الناس

أشتاق أن أحضن حفيدي/ فاضل السباعي

أعرف أني تأخّرت عليك في الكتابة كثيرا. هل أبدأ رسالتي بوقفتي أمام موظفة “التجنيس”، أم بوقفتنا تلك أمام الطبيبة قبل أن نفارق الوطن، وبين الوقفتين مُتّفقٌ ومختلف جدا؟

تعلم أني غادرت أنا وزوجتي – التي تبدأ نهارها بقراءة كلماتك – صيف 2012، تأخّرنا في الاستجابة لدعوة ابننا “نهاد” في واشنطن، ونحن نقول له: “بكره بتهدا”، وفي بالنا البيتُ كامل الأثاث، والمزرعةُ التي تعاونّا في زرعها شجيرة شجيرة، والبيوتُ الأربعة عملنا وأبناؤنا على تأمينها في العاصمة.. إلى أن علا صوت ابننا ذات ليلة: “الأرواح أغلى من الأشياء، كل شيء يعوّض”، فحملنا أنفسنا وجئنا هذا البلد، وأولادُنا الأربعة – كما تعلم – كلّ في بلد من بلاد الله الواسعة.

نزلنا في واشنطن عند ابننا الأصغر نهاد. شقة في مجمّع سكني ضخم من مبنيين، كلّ منهما من ثمانية عشر طابقا، في كلّ طابق خمسون شقة. وفي هذا المجمّع كلّ الاحتياجات ووسائل الراحة، سوبرماركتات ومطاعم وشركات سفر عالمية وصالة للرياضة تشتمل على حوالى أربعين جهازاً مختلفا، ومسبح وجاكوزي وسونا، ومكتبة عامة أستعير منها، وصالة للحفلات وسوى ذلك… هي اشبه بمدينة صغيرة تتوافر فيها جميع وسائل الراحة.

طلب نهاد لنا “البطاقة الخضراء”، التي تؤهّلنا بعد مضيّ عام لبدء سنوات التجنس الستّ التي تتيح لنا أن ندعو أبناءنا لزيارتنا من مغترباتهم إن استطاعوا ذلك في زمن هذا الرئيس النَّزق المتقلب المزاج، فابننا الأكبر “عماد” في السويد، و”جهاد” في هولندا والحبيبة الصغرى “سعاد” في فرنسا.. نقول: هل مَن يُصدّق أنّ عائلات الوطن تعاني كلّ هذا التشتّت والبعثرة!

في أثناء ذلك كنا نقوم أنا وزوجتي – ونهاد “الأكاديمي” المتميّز يؤجّل الزواج من عام إلى عام لانشغاله الكلي في التدريس – برياضة الصباح. فمع شروق الشمس ننزل إلى حدائق المنطقة، ثمّ ندخل الغابة. وليس هناك، يا صديقي الأديب، أجمل مما تشهد أعينُنا من طبيعة خلابة، تبدو لنا الغابة حين تسطع الشمس، بألوان مختلفة لانعكاس الضوء على قطرات الندى التي تُغَشّي أوراقها، فتتراءى لنا وكأنّ قوس قزح قد سقط من عليائه ساجدًا لله ومقبّلا، أو هي النجومُ في ليلة من ليالي مشرقنا الجميل، قد نُثرت فوق المروج، فكأنها حُبَيبات من ماس قد بُعثرت… منظر مهيب يَسبي العقول.. وإياك، يا صديقي الأديب، بعد هذا الوصف أن تظنّ أني أطمح إلى مجاراتك!

واما الغابة فهي تعجّ بالناس من أعمار مختلفة، وأمتع ما هنالك الصبايا “شِبه الكاسيات” يمارسنَ رياضة الصباح عَدْوًا، أو على الدراجات.. ولحظة “أُديم النظر” تُنبّهني زوجتي مازحة (أو غير مازحة!): “أبو عماد، غضّ البصر، 75!”، فأخجل قليلا. ثمّ أسمعها تقول: “سبحان الذي منحنا الجنّة قبل رحلتنا الأبدية!”، تسبّح لله العلي القدير وتذكر الجنّة وهي ونحن لا ندري أنها تسعى إليها سعيا حثيثا!

كانت أختك أم عماد قد جرت ونحن في الوطن، على أن تفحص في كل عام صدرها في “مستشفى المواساة” بالمركز المسمّى “البِيروني”، يملك أرقى الأجهزة للكشف عن السرطان، مقدمةً هدية من منظمة الصحة العالمية، وكان يشرف على هذا المركز أحد زملائي من الأطباء يتمتع بمهارة، ولكن استُبدلت به طبيبة شابة (من “حملة الهوية”) التي قالت لزوجتي بعد فحصها شعاعيّا وهي تقرأ الصور:

ــ وضعك سليم ميّة بالمية!

فصدّقناها واطمأنت قلوبنا، ونحن نحزم حقائبنا استعدادًا للرحيل.

وبينا نحن في واشنطن، نقوم بجولاتنا الصباحية وننعم بكلّ ما منحتنا إياه الأيام من سعادة نحاول بها التخفيف من مفارقة الوطن والبيت والأهل والأصدقاء، بدأت أم عماد تشكو من أوجاع في البطن، فذهبنا الى الطبيب الذي ما إن عاين حتى قال بصراحة الأمريكان في الأمور الطبية:

ــ أنت مصابة بالسرطان من الدرجة الرابعة.

قلنا:

ــ ولكنهم قالوا هناك سليمة ميّة في الميّة.

ولما اطّلع على الصور جُنّ جنونه:

ــ تلك كانت إصابة بدائية وكان من الممكن وقتئذ السيطرة عليها، (وأضاف) لو حَسُن التشخيص والمعالجة في بلدك لما وصلتم إليّ.

وهكذا هربنا من الموت قصفًا، ولكن كنّا حملناه معنا عبر مرض خفيّ. ولا أقول، يا صديقي، إلا فليرحمها الله. وظللت أساكن ابني، أقول له صباحَ مساء: “تزوج يا ولدي”، فيقول لي: “وأين هي العروس، والمحيطين بي كلهم أجانب؟”.

قبل أسابيع كانت سنوات الانتظار الست قد اكتملت، وتوجّهتُ، وحيدًا، إلى حيث أخذت الموظفة تستوضحني وأجيب.. وسألتني:

ــ أين زوجتك؟ المفروض أن تكون برفقتك.

قلت:

ـ لا تستطيع المجيء.

وقبل أن تتّسع عيناها دهشة، قلت:

ــ إنها تحت التراب.

وانهمرت دموعي، أبكي مثل طفل.. وأقبلت عليّ لا تعرف كيف تهدّئني.

صديقي العزيز

عدت لتوي من جولتي الصباحية اليوم. هل أحدثك بما يُضحك ويبكي؟

في الغابة، وأمامي الصبايا يمارسن الرياضة أشكالا وألوانا، لست أدري كيف سرح النظر مني، فرأيت.. وتذكّرت قولة الحبيبة تُنبّهتي، فترقرقت الدمعة في عيني.

وأمر آخر: أنّا كثيرا ما تمنّينا – أنا وزوجتي – أن نرى ذرية لنا من أولادنا.. فالذين يعيشون بعيدا عنا لا تتاح لهم زيارتنا في هذا البلد، ولا نحن الجدان نملك العافية لنسافر إليهم في أصقاعهم البعيدة! واليوم، يا صديقي العزيز، أجدني أكثر من كلّ الأيام، شوقا لأن أحضن حفيدا لي من ابني الأصغر نهاد، أقبّل أصابعه البضّة، وأشمّ شعره الحرير.. ثمّ أراه ينمو فيلعب بدراجته أمام عيني في هذه الغابة، أقول له: “انتبه حبيبي”، فإذا سقط أرضًا قمت أنفض عنه التراب وأستأنف التقبيل.. متخيلا أنّ هذا الطفل هو الوطن بعد أن ضاع منّا الوطن، ولكنه طفل، رجل، لن تشبه الذكريات التي تتكون عنده ما كان سكن صدورنا وملآ تلافيف أدمغتا.. هذه التي ستمضي إلى الفناء وعيوننا.. ترنو إلى الشرق البعيد!

بروكار برس،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى