مقالات

شجرة التحولات/ جولان حاجي

أزيحت الستارة الشفيفة في غرفة الفندق. ريح هينة لا تزال، في هبوب خفيف. يلتفت نحو النافذة ولدٌ صغير في عائلة تتناول غداءها المتأخر على عشب الحديقة المجاورة. وراء الحديقة ترتفع القباب المثلثة في ”مركز مولانا الثقافي“. يفصلنا عنها بلور النافذة المبقع بالغبار وبقايا أمطار نيسان، وأسلاك شائكة سود تتلولب مغروسة في سور الفناء الكبير، مثلما كنا نراها تلمع بضآلة فؤوسها عند الحدود، حدود كانت تعبرها فيما مضى، بين شمال سوريا وجنوب تركيا، صرر التبغ وهدايا من صناديق الشاي. ربما فاض نهر صغير هذا الربيع فأطلقت السدود سراح مياهه فجأة، لتعود إلى قمامة مجراه الجاف في سوريا، وتطفو على زبده ووحوله حبات جوز، وتنجرف معه ألغام منسية نسي الجنود الأتراك أين زرعوها في الحقول، فوق سكك القطار أو تحتها، ثم ينتهي لغم بين أطفال عابثين ويفقد أحدهم وجهه ويديه. في عامودة التي ولدت فيها، من طمي تلك الفيضانات بنى رجل وحيد مسجداً طينياً أحمر اللبنات، كقربان صغير من حجرتين وصالون يستغفر به ربه. قيل إنه مسكون، وكان المؤذن يذهب ليؤذن لصلاة الفجر منتضياً سكيناً. ارتدت ذاك المكان القصي، دون أن أصلي، وقرأت في هناءة ظلاله مختارات من ”المثنوي“ نسختها في دفتر بخط يدي. كانت الأبواب مفتوحة كذلك للدجاج والديكة الرومية، تصيح وتدخل وتخرج، وفي جدار المدخل شق عريض يتثنّى، إذ ثمة في قلب الحائط جذع ناحل لنبتة برية أورقت على السطح الترابيّ، والعجائز بعد الانتهاء من صلاتهم يشربون شاي العصر في الفناء تحت شجرة رمان، فتأتي قطة وتتمسّح بكواحلهم. كانت ثمة في خزائن الحيطان نسخ قديمة من القرآن مكتوبة بالعثمانية احتار الإمام أين سيدفنها بعد اهترائها، أغلفتها المخملية البنية مطرزة بخيوط ذهبية وبيوت العناكب منسوجة فوقها دون أن تُمسّ. كانت صفحات تلك المصاحف فتاتاً من القش والحبر. أظن إن الإمام أحرقها في سرير النهر الجاف نفسه، غير نادم على ما اقترفته يداه، والفيضان بعثر رفاتها بين القرى.

ذهبنا مشياً من الفندق إلى حفلة ”السما“ في مركز مولانا الثقافي، فحفلات الرقص تقام هناك في أماسي السبت. لا يوحي الصرحان الضخمان بأي زهد في عاصمة المتزهدين، حيث لامسَنا ليلة وصولنا هواءٌ جاف نقي عذب البرود ونحن ننتظر وصول من تأخر من الأصدقاء الأفغان. كأن المهندسين أنفسهم الذين صمّموا مدخل قونية قد خططوا مداخل مدن سورية كذلك، في عهد الصفقات بين الدولتين الجارتين. أعمدة الإنارة نفسها بمصابيحها البرتقالية والأشجار الفتية المغبرّة التي تتوسط الشوارع والاستقبال الصامت الحزين. ثمة دوّار تنتصب فيه تماثيل دراويش يرقصون، فهم بالطبع علامة المكان الفارقة والرائجة. أذان العشاء يتعالى، وعلى مقربة منا ملعب كرة قدم مقفل يغرق تدريجياً في العتمة.

حلبة الرقص المولوي محاطة بمدرجات مثل ملعب مغلق، السقف مخروطي وتزينه إلى ذروته سبع دوائر متتابعات، مصابيحها الصغيرة محاكاة كهربائية لنجوم الأفلاك التي سيحاكيها الدراويش بدورانهم بعد قليل. لا تزال المنصة خالية، ومثلها كراسي المغنين والموسيقيين. في الحلبة فروات بيض، ربما كانت لأكباش مسلوخة. تغصّ المدرجات بمتفرجين ومتنزهين جاؤوا بأطفالهم، وتحوم في حرارة الازدحام أوراق وجرائد دعايات كمراوح صينية تلوح رفرفاتها وتختفي. النساء خصوصاً يتوافدن ويمشين كالنمل على سطور تتلون بملابس شتى كأنه عيد في الحقول. شرطي ينظّم الجلوس. هواتف ترنّ. أطفال يبكون وطفلة تحوم قبل بدء الحفل وتقلّد درويشاً. ترف الجفون بوميض عدسات الكاميرا التي ما التزم أحد بعدم استخدامها. الصدى يتعاظم في الصالة، مكبرات الصوت توزّع الصداع على الجمهور والضوضاء تبدد أي خشوع محتمل. بدأ الحفل بظهور مقرئ استهلّ تلاوته بالفاتحة. ارتفعت أيد كثيرة كمصاحف مفتوحة، ثم مسحت الوجوه في نهاية التمتمات وارتجفت الشفاه وترددت ”آمين“ عالياً. خلع المقرئ طاقيته إثر انتهاء التلاوة وانحنى للمصفقين، ورشف جرعة أخيرة من كوب الماء ماسحاً عرقه في سخونة الصالة. بعده، قرأ رجل خطاباً طويلاً مضجراً، حسبناه رئيس البلدية رغم أننا لم نفقه منه شيئاً.

بدأت الموسيقى بالناي، الآلة الأثيرة في المولوية؛ فيها نواح الحنين، وحزن الأحشاء. المسافة تصنع الجمال من الألم. يتوق الناي إلى أجمة القصب مثلما ظل الرومي يتوق إلى مسقط رأسه بلخ في أفغانستان الحالية، وما عاد قط. لدى أحد ملهميه الكبار، وهو فريد الدين العطار، كانت الموسيقى هي المعرفة القصوى. حضورها راسخ في طرق صوفية أخرى كالنقشبندية والقادرية والسهروردية. إنها خاتمة كل فن، وكل شيء يطير صوبها طيرانَ العقول إلى الجنون.

دخل فتى يمشي على مهل مغضياً، وبسط فروة وحيدة مدبوغة بالأحمر عند طرف الفروات البيض المصفوفة كقوس الحاجب. ثم دخل الراقصون الرجال وبينهم طفل؛ دخلوا معتمرين عمائم صغيرة، متلفعين بعباءات سود في الحرّ يبدو تحتها بياض أثوابهم وسواد صنادلهم، ثم لاح كهل تأخر ظهوره قليلاً. كان آخر الواصلين إلى الحلبة وأول مغادريها، اتجه إلى الفروة الحمراء، بينما الراقصون لابثون على المحيط جالسين ومطرقين. ثم سجدوا جميعاً وقرأوا الفاتحة. ولربما كانوا جميعاً قد توضأوا، وتلألأت على أخشاب الأرضية حبات عرق أو رذاذ وضوء. لم يرقص الكهل الذي بدا معلمهم. كل راقص يقترب منه مطرقاً ومغمضاً، الامتنان انحناءة خفيفة، الأذرع تتصالب على الصدور والراحات تنعقد على الأكتاف، وكلمة المعلم تحررهم تباعاً. كلمة هامسة تطمئنهم وتحرسهم، أقرب إلى قُبلة على الأذن، ثم ينعتقون وتتفتح الأذرع وتبدأ دورة الرقص ويتسارع إيقاعه. الموسيقى لا تبدأ ولا تنتهي، لا ذروة لها ولا تشتد، تنبسط وتترامى مثل سهوب قونية التي لا تتخللها تلة أو ثنيةُ وادٍ يشتت النظر. الدراويش يدورون كبلابل دوّمها أطفالٌ لامرئيون داخل حلبةٍ فارغة كالحدقة؛ دوائر في قلب دائرة، تعلوها دوائر السقف بإنارتها التي تذكر بالحانات، مصابيح حمر وزرق وخضر، لا تشبه في شيء فكرة الرومي وحافظ الشيرازي عن العيش في خيمة سقفها المجرات.

تساءلنا: هل ستتسع هذه الحلبة لأكثر من عشرين راقصاً، ومن بوسعه التكهن متى سينتهي هذا الدوران؟ انتظرنا كالأطفال ذروة رقص ما أتت، وترقبنا أحياناً أن يترنح أحد الراقصين، أو يتعثر برجوعه إلى الخلف عند التوقف، وئيداً في رتابة الموسيقى، في تكرار كالنوم أو النسيان. الراقصون نيام وأثوابهم البيض تزوبع راسمةً نواقيسها. في الرقص مغفرة؛ إنهم يتفتحون كالزنابق المرسومة على الماء في فن الإيبرولي، كالنيلوفر، ويمحون الذنوب بأقدامهم. وما كلُّ بكاء يرى، تقول إحدى الأغاني، وكلٌّ منا ترسمه دمعة على سطح العالم، كأنه دائرة تتسع رويداً رويداً وتتلاشى في حوض الدمع المسمى الحياة.

مُنعت المولوية عقوداً في حقبة أتاتورك المباغت في تغييراته الجذرية، وربما اعتبرت معيبة أو وصمة تخلف، لكنّ العصر الذي سماه المؤرخون عصر الانحطاط ازدهر بالشعراء. عوقب المتصوفون كأصحاب بدع وهرطقات. فزعيم تركيا الحديثة لم يؤمن بالماضي بل رفضه، وعلى منوال المستقبليين مجّد العلم والتكنولوجيا والصناعة والآلات، وربما اقتدى بالنقد الذي صبه فلاسفة العلم على الدين والأساطير.

تستعيد المولوية برقصاتها صديقاً ميتاً هو شمس الدين تبريزي، معلم جلال الدين الرومي وفقيده وصاحبه وقرينه في نظم عمله الأكبر ”ديوان شمس تبريز“. كانا صنوين يتلازمان طوال الوقت كالصورة وطيفها في المرآة، أو مثل موسى والرجل الغامض في سورة الكهف. لقاؤهما الأول أقرب إلى القصص المعروفة عن حوارات النساك والملوك، أو ما جرى بين النبي السويدي عمانوئيل سويدنبورغ والشحاذ الذي لاحقه في لندن حاملاً إليه رسالة النبوّة. تقول إحدى الروايات الشعبية إن جلال الدين الشاب كان قد انزوى بالقرب من ينبوع، ومعه مخطوطات كانت في ذاك الزمان كنوزاً؛ بغتةً سأله كهل رقيع الثياب يبدو متسولاً: ”ماذا تفعل هنا وحدك يا بنيّ؟“، فأجابه جلال الدين: ”أكتب الشعر“. فألقى الغريب الأوراق في الماء وناداه: ”اتبعني. الحياة هي الكتاب“. كان شمس مثل المعلمين الأوائل، كالمسيح وبوذا، فناناً يعبر بالرموز والمجازات، وأجوبته كأجوبة بوذا غير متوقعة، وأحياناً غير معقولة، وأسئلته مبلبلة مثل ”أيهما أعظم شأناً البسطامي الذي قال ”سبحاني ما أعظم شاني“ أم الرسول محمد؟“. بدا ساخراً يبحث عمن يتحمل صحبته، فعثر على ضالته. ظنه المريدون ساحراً وكرهوه وحسدوه على استئثاره بمولاهم الذي أمسى بدوره مريداً. حيكت حوله الأساطير، فنسبوه إلى حشّاشي الإسماعيليين، كدخيل على معتنقي المذهب الحنفي السائد هناك. بعد ذاك اللقاء أمضيا خلوة صوم مديدة، وشاعت الأقاويل عن عشقهما ومثليتهما. انقلبت حياة الرومي إثر تلك الخلوة، وتحول من واعظ إلى شاعر.

في التراث الصيني قصص تماثل ما جرى بينهما، وكان الرومي على الأرجح على معرفة بالبوذية. تقول حكاية صينية وردت لاحقاً في ”حلم الحجرة الحمراء“: ”كان يحلم ثم استيقظ. فوجد نفسه في أطلال معبد، وعلى أحد جانبيه ثمة شحاذ يلبس رداء راهب تاويّ. كان أعرج ويقتل البراغيث. سأله هسيانغ-ليانغ من هو وفي أيِّ مكانٍ هُما. أجابه الراهب: ”لا أعرف من أنا، ولا أين نحن. أعرف أن الطريق طويل فحسب“. فهمه هسيانغ-ليانغ. قصَّ شعره بسيفه وتبع الغريب“.

***

يُميل الراقصون رؤوسهم لكيلا يدوخوا، وذلك بعد تمارين البدايات التي قد تدوم أشهراً ليتدربوا على نزع الإحساس بالدوار. كفُّ الراقص اليمنى مرفوعة إلى السماء تتلقى هبات الله، وكفه اليسرى مقلوبة نحو الأرض تهب ما تتلقاه، والراقص جسرٌ بين راحتي نفسه، مسافته شاسعة ويعبره العلم كالهواء، مثلما تعبرنا اللغة فنتحدّثها.

بالفاتحة اختتم الدراويش رقصهم مثلما استهلّوه. تلك دائرة أخرى انغلقت على فراغ الحلبة. الزمن ينغلق، والمستقبل ينغلق ونقف نحن خارجه، أو كما عبر الخيام (في ترجمة أحمد رامي): ”هذا الوجود قد استدار كخاتمٍ/ النقشُ نحن بفصِّ ذاك الخاتم“. كل نقطة في الدائرة بداية ونهاية، وجبل قاف، حيث يقيم السيمرغ في ”منطق الطير“، دائرياً ويحيط بالأرض مثل أفعوان يعض ذيله. لمفهوم القيومية لدى باسكال ترجمة هندسية وحميمة في آن معاً، حين اعتبر الله كالمحبة كُرَةً تحيط بالوجود، مركزها في كل مكان ومحيطها في اللانهاية.

ما تبقى من الحضور عشرات فحسب. صفقوا للفتى آخذِ السجادة الحمراء وجالبها. خلَت المدرجات، والسيدات يتلفتن عند النهوض ويتفقدن المقاعد. باكراً تفرّق حشد ضمَّ أكثر من ألفي شخص، فما يجتذب الغرباء قد يضجر أهل المكان. صار الفلكلور تسلية روحية. معمار المركز لا روح فيه، ليس بعيداً عما أنجزه مقاولون أتراك من أنفاق في كفرسوسة دمشق منذ سنين. ثمة عبارة بلغات عديدة على أحد قناطره: ”ابدُ كما أنت، أو كُنْ كما تبدو“؛ رأى الرومي في المومس تحقُّق هذه الحكمة.

قبر الرومي

قبل الولوج إلى مرقد الرومي انتعلنا فوق أحذيتنا أكياساً زرقاً مما يُرتدى في المستشفيات ونقاط تفتيش المطارات. ثمة طغرى منقوشة على قوس العتبة. علقت في المدخل لوحات كتبها دراويش خطاطون، متفانون صبورون ومجهولون. القلم أحد اللسانين، والخط بالنسبة إليهم لسان اليد، وكلُّ إنسان قلمٌ في يدِ قدره. وفي عصرنا الراهن يكتب البشر ويُكتبون في كل الاتجاهات، صعوداً نزولاً، من اليمين إلى اليسار وبالعكس؛ كأن تلك الأبجديات والكتابات مرايا متقابلة، والأسطر المكتوبة تتقاطع وتفترق على صفحة خيالية، راسمةً صليبَ العالم حيث يُقتل الوجود كل لحظة ثم يُفتدى ويُبعث من جديد.

قالت بينا شاه إننا حجاج، فهذه الرحلة معراج روحي. يصعب عليّ إدراك مثل هذه الأحاسيس. صلّت بيننا هناك ودَعتْ لمن تعرفهم وبكت. اختلطت في عينيها دموع الخشية بدموع الرمد الذي احمرّت عيناي أيضاً بسببه. ولربما بسبب حكّة جفوننا التي التهبت حوافُّها وانتفخت، بدت الشواهد المتوَّجة بالعمائم قطّاراتٍ كبيرة دُفنت قوارير أدويتها.

أسماء الصحابة والخلفاء الراشدين، وخصوصاً أبي بكر الصديق الذي يُنسب ”مولانا“ إليه، تتوزّعُ القبابَ والأروقة مأسورةً داخل دوائر تذكّر بهالاتٍ فُرّغت من وجوه أصحابها لتحلَّ مكانها أسماؤهم. الكلمات في زوايا المرقد وعلى الجدران، أحياناً لها انعكاساتها المقلوبة مثل الضمير ”هو“، البعيد هنا عمّا كان سيميائيون مثل رولان بارت يعتبرونه منطوياً على معانٍ شريرة. الهاء والواو، هذان الحرفان مكتوبان بخط الثلث، مطبوعان على الأطباق ومحفوران في لوحات إحداها معلقة في منزل حفيدة الرومي. لهذين الحرفين تأويلاتهما لدى ابن عربي الذي زاره الرومي في دمشق، وتتلمذ على يديه. عشق ابن عربي في شبابه فتاة أصفهانية، وكتب في مكة ”ترجمان الأشواق“، وفي أحد مناماته حلم بأن القِران مع نجوم السماوات ينجبُ حروفَ الأبجدية، كما رأى الهوية الإلهية في شكل حرف الهاء، براقةً زاهية على بساط أحمر، وبين يدي هذه الهاء التي تضيء بشعاعاتها الأفلاك ظهرت كلمة ”هو“، أصل الهوية المتجذر في هاوية الغياب. وفي ”الرسائل“ تحدث ابن عربي عن حرف الواو، ففي فعل الخلق–الأمر الإلهي ”كُنْ“–الواو المحذوفة نحوياً لتلاقي الساكنين تتحول إلى أصل الوجود، لأنها الغائبة الحاضرة، الرابطة بين الظاهر والباطن، بين المكشوف والمستتر، بين الرمز والمعنى. ظلال الحرفين الآخرين، الكاف والنون، ترامت في النور الإلهي عبر الأكوان، ملفوظة بالنفس الإلهي نفسه الذي نفخ بطن مريم العذراء. في باطن كل مخلوق يتحرك هذان الحرفان الخفيان، الكاف والنون، ومعهما ظلُّ ”الواو“ الغائب.

استخدمت الحروفية في تفسير القرآن، وربما كان لمدارس القابالا الأندلسية أثرها، وتذكّرنا بالغولم الإنسان الذي خلقه الأحبار من كلمات الكتاب المقدس. لا يكاد أدب صوفي في التراث الإسلامي يخلو من مثل هذه الإحالات الحروفية التي استخدمها آرتور رامبو في إحدى قصائده، وعبر بودلير عن فكرة مشابهة تقول بأن ”الله نطقَ العالمَ“، وقاربها بطرق أخرى شعراء ”تيار اللغة“ المعاصرون. ولعل أشهر الأمثلة في التراث الإسلامي هو الحروف التي تفتتح بعض سور القرآن. استفحلت تلك النزعة الأفلاطونية التي تتحدث بأسبقية اللغة، وظلت مصادفتها متواترة حتى في بعض الأشعار المعاصرة، مهما بدا ذلك غريباً أو مبتذلاً، فالإنسان قد خُلق على صورة الله، والحرف عماد الكلمة، والكلمة عماد اللغة، واللغة أساس الوجود لأن الوجود كلمات الله المسطورة في الآفاق، ولو كانت كلُّ أشجار الأرض–مثلما جاء في القرآن–أقلاماً والبحارُ مداداً لما نفدَتْ كلماته.

المثنويّ

جدل الثنائيات لا يغيب عن ”المثنوي“ أيضاً، بدءاً من العنوان الذي ليس إلا القالب الشعري المعتمد نظمَ البيتين. كان تقليدياً في اختياره وزناً سهلٌ حفظُه، استخدمه من قبل السنائي في ”حديقة الحقيقة“، وفريد الدين العطار في ”منطق الطير“، الملحمة التي استوحاها محمود درويش في قصيدته الطويلة ”الهدهد“، ولا يزال المؤلفون والمسرحيون يعيدون قراءتها وترجمتها مثلما فعل مؤخراً بيتر بروك.

يبدو ”المثنوي“ تخييلاً مرحاً حارّ الموسيقى أمام جهامة الفقهاء واستقرار يقينهم، فالمؤلف لم ينظمه من أجلهم بأية حال، أو ليتبحر المؤرخون في الدقائق والضالعون في الفقه والشرع، ولكن نقده لهم كان طريقتَه الخاصة في احترامهم. كان منتقد نفسه وعصره. لم يرفض المعنى الذي تأتي به القوافي والأوزان التي تذمر منها أحياناً، وسئم أحياناً لغو الترميز وثرثرة المجازات. لم يرفض مصادفات الموسيقى، لكنه حاول التقليل منها في توقه إلى نثر صافٍ بلا سجع، فالأبيات ستغنَّى ويتداولها الناس وتُحفظ وتُستظهر، ولا بد من طرق واضحة إلى سهولة تذكرها. ولم يكن المقصود بالنثر الفصاحة والبلاغة وفنونهما، وإنما نثر الحياة أو ربما شعر الحياة اليومية العادية، بترهاتها وتفاهاتها وسحرها، فآيات الله مرئيةٌ أيضاً لدى الإسكافي وفي الحمّام التركي وألعاب الأطفال، والرياضات تجارب روحية. عمل بهذا السخاء والمرح لا يبلى، لا يزال الناس يتداولون حكاياته، فالدهشة والحيرة غايتان وسببان من أسباب الحياة. وليس الإيمان سبباً وحيداً لبقاء العمل حياً، إذ هناك من بين أسباب عديدة لذة في سماعه تقارب لذة النظم نفسها، يفتقدها من لا يعرف الفارسية. كنا نسمع خلال الرحلة الأصدقاء الإيرانيين يرددونها، وعلي محمد بذاكرته القوية يستطيع أن يستدعي بيتاً للرومي كاستشهاد مناسب على أي مثال قد يعترضنا.

أمام إرث بهذا الغنى ماذا يفعل الشعراء؟ الواقع أن الشعر الطاغي حالياً في إيران، مثل سائر أرجاء العالم، هو الشعر الحر وقصيدة النثر. شعلة وُلبِه أعادت ترجمة فروغ فروخزاد إلى الإنكليزية، ومحسن عمادي يترجم أحمد شاملو إلى الإسبانية. كثيراً ما احتدمت النقاشات حول الرومي بين الأساتذة الأكاديميين المقيمين في إيران وأفغانستان وبين كتّاب إيران المنفيين، وأخذت أحياناً منحى سياسياً نقدياً. بالطبع لا يمكن التغاضي عن حسية الرومي، ولا حبسه في تصور إسلامي محدد بالمعنى الراهن للكلمة. لكن هناك هوة بين الواقع السياسي والاحتفاء بالأدباء في إيران، فالحب يغنَّى في القصائد والمثليون لا يزالون يُشنقون في الساحات العامة.

ما كان ملتقى ”البوابة ذاتها“ حدثاً مفتوحاً، وليس له مناسبة، فكلُّ يومٍ يومه الممكن. دارت المناقشات في قاعة الفندق مثل برج بابل مصغر، تتلاطم فيه الفارسية والتركية والعربية والأوردية والكردية والإنكليزية، وسادت الارتجالات أحياناً وتلكأت الترجمات التي قام محسن بدور أساسي فيها كمترجم فوري، خصوصاً للأصدقاء الأكاديميين، ثم يخرج غليونه ويغادر القاعة ليبلّ حلقه بالبيرة ويدخن قليلاً ويستريح، قبل استئناف نقاش مديد جديد. في إحدى المرات تغير مكان الملتقى إلى البار بسبب عرس لم يتمّ، قبل أن نعود إلى القاعة نفسها بعد وقت قصير. ربما تشاجر العريسان وانتهى العرس قبل أن يبدأ، والأطفال عبروا الممر العريض يركضون ويتوقفون فجأة ليتزحلقوا على ملاسة البلاط.

قال طارق غونرسل إن الكرسي الخالي يذكره بالكراسي الخالية التي تمثل الكتاب المعتقلين أثناء ملتقياتهم الأدبية في إسطنبول، فهذه أيضاً تركيا التي أبيد فيها الأرمن وقُتل الأكراد وهُجّروا. ما اكتظت تركيا يوماً بالسوريين إلى هذا الحد، لاجئين أو حائرين إلى أين سيذهبون ومتى سيعودون إلى أرضهم التي تتشظى ويثخنها الموت، وبنزوحهم ازدهر المهربون والمزوّرون عبر المطارات ومراكب الموت في البحار. أحد الأصدقاء ترجم ما اختاره عباس كياروستمي من غزليات شمس تبريز، زار جنوب الأناضول منذ سنين. سلكوا بالباص طريقاً طويلاً عبر تركيا إلى طهران. في إحدى القرى الكردية المحروقة شاهد المسافرون امرأة وحيدة، أرملة وثكلى تجاور هاوية بين الجبال. ما فارقت قرية أهلها التي تفحّمت أطلالها وقضى كل من فيها. هي الناجية الوحيدة. كانت الثلوج قد ذابت واختفت معها آثار جزمات الجنود وظلال الحوامات؛ حين سئلت لمَ لا تذهب إلى مكان آخر؟ أجابت: ”أمضي!؟ إلى أين؟ ولمن سأترك موتاي؟ ليس لي أحدٌ سواهم“.

***

قراءة المثنوي ممتعة، وقوة فرادته في تدفق البداهة كأنه شلال امتنان تجاه وفرة الوجود وجماله ورعبه، مفازاته ومتاهاته. قداسته لا تحجبه عن أحد ولا تستغلق كالفتوحات المكية مثلاً، إذ لا تشريع فيه ولا تعاليم روحية، بل هو أقرب إلى عمل شعبي في متناول الجميع، تتشوّش فيه الأنواع والحواس وتصفو، لا يوغل في أي إلغاز، ولا يُقرأ على الأرجح خطياً أو تصاعدياً. بدأه بقصاصات دوّنها بنفسه وأودعها عمامته، وأملى الأبيات ليل نهار، أحياناً على مسمع الناس في ساحات قونية وكرومها ومدارسها. إنه ”مشكاة البهجة والعذاب“، فيه حُسن التعبير ولطفه وليونته، وفيه سيولة الوصف وحيويته وتوقده ورقته. الكلمات تتقلب بين التأمل والغناء، بين الفكاهة والشجن، بين الطهر والدنس، وتأتي بالرحمة والحنان والحماسة والضعف. فالكاتب الزاهد، المتبتّل والشهواني، يصوم ويحلم ويلهو ويتعبّد، بين الرغبات والعزلات، يستدعي الوليَّ والفقيه والإمام والقطب والنبي، ويروي الكرامات والمعجزات وقصص مجنون ليلى، ويحذر أحياناً من الهزل في القصص الجنسية التي روى بعضاً منها، مثل المرأة والحصان، أو قصة جارة تنصح جارها الذي يراودها بأن زوجته أولى بقبلاته ”لأن زوجي أمس قد قبّل زوجتك“، كما ذكّر أحدَ الفضلاء بأن ”الآثام ريش المراهق“، وعلى المرء أن يكون أبا عصره لا ابنه.

الرومي مثل وولت ويتمان كونيٌّ في محليته، وتناقضت تأثيراتهما في كل الجهات. ترك عمله الأخير ”المثنوي“ مفتوحاً، وهذا النقصان متعمد في خيال بهذا التآلف والشساعة، مفتوح على الحياة ومفعم بها، ويتقلب فيه الفكر والمزاج وتتنوع الشخصيات من الببغاء والبقال والحداد والملوك والرسامين الصينيين والإغريق إلى الواشمين في قزوين؛ تتوالى مئات القصص، وتتجاور الأغاني والعظات والعِبر والأحلام وقصص الأنبياء والتاريخ والأمثال والحكايات الفلكلورية والأمثولة وإشراقات الحكمة والسخرية من أكاذيب بعض المتصوفين الذين ضاق ذرعاً بريائهم فتخيل صوفيين غير موجودين يمدحهم ويحاورهم. صراحته تشع بالتناقضات، بالسرور والقلق، تواقة إلى الغامض وما لا ينتهي ولا يُستنفد ولا يُقال. لم يأخذ الرومي بالثنوية أو بوحدة الوجود. كتب مرة ما معناه أن وراء الخير والشر حقلاً ودعا إلى اللقاء هناك، مثلما عَدَتْ رابعة العدوية بجمرة وكوب ماء لتشعل بالأولى الجنةَ وتطفىء بالثانية جهنم فلا تبقى هذه ولا تلك.

وُصف المثنوي بجدول ينبع من القلب صافياً لتنعكس فيه صور الأشياء، نسج حر يتضافر فيه الذوق والإيمان تذيب موسيقاه الفوارق بين الأخلاق والجمال وخفايا النفس والموسيقى والفكر والدين، وتتداخل المعارف في سبيكة واحدة تفيض عطفاً. المثنوي امتداد فريد للذات والآخرين في آن واحد. لا قطيعة فيه ولا انتحالات، فالأصالة ليست شيئاً نقياً، فيها ذابت إحالات ومشارب شتى: فمن شاهنامة الفردوسي وأعمال فريد الدين العطار والسنائي وكتاب المعارف لبهاء الدين ولد إلى الحديث والسيرة النبويين والقرآن وتفاسيره وقصصه كالنبي يوسف والمرآة، والنملة والنبي سليمان، وطوفان نوح وفرعون الغريق، وصولاً إلى شعراء عرب، لا سيما المعري والمتنبي، وإلى أغاني الأصفهاني والمقامات والفتوحات المكية وكليلة ودمنة والفلسفة الإغريقية القديمة. مثل فيثاغورس وعمر الخيام، الرياضيين الباحثين في موسيقى الأفلاك، حاور الرومي الحيوانات لأنها لا تخطئ. مثلهما أو بتأثيرهما، كان يستمع إلى الكون كقصيدة صمتٍ تُعاش على إيقاع المجرات وأنغامِ أجرامها غير المسموعة، وبلاده الحقيقية واسعة باتساعها. الشاعر ينظر في نص هيروغليفي لا ينتهي ولا يستقر ويترجم الصمت. الحوار بمختلف أشكاله جوهري في هذا العمل، يتجه إلى مستمعه وقارئه، رغم التباس الضمائر وغموضها أحياناً، واستخدامه اللهجة المحكية ومفردات أجنبية. في بقعة التناحرات هذه من جغرافية العالم الممزق، لم يكن تعدد اللغات المستخدمة لدى شاعر واحد أمراً نادراً، سيان مهمشةً مسحوقةً كانت أو مهيمنةً مركزيةً كاللغة العربية، لغة القرآن، فالألسن لم ترسم يوماً حدوداً جغرافية. المتصوف الكردي الملا الجزيري الذي عاش في القرن السادس عشر، ودُفن في المدرسة الحمراء التي كان يدرس فيها بجزيرة بوطان في نهر دجلة، بين سوريا والعراق وتركيا، كتب الشعر بأبجدية واحدة آنذاك في أربع لغات هي الكردية والتركية والفارسية والعربية، واستخدم جميعها أحياناً في بيت واحد. لا تزال قصائده تُغنّى بين الأكراد، وفي إحداها يتحدث كسجين تهبُّ صوب زنزانته نسائم التفاح والسنابل فينفتح بابها دون مفتاح، ويخرج سامعاً وراءه صليل القفل الذي يرتطم بالباب.

درجت تسمية ”قرآن بهلوي“ على المثنوي، أو ”المثنوي المعنوي“ كما أسماه الرومي الذي قيل عنه ”ليس بنبيّ ولكنّ له كتاباً“. يبدأ بحرف الباء كما يبدأ القرآن بأول حروف البسملة، وكلاهما لا يُترجَمان وإنما يُفسَّران، فالقرآن أمُّ الكتب، أو الكتاب، صفة من صفات الله، مطلق فيه يُتلى كلام الأزل، أقدم من الكلام وأقدم من الخلق. وللمثنوي رواته ومنتحلوه وحفَظته، وله ككتبة الوحي كتبته مثل حسام الدين جلبي وصلاح الدين الذي أقام له الرومي عند وفاته عرساً على القبر. ألّف الشعراء في العصور القديمة كتباً لا نظير لها، وكان بعضها بالطبع مضاهاة وتحدياً للنصوص المقدسة أو احتفاء بها، ولم ينجُ معظمها من محارق العصور إلا في استثناءات قليلة. هذا الدفق الموسوعي يسم التراث الفارسي. يروي الطبري أن أشعار النبي زرادشت وحده ملأت اثني عشر ألف جلد بقرة نسخها خطاطون تقاة، أي أنها في عددها تقارب ملحمة المهابهاراتا الهندية. ألّف فريد الدين العطار ما يربو على المائة كتاب، وفي نهاية حياته التي تجاوزت المائة سنة، وتخلى فيها كزاهد عن كل شيء، سأل الله أن يحرمه نعمة الشعر لأنه آخر ما يبقى من اللذات، وكان قد أهدى كتابه أسرار نامة إلى الرومي حين زاره الأخير في نيسابور صبياً برفقة أبيه بهاء الدين ولد، وقال العطار إنه رأى ذلك الصباح محيطاً يجرّہ من يده بحرٌ، ويقارن البعض بين تلك الزيارة وبين زيارة الرسول في طفولته للراهب بحيرة في حوران سوريا. الرومي نفسه يبدو أسطورة بمعارفه وغزارة نظمه، ففي أبياته التي تربو على الستين ألفاً شيء لا إنساني من الكمال والشمول، ثم أسبغت درجات متباينة من القداسة على النصوص وصاحبها، بل حتى ورثته لاحقاً. الحداثة، التي عجت بالأساطير والعقائد الخفية والهرمسية والعودة إلى التراث المنسي في مختلف الثقافات، أحيت هذه الطموحات، ولكنها خلت من الإيمان وغلبت عليها الصنعة والقطيعة والنفي، ووعت فناءها دون عزاء تقريباً، رغم كل الأقنعة الرومانسية والدينية التي تنكرت وراءها في فوضى القرن العشرين. عقول لامعة خربت المشهد. أعاد بعضهم اكتشاف القدماء في لغات أخرى وتبنوهم كأسلافهم. حاول عزرا باوند، المولع بشمس الصين، أن يدمج لغات وثقافات عديدة في ”الأناشيد“، لكنْ تشوب شغفه مسحة سياسية ازدرى الرومي شبيهتها في عصره. انكب لويس زوكوفسكي على مطولة شعرية وحيدة ينقحها ويوسّعها إلى نهاية حياته. أدونيس أيضاً، نهاية القرن العشرين، عاد في ”الكتاب“ إلى تقليد كلاسيكي في تأليف الكتب-الخلاصات والتطلع إلى الخلود تطلع الهاربين من الموت، وليس مصادفة اختياره المتنبي شخصية رئيسية، مثلما اختار دانتي فرجيل، شاعر شعراء العصور القديمة. تلك الكتب ”الخارقة“، التي حلم بها ككوابيس مالارميه وبول فاليري وبورخيس، هي الكتب المستحيلة. الله كاتب أيضاً، لكنه كاتب مقلّ اعتزل الكتابة.

القبة الخضراء

”القبة الخضراء“ محطتنا الأولى. إنها تضم مرقد الرومي والمسجد الذي صار متحفاً وحجرات الدراويش ومطبخاً نُصبت فيه تماثيل الشمع وحفظت أدوات الطهي والوصفات التي كان الرومي نفسه يعدّها. في فضاء المرقد أصص فارغة معلقة بأسلاك، مثل قباب صغيرة مقلوبة أو خوذ، لعلها مباخر من فضة ونحاس. على الجدران زخارف زنابق وسرو. تحيط بقبر المولى قبورُ مريديه الذين واسوه في احتضاره بقراءة شعره. وعن موته الوشيك، بعد زلزال ضرب تلك المنطقة، قال: ”الأرض جائعة، وعما قليل ستظفر بلقمة دسمة وبعدها تسكن“. لم نرَ مدفن قطه الذي مات بعد صاحبه بأسبوع واحد، والقطط لا تغيب عن الأدب والتراث من الفراعنة إلى النبي محمد وشعراء الهايكو وإدغار ألن بو، وصولاً إلى سيلين وبولغاكوف وجورج بيريك وعباس بيضون.

هذا المكان الذي تضفي عليه الحكايات والأزمنة سحراً خفياً، وتجعله أسطورة حية، إنما حمته القداسة من نهب السياحة والتقدم وحالت دون تحوله إلى عمارة عالية أو فندق. ارتطمت أكتافنا بالباكيات اللواتي يتدافعن ليقبلن الزجاج الذي حفظت فيه أشعار من لحية الرسول. يحتشد المزار بالمؤمنات اللواتي يلوّنّ فضاءه بحجاباتهن التركية الطراز، وبعضهن يصطحبن إليه الأولاد الصغار والمرضى والمجاذيب. قد سمعن قصصاً عن حنو الرومي تجاه المعاناة ورهافته إزاء العذابات، يحتجن في وحدتهن وخيباتهن إلى الرأفة، ويصدقن أن ثمة من يلتفت إلى تضرعاتهن، مسعفاً وسميعاً. قبالة هذا المجمّع، رأينا المصلين جالسين تحت الشمس الملتهبة، وقد فاضت بهم في صلاة الجمعة أروقة مسجد آخر قريب، أمامه تبرق حبّات الكرز والبطيخ على العربات، وإلى يساره مقبرة مشجرة كمتنزه؛ هناك أوصت بدفنها فيتراي مايروفيتش مترجمة رباعيات الرومي إلى الفرنسية بالإضافة إلى أعمال أخرى له. قونية مدينة كبيرة وترددتْ عليها أربعين عاماً آن ماري شيمل، المستشرقة الألمانية التي عكفت على دراسة ”مولانا“ وزيارته دائماً. نقل عيسى عاكوب عملها ”الشمس المنتصرة“ إلى اللغة العربية. أتذكر وجهها حين ألقت محاضرة في معهد غوته القديم في دمشق منذ حوالى عشرين عاماً، فتختلط ملامحها بملامح سلمى خضراء الجيوسي والممثلة المصرية مريم فخر الدين، وتبدو ابتسامتها مثل شيمبورسكا.

في خزائن المتحف كتب قديمة مدهشة، مزخرفة كمنمنمات وألوانها كذيل طاووس. على أحد الأغلفة فانوس، وأغماد سيوف كأسماك فاغرة الأفواه، تجاوره ورقة رسم عليها بُراقٌ أخّاذ بوجه امرأة بين أربعة ملائكة. ثمة قرآن صغير منسوخ بريشة أدق من إبرة، كالكتابة على جناحي فراشة، وموضوع داخل علبة غطاؤها وقاعها مرآتان، وعند إغلاقها تتكرر الانعكاسات في العتمة إلى ما لا نهاية. كأن الخطاطين كانوا صقوراً أو يقرأون بالمكبرات كالمسنين المؤمنين. ثمة كتب لفافات، أغلفة من جلود الحيوانات تثقبها أحياناً حموضة الحبر. العبارات اهترأت وجعل الزمن الثقوب جزءا من المعنى. ثمة نسخ من الديوان الكبير، ديوان شمس تبريز، محفوفة بالهوامش، ومرتبة بطرق لا يسهل فهمها. الأوراق مطرّزة كالبسط أحياناً، ومؤطرة بأطر من كلمات أخرى، وفي كل إطار خط مائل كعِرقٍ يشطر ورقة نبات إلى قسمين؛ الصفحة سجادة زرقاء نافذتها على زمان الكلمات، أو تقسمها أربع دوائر كأربع عيون، الأسطر تتوالى دون تقسيم مقطعي، ودون علامات ترقيم كان مالارميه يسميها ”عكاكيز النص“. استعاد أدونيس في ”الكتاب“ بعضاً من نماذج مشابهة لهذه البنى الشكلية القديمة وفوضاها المنضبطة.

ثمة دراويش مجهولون كتبوا أسماء الله على ورق شجر وسجاجيد، وطرّزوا بها الأكمام والعمائم، ورسموا إلى جوارها خرائط الأفلاك والنجوم، وكتبوا أبيات شعر على شكل أسماء ولقالق، مثلما فعل أبولينير مع الديك وقطرة المطر، أو نسخوا آيات كحبات في عنقود أزرق. في حجراتهم التي تقع غرب فناء المزار نرى بيوت الفوانيس كأقفاص حساسين، وأغطية القدور كالعمامة المولوية التي ترمز إلى قباء شمس تبريز، فتكرار الرموز لا يستنفد. في تلك الحجرات الظليلة الصغيرة ما يكفي حياة الزهد؛ إبريق وُضوء وناي، خزانتان حائطيتان وسرير، باب واطئ خبطت سقفه رؤوس ساهية كثيرة، فانوس وبضعة كتب، نافذة عميقة في تراب الحائط تطل على عشب الساحة وترابها، وتبرد الأفياء بين سماكة الحيطان في قيظ الأناضول الجاف. ثمة حقائب سعاة وقمصان مطرزة بكلمات مولاهم، وأكواب كبيرة كزوارق صغيرة هي طاسات الاستعطاء، وطاقيات خِزّ كقوارب مطرزة بكلمات. ثمة عكاكيز وعصي ومسبحة ضخمة الحبات طولها عشرات الأمتار ملفوفة كثعبان في سبات القرون.

الصمت والمرآة والوردة

في قونية، عاصمة السلاجقة القديمة، حيث عاش الرومي بين قوم لا يكتب بلسانهم، عُثر على ثلاث مخطوطات لأعمال النفّري الكاملة، حققها يوحنا آرثر آربري الذي حقق المثنوي وترجمه إلى الإنكليزية. أحيا ابن عربي الاهتمامَ بالنفري حين وصف ”المواقف والمخاطبات“ بالكتاب الشريف. النفري الوحيد والمتقشف حياةً ولغةً، الغامض بجفاف فكره المبهر، لم يؤسس مذهباً ولا انخرط في طريقة أو اتجاه وتبعثرت قصاصاته في ”دفاتر النيل والبصرة“، وخاطب الشمس في إحداها ”أيتها المكتوبة بقلم الرب“. إحدى المخطوطات الثلاث ”كتاب النطق والصمت“، وفيه يقول النفري ”بين النطق والصمت برزخ فيه قبر العقل وفيه قبور الأشياء“، ويقول أيضاً في تقلب القلب وتراجمه: ”أرسل الكلُّ إلى القلب ألسنةً يسمع تراجمها ويتقن لغاتها طمعاً في محادثته لها“، و“جعلت لغة الصوت ماء فأجريته لإخراج النبات“. بعد النفري، مستنداً إلى مفهوم التسبيح، تحدث ابن عربي عن استحالة الصمت، ”صمتَّ أو نطقت فأنت متكلم“؛ ورتّب في ”حلية الأبدال“ درجاتِ الصمت واضعاً أعلاها صمت الصمتين، أي صمت اللسان وصمت القلب. أما الرومي فكتب أن ”الصمت لغة قدسية وكل ما سواه ترجمات رديئة“. فالصلوات والأدعية لا تذهب هباء، وإنما تلبى وتستجاب بالصمت الإلهي. الرجاء نفسه يعبر العصور والديانات فيتفرع في نصوص سيمون فايل وماترلينك وصولاً إلى كلاريس ليسبكتور وفرانز رايت وما لا يحصى من الأمثلة التي تتلاقى وتتصادى عبر الأزمنة، وليس لأحد الأسبقية أو الفضل في اختراع فكرة تلهمها تجربة مشتركة تتكرر في كل لحظة، ولا يحتاج أحد إلى تعاليم ليعرفها. كأن كل شيء قد قيل واستهلك، ولكن يعاد قوله كل مرة جديداً بطريقة مختلفة. تبقى اللحظة هي مرآة الأبدية، والطرق التي يسلكها البشر تتوازى كلٌّ في مرآة الأخرى، والجمال إرث العالم المبعثر في كل اللغات. الرومي وجون دون وجاكوب بوهم ووليم بليك ويوحنا الصليب وكثر غيرهم، أهل أرض واحدة تتباين ألسنتها ومصيرها واحد. إنهم ينهلون من الينبوع نفسه، تمثلوا الماضي وحوّلوه. ألا نجد لدى الرومي ما قاله ت. س. إليوت عن وحدة التجارب المتناقضة لدى الشعراء الميتافيزيقيين؟ الزمان يبتلع كل شيء، وكل حاضر يزيد أسلافنا ويمضي بالماضي خطوة أبعد، ليتخلص منه ويحبه ويجدده ويضيف إليه.

كتب سويدنبورغ الذي شهد في الأشياء رموزاً، يقول إن الشمس رمز الألوهية، وإن الروح تعلم بموت جسدها حين تحدق في المرآة فلا ترى أحداً، وإنه في رحلاته إلى العالم الآخر اكتشف أن الجنة والجحيم مخلوقان حيان على هيئة إنسان، وتيقن من أن الصمت لغة الفردوس. الفردوس، تلك الحديقة الآمنة المسوّرة التي تحفل بها المنمنمات والقصائد الفارسية الكلاسيكية، وتحولت في العصور اللاحقة إلى المثال عن أدب بلاد فارس، مثلما ورد لدى غوته في ”الديوان الشرقي للمؤلف الغربي“ ومعارضته في العديد من قصائده لحافظ الشيرازي، لسان الغيب وعندليبه ومثال كمالٍ لا يُجارى في الشعر الفارسي الكلاسيكي، وربما كذلك وردة ريلكه، مرآة الجمال الفاني، بشفاهها وأهدابها التي لا تحصى، أو حتى وردة الفردوس في ”الكوميديا الإلهية“.

يقول الرومي: ”الوردة هي الحديقة التي تنام فيها الأشجار“، ويقول ما معناه: ”ليس اللفظ إلا غباراً فوق مرآة المشاهدة، وهذا الغبار يرين عليها بسبب حركة مكنسة اللسان“، وكلاهما، الوردة والمرآة، بابان إلى الصمت وتجليان ربانيان في الفردوس، هذه الكلمة الفارسية التي هاجرت إلى لغات كثيرة، ورسخها القرآن في لسان العرب. كل لحظة مرآة الأبدية؛ الوردة في المرآة والله في العالم، وليس ثمة إلا نص واحد هو الصمت تتعدد ترجماته في مرايا اللغات، أو مثلما قال ابن عربي: ”وما الوجه إلا واحد غير أنه/ إذا أنت عدّدتَ المرايا تعددا“.

المرآة إحدى استعارات الأدب الكبرى. يزخر التراث الفارسي برموزها، وكثيراً ما شُبهت بها الترجمة. لا تطابق بين الحالتين بالطبع، إلا إذا كانت مرآة سحرية تغير ما ينعكس فيها، ولا تعكسه مثلما تفعل مرآة ستاندال التي تجوب الأزقة كنايةً عن الرواية. والحق أننا جميعاً ممن لا يتكلمون الفارسية لم نقرأ الشاعر نفسه الذي اسمه الرومي، ولا أظن أن له عموماً كبير أثر في الثقافة العربية. لقد وصلت إلينا المعاني وغاب الإيقاع الذي لا يمكن تجزئته عنها. في اللغة العربية تعدد عمر الخيام بترجمات أحمد الصادق النجفي وأحمد رامي؛ استكمل إبراهيم الدسوقي شتا ما بدأه أستاذه محمد كفافي من ترجمة مجلدات المثنوي الستة، ولم يلتزم كلاهما في النقل بأي وزن شعري.

تعدد الرومي في ترجماته الإنكليزية، ولعل بعضها، مثل ترجمات كولمن باركس الذي لا يعرف الفارسية، كُتب لها من الحظ ما كُتب لترجمات فتزجيرالد للخيام والعطار. أعطى الشاعر روبرت بلاي ترجمات ي. آ. آربري و ر.أ.نيكلسون إلى باركس ليصوغها شعراً، فكانت محصلة هذه الاقترانات الإشكالية قصائد أخرى، شاعرها هجين من المؤلف القديم ومترجمَيه والشاعر المعاصر باركس. عرفت هذه النسخة رواجاً كبيراً جعلت الرومي الشاعر الأكثر شعبية في الولايات المتحدة، ولعلها تقف كذلك وراء رواج رواية مثل ”قواعد العشق الأربعون“ لأليف شفق. مثل ”نبي“ جبران خليل جبران، دخلت أقوال ”مولانا“ عالم الدعايات وبطاقات البريد والطباعة على القمصان واقتباسات الفيسبوك، كما غنّتها مادونا وبدت أحياناً كدرر الحكمة التي ينطقها أبطال هوليوود في أحرج اللحظات. الغريب أن تستخدم شخصية عرفانية مثله في الدفاع عن الإسلام أو تُجرّ إلى ما يسمى حوار الديانات. ليس ببعيدٍ عن الاتجار بالتصوف، ورياضات التأمل البديلة عن عيادات الفراغ الروحي، من مشارق الأرض إلى مغاربها، ولا ببعيدٍ عما يمكن أن يثيره من سخرية واستخفاف تفشّي الخرافات الدينية في كافة المجتمعات، تعطى دائماً دروس التسامح وتعقد مؤتمرات الأخوّة ويحكى عن الإسلاموفوبيا، بينما المتطرفون يذرعون الأرض من اليابان إلى النروج والولايات المتحدة مروراً بالشرق الأوسط وأفريقيا. ثمة انتهاز للفن عند الحديث عن الاستفادة من الروحانيات سدّاً أمام مدّ التعصب في التسييس الإسلامي. فتُختزل قضايا إنسانية جوهرية كما تختزل الدعايات بلداناً بأكملها في أنصاف دقائق، وتُغيّب الأسباب الرئيسة وتُبرَّأ الأسلحة، وتطغى التنميطات والكليشيهات التي تصنَّع بدأب؛ على سبيل المثال تُعرض قضايا الساعة التي تخص الإسلام والمسلمين كفيلم رديء عن الرسول، أو رسوم كاريكاتير سخرت منه في كوبنهاغن أو تمزيق القرآن على يد قس أميركي، أو جندي في غوانتانامو. ولا ننسى الحجاب بالطبع، فالمرأة رهينة سجن أسود متحرك ترتديه في عالم ناءٍ، والانتحاري شبهة أو تهمة ملقّمة في أية لحظة.

قيل وكتب الكثير عن تحطيم حركة طالبان لتماثيل بوذا وتحويل لدور السينما إلى مساجد، وكذلك تعدد الزوجات في عالم أنخابه الشاي والعصير ولا أحد فيه يشرب الكحول أو يقرب لحم الخنزير. أحاديث كثيرة على موائد الغرف المغلقة تتناول تخلف البلدان التي يعتنق معظم أهلها الإسلام، وعنفها وتحجّرها. ولكن ماذا عن الشركات ”الأخوات السبع“ وتجار الأسلحة والبنوك والخطوط الحمر التي لم يكن قط خطُّ الفقر أحدها؟

منازل أخرى

على الطريق إلى بلدة كرامان تردد اسم يونس إمره المدفون هناك، وسمعنا بعضاً مما قال: ”خذوا الجنة وخذوا الجحيم واتركوني وحدي“. في هذه المنطقة المعروفة بجودة مشمشها ومكسَّراتها كتب إمره قصيدة عن التحولات: فيها يتسلق شجرة خوخ، وبينما هو جالس بين فروعها يأكل عنباً يسمع صاحب البستان يصيح: ”لماذا تلتهم بندقاتي؟“. لا تزال قصائد هذا المتصوف التركي تسمع في أغاني روهي سو، وكتب عنه جاك لاكاريير سيرة شعرية هي ”غبار العالم“. إمره معاصر الرومي في القرن الثالث عشر كتب بلغة تركية لم تكن أبجديتها آنذاك مختلفة عن العربية والفارسية. جوّابُ السهول والجبال عاش بلا بيت، وكان عزفه على الناي علامة اقترابه من القرى التي يعبرها أو يمكث فيها. لكن هناك أكثر من شخص بالاسم نفسه، فليونس إمره مثل هوميروس أو النبي الخضر قبور عديدة. في المسجد الذي زرناه أرانا الحارس وثيقة ممهورة من أحد السلاطين تصادق على أن المدفون هنا هو الشاعر يونس إمره. ثم أكرم الحارس زوار الشاعر الميت وضيوفه. أخذنا إلى غرفة القبور الأربعة، وارتسمت على شفاه بعضنا همساً تمتمات الفاتحة. احتراماً، حسر الحارس أولاً القماشة الخضراء عن ضريح المعلم المغمور، ورفع العلبة الخشبية كخزانة ملأها التراب، ثم رفع الغطاء عن تلميذه إمره الذي نهى عن أن يكسر أحدٌ قلب أحد، ففي القلب يضع الله سره وفيه تقع نظرته وحلوله.

في كرامان أيضاً مسجد مؤمنة خاتون، أم جلال الدين الرومي. إنه مدفن عائلي، فيه قبور معطرة بالبخور داخل أقفاص، شواهدها عمامات دروايش، أحدها قبر طفل، وتطل عليها شرفة لصلاة النساء يُصعد إليها من باب جانبي، وهناك دوماً محاريب خشبية حديثة وأدراج صغيرة وسلالم.

سرنا في كرامان قبل الذهاب إلى مدرستها. مقاهي الساحات جميلة تحت شجر التوت وعامرة بالرجال، وبالقرب منها مطاعم الشاورما ومحلات الخياطين واللحامين. فوقنا وفوق تمثال أتاتورك، بين العمال وماسحي الأحذية والعتالين، كان ثمة باب كبير مفتوح لم يكن إلا باباً مشرعاً داخل إعلان عقاري على جدار بناية. بوصولنا إلى المدرسة، علا أذان الظهر. تضوع عشب مجزوز، وملأنا القناني من ماء السبيل البارد، ولمست أقدامنا في لطف الظلال سجاجيد قيل إنها حيكت بأيدي نساجات عمياوات. وفي زقاق قريب هناك منزل من الطوب يعود لأجداد رئيس وزراء يوناني سابق، خلفه دربٌ رسمته في العشب الخطوات والدراجات. الصراخ الذي سمعناه في نهاية الزقاق لم يكن شجاراً أو سباب مجانين، كان كهلاً مقعداً على كرسي متحرك يدعونا بصوتٍ عالٍ إلى الدخول، وفوق رأسه تحوم فراشتان بيضاوان تتراقصان أوشكتا تدخلان نيابةً عنا. كان علينا الإسراع، فالحافلة تنتظر وزيبا رحمن ستتفقّدنا. كان غداؤنا محلياً على الطريق، والشاحنات تهز بعبورها أخشاب المطعم الصغير الواقع بين محطة بنزين ومخفر يضجر فيه ”الجندرمة“، وريح هينة تدير مراوح المكيفات.

الممثلون

يوم الاثنين، المصادف عطلات المتاحف والحلاقين، حوّل وجهتنا عن متحف قونية. اعتذر الدليل الذي اصطحبنا: ”لست من أغلق البوابات“، وأشار بيده، بينما الحافلة تنعطف، إلى تماثيلِ أُسودٍ تحت ظلال الدلب. ”لم تروا للأسف جمال فسيفساء السلاجقة التركوازي“. ثمة جبل بركاني يكلله الثلج طوال السنة عرفنا في مدينة أخرى أن اسمه آرجييس. الشتاء قاسٍ هنا، وتحدث أحدنا عن مدينة قارص التي وصفها أورهان باموق في روايته ”ثلج“. كانت الوجهة البديلة هي سيلا، قرية الأرمن والإغريق حيث لا يزال يصنع النبيذ. في كنيسة محترقة لم يكتمل ترميمها، قرئت قصائد الرومي بعدة لغات، وأصداؤنا كخطواتنا تعلو وتهبط على المذبح. ألوان الترميم أقرب إلى الكنائس الإيطالية في عصر النهضة، ولكن الحروف على الجدران والسقوف أرمنية والأطر الفارغة التي تنتظر الأيقونات ملأتها أشعة الشمس. كانت مع بعض الأصدقاء الإيرانيين والأفغان كتيبات كالمصاحف والأناجيل، فيها مختارات الرومي المطبوعة ككتب جيب شعبية. رفرف عصفور فوق رؤوسنا خائفاً قبل أن يخرج إلى الحديقة، وفي الهواء بخور احترق للتوّ وفوح طلاء طري. تظهر في بقايا الرسم على أحد الجدران لحية قديس وعينه الوحيدة التي نجت وشيب غرّته، وعلى صدره شريط أحمر كلفافة هدية. قرأ كريس ميريل من ترجمات آلن وليامسون للرومي، قرأت سمية راميش داخل الكنيسة، ثم ترنمت بصوتها الجميل في قراءة أخرى أطلّت فيها علينا من فوق سفح صغير ملاصق للمكان، ووراءها في البعيد قلعة، وحولنا سلاسل تتدلى بلا نواقيس وركام من القرميد. في باحة تلك الكنيسة المحترقة جمعتْ عدة صور تركياً وأرمنياً وكردياً، هم طارق ونيغول بيزجيان وأنا. التاريخ لم يمزق تلك الصفحات الدامية في سِيَر أجدادنا.

رأينا على الطريق إلى المقهى آثار عجلات عميقة، حيث عمال تحت الشمس بقفازاتهم السود وقبعاتهم يرصفون التراب بأحجار يحملونها من العربات ويصففونها كالسكاكر. كل شيء تحت الشمس ملتهب، حتى مقابض الأبواب والأزرار وأذرع النظارات والنقود المعدنية في صحون الباعة. خاضت أحذيتنا نعومة الرمل وتباطأت فيه. سمعنا ديكاً يصيح. لمحنا سنونواً يرشق كالسهام في الهواء الساطع يلتقط ما لا نراه، وقرأت حروفاً محفورة في جذع شجرة. أذّنتِ المنارة، ولو كان اليوم جملة متواصلة، فالآذان فوارزه. ثم ظهر فجأة مسلحون بنظارات سود وملابس سود وبنادق سود، ظننتهم إنزالاً عسكرياً، فقواعد الناتو ليست بعيدة عن هذه القرية. طمأننا أحد الواقفين قرب دكاكين الخزف: لا تخافوا. ليسوا محاربين. هؤلاء كومبارس يلعبون أدوارهم في مسلسل وبنادقهم بلاستيك.

حدثت الصبي في المقهى بالمفردات القليلة التي استطعت تذكرها مما تعلمته ذات يوم من اللغة التركية، وكنت قد التقطت بعضها من الأغاني والأفلام والإذاعات التركية في عامودة. نادماً لأنني لم أتعلم تلك اللغة حين سنحت لي الفرصة، امتحنت صحة المفردات لدى السمّان تحت آرمة بيرة أفيس، وامتحنتها لدى الصراف في سوق قونية الذي تواعدنا فيه عند نقطة علام هي سوق الذهب. محلات الصاغة تنسجم مع صفرة اللافتات في الوسترن يونيون، الشركة الحاضرة حيث يوجد المهاجرون، ومعها حاضرات أخريات كالكوكا كولا، مشروب الجنة المتوافر حتى في جحيم الحروب. قد تأتي ساعة تُرسَم فيها الصلبان على الصدور وتُتلى الصلوات وقوفاً أمام آلات صرف النقود، المعابد الحديثة. فالبنوك كالآلهة تبني البلدان بالقروض والمعجزات الاقتصادية أو تهدمها بمشيئتها الغامضة. في مقهى القرية، مغمورين بهواء الوهدة الطلق، تذكر محمد حسن منافسات شرب الشاي والقهوة، وعلق ممازحاً: ”كل كؤوس الشاي الضيقة الخصور هذه لا تكفيني وحدي. الأباريق هنا صغيرة“، والشاي الأسود، المخمر في إبريق يعلو إبريقاً آخر من الماء الساخن، علامته التجارية ”مولانا“. بين منافض مطعمة بالأصداف قلبتْ بينا فناجين القهوة التركية، وما أنهت قراءتها قبل انصرافنا إلى مسجد شمس تبريز، حيث التممنا في الساحة حول الدليل نسمعه، ونسمع صوت سقاية السرو. صرت، وإن ليوم واحد أو اثنين، واحداً ممن كنت أستغرب التفافهم كالتلاميذ حول الأدلاّء السياحيين، ينصتون مبتسمين ولا يتبرّمون. ارتبك الدليل والتمع العرق على صلعته السمراء، واستنجد بالمستمعين ليصححوا معلوماته. اختلط عليه السهروردي والحلاج في قول ذاع صيته ”ما في الجبة إلا الله“. لكن شمس ليس مدفوناً هنا، قال، وهذا المزار تم تشييده بمثابة اعتذار عن سوء المعاملة. كان يقصد بسوء المعاملة جريمة قتل، غامضة على الأرجح. فشمس الذي اغتيل بعد ذهابه ليرى من يطرق الباب، ألقيت جثته في بئر كما ألقى الإخوة أخاهم يوسف في غيابة الجب، وكما قتل الحلاج، وكلاهما النبي يوسف والحلاج شخصيتان أثيرتان لدى الرومي.

ظلال المزار ترحم أعين القادمين التي بهرها سطوع الضياء، واحمرت بقلة النوم. على الرصيف وراء النوافذ ماء قد يكون بقايا وضوء، تحسوه العصافير وتمرّغ صدورها فيه، وستجففه شمس العصر. قرب الضريح الفارغ، ساعة حائط كُتب على رقاصها الفضي لفظ الجلالة، معه ومع الزمن تدور صورنا المنعكسة، وقد ابتعدت فصغرت وتشوّهت. هناك شخص لم يرفع رأسه عن المصحف الذي بين يديه، يقرأ وقد أولى مرآةً ظهره، فوقه مروحة سقف تدور دوراناً خفيفاً، تحت قدميه الحافيتين بساط وثير كمخدة من الطحالب، وإلى يساره شاشة إلكترونية لمواعيد الصلاة، أرقامها القرمزية تجاور درجات الحرارة مثل الشاشات في المحطات وصالات الانتظار. بدت غريبة تلك الشاشة، شأنها شأن كاميرات المراقبة الموزعة في الزوايا والمسلطة على رؤوس المصلين. في هذا الجامع شُفيت كاميرا نيغول التي تعطلت في مرقد ”مولانا“.

***

كتب التوحيدي أن ”الصديق آخر هو أنت“. التياع الرومي إثر اختفاء شمس حوّله إلى شخص آخر، محاه وعدّده. كان الامحاء عودة إلى الأصول الأولى وانفتاحاً على الإنسانية. الغياب المباغت صيّره شاعراً آخر تقمص تقريباً صديقه، وما عاد وجود أحدهما ممكناً دون الآخر. صارت الكتابة صحبة الغائب، واعتبر أن شمس هو الشاعر الحقيقي، ”سطوع شمس في السريرة ككوكبة من الأقمار“، وأنه–مثل نيتشه ووليم بليك–يكتب من أجل المستقبل، مستقبل صرنا نحن بعضاً ضئيلاً منه. في محاورة ”فيدون“، متحدثاً عن محاكمة سقراط في يومه الأخير وتجرعه كأسَ الشوكران، يذكر أفلاطون للمرة الأولى اسمه كراوٍ، غائب بداعي المرض؛ لم يكن ممكناً أن يتحدث بلسانه شاهداً على ذاك الموت. أما في الغزليات التي يحفل بها تراث بلاد فارس والهند، ولا يزال يكتب مماثلاتها إلى الآن العديدُ من الشعراء الأنغلوسكسونيين، فيذكر الشاعر اسمه في الأبيات الأخيرة كأنه غائب ينقلُ عن شخص آخر، ربما لأن الحب مثل الموت يمحو الأنا. بذاك الفراق اختبر الرومي عجز اللغة وكابد ما وعاه، فـ ”الصبر على كتمان السر“، كما عبر ابن عربي، ”أيسر من الندم على إفشائه“؛ والفراق مثلما كتبت إيميلي ديكنسون، هو ”كل ما نعرفه عن الجنة وكل ما نحتاجه من الجحيم“. والهيام تجذر في الحياة وتمرد على ظروفها، والشعر تجربة حية تحتوي حياة الكائن بأكملها. فتح الفقدان أبوابه الأوسع وأتى إلى ضيق اللغة بالإشارات التي صيغت أحياناً بطرق مختلفة اتّقاء لشر الناس ومن يسيئون التأويل. ما عاد الرومي وحيداً وبكى كالطفل.

شمس، مثل جيوردانو برونو، رأى العالم إنساناً كبيراً والإنسان عالماً مصغَّراً، فالقلب عرش الله والعقل قلم التقدير والروح هي اللوح المحفوظ؛ رأى الجسد كوناً شمسه القلب وقمره العقل، شَعره النبات وعظامه الجبال. جسد الإنسان فهرس كتاب الكون، فكل ما فيه يشير إلى الطبيعة، وقد يحيل هذا الفهرس إلى صفحات مفقودة هي مخلوقات اندثرت، لكننا لا نزال نحمل بقاياها في أجسادنا.

أهل الكهف

انتظرنا ظهور كريس في الحافلة. أنزلتنا شمس العصر القوية وبعثرتنا في الظلال وبهو فندق الهيلتون، ولم تسمح لنا بمشي طويل. أمام طيور سود قصيرة الأذيال لا أعرف اسمها، مثلها مثل شجر فتيّ الجذوع ناحل وجميل كسيقان اللقالق، وددتُ المشي حافياً في الحرّ بين ورود الجوري، على عشب ممنوع وطؤه. أخبرنا كريس عن سبب اختفائه، فقد ذهب إلى لقاء مفاجئ لا يفوَّت. التقى إيسين جلبي بايرو، حفيدة جلال الدين الرومي من الجيل الحادي والعشرين، سيدة نضرة التقاطيع ودّعت كريس بطريقة نقلها إلينا، حيث تُرفع الكف إلى مستوى الصدر وتُدار لتصافح يد الشخص الآخر وتهتز اليدان، ثم يقبل كلٌّ يدَ الآخر ليضع القبلة الأخرى على موضع قلبه وينحني.

على الطريق بين قونية وكابادوكيا، توأم طرق أخرى في شمال سوريا، تركت لي مارلين هاكر المقعد الملاصق للنافذة. الحقول تترامى وهضاب بعيدة تلوح فاهية الزرقة، وفوق مسار الدراجين ذي اللون السماوي يخفق علم الجمهورية التركية الأحمر. السهول تتوالى منبسطة كراحة الكف ودروبها محفورة كالأقدار في يد التراب. زهور صفر وشقائق نعمان في بقع كبيرة كالوحمات تتناثر بين سنابل المحاصيل التي نضجت، وما يسرُّ أعيننا في المنظر يعكّر صفو المزارعين. على جنبات الطريق يعلو الشوك بتيجان بنفسجية وذهبية، وتلمع أحياناً في البساتين أبواق زهور الرمان وزهور البطيخ كأقماع صفر، وتترامى أسلاك الهاتف التي كانت تعبرها أصوات الناس متنقلة من عمود إلى عمود. حين أرى درباً محفوفاً بالزيزفون، للحظات أترقب ظهور لافتة زرقاء تشير إلى عامودة والكيلومترات التي تبقت قبل الوصول، فأحسب بتقسيم المسافة على الزمن السرعةَ التي يقود بها السائق. تظهر جرافة صفراء بالقرب من تلال من اللحاء والغصون المقطوعة. تحتجب الشمس ويغيم النهار قليلاً، قبل أن نرى بقعة مشمسة بين ظلال الغيوم على الأرض كأنها إطار فارغ يملأه الضوء. عبورنا السريع يجعلنا نرى المرذّات تتقزّح كنوافير بعيدة في وهج القيظ المتماوج فوق رحابة السهول، أو كشوارب شابت في سراب هذه البراري، هذا الوهج الذي لفح هواءنا المكيف من وراء الزجاج وأخفض على مهل وتيرة أحاديثنا، قبل أن تأخذ معظمنا قيلولةٌ متأخرة، كلٌّ إلى تداعيات عالمه الذي لا يبوح به لأحد. كأن لا راحة في مغادرة ولا راحة في وصول. ربما الطريق هو البيت.

النجوم غزيرة في سماء كابادوكيا. النسمات باردة بعد نهار حارّ. انسكب نيزك في درب التبانة. ما اهتدى السائق في البداية إلى الغرف المؤثثة في المغاور حيث أمضينا ليلتنا الأخيرة. متأففاً، كان يتلقى بالهاتف إرشادات خاطئة لنعود من جديد إلى مصنع نبيذ توراسان. في البعيد أنوار فنادق، مستثمروها المجهولون كالطرق الخفية بين الصخور يستنبتون أبراجاً سياحية. نرى شموخها قبل أن تُسكن، ولافتات المشاريع تضيء الظلام. كأن الطريق إلى الاتحاد الأوروبي يمر بالسياحة أولاً، والسياح يتوافدون كمن يؤدون واجباً أو فرضاً، فيلتاثون بين الأطلال وفي هذه القفار، ويحنون رؤوسهم وتلتوي كواحلهم في أنفاق مدينة بنى طوابقها الثمانية تحت الأرض مسيحيون قدامى هربوا من مذابح الرومان. وقد يختلسون في مجمع الكنائس القريب تصوير أيقونات على جدران الكهوف، وبعض قديسيها قد فقئت أعينهم. بكاميراتهم البالغة الدقة يوثقون غالباً ما يعبرونه، يحنطونه ويخيبهم–لاحقاً حين تحين ساعة الذكريات–الفرقُ بين روعة ما رأوه وشحوب ما صوّروه، وربما في هذا الترف يتباغضون سرّاً، لأنهم يزحمون أجمل الأماكن وهناك دائماً من يشبههم ويسبقهم في كل شيء؛ لكن التقاط الصور كاقتناء الكتب لا يُشترى معه الوقت، في حياة أحرقها الملل والقلق ومخاوف المرض وسيختتم السفر عرضها الحافل كمكافأة ثمينة حزينة.

ثمة بينهم أحياناً من يخجله التصوير كمن يقترف فعلاً مشيناً، فيختلسه معتذراً عن انتهاكٍ ما. انضممنا إلى قوافل الذين سخرت منهم قلوبنا، وأحببنا ما قاله الدليل الشاب ابن المنطقة من أن أهله ولدوا وتربّوا وعاشوا في الكهوف نفسها التي آوتنا، وتناولنا على شرفات غرفها عسل الأكاسيا والجبن، وبسبب ضعف التغطية كنا نصعد إلى السطوح لنتكلم بالهاتف، والعشب اليابس يبلغ رُكَبنا ويتقصف تحت أحذيتنا. ذهب بعضنا في عتمة الفجر إلى نزهات المناطيد بين الصخور التي تبدو ككثبان رمل تورّدت وتجمدت. في سماء الفجر تطفو تلك الفقاقيع المحملة سياحاً، وتُلتقط آلاف الصور. أراحتنا عودة الأصدقاء وسماع خطواتهم على أحجار النزل في الصباح الباكر، إذ بعد أيام من مغادرتنا هوى منطاد في وادي الصخور الأحمر ومات أحد راكبيه. تحقق خوفٌ راودنا وتطيّرنا منه وما أفشيناه.

قبيل مغادرتنا ”مداخن الجنيات“، جاءت صورنا مطبوعة على أطباق بلاستيك، باغتنا بالتقاطها فور ترجلنا من الحافلة مصورٌ شاب لا نعرفه. لم يشترها أحد، وربما طبعت على صورنا في تلك البرية صورُ آخرين رفضوا بدورهم شراءها. مثل هذه الاحتيالات الصغيرة أغضبت طارق في المطعم. في حديقة الصخور الضخمة تلك، الشبيهة بقلنسوات علماء رمادية، حسبنا وبر الأكاسيا الطافي في الهواء حولنا زغب عصافير، تقرّته أعيننا أولاً بحكّة طفيفة. تلك هدايا نهاية الربيع التي أرسلتها الأشجار. قالت بينا عند عبور زوبعة صغيرة، إن اسم مثل هذه الزوابع في باكستان يعني حرفياً: ”زفاف الجن“، ففي قلب عمود الغبار الذي يتلوّى جنيان لا نراهما يمارسان الحب. وما قيل عن صناعة الجرار في المنطقة، كشرط يجب أن يستوفيه الرجل كخزّاف قبل الموافقة على طلب زواجه، ليس بعيداً عن طقوس لا تزال حية، كحفلة الحناء قبل الزفاف. إنها، في أحد التفاسير، استعادة لقصة الخلق السومرية، فقد مزج الإله إنليل التراب بدم إله صغير ذُبح كالكبش ليعجنهما ويجبل الإنسان الأول. على يدي الإله ترك الصلصال، الأحمر كدم البكارة، ما تتركه صبغة الحناء على أيدي العروسين، المقبلين مثله على الدخول في دورة الخلق والولادة.

كان لقاؤنا الأخير في فناء دار قديمة؛ ذكر طارق أن الجملة التركية نحوياً تبدأ من العالم وتعود إلى الذات. مرَّ هدهد فوقنا. توقف قط أسود على الحائط الخفيض، فقد رأى سيدة تصعد الدرج حاملة طبق حلوى، يتبعها كلبان، وفي هواء العصر تحوم حشرات بطيئة، ذباب كسول أليف يروح ويغدو بين الدوالي، يختفي سواده في سواد بطاريات الطاقة الشمسية المنصوبة على الأسطحة. أثناء الأيام التي أمضيناها جوّابين، هائمين نتنقل في قفار الأناضول التي شرّد نحوها المغولُ وغزاة العصور اللاحقة فارّين كثراً، لم يتحْ لنا ازدحام البرنامج إلا تدوين نثار من الملاحظات وصور عشوائية ظننا أنها قد تعيننا لاحقاً على تذكر ما عشناه. حين بدأ الرومي الكتابة كفَّ عن الترحال. لسنا بالطبع بحاثة مختصين بدراسته لندبج الأطروحات ونوثق ونستقصي. ففي النهاية، كل نهاية، يضيع منا الكثير ويتوارى في أعماقنا، وقد نجد بعد سنين كلمات أخرى نصف بها ترحّلنا وفراقاتنا والغروب في كابادوكيا.

*خريف 2013

كتب هذا النص بعد المشاركة في ملتقى ”البوابة ذاتها“ الذي نظمه برنامج الكتابة العالمي في جامعة آيوا الأميركية، وأداره الشاعر كريستوفر ميريل. انعقد الملتقى في تركيا وشارك فيه كتاب وشعراء من إيران وأفغانستان وباكستان وتركيا وسوريا والولايات المتحدة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى