مراجعات كتب

سلمان رشدي يستعيد دون كيخوت وصراعه من أجل الحب/ عمار المأمون

الكاتب سلمان رشدي يقدم لنا، في روايته “كيخوت”، درسا في العمران الروائي، والقدرة على حبك عالم يسخر من عالمنا الحالي بأسمائه وحقائقه وأوهامه.

يستعيد الوسط الثقافي هذا العام الذكرى الثلاثين لإصدار فتوى إهدار دم الكاتب البريطاني من أصول هندية سلمان رشدي، الذي عاش لأكثر من عشر سنوات متخفيا، يتنقل بين المنازل ويستخدم اسما وهميا “جوزيف أنطوان“، مع ذلك، وبالرغم من التهديدات والعنف والهيستيريا العالمية التي لاحقت كل ما يتعلق باسمه، استمر بالكتابة، خارجا من “مخبئه“ عام 2001، معلنا أنه لن يعيش تحت سطوة الخوف، بالرغم من أن الفتوى كانت وظلت قائمة ضده حتى الآن.

باريس- صدرت لسلمان رشدي هذا العام رواية “كيخوت” التي رشحت لجائزة البوكر البريطانية، والتي تستدعي منذ العنوان دون كيخوت، الفارس المبتذل، أسير أوهامه عن الحب ومصيره البطولي، لكننا في نسخة رشدي نراه يمضي نحو نهايته، هاربا من عالمه الذي يتطابق مع عالمنا.

يقطع كيخوت الولايات المتحدة للبحث عن محبوبته، الشخصية التلفزيونية الشهيرة  والمدمنة على الحبوب المهدئة، لنرى أنفسنا أمام طبقات من عوالم روائية يبنيها رشدي مازجا الهلوسة مع الإدمان، التلفاز وحقائقه مع تاريخ المهاجرين والعنصرية، وكأننا أمام عالم يتداعى تدريجيا، ينبعث فيه “اللاشيء” لالتهام كل ما هو موجود، ولا سبيل للخلاص إلا فتحة نحو عالم آخر مجهول.

شعرية الأسماء

تحوي الرواية عدة طبقات من السرد، فمنذ البداية نتلمس حضور رشدي الذي يتخلل صوت الرواي “سام دوشماب”، كاتب الروايات البوليسية المغمور، الذي يخبرنا بأنه يكتب رواية جديدة، يظهر فيها صوت رشدي في بعض الهوامش التي تحيلنا إلى تفاصيل في

صفحات متقدمة من الرواية، لكي نعلم مثلا لماذا سمي دوشامب “الأخ”. ذات الأمر نراه في بعض الأشياء التي يخبرنا رشدي أنها ليست مهمة ولا داعي لمعرفتها، لندخل بعدها عوالم كيخوت، وكيف اختار هذا الاسم، ثم ظهور سانشو فجأة بوصفه ابن كيخوت، والذي يختلف عن باقي الشخصيات بأنه يدرك أنه نتاج مخيلة دون كيخوت، ويعي وجود كاتب يبنى ويرمم ذاكرة والده ويدفعه في رحلته، هذا الكاتب -رشدي- يسخر من شخصياته مستدعيا ذاته عبراستخدام اسمه الوهمي “جوزف أنطوان” في حكاية كيخوت بوصفه اسما مستعارا لأحد الشخصيات.

الأسماء المقتبسة من تاريخ الأدب والثقافة الشعبية ترسم الشخصيات وتتيح لها أن تسخر من وجودها الروائي وتسمح لرشدي انتقاد تاريخ تمثلات العالم كما نعرفه، إذ تمتزج حكايات الأدب “الراقي” مع “الحكايات المبتذلة” القادمة من تلفزيون الواقع والمؤمنين بنظرية المؤامرة، وكأن “كل صور العالم” تحضر في عقل كيخوت، مدمن مشاهدة التلفاز والمصدق لكل ما فيه، والذي يستبدل تاريخه الشخصي بحكايات برامج تلفزيونية تبدو مألوفة للقارئ، وكأنه نتاج الثقافة الشعبية بكل أشكالها، مُتبنيا أخلاقيات برامج المسابقات ونظريات انهيار العالم، عاشقا لـ“سلمى آر” سليلة نجمات بوليوود والشخصية الشهيرة في أميركا.

وهنا تبرز قدرة الأسماء على بناء الحكايات، فهي مجرد عتبات تختزن تاريخا من النصوص، فالجميع ذو أسماء وهمية سواء في حكاية الكتاب “دو شامب” أو ضمن حكاية دون كيخوت، وهذا ما نراه في العميل السري ذي الأصول اليابانية الذي يتواصل مع الكاتب لأجل التحقيق بشأن ابنه الذي يقود عمليات إرهاب رقمية، فالعميل ذو أسماء عدة تتغير مرارا، يعي من حوله هذا التغيير، وكأن الاسم ليس إلاّ حجة أو قاعدة أولى نتفق عليها للبدء بالحكاية، تلك التي قد تتطابق مع روايات دوشامب البوليسية التي لم نقرأها.

هلوسة أم مخيلة

يظهر سانشو في الرواية بوصفه ابن كيخوت الذي يخلقه من مخيلته، ليكون في البداية أشبه بشخصية تلفزيونية مشوشة، يمتلك جسدا إلكترونيا، ويسعى طوال الرواية لأن يكون إنسانا من لحم ودم، ومستقلا عن مخيلة والده، ليقرر -سانشو- ترك كيخوت ليلاحق من يحب “الأجمل من الجميلة” مُتلاشيا حين يلتقي بها، ذات الأمر مع كيخوت، فالعالم الذي ينهار في “اللاشيء”، والذي يتطابق مع زمن الانتهاء من كتابة الرواية، ينتهي بكيخوت بعد رحلته في الوديان السبعة إلى لحظة لقائه مع محبوبته، التي “يخطفها” في سبيل الهرب عبر بوابة سحرية نحو عالم جديد، عالم يخرج فيه كيخوت وسلمى من الكتاب نحو عالم الراوي دوشامب، الذي يراهم أمامه لحظة كتابته لآخر كلمة من روايته.

تحضر موضوعة الصحة العقلية بشدة في الرواية، سواء بسبب العزلة الاجتماعية أو الهجرة، أو وباء الأدوية المخدرة الذي يجتاح أميركا أو التلفاز نفسه، وما يبثه من رعب وسخافات و”حقائق” تترك المشاهد محتارا، يشكك بوعيه في العالم، وهذا ما يحيلنا إلى  كيخوت ومحبوبته، إذ لديهما حكايتين شخصيتين مختلفتين، واحدة متخيلة  على الشاشة كسلمى أو على الورق ككيخوت، وأخرى “حقيقة” نراهما فيها مضطربيْن عقليا.

كيخوت المصاب بنوع من الثنائية القطبية وسلمى مدمنة الحبوب المخدرة وتعالج نفسها بالصعق الكهربائي، ليبدو العالم بنظر الاثنين كرتونيا هشّا، قابلا للتلاشى والتغير خصوصا أنهما يصابان بفراغات في الذاكرة، وهذا ما يجعل سانشو الشخصية الساخرة والوحيدة في الحكاية، فهو لا يأخذ ما يحدث من حوله على محمل الجد، كونه مدركا للعبة الروائية، وأنه ككل شيء سيتلاشى، كما العالم الذي يعيش فيه، والذي سينتهي حسب كيخوت حين يجد حبيبته، فحينها، “لن يكون له معنى سوى الانهيار”،  في إشارة إلى نهاية الرواية التي يكتبها دوشامب، وكأن الشخصيات واعية بأقدارها وبنهاياتها، لتأتي رحلة كيخوت نوعا من المغامرة المتهورة في سبيل النجاة، ورهانا غير مضمون النتائج.

يقدم رشدي لنا درسا في العمران الروائي، والقدرة على حبك عالم يسخر من عالمنا الحالي بأسمائه وحقائقه وأوهامه، صحيح هناك إطالات قد تبدو مملة، وقوائم تحاول ضبط ما نشهده من صور ومعلومات في “عالمنا”، لكنه  يتهكم من القول المتكرر بأننا “كلنا دون كيخوت”، فلا أحد منا يشببه، كيخوت هو الأشجع والأشد سذاجة، القادر فعلا على القتال حتى النهاية حتى لو فقد كل شيء، وتيقّن من موته وقدره الساخر، مُستعينا بـ”الوهم” في عالم مقبل على الخراب، حتى لو اضطر لمقاتلة فيلة عملاقة، واختطاف نجمة تلفزيونية والدخول في بوابة نحو بُعد بديل، فكيخوت يمثل نسخة فائقة عن أحلامنا، التي ندلل فيها وهمنا بالخلاص من عالم لابد أن ينهار.

كاتب سوري

العرب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى