الناس

عن مي سكاف وعن الموت تحت التعذيب/ سامر مختار

 

 

أحيانًا يحدث أن تتحول تفاصيل عابرة تربط بأشخاص يخطفهم الموت فجأة، إلى تفاصيل تُحفر بالذاكرة، مشاهد كانت معلقة ما بين التذكر والنسيان، تصبح بلحظة شديدة الوضوح، ويصبح المرء بفعل صدمة الفقدان شديد التمسك بها. مع موت كل شخص تربطك به صداقة قوية، أو معرفة من بعيد، تحدث محاولة استعادة أصغر تفصيل يجمعك معه. عندما استشهد المخرج السينمائي الشاب السوري باسل شحادة (1984-2012)، انتفضت ذاكرتي من ثباتها لحظة تلقي خبر موته، لأتذكر أنني التقيت به مرة واحدة في عام 2010 في دمشق القديمة، في حي باب شرقي مع صديق مشترك، كان وقتها يرغب بعمل فيلم وثائقي عن الشاعر السوري رياض صالح الحسين(1954-1982). لا أظن أن هذا الفيلم اكتمل، لكن المفارقة أن رياض صالح الحسين مات وعمره 28 سنة، وأيضًا باسل شحادة مات وعمره 28 سنة!

مع الصدمة التي تلقاها السوريون بوفاة الممثلة السورية مي سكاف( 1969- 2018) استعادت الذاكرة مشهدين كان من الممكن أن أتعرف على مي سكاف من خلالهما، لكن للأسف لم يُقدر لي سوى بمعرفتها من بعيد.

في  آذار/ مارس من عام 2008، كانت وقتها دمشق عاصمة للثقافة العربية، وكان وقتها معهد تياترو لفنون الأداء في مقره الجديد في حي القنوات، المقر الأول كان في ساحة الشهبندر بوسط دمشق، قد نظم سلسلة من الأمسيات الشعرية لشعراء سوريين وعرب. وكنت قد قررت حضور الأمسية الشعرية التي ستجمع بين الشاعر السوري شوقي بغدادي، والشاعرة والمخرجة السورية هالا محمد.  وصلت معهد تياترو قبل موعد بدء الأمسية بربع ساعة، ولحظة دخولي رأيت تلك الفنانة التي لطالما حلمت بالتعرف عليها شخصيًا، إنها الممثلة السورية مي سكاف، تأملتها من بعيد، لم أجرؤ على تقديم نفسي لها، لعنة الخجل حلّت عليَّ كالعادة، لكني كنت سعيد لأني وأخيرًا رأيتها لا كممثلة من وراء شاشة التلفزيون، إنما أراها الآن كإنسانة عادية، تتحرك أمامي، مشغولة بتجهيز المكان قبل بدء الأمسية. كان الروائي السوري خالد خليفة قد تطوع لتوزيع أوراق طبع عليها تعريفًا موجزًا عن الشعراء المشاركين، ولمحة عن الفعالية، عند أقترب مني خالد وقدّم لي نسخة خاصة لي، تذكرت روايته “مديح الكراهية” قد وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، قلت له بشكل خاطف: “عقبال الفوز بجائزة البوكر ياخالد”، وردَّ علي ممازحًا: لا أنا بدي جائزة نوبل، وضحكنا. كان شيء من الألفة يحيط بالمكان، طاقة من الحب يتبادلها الحضور بصمت.

لا مكان للنسيان هنا، جانب من مآسي السوريين هو لعنة الانتظار، بذاكرة تعمل على إتلاف الروح من كثرة التذكّر، وكل موت في سوريا، أشبه بصدمة كهربائية تنعش الذاكرة رغمًا عنها.

بدأت الأمسية بإلقاء شوقي بغدادي لقصائده، بصوته المتعب المبحوح، ما جعلنا نشعر بالاسترخاء والنعاس، وحين جاء دور هالا محمد بالإلقاء، كان الميكرفون الذي أمامها بعيد قليلًا عنها، فقامت مي سكاف وقرّبت الميكرفون قليلًا، لكن الصوت بقي منخفض، فقالت مي سكاف بصوت عالي وهي جالسة على كرسيها هذه المرة: “علي صوتك هالا .. بدنا نسمع، بدنا نستمتع” وبالفعل كانت قصائد هالا محمد جميلة ورقيقة تشبه شخصيتها، وضحك الجمهور الذي انتقلت له حماسة مي لهالا، وفهمنا جميعاً أن، ميّ متحمسة لشعر هالا أكثر من حماستها لشعر شوقي.

بعد أن غادرت المكان تكّون لديّ انطباع إيجابي عن شخصية مي سكاف، أن هذه الفنانة تملك شخصية عفوية  بطبعها غير مصطنعة مثل كثيرين من الممثلات والفنانات اللاتي تشعر أن حاجز من الفولاذ بينك وبينهن، ملامح وجهها معبرة جدًا، وصادقة جدًا، إعجابي بها تعمق أكثر في هذا اللقاء.

وأتخذت قرارًا أنني في المرة المقبلة عندما آتي لمعهد تياترو سأحضر معي بعض النصوص التي كتبتها، وأعرفها على نفسي بصفتي ككاتب، وأطلب منها أن تقرأ نصوصي وتقول لي رأيها، لكن مرة أخرى لم أتجرأ على  تنفيذ ما نويت.

مع بدايات الثورة في عام 2011 وبوقت كانت قلّة من المثقفين والفنانين السوريين قد أعلنوا الانحياز التام لمطالب الشارع السوري، كانت مي سكاف من أوائل الفنانين اللذين أعلنوا موقفهم بوضوح. أذكر إلى الآن اللحظة التي عرفت موقف ميّ سكاف، وقتها سرت بجسدي قشعريرة، وحبور، وطاقة أمل عالية، عرفت أن شعوري تجاه هذه الفنانة كان حقيقيًا. وجوه كثيرة في ذاكرتي لن تمحى مرتبطة بالثورة السورية، مي سكاف من ضمنهم.

وعاد إليّ الحماس أكثر من أي لحظة، بأنه حان الموعد للتعرف على مي سكاف. كنت أرغب في لقاءها، وأن أقول لها أنا مع الثورة يا مي، أن معك لآخر لحظة في هذه الثورة.

عندما اعتقلت مي مع ناشطين ومثقفين في مظاهرة الميدان، كان يومًا أسود بالنسبة إلي، كنت أعدّ الدقائق والثواني بانتظار أي خبر عن الافراج عنها. في اليوم الذي أفرج عنها، وجرى الهجوم عليها وعلى الناشطين المفرج عنهم من قبل شبيحة النظام أمام مبنى القصر العدلي في دمشق، كنت بالمصادفة في سوق العصرونية ( من الأسواق الملاصقة لسوق الحميدية)، كنت قد دخلت أحد المحلات لأشتري بعض الحاجيات، كانت شاشة التلفاز في المحل، يُبث من خلالها، ومن على قناة العربية، خبر عاجل عن هجوم الشبيحة، لحظتها كانت القناة تجري مكالمة هاتفية مع مي من المكان الذي احتمت مع الشباب المفرج عنهم من الشبيحة، وهو مقهى المشيرية بجانب قصر العدلي، والذي دفع أصحاب المقهى بأغلاق بابه الحديد، لكي لا يدخله الشبيحة. بعدما انتهت المكالمة مع مي، غادرت المحل مباشرة، وأنا أركض، عابرًا سوق الحميدية  من جهة الجامع الأموي، باتجاه شارع النصر، كانت تفصلني عن المقهى مسافة 650 مترًا، طول سوق الحميدية 600 متر، وأضفت عليها الخمسين مترًا، من باب السوق من جهة شارع النصر حتى مقهى المشيرية . لكن مع حظي السيء للمرة الثانية لم أستطع أن أكون بجانب مي، وصلت متأخرًا، رأيت أحد الأصدقاء الذي جاء مهرولًا مثلي وهو يحاول إيقاف تاكسي، وأخبرني أنهم استطاعوا الخروج من المقهى والهروب من الشبيحة.

ستظل مي سكاف من هؤلاء المناضلات النبيلات، اللواتي كلما استحضرت محطات هامة في تاريخ ” الثورة السورية” تحضر في ذهنك مباشرةً. مي سكاف وسيدات أخريات مازالوا على قيد الحياة لكنهم مغيبين أمثال رزان زيتونة، وسميرة الخليل، وكثيرات سنبقى نحكي قصص نضالهم من أجل سوريا حرة لأجيال سورية قادمة.

 

تطول قائمة الأسماء ممن ماتوا في سنوات الثورة السورية، رجال ونساء، شباب وصبايا، أعجبت بهم، وعند سماع خبر استشهاد شخص ممن أحببتهم ولم ألتقي بهم، أقول وأكرر بيني بين نفسي: ليتني التقيت بهم، ليتني تعرفت عليهم.

من يستطيع اليوم تأمل صورة لوجه الناشط السوري غياث مطر(1986- 2011)، الذي استشهد تحت التعذيب ولا يندم أنه لم يتعرف عليه أو يلتقيه، ومن لا يهتز كيانه عند سماع خبر استشهاد الناشط يحيى شربجي (1979-2013) وقبلها كان قد قضى تحت التعذيب أيضًا أخوه معن شربجي، اللذان قادا الحراك السلمي في بلدة داريا بدمشق مع  غياث مطر، بتقديم الورد لعناصر الأمن والجيش، والذي كان معتقلًا عند النظام منذ أيلول 2011، والذي تبين أنه استشهد داخل المعتقل بتاريخ 13/12/2013

تزامن توقيت موت مي سكاف في فرنسا، وكشف النظام عن أسماء ناشطين سلميين استشهدوا تحت التعذيب، كانوا بارزين في بداية الحراك السلمي المدني للثورة السورية، أضف إلى ذلك القصف الأخير على درعا والسيطرة عليها، في مشهد وصل لذروته في الانحطاط عندما تم تكسير شاهدة قبر الطفل الشهيد حمزة الخطيب من قبل عناصر من جيش النظام، والذي قُتل هو أيضًا بعد حفلة تعذيب كانت الأفظع في بداية الثورة السورية، كل هذا التراكم للحظات النهاية. كل هذا التراكم الكمي والمعنوي المفتوح للبوابات الجحيم، لكي تكون آخر آمال السوريين على شكل سؤال: ما هو أفضل سيناريو للموت؟ أهالي المعتقلين والمغيبين الذين أُنهكت أرواحهم وأجسادهم، وتلفت أعصابهم، وهم يرددون تلك العبارة” بس بدنا نعرف لو كان فلان عايش أو ميت”.

أنا شخصيًا في هذه اللحظة أتحفظ على أسماء لمعتقلين مقربين لي، لا أجرؤ على قول أسماءهم اليوم، بناءً على طلب عائلاتهم، جميعنا ننتظر، على أمل أن يكونوا على قيد الحياة، ومنذ أن بدأت تخرج أسماء لمعتقلين ماتوا تحت التعذيب، وقلوبنا ترتجف من صدمة مفاجئة.

لا مكان للنسيان هنا، جانب من مآسي السوريين هو لعنة الانتظار، بذاكرة تعمل على إتلاف الروح من كثرة التذكّر، وكل موت في سوريا، أشبه بصدمة كهربائية تنعش الذاكرة رغمًا عنها

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى