الناس

إلى لقاء السيد الرئيس/ أحمد عمر

 

 

دمشق مزدحمة كأنه يوم الحشر، مخنوقة بالنازحين الرجعيين. ضرب بيده مقود السيارة حسرةً، لقد نسي بطاقة الدعوة، فهل يعود إلى البيت ليحضرها؟  لم يجد عزماً، وكيف يعود في هذا الزحام، وقد ضاق الوقت على زهرة الموعد المقدس مع السيد الرئيس. عدد سكان العاصمة ازداد ثلاث مرات بعد الحرب على المؤامرة الكونية، ربما أربعة أضعاف. قال لنفسه إنه يشيخ وينسى كثيراً. تابع سيره، وتساءل: من لا يعرفني؟ ومازح نفسه قائلا: أنا ابن جلا و”طلوع” الثنايا.. وطلوع الثنايا هضبة بين دمشق ودير عطية. ليست المرة الأولى التي يدعى فيها إلى القصر الجمهوري، هذه بالضبط، المرة الثالثة عشرة، حرس القصر يعرفوني، إن لم يكن من عدد الزيارات، فلكثرة ظهوري على فضائية “سما” التي ما تزال تسمى “الدنيا”. دعوات شبه يومية، من أجل تحليل الأخبار، ومن أجل إبداء الرأي في كتاب، أو في مهرجان، أو في حدث.. كاد أن يزعق في السيارات وسائقيها البهائم: ابعدوا يا كلاب، أنا ذاهب للقاء السيد الرئيس.. ألا تعرفون من هو السيد الرئيس؟ هو الذي يستحق أن يحكم العالم، وسّعوا لي، أنا شخصية مهمة. فِيري ايمبورتانت بيرسون. هل تعرفون عدد الجوائز التي نلتها؟ عطستي على فيسبوك تجذب بمغناطيسها ألف إعجاب.

بهايم، شعب بهايم، لا يستحقون قيادة السيد الرئيس.. المسلمون يستحقون الإبادة الجماعية، المشكلة الوحيدة على هذا الكوكب هم المسلمون، لولا المسلمون لعاش هذا الكوكب بسعادة وهناء، قالها رئيس مصر المظفر بصراحة. قلبي يطير من الفرح عندما أسمح بمذابح الروهينغا، وغزوات الهندوس لأحياء المسلمين، ماذا يفعل هؤلاء على كوكب الأرض؟ قيل إن السيد الرئيس استعمل 200 مرة السلاح الكيماوي، وهذا صحيح، والعالم يعرف، الغرب ليس ساكتاً إلا لأنه راضٍ بها، عدونا نحن والغرب واحد، هو الإسلام، المسلم الجيد مسلمٌ ميت.. أبغض رجل في العالم إلى قلبي ليس العرعور، ولا ملك السعودية، وإنما هو أردوغان، هذا الرجل يجب أن يقتل، أكره حتى أحمد حسون المنافق، الذي يخدمنا ويفتي فتاوى حسب الطلب، يجب أن نسوّي أمورنا مع إسرائيل، فلتذهب الجولان إلى الجحيم، سنضحي بها من أجل السلام الدائم. كلما سقط برميل زغرد فؤادي طائراً من البهجة، سنأكل الكثير من البطاطا.

رأى شامياً يصطحب ابنه إلى المسجد، صحيح اليوم يوم جمعة، أغبياء.. المسلم يأخذ طفله معه إلى المسجد يوم الجمعة، إنهم إرهابيون يقتلون الطفولة، خذه إلى الحديقة أيها الحمار، خذه إلى الملاهي، لكن صحيح أين الحدائق، أين الملاهي؟ وقف على الشارة الحمراء، فضربت سيارته من الخلف سيارة أجرة، ونزل السائق مسرعاً فعرفه، واعتذر من الأديب الكبير، الضيف الدائم على قناة الدنيا، النجم، الإعلامي، الفنان، وتوسل إليه أن يعفو عنه، القانون واضح، الحق دائماً على السيارة الصادمة من الخلف، قال السائق متشفعاً منحنياً ويكاد أن يركع: عندي كوم لحم ونازحون. نزل وعاين سيارته، ثم تركه، من غير أن يتكلم، أشار له بيده محتقراً، فشكره السائق بعبارات فيها كثير من المداهنة والتملق والضراعة، السيارة لم تتضرر سوى بخدش لا يرى إلا بعد فحص، لولا الموعد المقدس لأريته نجوم الظهر.

كوم اللحم، ضحك، المسلمون مجانين لا يفكرون إلا في إنجاب الذرية. جنرال مصر يتصرف بحكمة وهو رجل حسن الحيلة، الحرب خدعة، خدع الإخوان الأغبياء، وسرق منهم السلطة، عسكري، عيي، قليل الموهبة، لكنه باسل، وواسع الحيلة، بطل، طار قلبي من الفرح وأنا أرى جثث هؤلاء الرجعيين تحترق في رابعة، والجرافات المزمجرة أمام الكاميرات في كل العالم تنكل بالأطفال والنساء والرجال، كانت مشاهد للذكرى، وكأنها تنفذ سيناريو تصوير. خطة تحديد النسل التي ينوي اتباعها خطة رائعة، أحيانا تستورد الحكومة أغذية مهندسة وراثياً، أو فاسدة، للحدِّ من النسل. سخر في نفسه قائلاً: “فإني مباه بكم الأمم”، فلتباهوا الأمم بأمر آخر: بدور المسارح، بدور السينما، بالأوبرا، بالرياضة.. لكن صبراً سنأكل الكثير من البطاطا، سنحول المدن السورية إلى مزارع بطاطا.

أعترفُ بأنني سعيد بـ “MBS”. صحيح أنه عدونا ظاهرياً، لكنه صديق وحليف موضوعي واستراتيجي أكثر من خامنئي في طهران، وهو محكوم بقيادة بلاد مقدسة وبدوية، مسكين. الرئيس كان يسألني عن رأيي مستشيراً في كل زيارة، ولو سألني هذه المرة، أو لو أتيحت لي الفرصة، لأشرت عليه بقبول العرض السعودي بإعمار سوريا، والبقاء مدى الحياة، في أثناء الحكم مدى الحياة، سيكون قد أسس حياة تقدمية في سوريا تدوم إلى الأبد، ويكون حافظ الثاني قد بلغ السن الدستورية، حتى لو لم يبلغها، نبلغه الدستور كما فعل مجلس الشعب مع سيادة الرئيس.

” MBS” يعمل مياومة، أما إيران فتخطط للغد. وسأقول له بصراحة أنّ مشاهد اللطم في العاصمة لا تسرّني، لا بد أن الرئيس متضايق منهم، وسأقول إن الإيرانيين سلفيون ورجعيون، وأصحاب عقائد صارمة ومتطرفة، ولو أتيحت لي الفرصة له لأشرت عليه بترجيح كفة ميزان الروس. أين الروس من الإيرانيين، أين الطربوش من القبقاب. بوتين هو سيد العالم الآن، لقد عبث بأمريكا وانتخاباتها. لقد انتصرنا. تذكر مسلحا حمصيا وقف في السنة الأولى بجوار ضريح خالد بن الوليد يستنجد بأبي متعب، قلت: أحمق، هذا لا يدرك شيئا من أمور السياسة أو الدين، فكيف يستنجد بملك وهابي يعادي الأضرحة . البطاطا ستكون لذيذة. ملوك السعودية علمانيون حقيقيون، لكن في الخارج، بل حتى في الداخل.

المارّة يعبرون الطريق، بلا انتظار للإشارة، شتمهم في سره: فعلاً يجب إبادتهم، نحن لا نستحق هذا الرئيس، إنه يسبق مجتمعه بسنوات ضوئية.

كانت إشارة المرور معطلة.

وصل إلى تخوم حي المهاجرين، الهدوء سائد، مجموعات رباعية من الحرس في أزياء رسمية يجوبون الشوارع، وكأنهم عابرون وسابلة، دخل الشارع وركن سيارته بعيدا عن مكان إقامة الرئيس، فهرع إليه أربعة رجال من حرس الرئيس بأزيائهم الرسمية السوداء، لا تظهر مسدساتهم إلا للمتقين، أزياؤهم لا شديدة الاناقة فتعرف، ولا كثيرة الإهمال فتزدرى، زعق فيه أحدهم ينكر عليه الوقوف في الشارع من غير إذن، فقال لهم إنه قادم لمقابلة الرئيس، مدّ يده يتصنع البحث عن بطاقة الدعوة الرئاسية، كيف لم يعرفوني أنا الكاتب والأديب والنجم، هيئتهم غير مألوفة. لعلهم من الإيرانيين أو الشيشان، لي صور مع الرئيس، أين الصور؟ يبدو أني نسيتها.

كان يبرز صورته مع الرئيس، فتغنيه عن جواز السفر في المطار.

فتح الباب بثقة نازلاً من السيارة ليريهم نفسه، ويعرفوه، لكن لكمة على وجهه عاجلته، فسقط من هولها على الأرض، ولم يسعفه باب السيارة الذي تعلّق به، فرأى نجوماً، وعصافير، وغاب عن الوعي.

فتح عينيه ليجد نفسه مع ثلاثين شاباً أو أربعين، تبين أن بينهم نساء عاريات، إرهابيون محشورون في غرفة ضيقة وقوفاً، يبدو أنها غرفة في إحدى المؤسسات الحكومية، بانتظار ترحيلهم إلى المعتقلات المجهولة. لقد حدث خطأ، حاول أن يتكلم، لكنه وجد صعوبة في فتح فمه، مدّ يده إلى وجهه، خشي أن يكون فكّه قد كسر، وجد صعوبة في رفع يده، نعم إنه مكسور، فهو يحسُّ بألم شديد يرعد في قحفه، كان الدم يصبغ قميصه الأبيض، آخر ما يتذكره هو أنه سمع الحارس يتعجب من ضيف للرئيس من غير كرافة، وراكب (..) ووصف سيارته الفيات القديمة وصفا مهيناً.

حاول أن ينطق ويسأل الموقوفين متلعثماً، لكن الكلمات استعصت، وأبت الخروج من بين أسنانه المنطبقة المتهدمة، نازفةً، إن كان أحدهم يعرفه؟ فلم يسمع لهم همساً أو ركزاً، كل واحد مشغول بمصيره، بل إن أحداً لم يرفع بصره حتى يحدق في وجهه، الكل مذهول من الرعب والخوف، كان يسمع أنيناً مكتوماً، الهواء قليل، المكان خانق، سيختنق لو بقي هنا، تحامل على جروحه ورضوضه، وتلمّس وجهه فوجد أوراما، وخاف أن يكون قد فقد ملامحه وهيئته. اتخذ سبيله بين الأجساد إلى الباب، وجعل يقرعه بكعب حذائه، فهمس أحدهم يطالبه بالسكوت، وحذره من العقاب، وأشار إلى جثة مضرجة بدماء جافة أسفل الأقدام.

يقتلوني، كيف يقتلوني؟ أنا بطل قومي ووطني، أنا كنت في زيارة للسيد الرئيس بدعوة كريمة من مكتبه.

حضر أحد الحرس على أثر الصراخ، وسأل عن قارع الباب سؤال الوعيد. استطاع أن يقول متلعثماً مغالباً ألم فكه المكسور، بأنه الكاتب والأديب والشاعر، وقبل أن يكمل ويذكر اسمه وصفته وطائفته.. قال الشبيح هازئا إن كل المعتقلين من الكتاب والمؤلفين، وفتح الباب، وانتزعه بشدّة كما تنتزع الخرقة، فسقط نعله الأيمن، وأغلق الباب مرة ثانية، فأنّ الحديد الصدئ من الألم، وتعالى قباعه مثل الخنزير الواقع بين فكي ضبع. لم ينطق أي من الموقوفين بكلمة، وساد صمت يتخلله أنين مكتوم يتعالى مع روائح الجثث الحية والميتة، وكان آخر ما رآه الموقوفون، خطاً مبللاً، تلاشى حتى لم يبق منه أثر سوى فردة نعله اليتيمة مقلوبة على ظهرها، وقد تناثر طرفا شسعها مثل أمعاء سلحفاة ميتة، في الظلام البارد.

المدن

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى