الضياع السوري/ برهان غليون
(1)
أثبتت تجربتا تونس 2012 والسودان 2019 أن المخرج السلمي الوحيد للأزمة السياسية التي دشنتها ثورات الشعوب العربية هو التفاهم بين جزء من النخب الحاكمة، التي تتحكّم بالدولة ومؤسساتها وأجهزتها، والقوى السياسية والمدنية الممثلة للمجتمع، على صيغة للخروج من المواجهة، والاتفاق على مرحلةٍ انتقاليةٍ هدفها الرئيس قيادة البلاد نحو انتخابات حرة ونزيهة، يختار الشعب بمقتضاها ممثليه الشرعيين، ومن ثم تدشين حياة ديمقراطية سليمة تحسم قضية تداول السلطة، وتضمن الاستقرار السياسي، وتوجه طاقات المجتمع نحو الإنتاج والإبداع والتقدم المادي والعلمي والثقافي. وهذا ما أطلق عليه اسم طريق الحل السياسي للتحدّي التاريخي الذي فتحته دورة الانتفاضات الشعبية في منطقةٍ عربيةٍ تأخرت عقوداً عن ركب التقدم المدني والحضاري العالمي.
وفي المقابل، في جميع الحالات التي أخفقت فيها الشعوب في سلوك هذا الطريق، وفشلت في فتح الحوار بين الأطراف الرسمية والشعبية، للبحث عن حل وسط تلتقي فيه إرادة الجمهور الثائر ومصالح الحفاظ على الدولة والنظام العام، وبالتالي على البنية المؤسسية والأجهزة البيرقراطية والعسكرية والأمنية الرئيسية للدولة، كانت النتيجة مأساوية، تراوحت بين ثلاث حالات جميعها كارثية. الأولى، الليبية التي انهارت فيها الدولة تماماً، وتفكّكت وأصبحت البلاد فريسة للصراع بين مجموعات مسلحة لكل منها مشروعه الخاص، وهي تعمل أكثر من ذلك تحت وصاية الدول الأجنبية وبمساعدتها. وهذا هو الوضع أيضاً في اليمن الذي يتخبّط في حرب داخلية وإقليمية، لا أفق واضحاً للخروج منها بعد. الثانية، الحالة المصرية التي ما إن أدّت فيها أول انتخابات نظامية إلى نجاح ممثل المعارضة في الانتخابات الرئاسية، حتى ارتدت النخب الحاكمة، التي خشيت على مصيرها ومصالحها، على أعقابها، واختارت الانقلاب على الديمقراطية، بذريعة مقاومة خطر سيطرة القوى الإسلامية. وكان من الطبيعي أن تؤسس هذه النخب التي غدرت بالتزاماتها تجاه الشعب والقضية الديمقراطية حكماً تسلطياً أكثر تطرّفاً من سابقه. إذ لم تعد تكتفي باستعادة السيطرة بالقوة وتشديد القبضة الأمنية على المجتمع، وإنما تهدف، أبعد من ذلك، إلى القضاء على إرث الثورة، واجتثاث أفكارها وتنظيماتها ونخبها من الجذور، حتى أصبح حكم الرئيس السابق حسني مبارك يبدو أمام النظام الجديد “ديمقراطيا”، على الرغم من فساده المدوّي.
الحالة الثالثة، هي الأسوأ، وهي السورية التي حافظ فيها النظام، بفضل الدعم غير المشروط لحلفائه الدوليين، على تماسكه ووحدة أجهزته ونخبته القائدة أمام الانتفاضة الشعبية، وصمم، مند البداية، على رفض أي مقاربة سياسية، وقطع دابر ما أطلق عليها اسم المؤامرة الكونية على البلاد، والإصرار على الانتصار العسكري، مع شعارٍ لا يمكن أن يكون أكثر وضوحا وتعبيرا: الأسد أو نحرق البلد. وكانت النتيجة، بدل الانتقال السياسي الذي كان يحلم به الجمهور المتطلع إلى التغيير نحو حكم ديمقراطي، يضمن احترام القانون وحقوق الأفراد وحرياتهم، ويحافظ، في الوقت نفسه، على مؤسسات الدولة، وبالتالي على أطرها الرئيسية وبنياتها الأساسية، شرّعت أبواب البلاد للتدخلات الأجنبية، وصارت مسرحا تفرغ فيه هذه الدول نزاعاتها، وتدرب فيه جيوشها وتجرب أسلحتها. وفيما وراء استمرار النظام وتعزيز أجهزته الأمنية لم يحصل تفكيك الدولة، وتقويض مؤسساتها السياسية والاقتصادية وسلطتها السيادية لصالح زعماء المليشيات المحلية والأجنبية، الأهلية والرسمية، فحسب، وإنما تفكّك المجتمع أيضا، ولم يعد للسوريين هوية جامعة، ولا مشروع مشترك، ولا إطار يوحد جهودهم، أو يعكس إرادتهم السياسية. تحولت سورية بعد سنوات قليلة من الحروب المتقاطعة إلى مسرحٍ للصراعات الإقليمية والدولية، وفقد فيها السوريون أي موقعٍ يسمح لهم بالمشاركة في تقرير مصيرهم، بل أكثر من ذلك، فقد السوريون أنفسهم البوصلة الوطنية، فصار كل فريقٍ، بل كل فردٍ، يبحث لنفسه عن مخرج وموطن بديل وموقع يضمن له المحافظة على البقاء والعيش في أي شروط ممكنة، فصار نصف شعبها لاجئا من دون حقوق في أرضه، ونصفه الآخر نزيل المخيمات، أو تحت ظلال أشجار الزيتون المدفوعة الثمن.
أمام تلاعبات الدول المختلفة بمصيرهم، وفشل المنظمات الدولية السياسية والإنسانية في تقديم المساعدة في أي مستوى أو ميدان لمساعدتهم على استعادة قرارهم في وطنهم، ونتيجة هشاشة مؤسساتهم المدنية، وخبراتهم التنظيمية والسياسية، إن لم نقل انعدامها، يعيش السوريون اليوم حالةً من الضياع الفكري والسياسي والاجتماعي معا، فبعد أن فقدوا المبادرة، وأصبح أعداؤهم هم المتحكمين بسير العمليات العسكرية والدبلوماسية، لم يبق لهم سوى رد الفعل، ولم يعد أكثرهم يرى مخرجا قريبا من دون التعلق بأذيال هذه الدولة الأجنبية أو تلك. ولم يعد بمقدرة قادتهم، أو من هم في حكمهم، معرفة اين يتوجهون، ولا كيف يستطيعون تنظيم أنفسهم، وتشكيل قوى سياسية تجمع جهودهم، ولا الوسيلة لتحقيق الحد الأدنى من التفاهم على أي مبادرة سياسية أو عسكرية. وعلى الرغم من أن سياسييهم ومثقفيهم، أو القسم المنخرط في الصراع من بينهم، لا يكفّون عن التذكير بضرورة تطبيق قرارات الأمم المتحدة، ويعلنون تمسكهم بالحل السياسي بمقتضى هذه القرارات، إلا أنهم لا يزالون عاجزين عن تنظيم أي جهد جماعي فعال لدفع المجتمع الدولي إلى التخلي عن استقالته السياسية، والسير في هذا الطريق. وحصيلة ذلك كله أن قسما كبيرا من نخب المعارضة التي لا تزال منخرطةً في الصراع لا ترى أن لديها خيارا آخر سوى انتظار ما يمكن أن يسفر عنه صراع الدول المتنازعة على تقاسم النفوذ في الأرض السورية أو تفاهمها ، في أستانة أو واشنطن أو جنيف، عله يفتح بعض الآفاق المسدودة تماما اليوم. ويكرّس القسم الآخر من المعارضة جهده من أجل الخروج من الفوضى والتشتت الضارب في البحث عن قيادةٍ افتقدت إليها الثورة خلال ثماني سنوات، أو بالأحرى على تحصيل التوافق على اسم قائد/ زعيم مخلص لأهداف الثورة ومجسد لإرادة جمهورها، يمكن أن يجمع عليه المعارضون، يتحدّى مشاريع قوى الاحتلال الأجنبية، ويجسّد روح السيادة السورية المنتهكة في مواجهة روح التبعية والاستزلام السائدة في مؤسسات المعارضة الحالية. أما القسم الثالث فهو المتعلق بحبال الغيب، بالمعنى الحرفي للكلمة، ممن يتضرّع إلى الله صبح مساء، ليضرب بإرادته التي لا ترد الظالمين بالظالمين، ويخرج من بينهم أنصاره سالمين. بينما غسل القسم الرابع يده تماما من الثورة وشعاراتها، وسلّم بأن سورية انتهت، وليس لها أي أمل في الخلاص، لا اليوم ولا غدا، ولم يترك له الإحباط والشعور الحارق بالهزيمة سوى تسويد صفحة نشطائها، والشماتة برجالاتها. هكذا يحوّل الخوف من الخسارة حياة السوريين المنخرطين في الثورة وأنصارها إلى جحيم، يسعّره تبادل الاتهامات والاتهامات المضادة، ويصبّون جام غضبهم واحدهم على الآخر، ويتنازعون في ما بينهم جرعة الأمل الضئيلة المتبقية. يكاد بأسهم على بعضهم يكون أشدّ من بأسهم على عدوهم الذي أسلم قياده لحماته، واطمأن إلى البقاء في ظل الاحتلال.
(2)
والحال، لن يخرج من المداولات الدولية أي حلٍّ يحقق الحد الأدنى من تطلعات الشعب الذي ما يزال يضحي منذ ما يقارب العقد من السنوات من دون حساب. لن يقبل الروس أي حلٍّ تفاوضي يفضي إلى فتح ثغرة تهدد بقاء نظام الاستبداد والقمع الشمولي القائم، وتحمل إمكانية خروج سورية والسوريين عن السيطرة. وسوف تستمر موسكو في قضم المواقع التي تحتلها المعارضة، بتطبيق سياسة الأرض المحروقة، لفرض إرادتها وإجبار السوريين على القبول بتأهيل النظام القائم، بوجود الأسد أو من دونه. ولن يتجاوز المجتمع الدولي والغرب الديمقراطي في موقفه من موسكو سقف العقوبات والضغوط الاقتصادية والدبلوماسية، كما أعاد تذكيرنا بذلك منذ أيام (الشرق الأوسط 22 /8/2019) المبعوث الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، جيمس جيفري، في حديثه أخيرا للصحافة. وأكثر ما يمكن توقعه من هذا المسار السياسي الذي لم يعد يعرف رأسه من ذنبه هو قيادة البلاد نحو ما تسمى “انتخابات نزيهة” تحت إشراف الأمم المتحدة، لن ينتج عنها سوى التجديد الكاريكاتوري لشرعية الأسد وسلطته الزائفة. كما أن مساعي آخرين لاختيار قائد للثورة من خلال تصويت مواقع ومجموعات التواصل الاجتماعي لن ينجح في التوافق على اسم، وإذا نجح فلن يحل مشكلة القيادة، وإنما سوف يعقّدها، أكثر لأن غيابها لم يرتبط بالافتقار لشخصيات وأسماء مخلصة وبارزة، ولكن لانعدام الرأي الموحد والرؤية المشتركة ووضوح الأهداف. وبالتالي غياب الأجندة الواحدة أو الجامعة عند جمهور الثوار والمعارضة أنفسهم. ومن المستبعد أن يشملنا الله برحمته، ويؤيدنا بجنودٍ من عنده لا نراها، بينما نحن على ما نحن عليه من التنافر، بل الكراهية المتبادلة التي يغذّيها في ما بيننا عجزنا عن استيعاب اختلافتنا وتجاوزها، ومن الجحود الذي يطبع علاقاتنا، فيجعل الواحد منا لا يرى في أخيه صديقا أو شريكا، ولكن منافسا أو عدوا أو مرتدا عن العقيدة، ينبغي تجريده من أي صفاتٍ أو قيم إيجابية، وإذا أمكن تحييده، ورفض الاعتراف بدوره وأهليته مهما كانت. وهذا ما يجعل من المراجعات الشكلية الجارية مناسبةً للكشف عن العيوب والمثالب الشخصية، وتوزيع الاتهامات وتعميم جو من الريبة وعدم الثقة والتشكيك المتبادل عند أغلبيةٍ من جمهور الثورة وأنصارها.
هكذا لم يتطوّر وضع المعارضة، ولا وضع النظام أو ما تبقى من عوارضه، منذ التدخل الروسي عام 2015، حين بدأ تحييد المعارضة بالقوة العسكرية المفرطة، والتحايل على المقاتلين باسم المصالحات، والتبشير بالحل السياسي الروسي، بينما فرض على العصابة الحاكمة الانصياع لإرادة سلطة الانتداب الروسي الجديدة ومخططاتها، والعمل على استراتيجيتها. من هنا، يجد السوريون أنفسهم اليوم، معارضين وموالين، معلقين في الفراغ، أو بالأحرى في حالة انعدام الوزن، مجرّدين من أي إرادة وقرار، لا يملكون من أمرهم شيئا. فمن جهة أولى، انتهى النظام القديم، ولم يعد بالإمكان إعادة تأهيله، وانهارت معه قواعد عمله وقيمه وتقاليده، ولم يبق لدولة الأسد إلا هويتها الجديدة ورقة توت تخفي عورة السلطة الأجنبية المحتلة، فقد تحطمت كما تتحطم سفينة ضلّت طريقها، وارتطمت بالصخور، بسبب حماقة قبطانها الذي اختار أن يكون ماسح أحذية لدى السيد المحتل على أن يرى أبناء شعبه أسيادا وهو واحد منهم. ومن جهة ثانية، لم ننجح يعد في تجميع عناصر النظام البديل الذي يستمد شرعيته من إرادة الشعب، والتي نحتاج إليها لإعادة بناء سفينة الدولة السورية المحطّمة والغارقة. وكما يشكل هذا الفراغ الثغرة التي تستمد منها سلطة الانتداب الأجنبي قوتها، يمثل بالنسبة للسوريين حالة العجز بما تعنيه من انعدام الآفاق، وغياب الفرص والخيارات، وبالتالي التخبط والضياع والافتقار للقدرة على التوجه والعمل المشترك، وتجميع القوى وتوحيد الجهود.
من أين يمكن لنا أن نبدأ العمل في هذا الوضع البائس وتلك الشروط الجائرة إذن؟
(3)
الجواب: من الكارثة ذاتها، فمن رحم الثورة المغدورة، ومن الدمار والخراب والموت الذي قادت إليه حرب الإبادة الجماعية التي نظّمها حكم جائر على شعبٍ مجرّد من السلاح، ومفتقر إلى أي حماية سياسية أو قانونية، خرج ويخرج كل يوم من بين أنقاض دولة الأسد المنهارة والمفكّكة والمحتلة، مجتمع سوري جديد مستقل عن المجتمع العبودي القديم، ومتحرّر أكثر فأكثر من قيوده وقيمه ورهاناته. وهو لا يقتصر على الملايين الذين غادروا سورية لاجئين، أو نازحين ومشرّدين، ولكنه يشكل العديد من أولئك الأفراد الذين خاب أملهم بالنظام، ودمرت أسس حياتهم الطبيعية، في مناطق سيطرة النظام وخارجها، فقد خرج هؤلاء جميعاً من قفص العبودية الحديدي الذي حبسهم فيه النظام، ومن تحت سلطته المعنوية والسياسية، وهم ينتشرون اليوم في مختلف بقاع الأرض، يعيدون بناء وعيهم وتأهيلهم العلمي والمهني والإنساني، في
شروط حياة مناقضة تماماً للتي عاشوها في الماضي.
لقد انتهى الحصار الذي كان يفرضه النظام على الشعب بأكمله، ليمنع عنه النور والرؤية والتفكير المشترك والتواصل. وعلى الهوامش وفي المغتربات وداخل مخيمات اللاجئين وصفوف المشردين والمنكوبين، وفي مئات الجامعات العالمية التي يدرس فيها عشرات آلاف الطلبة السوريين في كل الاختصاصات، يتكون مجتمع سوري جديد، خارج عن سلطة النظام ونقيض لها. وعندما نتكلم عن مجتمع، فنحن نعني نشوء المؤسسات التي حرم منها السوريون نصف قرن، من أحزاب ونقابات وجمعيات مدنية حرّة على مختلف أشكالها، بهدف أن يظلوا أفرادا منفصلين ومتعادين وشاكين بعضهم ببعض، متساوين، كذرّات الرمل، أو كجسد هلامي من دون عمود فقري يمكّنهم من الوقوف والسير. في عالمهم الجديد الحر، يعيد السوريون تواصلهم المقطوع في ما بينهم، ويتعرّفون على ذاتهم ومناقبهم ونقائصهم أيضا، ويطورون وعيا أكثر موضوعيةً وعقلانية بوجودهم الجمعي، ويعترفون أكثر فأكثر باختلافاتهم ويستوعبونها ويتمثلونها، بل يحتفون بها، ويعيدون أيضا تواصلهم الذي انقطع مع العالم، ويكتشفون إرادتهم الحرة وينسجون علاقاتهم المدنية والسياسية التي مزقها الاستبداد عبر آلاف الجمعيات والمنظمات الأهلية والسياسية والإنسانية التي تخضع لإرادتهم، ويطوّرون قدراتهم في البحث والتنظيم والمبادرة والعلاقات الدولية.
لم يولد هذا المجتمع بإرادة أحد، ولكنه كان نتيجة طبيعية وعفوية لانفجار الدولة القديمة، وتطاير أشلائها في كل الأنحاء. لقد ولد في الكارثة، كما ولد الشعب الفلسطيني في النكبة. وهو يسير حتما نحو التواصل والتلاقي وتجميع القوى وإنتاج وعي موحد ومستقل. وسيكون قسم كبير منه جاهزا للانخراط في إعادة بناء وطنه الأصلي والدائم، سواء جاء ذلك بمناسبة انتفاضة قادمة، أو من خلال الضغوط المتراكمة والمستمرة.
كل ما نحتاج إليه اليوم لنسرع في انتقال آثار هذه الثورة الحقيقية إلى داخل سورية القديمة والمتفسخة القائمة، وعلى الرغم منها، أن يعمل من تبقى على قيد الحياة السياسية والفكرية من قوى المعارضة التقليدية الماضية على تنشيط التفاعل بين هذه القوى ومساعدتها على تعميق التواصل في ما بينها، وإنشاء الروابط التي تجمع بين الأفراد، على مستوى التجمعات المهنية والجمعيات الأهلية، والمجالس المحلية، والمؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية. ووسائل ذلك تنظيم الحوارات واللقاءات والندوات التي تجمع السوريين، وربما تطوير نوع من البوصلة التي تعنى بالتوجهات الفكرية والسياسية، وتطلق عبر الإعلام الأفكار الجديدة والمبادرات وتعمم نتائج التقدم في أي ميدان على الميادين الأخرى. ومن صلب هذا المجتمع الجديد، سوف يولد النظام البديل، بمؤسساته وأساليب عمله وتنظيماته الجديدة، وتتطوّر قيم التعاون والتضامن المطلوبة للارتقاء بسلوك الأفراد ونوعية تطلعاتهم، وتتخلق قوى النظام الجديد.
على الرغم من الكارثة، المجتمع السوري اليوم أكثر قوة وغنى وتماسكا سياسيا مما كان عليه قبل الثورة والحرب، حيث لم يكن هناك سوى مؤسسة وحيدة حاكمة وموجهة ومنظمة وسيدة، هي أجهزة الأمن التي يديرها ويشرف عليها سيدٌ مطلق الصلاحية، وكلي السطوة والانتشار. وهذه هي خدع التاريخ، أو بالأحرى جدليته، حيث لا تنفصل القوة عن الضعف، والعكس صحيح. واليوم، وسورية شبه مدمرة، لا نخطئ عندما نقول إن المجتمع السوري لم يعد يفتقر للقوى الحرة والحية والنشطة القادرة على التغيير. ولكنه يفتقر لهذه الروح الجامعة والمحرّكة التي تخلق الأمل، وتبعث الثقة، وتوحد الإرادة، وتشعل العزيمة، وتقضي على روح الإحباط واليأس الذي يبعث النفور والتنفير المتبادل داخل صفوف قوى الثورة والمعارضة القديمة. ولن نعثر على هذه الروح التي تدفع إلى التعاون والتضامن، والعمل من أجل مشروع وطني مشترك، ما لم نوسع من دائرة اهتمامنا، وننقل محور اهتمامنا من المعارضة المجهضة، بمختلف تنويعاتها، إلى سورية ذاتها ومصير السوريين، وننظر في ما وراء التشكيلات الاجتماعية والعصبيات الحزبية والفئوية والطائفية المتفسّخة إلى الافراد المولودين من جديد الذين تحرّروا من ثقافة العبودية، أي ثقافة الأنانية، وشره السلطة والمال، وانعدام الشعور بالمسؤولية الجماعية.
ولن نتمكن من التغلب على روح الهزيمة والخوف والانحلال المجتمعي الذي يجسّده مبدأ: انجُ سعد فقد هلك سعيد، إلا ببناء ثقافة التضامن والأخوة التي قامت على أفضالها الجمهوريات في جميع البلدان الديمقراطية، بمقدار ما أسّست لمجتمع الحرية والعدالة والمساواة، وعمّقت روح التعاون والتفاهم بين الأفراد، وجعلت خلاص الفرد وضمان حقوقه وحرياته مرتبطين بخلاص المجتمع ودولة الحرية والقانون. والدول والأقاليم التي لا تنجح في إرساء أسس التضامن والتكافل الجماعي تضعف حظوظها كثيرا في بناء أسس التعاون بين الأفراد والمجتمعات، وتفقد الكثير من فرصها للارتقاء بشروط حياة المجتمعات، المادية والمعنوية، وربما بقيت فريسةً سهلةً للحروب والنزاعات التي لا تنتهي، والتي لا تنتج غير الدمار والموت والخراب، كما هو حالنا اليوم في المشرق الحزين.
العربي الجديد