً عبّر عنه في كتبه المتأخرة: شعراً وسرداً ورحلات وتذكارات.

سرَّ من رآكَ أمجد: هكذا كنت أبدأ مراسلاتي معه منذ تعارفنا وعبر لقاءاتنا في اليمن وعمّان والقاهرة والخليج… محوّراً عنوان ديوانه الذي يخاطب أنثى غائبة، متناصاً مع الرنين التاريخي العذب لسامراء المعروفة تاريخياً باسمها ذاك. هنا أستحضر ضحكاته المتطايرة في فضاءات الأمكنة التي يحضرها شاعراً أو إعلامياً، ويملأ جلساتنا بقصص لا يمل سردها، منتزعاً انتباهنا ودهشتنا ومحبتنا. لكن وراء ذلك كله حزناً خفياً يتأرجح كدمعة واقفة بين العين والعالم.. لا تتوقف ولا تنزل.

    كأني بأمجد يتحدث عن كِسَر من سيرته الشعرية.. رغم أنه لم يكن يرتاح لتأويلاتنا عبر القراءة النقدية لأعماله، لاسيما روايته «هنا الوردة» بكونها تشظيات سيرية.

«حامل الوشم وصل

بأكباشه

وأجراسه

تتبعه النيازك

عبَر قبورا بيضاء

وداس عشبا صامتا بين التماثيل»

كأني بأمجد يتحدث عن كِسَر من سيرته الشعرية.. رغم أنه لم يكن يرتاح لتأويلاتنا عبر القراءة النقدية لأعماله، لاسيما روايته «هنا الوردة» بكونها تشظيات سيرية.. وكان يقول لي إن يونس الخطاط لا يعني أنه هو الكائن الواقعي.. فهمت أنه يريد موضع كائن سيري وموقعه فحسب في الرواية، رغم عشرات الإشارات إليه شخصاً في الرواية، بإحالات المكان والأسرة والزمان والوقائع. هو يريد الكائن لا الشخص… وهذا انعكاس آخر لقناعته بأنّ عمله يقدم نفسه بدون تحديدات وتنميطات وقوالب. سيكون لحامل الوشم هذا مستقَرٌّ في لندن التي لها بين عواصم هجراته مكانة خاصة، لا لأنه أقام فيها نهائيا، ولكن منظور الصدام بين الغرب والشرق، يبدو واضحا في أشعار تلك المرحلة. فرغم أن أمجد اختار قصيدة النثر بعد ديوان وزني واحد «مديح لمقهى آخر» 1979 يبدو مهتما بتطوير تجربة الكتابة بقصيدة النثر، والخروج بها من مأزق التقليد أيضاً، ومن التناظر في موضوعاتها وأساليبها. واتجه لتجسيد ذلك إلى حقلين ليس فيهما إنجاز كبير، وواضح لشعراء الحداثة، وهما: الماضي كذاكرة تشتغل في ثنايا الوعي، والمرأة كوجود إنساني شخصي وحميم، فصار يستعيد من مخزون ذاكرته مشاهدات بصرية وأحداثا ومواقف ربطته بماضيه الذي تمرد عليه كمصير، وهجره إلى مدن كثيرة، لكنه في إعادة حساب له سيصالح ذلك الماضي ويقدم جزئيات دالة منه، وسيكرس كتابا كاملا له هو «حياة كسرد متقطع» 2005 مسهما في تأكيد إمكان وجود السيرة الشعرية. كما ستتجسد لاحقاً بعمله السردي «هنا الوردة» 2017.

أثق، ولي مبرراتي، أن أمجد لن تطول محنته، إنه طراز خاص من المثقفين المتنورين بلا شعارات فضفاضة، بحرية واحتفاظ بالذات مركزاَ للاختبار والتجربة. سيختار أمجد العودة إلى قصيدته: بيته الذي اختار، ورفضَ وتمردَ وتجاوزَ قناعاته ومسلماته ليصل إليها. ونحن له لمنتظرون.

طَرِيقُ الشِّعر في تجربة أمجد ناصر/ صلاح بوسريف

اليوم، عليْنا النظر إلى الشِّعر بغير العين التي ألِفْنا بها قراءة ما اعْتَبَرْناه شعراً حديثاً، أو مُعاصِراً بالأحرى. تَسْمِيَّةُ هذا الشِّعْر بالقصيدة، هو اخْتِزالٌ لِأُفُقٍ في نَمَطٍ، لِسَماء في قَفَص، وهذا خَلَلُ قَبُولِنا بالمفهوم والتَّسْمِيَّة بدون مراجعَتِهما، وبدون العودة إلى سياقهما الجمالي والتاريخي. فالشِّعْر أوسَع وأشمل من «القصيدة»، التي هي نوع من أنواع الشِّعر، وتدخل تحت مفهومه الأوسع، باعتباره جامِعَ أنواعٍ، لأنه، لا هو مفرد، في لُغَتِه، ولا هو جَمْع، و «القصيدة» ليست مفرد الشِّعر مُطْلَقاً.

في هذه العلاقة بالذَّات، يمكن اسْتِشْفاف فرادة الشِّعر المُعاصر، كـكِتَابَةٍ، شعر لا يُخْتَزَل، لا في القصيدة، ولا في النثر، فالمسافة بينما لا تقبل المزج والجمع، أو وضع واحد منهما صفة أو تسميةً للآخر، لأنهما من حَقليْن مُتبايِنَيْن، وهنا، يبدو عنصر التدمير، والقابلية للتَّفَكُّك والتَّفَسُّخ بين النظم والنثر.

في ما سُمِّيَ بـ«قصيدة النثر»، قليلون من نَجَوْا مُمارَسَةً من فخّ التَّفَسُّخ أو التَّدْمِير هذا، وكانت تجربتُهم الشِّعْرِيَّة، تنتمي إلى الشِّعْر، وتَسْتَعْصِي أن ننسبها إلى القصيدة، بمُجْمَل خواصِّها اللِّسانِيّة، وبما تَحْتَمِلُه من مُكوِّنات، الشاعرِيُّون القُدامَى كانوا حَدَّدُوا إطارها، بصورة حاسمة، وابن خلدون، اعتِماداً على ابْن رشيق، عرَّف «القصيدة»، وحدَّدَها بشعريتها المُغْلَقَة التي لا تقبل الانفتاح، رَغْم أنَّ ابن رشيق، كان في بعض مفاصل كتابه «العُمْدَة»، رأى في الشِّعْر، ضَرُورة الانْشِراح والقابلية للتَّغَيُّر، بدون توسيع معنى الصيرورة هذا.

أمجد ناصر، واحد من الشُّعراء الذين يَسْتَعْصِي اعتقالُهم في زُجاجة، أي وضعه داخل نمطية «قصيدة النثر» نفسها، التي هي اليوم، تكرار واجترار لصيغ التعبير نفسها، وللجمل والإيقاعات وطريقة النَّظَر، وحتَّى للموضوعات. فهو أذهب نحو الكِتابَةِ، نحو النص Texte وأسَّسَ، في تجربته، لأفق شِعريٍّ قابل للصَّيْرُورَة والتَّجدُّد، لأنَّ أمجد، هو مُنْصِتٌ جَيِّدٌ لإيقاعات الأزْمِنَة التي يعيش ويحيا فيها، بما في ذلك الفراغات والبياضات، ولحظات الصَّمْت، مثلما في رُؤيَة «الطَّاوْ» التي هي إدراك لِفَداحَةِ الصَّخَب في الصَّمْت.

انعكس هذا الوعْي الشِّعْرِيّ الجمالي على تجربة أمجد، ما جعله يكتب في نصوصه الأخيرة، النص المُكثَّف المفتوح، الَّذِي يحرص على البِناء كشرط لشعريتِه، وهذا ما ينقص الكثير ممن يَكْتَفُون بالنَّثْرِيَّة في الكتابة الشِّعْرِيَّة، وهُم لا يُدْرِكُون أنَّ أهمَّ ما ميَّزَ الشِّعر المُعاصِر هو تَفْكِيك النَّظْم، أي تَحْوِيل مسار الموسيقى في النص الشِّعري، من الوزن، وهو، فقط، مكون من مكونات الموسيقى في الشِّعر، إلى الإيقاع، ليس باعتباره الدَّال الأكبر، كما توهَّم هنري ميشونيك ومن ساروا خلْفَه، بدون مراجعته وانْتِقادِه، بل باعتباره دالا، لا يمكن أن تتحقَّق شِعْرِيَّتَه إلا بالصورة والخيال، أي أن شعرية النص الشِّعريّ تتأسَّس، في هذا السياق، على دالَّتيْن كُبْرَيَيْن، هما الصورة والإيقاع، لا الإيقاع وحده، وإلا عُدْنا إلى اعْتِبار «الموسيقى مِضْمَار الشِّعر»، كما أكَّد قُدماء العرب، من النقاد والشَّاعريين، على ذلك.

حين نتأمّل تجربة أمجد ناصر الشِّعريّة، سنجدها إشْكاليّةً في تصوُّرِها لمعنى الشِّعر، رغم أنَّ أمجد لم يكن، نظرياً، مشغولاً بهذا التصوُّر، لكنه كان واعياً، بشكل جيِّد به، وكان عارفاً أن لا شَكْل قادر على استيعاب مفهومه للشِّعر، أو الرؤية التي بها كان يُؤَجِّجُ تجربته الشِّعرية، وأن الشِّعر أكبر من الوزن، كما أنه أكبر من النثر. فَوَضْعُ أمجد ناصر في قفص «قصيدة النثر»، هو شبيه باعتقال فراشة في زجاجة مُغْلَقَة، أهمّ ما يأْخُذُنا فيها هو شفافَةُ القارُورة، لا ما تتعرَّضُ له الفراشَة من اخْتِناق، وتلاشي غبارها في هذه الشفافة التي هي شفافة خادعَة ومُخاتِلَة.

نحتاج، اليوم، أن نُعِيد قراءة تجربة أمجد ناصر في ضوء هذا الوعي الشِّعْرِيّ النَّظَرِيّ، الذي هو وعْيٌ يُعِيدُ، في حقيقة الأمر، وضع التجربة في سياقها الكِتابي، أو ما أُسَمِّيه بـ«حداثة الكتابة»، التي بات فيها النص مُسْتَعْصياً على الغِنائيَّة الصِّرْفَةِ والصوت المفرد الوحيد، وعلى البناء الشِّعري الذي يمتح بعض شظاياه من «القصيدة»، التي هي بناء مَسْكُون ومُمْتَلِئ ومُسبق، وليس فضاء قابلاً للتَّشْكُّل والتَّخَلُّق، أي أن يتَّخِذَ شَكْلاً مفتوحاً يَحْدُثُ إبَّان لحظة الكتابة لا قبلها، البياضات والفراغات فيه، هي عناصر بناء، وهي دوالٌّ في النص، تُساوِقُ الدَّوال المكتوبة، التي كانت هي وَحْدَها ما ذهب إليها النقد الشِّعريّ المُعاصر، ولم ينتبه إلى أنَّ الفراغات والبياضات، والأشكال الكتابية المختلفة التي قد تَرِد في النص، هي أحْد عناصر ومُكوِّنات النص، أي أن هذه القراءات، بقيت ناقصة، لأنها تعوَّدَتْ على قراءة المَسْكُون والمُمْتَلِئ، ولم تستطع إدْراك الوعي الشِّعري الجمالي الذي انْزاح بالشِّعر إلى كتابة أخرى، أبْعَدَتْها عن النَّمَط، وجعلَتْها أُفُقاً وسماءً، وهنا، بالذَّات تَكْمُن أهمية تجربة أمجد ناصر، وغيره من الشُّعراء، ممن ذَهَبُوا في طَرِيق الشِّعر، وفَتَحُوا سياقات شعرية جمالية، تحتاج أن نقرأها خارج ما كان قبله من كتاباتٍ وتجارب.

مسامرات «غزال التبت»/ هاشم شفيق

حين تكون فتى، تحمل الشعر في داخلك، مثل شرايين من الضوء تعينك على تبصر الطريق، تتفتح لتنير حياتك الغامضة ومستقبلك غير المعلـــــوم، هذا الضوء الذي هو الشعر دون شك، هو الوحيد الذي لا يخونك في مسيرتك الطويلة مع الحياة، سيظل الصاحب والمُعين والهادي، وأنت تتقدم في ليل العالم.

لعل قوة الشعر هذه، هي التي دفعتْ شاباً في مطلع العشرين، اسمه أمجد ناصر، لأن يسافر إلى أرض الشعر، ألا وهو العراق، باحثاً عن المعنى والمدلول والرمز هناك. سيلتقي أمجد الشاعر المتحمِّس للشعر، والمتحمّس باكراً للقضية الفلسطينية، وعبر الجبهة الشعبية التي كان يعمل فيها كصحافي في جهازها الإعلامي، سيلتقي بسعدي يوســـف، أحد رموز الشعر العربي، من خــــلاله سيسأل عني هناك في بغداد، سعدي سيخبره بأني رحلت إلى باريـــس، غير أني وبعد عام على سفري، سأترك باريس نهاية عام 1979 إلى لبنان، وهناك سألتقي بأمجد ناصر، وبالضبط في مجلة « الهدف « الذائعة والتابعة للجبهة الشعبية، كان مقرها ولسنوات عديدة في منطقة «المزرعة» في قلب بيروت الغربية. منذ تلك اللحظة أصبحنا أصدقاء، كنت ألتقيه في منطقة الفاكهاني دائماً، إما عند حلويات ومقهى» أبو علي « أو عند «همبرغر علاء الدين «، أو في مقهى» أم نبيل»، أو في « مطعم ومقهى « التوليدو».

سكنه كان قريباً من مكان سكني في « ساحة أبي شاكر»، أصدقاؤنا مشتركون، ومن هنا كانت تكثر اللقاءات فيما بيننا. في تلك الأثناء ذهب أمجد إلى عدن لدراسة القضايا الاشتراكية والماركسية، ولكنه عاد، لينخرط في مكان وعمل جديدين، في « إذاعة الثورة « الفلسطينية، التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، أنا كنت أعمل في الإذاعة محرراً ثقافياً، وأمجد محرّراً في قسم الأخبار، وحين وقع حصار بيروت، كنت أراه كثيراً وبشكل يومي في مقار عملنا المتنقلة من مكان إلى آخر، كان أمجد حينذاك يعمل بنشاط متواتر، وبحماس قل نظيره، وبتفان نادر وعالي المقدرة.

في حمى الحصار ذاك، وأثناء القرار الدولي بخروج المقاومة من بيروت، ذهبتُ وخطيبتي ( زوجتي حاليا) التي كانت تعمل معي في الإذاعة آنذاك، مذيعة ومحررة في قسم الأخبار، إلى دمشق، وهناك انخرطنا في عمل مواز لعملنا في إذاعة الثورة الفلسطينية، وهذه المرة في جريدة « صدى المعركة»، التي كان يرأس تحريرها الشاعر المناضل خالد أبو خالد، ويدير تحريرها الشاعر أحمد دحبور.

أثناء عملنا ذاك طلّ أمجد في دمشق، فمرّ علينا في مقر عملنا في منطقة الصالحية، والتقى بجميع الأصدقاء الذين يعرفهم في الجريدة، ولكنه لم يمكث في دمشق طويلاً، فغادرها إلى قبرص عاملاً في وكالة « القدس برس» التي كان يشرف عليها الصحافي الفلسطيني المرموق حنا مقبل، غير أن الأمر لم يدم طويلاً، فشاءت الظروف السياسية المتقلبة، بغلق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في دمشق، نتيجة لخلاف سياسي كالعادة، حدث بين المنظمة، والسلطات السورية، لأغادرها أنا مضطراً إلى نيقوسيا، هناك سألتقي أمجد من جديد، حيث علاقتنا الحياتية والثقافية والأدبية آخذة في التصاعد. في قبرص سيجمعنا البحر والجبل، وكذلك النزهات البرية في المناطق القبرصية الحانية والرهيفة، وهناك ستتصاعد وبتزامن ملحوظ ، وتيرة الشعر أيضاً، إذ سيُصدِر أمجد الذي عمل في غير مكان كمجلتي « الأفق « و« صوت البلاد «، بعد توقف وكالة « القدس برس « سيصدر ديوانه اللافت « رعاة العزلة « هذا الديوان الذي حرك الجو الشعري العربي الراكد، وكان كمثل من يرمي حجراً في بحيرة، ليحرّك جمالها ويغير حركة الماء فيها. لقد أحب الشاعر المرهف أمجد ناصر قبرص، فتعلق بها، لم يتركها، فهي جزيرة شاعرية، وهو أحقّ بها، فوجد موضع قدم له، في جزيرة الشمس والدفء والسكينة، التي أضحى يراها بين فترة وأخرى، متخلصاً لبعض الوقت، من الإيقاع المعتم، والمطر المزمن، والبرد الثقيل للجزيرة البريطانية.

خلال سنوات إقامتنا الطويلة في لندن، كنت ألتقي أمجد ناصر في المحافل الأدبية والثقافية، والندوات الشعرية الكثيرة، وفي الأسفار، متقاسمين نار الشعر ولهبه وشراراته النورية، قرأنا معاً في غير مكان وندوة وأمسية، سافرنا إلى مهرجان « جرش « بفضله، وحضرنا مؤتمرات عربية معاً، في كل من القاهرة والمغرب وغيرهما من البلدان، وطوال فترات عمله في جريدة «القدس العربي» كان يهاتفني دائماً، إما لأمر ثقافي وصحافي وأدبي، أو لدافع صداقي، شخصي بحت، وهو الذهاب إلى مقهى، أو حانة، حيث كنا في فترة من الفترات نُديم الذهاب، نهاية كل أسبوع، إلى حانة «غزال التبت « في منطقة « إيلينغ برودواي « وهي تقع غرب لندن، وقريبة من مناطق سكنانا، لنتحاسى الشراب ونتسامر ونتفكه، ونأتي بالنوادر والمُلح والحكايات الغريبة عن كل شيء، وجرّاء هذه اللقاءات الســــامرة، تمخّض قلمي عن قصيدة سميتها باسم المكان ذاته « مسامرات غزال التبت « سوف أنشرها بالطبع، إن وجدتها بين قصائدي الكثيرة، ودواويني المتشعِّبة وغير المنشورة، استكمالاً لهذا الموضوع، وتكريماً أيضاً للرابطة التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً فيما بيننا، ولذكرى الأيام الفاتنة، وللشعر الآسر الذي أسرَنا بسواره السحري.

الصـديق أمجد ناصر أحد شعراء الحداثة البارزين، أسس في شعره لرؤية مغايرة، ثائرة على السائد والراسخ والنمطي، فبنى عمارته البديعة بجهده المعرفي، وكدحه الجمالي، ساعياً بين فترة وأخرى، لإعلاء شأن هذا البرج الشعري، المتميز، واللامع، والمضيء في مدار الشعر العربي.

فروسية الشاعر/ قاسم حداد

1

العنفوان الذي اندفع به أمجد ناصر في تجربة الخروج بقصيدة النثر من الدفاع إلى الهجوم، كان يشي عن بسالة تعلن عن مجابهات فذّة مع أصحاب النقد الحديث على وجه الخصوص. أمجد ناصر، بين رفاقه المتحمسين للخروجيات الشعرية، امتلك التجربة الشعرية المكتنزة بحساسية اللغة العربية، ليس بوصفها بلاغة صقيلة، لكن باعتبار الموسيقى هي شرطٌ للجمال، متاحٌ وغير لازم في الوقت نفسه. وعندما كان أمجد ينافح عن حق الشعر في حرية الكتابة خارج المتعارف عليه، تقليدياً، إنما كان يقود استعداداً جهنمياً لدى الشباب للذهاب إلى النار من غير قيادة امرؤ القيس.

2

الذين يتذكرون قصائد أمجد ناصر في كتبه المبكرة، سيعرفون الدلالة القوية التي جاء الشاعر يتسلح بها ويتميز. وعندما كتبت منذ سنوات عن لغة أمجد ناصر الشعرية، إنما كنت أشير إلى هذا التألق الروحي الذي كانت قصيدته تمنحني إياه، مستمراً معي في ما بعد القراءة. كنت وقتها أزعم بأن الشعر هو ما يدفعني لإعادة قراءته ثانية بعد ذلك.

نص أمجد يقترح عليك إعادة القراءة بقدر لا بأس به من الجمال، حيث تشعر بأنك لم ترتو بعد.

3

عندما كنت ألتقي أمجد ناصر في المناسبات المختلفة، وكان هذا يحدث كثيراً، أكون قادراً على قياس النص على الشخص. ليس هذا مستحسناً معظم الأحيان، لكن أمجد يسمح لك بهذا إذا كنت تقف إليه عن كثب. وكلما استطاعت الكتابة معالجة المسافة بين النص والشخص بسلاسة المهندس الفذّ، تيسر للشعر ان يتألق بثقة وجمال وصدق. وظني أن في هذا يكمن الشعر.

4

أمجد ناصر، من بين أقرانه، كان يدرك ما يفعل. ولعل من بين المنجزات النقدية التي اقترحتها تجربة أمجد وأقرانه، وضع المعرفة في مكانها المناسب من التجربة الشعرية، فمنذ مستجدات الكتابة الشعرية الجديدة، لم يعد الكلام عن الموهبة كافياً.

الآن، ليس بوسعنا تفادي العناية بالمعرفة عندما يتعلق الأمر بالشعر. أمجد ناصر، في نصوصه المهمة، يسعى منافحاً لا يزال عن الشعر بوصفه الأفق المفتوح أمام أحلام أصحاب الشعر، وعندما لا يكترث أمجد بأصحاب النقد كثيراً، فإنما هو يشير إلى الفروسية التي لابد أن يتحلى بها الشاعر، لكي يأتي نصه باسلاً، مثله.

الخارج عن نَسَقيّة القصيدة العربية/ عبدالدائم السلامي

لو رُمنا تبيُّنَ ملامحِ التجربة الشعريّة لأمجد ناصر لقلنا مع الناقد فخري صالح قولَه: «يُمثل شعر أمجد ناصر، على مدار الثلاثين عاماً الماضية، مختبراً نموذجياً لتحولات القصيدة العربية في الفترة نفسها. فهو يلتقط دبيب التغير في الشكل الشعري والانشغالات التي ينجدل منها ذلك الشعر، وانزياحات الذائقة، والأهم من ذلك كله أنه ينعطف باتجاه التصورات النظرية لمعنى الشعر وضرورته في مرحلة يمكن القول إنها نسفت الكثير من المفاهيم السائدة حول الشعر والشعرية. ورغم أن قصيدة أمجد ناصر، في مجموعاته كلها، على ما أزعم، تحتفظ بنفس غنائي ضارب في أعماقها، إلا أن مشروع أمجد الشعري مضاد للغنائية بطبيعته، يحاول كسر تلك الشفافية العاطفية والصوت الفردي الصافي الملتاع، الذي يسم معظم الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين». وتهمّنا هنا إشارة الناقد إلى أنّ من وَكْدِ شعر أمجد ناصر هو الخروج عن الانغماس في الذّات، لصالح الدخول في مواجهة العالَم، إنه شعرٌ يُصارِعُ كلَّ شيءٍ ويُقارِعُه: ذاتًا شاعرةً، وحاضِرًا، وتاريخًا، وثقافةً، وأحلامًا كونيةً، وفنونَ قولٍ. وهو ما نزعم معه القولَ إنّ كتابةَ أمجد ناصر نجحت في أن تصنع بلاغتَها الجديدةَ: بلاغةَ مادّةِ شكلها وبلاغةَ مادّةِ مضمونها، وهي إذْ تفعل ذلك تفعله لتُقارِع نِظاميةَ معنى العالَم ومن ثَمَّ تَبْني عوالمَها الخاصّةَ بناءً لا تُحدُّه القراءةُ، إنها كتابة يتضافر فيها الشعريّ بالحياتيّ، ويمتح أحدُهما ماءَه من نبعِ الآخر، فإذا القارئ واجدٌ صدًى لكلِّ واحد منهما في فضاء الثاني، وإذا حياةُ الشاعر يُعْرِبها نصُّه، وإذا دلالةُ نصِّه تُغذّيها تجربتُه، وإذا شعرُه «جميلُ الجُمْلةِ والتَّفْصِيلِ» على حدِّ ما يُقالُ.

لقد خَبَرَ أمجد ناصر المدائنَ وعَرَكَتْه أزمنتُها – بناسِها ومواجِعها- منذ رحيله الباكر عن الأردنّ، فلا تراه العينُ إلاّ «وهو يدخل في العواصم، وهو يخرج منها، ناحلاً ومُبْتلاًّ كريش الحَمَام، هائمًا كنَبِيٍّ، وحيدًا كذِئْبِ الفرزدق؟» (رعاة العزلة). فالمكانُ في قصيدته فمٌ جائعٌ يأكل الأحلامَ والأجسادَ واللغةَ بشراهةٍ، والشاعرُ فيه مشّاءٌ تذروه الريحُ من حيرة النّعمان إلى مقاهي لندن، مرورًا بعَمّان وبيروت ونيقوسيا. يمشي ويُسمعنا قولَه: «طاردتني قصيدة المدينة كنبوءة أشدّ شؤمًا من نبوءة أمّي عن نفسي التي لن تعرف الراحة مهما طال الزمان وبدّلت الأماكنُ وجوهَها» (حياة كسَرْدٍ متقطّع). وهي نبوءة جعلته «قليلاً ما يُقيم في الوضوحِ»، فإذا هو في أُفُقِ تأويلِها «مُشَرَّدٌ في الألفاظِ» (رعاة العزلة) تشريدًا هو من رحلة الشِّعْرِ ورحلةِ الشاعرِ معًا سبيلُ إبداعٍ، وطريقةُ وُجودٍ، وكونُ جَمالٍ، وقُوّةُ كائنٍ لا يملك من قَدَرِه إلاّ أنْ يحملَ جسدَه وفِكرَه ويُسافِر بهما باستمرارٍ، كأنّ الإقامةَ شأنٌ عموميٌّ لا يعنيه، بل قُلْ: إنّ تشرُّدَ أمجد ناصر في اللغة وفي الحياة إنّما هو شكلٌ من أشكال إقامته الدّائمة في حيِّزِ المُؤقَّتِ والمرتَجِّ المُضْطرِبِ، في حيّز ذاك الذي «كأنّ الرّيحَ تحتي».

شعرية الغياب بطعم الحضور/ علي حسن الفواز

قد تبدو ثنائية الموت والحياة واضحة في كثير من قصائد الشاعر أمجد ناصر، إذ هي مقابل تعويضي لثنائية الغياب والحضور، والقبح والجمال في دلالته الفلسفية، لكنها تتبدى أكثر في ثنائية الاغتراب والوجود، وهذا ما يجعل أفقه الشعري أكثر استغراقا بالعلامات التي تحيله إلى مرجعيات تلك الثنائيات، في سياقها النفسي، أو في سياقها اللغوي، حيث الشغف الاستعاري بالبحث عن الغائب وأثره في تلك العلامات/ الأمكنة، أو البحث عن المهمل وأثره في اليوميات، أو في استيهامات الشاعر ذاته.

في كتابه الشعري المُستعاد «حياةٌ كسرد متقطع» بطبعته الجديدة الصادرة عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة/ القاهرة 2018 تبدو لعبة الثنائيات مثيرة ومفارقة، إذ هي جهدٌ يخصّ نُضج تجربته الشعرية والمعرفية وتحولاتها، مثلما هي هاجس تعبيري للاقتراب من هاجس النثر، والإفادة من فضاءاته المفتوحة، فضلا عن نزوعه الشخصي للتمرد على الشكل، وعلى فكرة القارئ السهل، فقصائده (الجديدة) تحوز نزعة استيهامية تفترضُ قارئا غائبا، مثلما تهجسٍ بحياةٍ تُلاحِق اكتمالا ما، وحتى المقدمة التي كتبها أمجد ناصر لكتابه توحي بكلِّ تلك الهواجس، على مستوى رؤيته للعالم، الحب، المكان، الموت، أو على مستوى مقاربته لـ(ثنائية قصيدة النثر والشعر الحر) بحثا عن طعمٍ لمغامرته الشعرية، أو إحساسه بالفرادة، أو ربما توقا لفكِّ بعض الالتباس الإجناسي، أو ملامسة سحر المغايرة والدهشة، الذي اصطنعت مجلة «الشعر» بعض ملامحه، عبر أنموذجها الصادم للعقل الشعري العربي، أو لبعض ما أثارته بعض أسئلة الناقدتين نازك الملائكة وخالدة سعيد.

أسئلة الشعر هي أسئلة الوجود والوعي، هذا ما افترضه أمجد ناصر وهو يستعيدها شعريا، فهوية القصيدة فخٌ توصيفي قد يدفع إلى أوهام عديدة، وأخطرها وهم التاريخ، والعبث بصياناته القارّة، حدّ ما يندفع الشاعر عبرها نحو حدْسٍ يتعلق بإجناسية تلك القصيدة في النمط والسياق، أو برؤيته لها وهي تنفرُ لممارسة نوعٍ من التمرد والمغايرة على ذلك النمط، والتوهّم الماكر بالاقتراب من النثر والتشكيل والموسيقى..

عنوان «الكتاب الشعري» ليس بعيدا عن تلك الأسئلة، ولا عن إحالته إلى لعبة التقطيع والتكثيف، حيث تبدو مقاربة السرد هي لحظة اشتباك جادحة في وعي الشعر أو في وعي النثر، فالمغامرة توحي بالتوهج، والوعي بأطروحات الجدّة في الشعر، على مستوى تمثّله للحــــياة كوجود وقيمة شعرية عميقة، أو كزمنٍ يحتشد باليومي والهامشي والقهري، أو على مستوى تمثّله للسرد كفعلٍ واعٍ يدرك الشاعر أهميته وفاعليته في التجاوز وفي خياره الشعري الجديد.

رهان الشاعر على كتابة (اللاشكل) هو خيار وجودي وجمالي، ورغبة حميمة في مقاربة العالم عبر اكتشاف ما يضمره من معانٍ خبيئة، معانٍ تضخها القصيدة بالاستعارات، والمجازات، لكي تجعلها الأقرب إلى ما يهجس به الشاعر من توقٍ للخلاص، أو من رغبة لمواجهة (سأم المدينة) ليس على الطريقة البودليرية، لكن على طريقة من يرى العالم موحشا، ومُهددا بالموت والغياب، وحتى نزوعه إلى ما يمكن تسميته بـ(القصيدة العائلية) حيث تحضر الأم والجدّة والشقيقات والأشقاء والأب هو تمثّل نكوصيي لاستعادة تلك الحياة الغائبة، كما في قصيدتي «عد عكسي» و«استعداد للطيران» أو في قصيدة «طريقة أردنية» حيث يحضر البدوي لحظته الوجودية، يستفزه أو يُثيره، أو يقطع عليه الطريق للنسيان بمعناه الهيدغري.

تقانة (اللاتجنيس) هي رغبة أكثر مما هي واقع، وهي مراودة يفترضها الشاعر لشبق الحرية، أو لوعيٍ صاخب لم يعد يطمئن كثيرا للنمط، ولا للمعنى الذي قد يقتله التأويل، ويدفعه إلى عتبات لا وضوح لها، عتبات للاستعارة النافرة، أو للرؤية التي لا تحبسها الذاكرة، وللذات الرائية التي تتوهم مراقبة العالم عبر التفاصيل، ففي قصيدة «نجوم لندن» نرصد لعبة المراقبة وكأنها مراقبة سيميائية، يجهد الشاعر في أنْ يمنحها طاقة الكشف والاستعادة، والمخاتلة، وعبر رؤية بصرية تتوالى صورها، لتبدو وكأنها تماهيات مع صوره الشخصية.

(نفساً وراء نفَسٍ تدفعني الأيامُ لكن عيني ظلتا ورائي تبحثان عن علامة تراءت وأنا مستلق ذات ليلة على سطح بيتنا في المفرق، أعد النجوم وأخطئ ثم أعدها غير مبال بالثآليل التي تطلع في يدي وتنطفئ. العلامة التي تطاردها عيناي مذ ذاك تدل على ساقية تؤدي إلى نبع ونبع يقود إلى سفح، حيث غصن وأفعى وتحت الغصن مفتاح، المفتاح للغرفة التي نهيتُ عن فتحها، الغرفة مظلمة، في الغرفة المظلمة صندوقٌ به صدفة، في الصدفة ورقة مكتوب عليها: لا تلمسني في المثل أو الشبه فكل من هو مثلي ليس أنا وكل من يشبهني هو غيري، لست بعيدة ولا قريبة، علامتي أقرب إليك من حبل الوريد».

هذا البناء السطري فيه كثيرٌ من القصدية، فرغم ما تحوزه القصيدة من غنائية عميقة، إلّا أنّ بنيتها النسقية تؤشر لمدى اهتمام الشاعر بالتركيب والتوالي، وهي تقانات سردية، آثر الشاعر توظيفها كإشارة لرهانه على الترسيمة المفتوحة، وعلى علاقة هذه الترسيمة فنيا بوعي الشاعر للمغايرة والتجاوز ولكسر النمط، وفي إثراء التجربة بحساسية شعرية لها تأثيرها على اللغة، وعلى وحداتها التوصيفية والعلاماتية، فثيمة (المقهى) في قصيدة «فتاة في مقهى كوستا» تأخذ في شعرية أمجد بعدا فضائيا، تتبدى عبره حساسية الشاعر العالية بالمكان، وبفكرة الحرية، وبالتفاصيل اليومية، حيث الشارع والقهوة والكلام والأصدقاء والدخان، وحيث الأنثى التي تؤنسن ذلك الفضاء، عبر اشتباكها مع شيفرات وجودية وأيروسية، وعبر توتير فكرة الكتابة/ الاستيهام لتكون الأقرب إلى فكرة القصيدة الشخصية، قصيدة الرؤية واللذة، وحتى قصيدة الوهم، فالأشياء بحضور الأنثى تتغير، أو هكذا تبدو سائلة، مسكونة بالشغف والشبق والهذيان أحيانا، والأفكار تنزع عن قشرتها المباشرة، لتبدو أكثر اقترابا من استعارةٍ كبرى، استعارة تختصر الوجود في لحظتها، وتترك الشاعر نهبا للقلق والانتظار، واللذائد المُتخيلة.

«بلوزتها الزرقاء نصف الكمّ التي تكشف عن زنديها المبرومين، وكتفيها اللذين تنطّ منهما فهود صغيرة، وبقدمها التي تتحرك تحت الطاولة على شكل مروحة، كانت تشبه فتاة القصيدة، كلّ الإشارات تدلّ عليها، كان وزن الهواء وحركته يتغيران تحت الطاولة، أوقعت قلمي كما لو سقط عرضا على الأرض لأرى ما الذي يجري، وما أن التقطته ورفعت رأسي حتى اختفت الفتاة، كان على الحائط ملصق إعلاني كبير لفتاة تجلس وحيدة تدخن وتحتسي قهوة وتنظر بزاوية منحرفة من عينيها في مقهى يشبه هذا المقهى».

هذه الكتلة البصرية المبنية بتقانة الرؤية والرؤيا، تُعيدنا إلى ثنائية الاغتراب والوجود، فالأنثى تحضر وتغيب عبر الواقع في المقهى، أو عبر السيمياء في الإعلان، وكلاهما يكشفان عن روح الشاعر المتوثبة، القلقة لاستدعاء هذه الأنثى التي تكشف عن روح المكان/ المدينة، وعن روح اللغة الباحثة عن إشباعات استعارية أو سيميائية، مثلما يكشفان عن هوس الشاعر بكتابة قصيدة «المشهد» في بنيتها السردية وفي إحالاتها الشعرية.

العابر الهائل/ عبداللطيف الوراري

رؤيا سندباديّة

عندما غادر الشابّ القروي العشريني يحيى النميري النعيمات (1955) بلدته التي تقع في أطراف البلد نحو العاصمة عمان، لم يكن يدري أنّ الطريق إليها، ثم إلى غيرها من عواصم العالم حتى حاضرة الضباب، بذريعة الكتابة والانخراط في حياة ثقافية وإعلامية واعدة، قد تكون نَهْبًا لأطماع قدميه؛ فقد كانت السماء وقتئذ تتلفّع بالغيوم، التي تنذر بكل شيء، وبالأدخنة الساخنة التي تطلع من أراضي «الحلم العربي»، وتغشى رموز البعث الحضاري التي تغنّى بها الشعراء التموزيون وغيرهم؛ من لبنان والعراق واليمن ومصر.

كانت الطريق التي سلكها تمتلئ بمشاهد «الأرض اليباب» بإيحائها الإليوتي، وبطوابير النازحين الفلسطينيين، الذين هُجّروا من بلادهم بالنار والحديد، على نحو بات يكشف عن واقع إقليمي ممزق ومشرذم، وسط تحديات جيوسياسية متراصّة. لكنّه لم يتراجع، ولم يندب خيبات الرفاق ومواجع شعراء النبوءات الكبيرة، وواصل المغامرة من انحراف إلى آخر، وكانت تتشكّل في قرارة نفسه تلك العبارة اللغز، التي أفصح عنها ذات منفى آتٍ: «خفتُ أن أتلفّت ورائي فأراني». وبدل بالاسم اسمًا آخر يومض برمزيّة مخنوقة: أمجد ناصر.

هل هو قدرٌ آخر للسندباد على «طريق الشعر والسفر»؛ قدرٌ قاس وأكثر رهبةً؟ عندما أصدر «مديح لمقهى آخر» (1979)، دشّن هذه الرؤيا السندبادية التي سترافق كل مغامرات عمله الإبداعي شعرًا وسردًا، وهي رؤيا مرئية ومحسوسة وحادّة، استعاضت عن أجنحة إيكاروس التي خبرها من قبله ومات بسببها، بـ«عينين نافذتين» مثلما أشار إلى ذلك سعدي يوسف في تقديمه للباكورة الشعرية، تخترقان ما هو سائد ومعطى ولا تثقان في نتيجة الإثمار الفوريّ؛ أي ظلت بمنأى عن الشعارية الأيديولوجية، وفي المقابل كان تستبطن داخل الاحتفاء بتفاصيل اليومي المحسوس سياسات الدالّ الشعري «حيث تشرع الكلمات في تأسيس معانٍ مختلفة عن المعاني المتداولة… المستنزفة». وقد مثّل امتحانًا أوّل لتجريب نظره الشعري في علاقته بالمكتوب، ستكون له ارتدادات جمالية خطيرة، ليس على عمله الشخصي، بل على مجمل ما كان يُكتب خلال السنين التالية.

في مكان آخر، كان صلاح عبد الصبور قد شارف على نهايته المفجعة بعدما أحسّ بفداحة المشروع الرؤيوي وخذلان الرفاق ولا جدوى «الصرخة في البرّية»، وترك للسندباد أن يوغل في الرحلة بدلًا عنه، وكأنّي بأمجد هو صاحب هذه الرحلة الصعبة التي عليها أن تفتح هداياها ومفاجآتها الباقية للآتين، لأنها ليست لأحد بعينه، وهي لا تعني امتدادًا لمشروع ما، بقدر ما هي تجاوز وانشقاق وعدم رضا، أو هي إيغال وكفى. «سندباد برّي» بتعبير عباس بيضون: في يده خطيئة ابن مقلة، وفي اليد الأخرى مصباح ديوجين، فما أكثف ليل الكتابة وأكذب نهارات الواقع.

من منفى إلى آخر

بدا «المديح» بنبرته الاغترابية أبعد من أن يكون تصالُحًا مع الذات في مكانها الجديد، بل بالأحرى نشيدًا تأبينيًّا لهواجس الذات التي انقذفت خارج المكان الأصل، ووجدت نفسها قَسْرًا في المكان «اللامكان» إذا صحّ أن نقول، فالمقهى مكان عبور لا إقامة، وبالتالي لا رجعة للذات عن المغامرة «هناك» فيما هي تمتلئ بقيم الحلم والغضب والتمرُّد للعبور إلى الطرق المنحرفة، ولسان حالها أن تزحف على «قلاع ودساكر العالم القديم». يوتوبيا، وفي جزء منها فطرة البدويّ وتذمُّره السريع من عالم يتحول، بل ينهار أمام عينيه: «والشِّعر ينأى/ وتنأى الأغاني/ وينأى الوطن».

يظهر أنّ هاجس الذات الواعية بمصيرها القاسي أخذ يتبلور كخصيصة نصية، بله حالة كتابيّة جوهرية، في الدواوين الثلاثة التالية: «جلعاد كان يصعد الجبل» (1981) و«وصول الغرباء» (1990) و«رعاة العزلة» (1996)، ويرتفع بالعبور إلى كونه وسيلة عزاء وأداةً لاختراق المكان وبحث المفقود والمحلوم به باستمرار، على نحو يجعل الهوية بدورها مثار قلق وتغيّر دائمين، وهذا ما ينعته رشيد يحياوي بـ«الرؤية العبورية» بوصفها ضرورة وجودية في اختراقها الأمكنة والتعبير عن تشظِّيات الذات ورؤيتها للعالم المتبدّل. وقد تنوّعت أفعال العبور تبعًا لتطور تجربة الكتابة وأقانيمها «تحت أكثر من سماء»، على صعد الثيمات والرؤى والأشكال: العبور الجماعي، والعبور نحو الشتات، والعبور التطهيري، والعبور بالخفّة، والعبور إلى الجسد، ثم العبور في الأشكال، بوصفها مكاناً لعبور الكتابة نحو تحقيق مغامرتها، ليس فقط داخل شرط قصيدة النثر التي ابتدع فيها الشاعر أسلوبًا غير مألوف كما في «حياة كسرد متقطع» (2004)، بل كذلك قياسًا إلى التوتُّر الأجناسي بين الشعري والسردي، أو الانتقال من نوع أدبي إلى آخر من الأنواع التي كتبها الشاعر (رحلة، يوميّات، مذكرات، رواية، شذرات..).

وفي زعمي، أن التجربة برمّتها تفصح عن محفلين رئيسين متساندين؛ إذ يمثل كل واحد منهما تأويلًا للآخر:

– أوّلًا؛ هي تمثل مهجريّة جديدة في أدبنا المعاصر، أخذت تتوسع في تلك الحقبة وانضوى تحتها أطيافٌ من الجوّالين الهائمين الذين يقتفون آثار عوليس والسندباد بسبب من الوضع السياسي الجبري. وقد نشأت هذه المهجرية عند الشاعر منذ أن غادر وطنه وآثر المنفى والإقامة فيه اختياريًّا ومواجهته له في حضرة رعب الوجود وقسريّته، منفيًّا ومُطارَدًا في أتون أسئلة المصير والهويّة الملغزة على نحو ما يولِّد لدى الذات الفردية رَقْصًا على الأجناب بين الـ»هنا» والـ»هناك».

من منفى إلى آخر أكثر عرامةً، مع ما ينطوي تحت هذا أو ذاك من مفاهيم القلق والحيرة والبحث بالمعنى الوجودي، وأشكالٍ من التغرُّب والتيه والإحساس اللذوعي بسؤال الكينونة، أو الموتيفات التي ترخي على ذات الكتابة وهويّاتها أبعادًا وتأويلات متنوعة في سياقٍ مُعَوْلم وتستضيء باستراتيجية «الحضور الغياب»، لم يعد مهجر أمجد ناصر مهجرًا بالمعني القديم، لكنّه ليس المكان الذي تقلّ احتمالات عودة من يذهب إليه، ولا هو بمنأى عن مجريات الأحداث في بلده الأمّ. من هنا، ظلّ الشاعر في عبوراته يستثمر الهجرة كأفق للكتابة، بكيفيّةٍ توازيها قدرة الذات الكاتبة على التخييل والاندماج في مغامرة البحث عن نفسها داخل فضاء تتجاذبه مطالب «الهوية المفتوحة» وجدلية «الأنا» و«الآخر» غير القابلة للانفصام.

– ثانيًا؛ هي تكشف عن ظهور وعي حداثي مضادّ، بارودي وساخر، لاذ باستراتيجيات كتابية ستعمل على تنويع مرجعيات الذات والنص والعالم؛ وذلك منذ أن انزاحت من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، ومنها إلى الكتابة عبر النوعيّة، فلم يعد يعنيها يوتوبيا الأنا الشعري التي اطمأنّت إلى خلق أوطان بديلة بالرمز والأسطورة، أكثر من اهتمامها باكتشاف مناطق تعبير جديدة وجدت مُتنفّسها في أشكال من الاحتجاج الساخر والتهكم والمفارقة والمرح الديونيزوسي، كأنما هي تعويض عن «اللاشعور السياسي»، الذي أعلن خروجه على طرق التعبير والبلاغة المستقرة أو التي أصبحت سلطة في شكل قوالب وأنماط محددة.

وإذا كانت بعض التجارب ركّزت على الدال وأشاعت الغموض و«عطالة» الدلالة، فإنّ تجربة أمجد ناصر لم تهدم العلاقة بين دلّ وفهم، وظلّت الأدلة تحيل على مرجع ما، ليس ظاهر العيان، ولكن يتطلّب من قارئه بلاغةً ما.

لقد ظلّ أمجد ناصر ماشيًا بيننا منذ أربعين سنة، في طريق ملغزة لا تنتهي، يكتب مغامرته ويُكبّ عليها من لحمه وروحه بلا كلل، ولا يعرف على أيّ أرض يقف، لأنّ مبدعًا مثله، قلقا ومسكونا بشريعة البحث الدائب عن المعنى أو ما بقي منه في عتمة المستقبل، ولأنّ قلبه مفعم بخضرة دائمة، لا يترك المصباح يسقط من يده لحساب «راية بيضاء»، وأما الخطيئة أمام الفظاعات الكبرى فليس لها سوى أن ترعى «دليل الحائرين».

الــبرزخ/ حسام الدين محمد

انتقلت، خلال حادث سيّارة هائل في قبرص عام 1994، إلى برزخ أثيريّ بين الحياة والموت. تحت تأثير تلك اللحظة التي امتـــدّت شهورا ســــافرت إلى فرنسا وجــــربت الاتصال بجميل حتمل الذي كنت قد التقيــته في كواليس التنظــــيمات تحت الأرضية في بيروت الحرب الأهلية. لم يردّ الهاتف لأن جميل كان قـــد توفّي ليلتها.

غادرت في اليوم التالي إلى لندن واتصلت برفيقي السلاح، حينها، أمجد ناصر ونوري الجراح، اللذين كنت أراسلهما للنشر في «القدس العربي» و«الناقد»، واجتمعنا في بيت الجراح في هارلي ستريت، شارع الأطباء الشهير في لندن، حيث قرأ الحاضرون أشعارهم والتقطنا صورا بدونا فيها محاطين بضباب الشعر وغموضه.

زرت أمجد لاحقا في بيته في جمهورية الهنود الصغيرة في لندن، ساوثهول، التي ذكرها في عدد من قصائده وكانت تلك مقدمة علاقة صداقة وزمالة في «القدس العربي»، التي دعاني حينها للعمل فيها، حيث كان مدير تحرير ثقافيا، وجمعتنا غرفته الصغيرة المبقعة بالدخان والصور والرسائل، كما جمعتنا حانة «السالوتيشن» القريبة، والمقهى البولندي، حيث التقينا بعشرات الكتاب والشعراء والمثقفين، ورتبنا لملفات كثيرة: المثقفون العراقيون وشؤونهم، النقاد العرب وقصيدة النثر الخ… وطحنتنا عجلة الصحافة الدائرة مثل عجلة الأقدار في الفيلم الموسيقي الشهير عن «كارمينا بورانا».

بدأت علاقتي بشعر أمجد بـ«مديح لمقهى آخر» وأكاد أتذكر كل قصيدة في تلك المجموعة العظيمة، وتابعته في «منذ جلعاد كان يصعد الجبل» و«رعاة العزلة» و«سر من رآك» وصولا إلى «وحيدا كذئب الفرزدق» و«الحياة كسرد متقطع»، وكانت آخر مرة كتبت فيها عن شعره في مجلة «الشعراء» الفلسطينية التي كان يرأس تحريرها الشاعر غسان زقطان، وبعد قراءة مادتي خرج أمجد من مكتبه بعينين دامعتين. كان أمجد يغلّف رقة الذهب الشعرية بحديد القساوة التي لم أكن أستطيع، أنا القادم من الشام، تقبلها أحيانا، لكنّني كنت أعرف أنها كانت القشرة الصلدة التي تحمي ذلك البدوي، القادم من حدود الخريطة المدببة كالزجاج، من شبهة الهشاشة التي تميّز الشعراء.

أمجد الآن في برزخ أثيريّ، كما كنت أنا نفسي حين التقيته عام 1994، وحينها مدّ لي يده لنصعد الجبل ونرعى العزلة في غربتنا اللندنية.

اليوم، أمدّ يدي، ومعي سكان أرض الشعر الغرباء، لأمجد، كي نصعد الجبل معا.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى